- إسماعيل سعديمدير الموقع
- البلد :
الجنس :
عدد المساهمات : 3758
نقاط تميز العضو : 150694
تاريخ التسجيل : 03/04/2009
جماليات الانزياح مقال للدكتور عبد الرحمن التمارة
01/06/10, 09:05 am
د .عبد الرحمن التمارة
1- تأمل أولي..
تعد اللغة عنصرا هاما في تشكيل العمل الإبداعي، وتزداد أهميتها كلما انزاح بها المبدع عن "المعيار"، وجرب نماذج لغوية تمنحه التميز والخصوصية.
هكذا، يصير الانزياح اللغوي في القصة فعلا فنيا يؤسس لجمالية قصصية يمكن وصفها بـ"جمالية الخلخلة"، ما دام "ناموس اللغة يسمح بالابتعاد عن القالب الموضوع مما يسمى بالعرف في الاستعمال، فتكون الطاقة الإبداعية متولدة عما توقعه في نظام اللغة من اضطراب يصبح هو نفسه نظاما جديدا" . مما يوحي بان النص القصصي لا يتحقق وجوده الدلالي وكينونته الفنية باللغة المعيارية، بل بلغة تخرق المألوف والمتداول، وتؤسس لبنية دلالية خاصة، لأنه "مهما ظهر المعنى واضحا، فإن هذا المعنى الواضح ما هو إلا إحدى الخدع التي يتوسل بها النص لإخفاء "مجازيته" وإلا انعدمت أدبيته ولأصبح مجرد لغة تواصلية" . يمنحنا هذا الكلام الوعي بأهمية الانزياح اللغوي في النص القصصي، أهمية تكمن في مستويين؛ الأول أساسه تدمير القصدية الدلالية، وتفعيل آلية التأويل التي تقارب دلالة القصة وفق مبدأ البناء وليس مبدأ التعيين. الثاني قوامه التأكيد على اقتران أدبية النص القصصي بمدى "براعة" القاص في بناء لغة جديدة على أنقاض اللغة التواصلية العادية، بل إن كينونته وإبداعه مرهون بهذه اللغة المعتمدة في بناء النص الإبداعي؛ حيث "يظل وجود المبدع رهين اللغة التي يتوسل بها ليرتاد عالم الكتابة" .
2- قبل الفتح..
يستقي الحديث عن الانزياح اللغوي داخل النص القصصي مشروعيته من الخلخلة الواضحة التي أحدثها عدة قصاصين في المكونات الفكرية والفنية التي تهندس القصة القصيرة، بما في ذلك اللغة التي تعد عنصرا بنائيا هاما للنص الأدبي؛ حيث "إن اللغة هي وسيلة الأدب" . مما يجعل الانزياح اللغوي جزءا من انزياح نوعي تعرفه الكتابة القصصية الراهنة مغربيا وعربيا؛ مما يتطلب فعلا نقديا يلامس هذه الخلخلة، ويبني أبعادها ودلالاتها المضمرة والظاهرة. وينبني الحديث عن الانزياح اللغوي على رؤية تجعله عنصرا هاما في العمل القصصي يؤسس لمبدأ تفاعل تواصلي بين المبدع والمتلقي؛ حيث الأول يؤسس الخرق ويبنيه، والثاني يفككه ويعيد بناءه من جديد عبر التأويل. مما يفضي بالضرورة إلى انبناء الانزياح اللغوي على لحظتين متعاقبتين هما "عرض الانزياح، ونفي الانزياح" . من هنا، فإن الحديث عن الانزياح اللغوي في مجموعة "علبة الباندورا" للقاص المغربي أنيس الرافعي يصير مقترنا –من زاوية منهجية- برصد مظاهر الانزياح كما "عرضها" المبدع، وبعده "نفي" هذه المظاهر بتأويل يبني الدلالة وفق نظرة تجعل النص القصصي متعالق العناصر الجمالية والدلالية، وتجعله مسكونا بـ"روح الإيجاب" الدلالي، التي يولدها تفاعل القارئ معه؛ حيث يغدو النص القصصي منفتحا على دلالات متنوعة، لأن النص الأدبي "لا يقدم نفسه بل يعاش من جديد كتجربة خاصة بالقارئ"
3- اللغات على أشكالها تقع..
لم يعد التنوع اللغوي مقتصرا على النص الروائي، لأنه تنويع صار مميزا للنص القصصي الموسوم بخلفية تجريبية بناءة؛ حيث يصير النص القصصي ورشا مفتوحا لحوارية لغوية أساسها التعدد والاختلاف من جهة، والتجانس والتآلف من جهة ثانية. وبحكم تعدد الأشكال اللغوية في "علبة الباندورا"، فإننا سنقف عند نمطين لغويين -على سبيل التمثيل-، ونحاول رصد أبعادها الدالة، وهي:
اللغة التصويرية:
تشغل هذه اللغة حيزا هاما في "العلبة"، وتؤسس نصيا لتنوع مجالات التصوير القصصي؛ حيث تتباين وتتعدد عناصر الوصف ومكوناته، نوعا ووضعا، فتلتقط اللغة الوصفية الإنسان والفضاء والبناء..، كما تصور الحركة والفعل والحالة والتفاعل والمظهر..إلخ. وإذا كانت هذه اللغة تحضر في النصوص القصصية بناء على مبدأ التعالق الوظيفي والتكويني مع السرد، فإن المقاطع التصويرية، داخل القصص، انبنت على إبدالات لغوية جديدة مؤطرة بجماليات رمزية متنوعة. هكذا، تشتغل جمالية العجز وفق منطق رمزي غايته كشف عجز ذات التلفظ عن الحركة الحرة؛ يقول السارد: "وكنت أثناء اكتظاظي على نفسي بعضي ملتصق ببعضي بصمغ وهمي وعاجز، بشكل رهيب، على إنجاز أدنى حركة سواء إلى الأمام أم إلى الخلف"(ص26). تعبر، هنا، جمالية العجز عن واقع إنساني مكبل بقيود متنوعة؛ بعضها قد يكون وليد الكينونة الخاصة، وبعضها تنتجه عناصر موازية للوجود الإنساني. فيصير الإنسان، بموجب ذلك، مثقلا بإكراهات نوعية، فتشل حركته، ويشعر بثقل جسده، وضعف أدائه الحركي.
وتتولد جمالية الاستغراب والدهشة من اللغة الوصفية؛ حيث تصير ذات التلفظ مصورة وموصوفة بطريقة تعبر عن وضع غريب ومدهش، لأنها ذات تقرب المسرود له من وضعية غير مألوفة، سواء على مستوى الكينونة والتشكل، أم على مستوى الفعل والحركة: "..عندئذ ستدب الكهرباء فجأة في التلفاز المعطل لأبصر عى الشاشة صورة رجل يتهندم بملابسي، يا للهول، هل أنا شبح؟ هل أنا رجل ميت؟ حقا إنني أبصرني وأنا أمامي أحدق إلي.. حقا أن أبصرني وأنا أمامي أحدق إلى وجهي الذي تأكله الديدان من كل ناحية ولا يكف عن الابتسام لي"(ص72) إنها جمالية مؤطرة بقانون التقويم والنقد الذي يخضع له الإنسان في كينونته الثانية؛ حيث ترسم الأنا سيناريوهات محتملة لصورتها في عينها الخاصة، أو عيون "الغير"، بناء على مقولة المرآة. ويمكن القول، من منظور معرفي، إن المقطع السردي السابق يهجس بالرغبة في استجلاء مختلف المميزات النوعية للذات الإنسانية في لحظات "التورط" المختلفة، التي يولدها "الضِّعف"، أي الذات الثانية المحكومة بسلطة القناع عن الذات "الأولى".
وتحضر جمالية التحول في "العلبة" حينما تغدو اللغة الوصفية أداة مناسبة لرسم سيناريو تحول سوريالي، يتجرد بموجبه الإنسان من أدميته، ويعانق عالم الحيوانية أو الجماد. فيصير الفعل الحركي للإنسان متصلا بدينامية التقهقر، وليس بحركية الارتقاء: "فجأة وبكل مبالغة، يشرع في اقتلاع أعضائه عضوا فعضوا ويلقي بها كيفما اتفق على قارعة الطريق.. المرأة بعد أمتار يسيرة منه، يجمع ما تبقى منه –ساقيه طبعا- ويتحول إلى خروف"(76). إنه مقطع سردي معبر عن الجذور اللاشعورية لتبديد الرتابة والملل في كينونة الإنسان، بناء على مبدأ التحول القائم على الانتقال بين وضعيات مختلفة. كما أنه مقطع دال على الصراع الأبدي بين الإنساني والحيواني، وبين الثقافي والطبيعي، من منطلق أن التحول الفانطاستيكي لذات الملفوظ في قصة "التحولات غير المعقولة للسيد "ريباخا"" عبر به من الإنسان إلى الخروف والقرد والحمار والشجرة.
وتقترن جمالية التمرد برغبة قوية في فضح المنطق النفعي وسلطة الرتابة وقانون المشابهة الذي يؤطر الوجود الإنساني، الذي يصير خاضعا للبنيه الذهنية المقترنة بسوء تدبير الفضاء وفق مقتضيات جمالية ودينامية واختلافية؛ مما ينجم عنه سيطرة قانون النمطية والرتابة المتولد عن بنية الثبات المتنوع: "الأبنية طاعنة في الجمود والتجاور الاعتباطي من دون قرابة واضحة كما لو كانت أجزاء منقسمة أو مقاطع غير مكتملة.. النوافذ والأبواب والمحلات والمقاهي وأكشاك الصحف ومخادع الهاتف موصدة على ذاتها بإحكام لا نظير له"(ص82). فهل تستطيع الذات الخارجة من "داخلها" الجارح والمهزوز أن تجد راحتها في "الخارج"؟ في ارتباط بالمقطع السردي السابق، سيكون الجواب: لا لن تستطيع. فالاضطراب النفسي للذات الإنسانية، بناء على السياق الرمزي للقصة، لن يجد في "الخارج" ما يسعف في تجاوزه؛ لأنه "خارج" ينتج القلق والملل والرتابة، ويحسس الذات بوحدتها وعزلتها وتيهها، ويحرمها من اقتناص أي جمالية نوعية ومختلفة عن المألوف. من هنا تصير اللغة القصصية أداة هامة لكشف ثنائية الداخل والخارج، بمستواياته الإنسانية وغير الإنسانية، انسجاما مع التصور القائل بأن: "القصة القصيرة هي لغة الكشف، هذا الكشف هو اللغة" .
اللغة الميتاقصصية:
تضمر هذه اللغة تصورا ذاتيا للنص القصصي من عدة زوايا؛ التلقي والإنتاج، والبناء والتشكيل، وتفاعل المكونات القصصية نصيا.. إلخ. وهي لغة تبني القصة وفق جماليات متنوعة، أهمها "جمالية الانتهاك"؛ حيث تصير لغة القصة عنصرا ينتهك التقاليد التي أرهقها التداول في المنجز القصصي التقليدي، لأن السارد يدرج لغة النقد في بنية النص القصصي. وتكتسي هذه الجمالية بعدا توجيهيا لفعل التلقي؛ تلقي نص قصصي تجريبي ينسجم مع تنبه "نوفاليس" إلى أننا "لم نعد نعيش في العصر الذي تسيطر فيه الأشكال المقبولة عالميا" . فيدمر النص القصصي، بموجب ذلك، مبدأ الانسياب السردي المفضي "للنوم" أمام المحكي القصصي، ويبني بدله نصا يلح على "يقظة" القارئ، لأن التدقيق في متابعة "أحداث" النص رهين بالقبض على مضمراته الجمالية: "وكما يجب أن يحدث فيما بعد حسب رسيمة الحبكة، كان ثمة وازع جمالي ملح وملتبس سوف يستدرجك تدريجيا وسيدفعك خلسة لتكرس لها نظرك وتعيث فيها تحديقا"(ص127).
وتنبثق عن اللغة الميتاقصصية كل من جماليتي التمرد والتجاوز؛ في الجمالية الأولى تصير اللغة النقدية داخل نسق التخييل القصصي مقترنة بالتمرد على اللغة المغرقة في ظلال الواقعية، مما جعل التمرد فعلا ديناميا مولدا للغة قوامها الانحراف عن المعيار الجامد: "وحرصا منك على إطعام التخيل ببعض أو بكل المبالغات القادرة على الفتك بالميراث الثقيل للواقعية، لنقل إنهم كانوا.."(ص137). وفي الجمالية الثانية يتصل التجاوز بالتنبيه إلى أهمية "قصة ما بعد السرد"؛ سواء على مستوى "هويتها" النوعية، أم على مستوى الاشتراطات الجمالية التي تحكمها، بحكم تشكلها وفق "قانون" المغايرة والاختلاف مع غيرها: "وطبعا –وكما هو ضروري لديكور قصصي بالغ التجريب يدعي بوقاحة أنه يندرج ضمن خانة "ما بعد السرد"-: فقد كان ثمة –أيضا- دخان كثيف وسعال جيد"( ص126).
وتولد اللغة الميتاقصصية جمالية التوجيه؛ فأمام نص قصصي ينتهك "الشكل" المألوف، تشتغل لغة نقدية قوامها تعين المحافل السردية، وإبراز اختلافاتها النوعية، وذلك ما يساعد في "إرشاد" القارئ صوب التباين الذي يحدثه التضمين والتوالد القصصي، مما يجعل النص القصصي ثنائي البناء؛ الاستهلال أو الختم القصصي، والمحكي القصصي الإطار: "ثم تبدأ القصة التي ستقرأون الآن"(ص 31)، "تم عادت الأمور إلى سابق بساطتها لتنتهي القصة التي انتهيتم من قراءتها الآن"(ص36). يومكن إدراج الانشغال باللغة الميتاقصصية في المتخيل القصصي ضمن "الجمالية الإنتاجية"؛ حيث تظهر الذات الكاتبة مشغولة بإنتاج لغة قصصية ذات "ماركة" جديدة وخاصة، ومؤسسة لكتابة نوعية، ومتجاوزة اللغة الإبداعية المتداولة باستمرار، لأن "الكاتب الذي لا يجري تجارب على اللغة هو كاتب سيء بشكل عام" .
4- لك واسع النحت والصفات..
يتجلى الانزياح اللغوي هنا في عنصرين؛ الأول يخص المفردات اللغوية في تشكلها الفردي العمودي، حيث يتم الخرق على مستوى الصياغة. أما الثاني فيهم المفردات اللغوية في بنائها العلائقي الأفقي، فيتم الخرق على مستوى العلاقات الإسنادية.
وتتضح معالم العنصر اللغوي الأول في الانزياح اللغوي الممتد إلى تشكيل مفردات لغوية تحكمها جمالية الإدهاش، الناجمة عن إنتاجية لغوية ولود، ألم يقل أوجستو رواباسطوس "يجب العثور على لغة جديدة" ؟ ويمكننا التمثيل لذلك بثلاثة نماذج لغوية، الأول يظهر في مفردة "التراغم"، الدالة في نسق القصة على فعل الإرغام المتبادل بين الذات وضعفها، في إشارة رمزية إلى المسافة الفاصلة بين القيام بالشيء على سبيل الإكراه، وبين جعل الأداء الوظيفي للذات خاضعا لمنطق جلدها بإجبار مضاعف؛ حيث تبدو الذات محكومة بمنطق النزاع بين فكرتين منطلقهما جذر واحد. مما يحين رمزية الاختلال المتصل بالتفكير لدى الكائن البشري، وبتضارب أفكاره جراء الاحتكام لسلطة الحواس والمشاعر والغرائز والطقوس والمظاهر الرامية وضع الذات في إطار التنميط الرتيب للحياة بامتداداتها المتنوعة والمختلفة: "كنت أرغمه على الاستلقاء..، كان يرغمني على الوقوف أمام المرآة ساكنا..، كنت أرغمه بطريقة بوليسية على الحليب بدل عصير الليمون..، كان يرغمني على السير بخطوات مرتبة..، كان يرغمني بلا رحمة على اجترار تلك الدروس البئيسة.." (ص20، 21، 22). ويتجلى النموذج اللغوي الثاني في مفردة "التبرمل"، ويتضح الثالث في مفردة "التراتل". وينبني السياق القصصي المفضي لنحت الكلمة الثانية/التبرمل على جمالية الاستبطان، وذلك عبر إبراز سعة الضيق الممتدة لكل إنسان يعيش "حالة كابوسية"؛ سواء كانت حلما خانقا ومرهقا، أم حياة مثقلة بإكراهات فجائية تجعله قلقا وتائها ومضطربا. أما الكلمة الثالثة/التراتل فجاءت في سياق قصصي مؤطر بجمالية الكشف؛ كشف الانتقال النوعي للإنسان من المستوي القيمي المفضي لتأسيس علاقات بهية مع غيره أساسها "خيوط" الإنسانية النبيلة، إلى المستوى الوضيع القائم على فقدان القيم الإنسانية العليا، كلما وجد نفسه في هذا العالم المعقد التركيب.
وتبرز معالم العنصر اللغوي الثاني في توصيفات نوعية يحكمها التجاور اللغوي، وتؤطرها جمالية الغرابة والسخرية. وهو عنصر لغوي كثيف الحضور في "العلبة"، لكن الاحتكام إلى مبدأ التمثيل يجعلنا نقف عند نماذج محددة، لنكشف الجماليات الدلالية المؤطرة لها.
يظهر هذا العنصر بدءا بالملفوظ السردي التالي: "طبع، سوف يسقط كاملا في قلق فصيح وستصل حواسه الخمسة باكرا إلى شفير الدهشة"(ص80). إن إسناد الفصاحة للقلق، ووسم الحواس بالحركية عبر فعل السيرورة "ستصل"، وتمييز الدهشة بالشفير، يمكن إدراجه ضمن جمالية الفائض الوصفي، الذي يهدف تعميق الوعي بالذات التي تعيش مأساة نفسية عميقة، ووضعا فكريا مضطربا اختلت فيه وظائف الحواس، ووصل القلق مداه، وعكست الحيرة والدهشة القوية تأثرا عميقا للذات الساردة. كما يمكن إدراجه في سياق جمالية الدهشة، التي تستهدف تنبيه القارئ إلى أنه أمام ترسانة لغوية جديدة، تحاول الحسم مع توصيفات "البلاغة الواضحة".
مرورا بملفوظ آخر: "ما رأيته في مستوى طولي لا يقبل الدحض، كان بابا خلفيا شبه موصد تتسلل من فرجته المواربة حزمة ضوء خشنة تجرح العتمة.. كان ثمة ساعة حائطية تجهش بالواحدة صباحا.. تجاورها فيما يشبه صداقة غير معلنة صورة فوطوغرافية بالألوان لامرأة عجفاء تشهر ابتسامة سمينة جدا لا تجدر تماما بزوجة منتهية الصلاحية"(ص96) مقطع سردي مليء بعلاقات إسنادية تفجر التوصيفات المألوفة وتخرقها؛ فهذه "حزمة ضوء خشنة"، وتلك ساعة مؤنسنة تطفر الدموع من عقاربها، وتلك ابتسامة تعاني من السمنة. إنها علاقات إسنادية تؤطرها جمالية التشييد؛ حيث يصير النص القصصي فضاء لبناء علاقات لغوية مليئة بدلالات وإيحاءات جديدة أملها السياق القصصي، وفضاء لنسف العلاقات اللغوية المبنية وفق منطق التطابق المرجعي، لأن "التجريب القصصي يحرر نفسه من المراجع الثابتة"
وصولا إلى الملفوظ الموالي: "وبالطبع، كل هذا "البرشمان" لن يكون مجديا، إذا لم تدرج في جدول أعمال التخيل النقطة المتعلقة بضرورة ضخ الكثير من الصحو والموسيقى القادرين على البطش بحواسي الآيلة للنعاس"(ص132). مقطع يمكن إدراجه ضمن جمالية البناء النقدي؛ ونقصد به بناء تصور نقدي قادر على إدراك خصوصيات الكتابة القصصية القائمة على تقنية "البرشمان"، باعتباره تقنية مرهون إدراكها، على الأقل، بعنصرين هامين، الأول يستبعد "واقعية" الحدث، أو مطابقته لمرجعية ما، لأن النص القصصي في جوهره الفني، يقوم على التخييل. والثاني يستحضر الكاتب والقارئ النوعي في تشغيل تلك التقنية؛ أي الكاتب الذي يستنفر عدة معرفية خاصة لبناء نص قصصي قائم على "تقنيات وجماليات "التخلاف"" (ص113)، والقارئ الذي يفعل حواسه وعقله، كي يقارب بعمق فني وفكري ما توحي به تلك التقنيات والجماليات.
5- الشعر يدنس "العقيدة" القصصية..
تعد اللغة الشعرية جزءا من التنويع اللغوي داخل مجموعة "علبة الباندورا"، لكن بحكم هيمنة هذا النوع اللغوي نفرد له محورا خاصا. وتتجلى معالم اللغة الشعرية في مستويين، الأول يخص المحمولات الدلالية المبنية وفق رؤية رمزية؛ تجعل النص القصصي يتجاوز اللغة السردية المسندة بتعبير واضح، تكمن دلالته في رمزية النسق النصي، صوب لغة قصصية مثقلة بالرمز والإيحاء، يمكن إدراجها ضمن "شعرية الموضوع القصصي". الثاني يهم البناء اللغوي المتسم بخصوصيات شعرية، ويمكن رصد، على سبيل التمثيل، خاصيتين لغويتين لتأكيد شعرية اللغة القصصية: الإيحاء القصصي، التكرار الإيقاعي.
الإيحاء القصصي:
تحكم هذا المكون جمالية الإزاحة؛ حيث تتراجع اللغة القصصية المباشرة أما سلطة الرمز، فيغدو النص القصصيي بناء لغويا مشفرا ومنفتحا على مسارات تدليل متنوعة، يقول السارد في قصة "عندما أصبح السيد "ريباخا" قاتلا": "هكذا كررتها لك بصوت مرتفع داخل هذا الحلم الكريه.. لتضع حدا لصرير الرغبة الدموية التي اهتزت في صدري كأرجوحة تروح وتجيء.. تجيء وتروح.. لتفك الاشتباك اليابس للأصابع التي خنقته بإسراف ودون رحمة على الإطلاق.. لتخمد الأنفاس اللاهثة للمنشار الكهربائي الحاسم الذي قطع أوصاله إربا فإربا.. لتدس في زاوية غابرة السكين الفادح.. ولتمسك بفظاظة اليد الآثمة.."(ص69-70). إنه عبث بالطابع المباشر للغة، واعتناء خاص ببناء المقطع السردي؛ فاللغة الإيحائية صارت أداة جمالية تعبر عن كابوسية الحلم، عبر بناء دلالي منفتح على الدهشة والغرابة. فتبدو مركزية اللغة، هنا، نابعة من قدرتها على خلق أنساق دلالية مضمرة، يمكن ربطها بمقولات القلق والضجر والاستغراب والخوف..، الذي يتولد جراء الانفتاح على حياة مثقلة بفداحات تدمير الكائن البشري.
ويتعمق إيحاء اللغة القصصية بالانفتاح على شعرية التداعي؛ حيث يصير المتخيل القصصي مبنيا بلغة شاعرية، تستحضر، من خلالها، الذات الساردة ماضيها عبر بلاغة التداعي، جاء في قصة "ملاحظات حول الصور الفوطوغرافية": "أنا بالأبيض والأسود ذا وجهي. وجهي محفوق بسنوات عملاي الخمس. وسنوات عمري الخمس على عاتق نظرة جدتي. ونظرة جدتي تثابر على الحنان الزائد. والحنان الزائد يجعلني أسرف في انتهاك حرمة الصورة. وحرمة الصورة تأخذني إلى سنة تحديق عميقة. وسنة التحديق العميقة تنطلق بي بغثة.."(ص123). تمارس الذات الساردة، عبر التداعي اللغوي، بلاغة التأمل في ماضيها المفارق للحظتها الراهنة، فكانت شعرية التداعي قادرة على رسم نظام العلاقات والسلوكات والأفعال التي تؤطر الذات الطفلية في بداية تشكل كينونتها الخاصة والنوعية.
وتشتغل ضمن نفس القصة السابقة لغة شاعرية مؤطرة بجمالية التأمل؛ حيث الذات الساردة تعبر عن دواخلها ومشاعرها، جراء انفتاحها على ماضيها المنصرم وما يتفاعل "خارج" ذاتها، عبر لغة شاعرية قوامها التأمل في ثنائية الغياب/الحضور والداخل/الخارج: "ذا وجهي أنا مصاب على نحو بالغ بامرأة أينما ولى شرط قلبي شطر وجد سطر وجهها. إذن، صحيح تماما أن الغياب يكون أحيانا ظلا للحضور. وليس صحيحا على الإطلاق، أن السنوات السبع المنصرمة كانت كافية لإغلاق الماضي. لتبنيج الشوق. لعرقلة المشاعر. لتدويخ الرجفة. لفك أسنان الرغبة. ولتلفيف هذا الجرح المخيط بطريقة سافلة"(ص122). إنها استعارات قصصية تفتح المتخيل على جمالية التأمل في "الواقع" العاطفي المنفتح على القلق والتيه جراء تدمير الألفة الناجمة عن غياب "المرأة"، وعلى التأمل في الدينامية الزمنية التي توحي بالتطور المؤسسة ببلاغة الاختلاف بين الأزمنة، لكن في الآن نفسه، ببلاغة التضايف والتداخل بين الأزمنة عبر الذات الإنسانة من خلال مكون الذاكرة.
التكرار الإيقاعي:
تبني اللغة القصصية، عبر هذا المكون، عالما سرديا قوامه الحركية الإيقاعية؛ حيث تنتهك اللغة القصصية الموسومة بخاصية التكرار الإيقاعي صمت القصة، وتشيد حركية قصصية قائمة على دينامية موسيقية وإيقاعية، يقول السارد في مقطع قصصي مليء بشعرية التكرار الدالة على الفقدان والأمل: "متى؟.. زندك الممشوق.. المشنوق.. المرشوق.. متى؟.. غنجك الذي طالما طاااااال ما قضمني بشفاه نمر.. متى؟.. صوتك المصفر بمحاذاة الأسلاك الشائكة لأعصابي..متى؟..ما؟.. مات؟..مات..؟..آ؟ فمتى الجحيم يا عزيزتي؟ فمتى النسيان؟" (ص122). إنه مقطع تحكمه جمالية إقاعية منفتحة على الصراخ والتوجع؛ حيث تنوس اللغة بين التكرار الإيقاعي المؤطر بأمل التحول الزمني (متى)، وبين التجنيس والتوازن الصوتيين، كما يظهر في أنماط متنوعة ومختلفة (زندك/غنجك/صوتك، متى/مات، الممشوق/المشنوق/المرشوق..) تعمق الدينامية الإيقاعية والموسيقية للنص القصصي.
وتتقوى الجمالية الموسيقية في قصص "علبة الباندورا" حينما يتخذ التكرار شكلا خاصا، يمكننا تسميته بـ"التكرار التناظري"؛ حيث يصير المقطع السردي مقلوبا في صيغة ثانية تعكس وضعه البنائي والدلالي الأول، مما يقوي جمالية الصعود/النزول عبر بناء هرمي دلالي وفني، يقول السارد في قصة "رنين في رأس "السيد ريباخا"" : "...ويدي الغامضة التي لم تكن تلوح لها بما يشبه الجحود:
آه، من المقهى الصغير
والشارع الطويل
والمصطبة الإسمنتية
وحافلة المحطة الطرقية.
...ويدها الواضحة كانت تلوح لي بما يشبه الرجاء:
آه، من حافلة المحطة الطرقية
والمصطبة الإسمنتية
والشارع الطويل
والمقهى الصغير" (ص66).
يشيد التكرار، هنا، جمالية القلب؛ حيث يبدو التعارض قائما بين الذات الأنثوية والذكورية المدمجة في الخطاب المكرر، مما يوحي بانقلاب العلاقة بينهما، وبداية الاختلاف بين الذاتين مما أدى إلى انفصالهما.
ويتخذ التكرار الإيقاعي ملمحا آخر، يتجلى في جمالية الكثافة والتنويع؛ حيث تتقوى إيقاعية القصة، لينتهك أسلوب التكرار البنيات اللغوية المتأسسة على بلاغة الانسياب السردي الصامت والساكن، ويبني بدلها إيقاعا قصصيا تؤسسه جمالية الحركة والصوت: "وجوه كثيرة. كثيرة الوجوه. وجوه عرفتها جيدا أو ظننت. وجوه عرفتها قليلا. وجوه لم أجشم نفسي عناء معرفتها بالمرة. وجوه بلا حساب. بلا حساب وجوهها. وجوه لم تعرفني جيدا كما يجب. وجوه عرفتني باقتصاد مخل. ووجوه لم أرد أن تجشم نفسها عناء معرفتي ولو مرة.." (ص121). تعبر استعارة الوجه عن نظام العلاقات التي تؤسسها ذات التلفظ، ومنها الذات الإنسانية عموما، مع غيرها، باعتبارها علاقة محكومة بالاختلاف والتعدد والتنوع والسطحية والعمق؛ مما يعبر عن عمق التركيبة البشرية التي تظل مستعصية على الفهم حينا، وعلى رفضها أو قبولها الآخر والتواصل معه، وهو ما تتغنى به الذات الساردة عبر بلاغة التكرار.
تعبر المكونات السابقة لشعرية اللغة القصصية عن خرق للنقاء الأجناسي، لأن الانشغال بشعرية القصة محكوم برؤية فنية وفكرية أساسها جماليتي الإدماج والترميز؛ حيث الجمالية الأولى يؤطرها تضايف الشعر والقصة في بناء فني يدمر مبدأ الأفضلية والقطيعة، ويدعم مبدأ "التعايش" والتداخل بين الأجناس الأدبية. أما الجمالية الثانية فتحكمها الرغبة في بناء نص قصصي يتجاوز قانون "التنويم" الذي تمارسه القصة/الحكاية التقليدية، فتصير لغة القصة "ملغومة" تجعل المتخيل القصصي مضاعف الترميز، لأنها لغة خضعت للتطويع و"الترشيد" الذي تقتضيه الكتابة القصصية التجريبية.
6-قبل الإغلاق..
يمكننا القول إن الانزياح اللغوي –إضافة إلى جماليات أخرى- الذي يسم المجموعة القصصية "علبة الباندورا" للقاص المغربي أنيس الرافعي يعد استجابة فنية وفكرية لنمط إبداعي ينبني على التجريب، وهو انزياح تؤطره ثلاث جماليات كبرى؛ الأولى قوامها المغايرة والاختلاف، حيث لغة القصة التجريبية تمتاز بلغتها المختلفة نوعيا ودلاليا عن لغة القصة التقليدية؛ سواء على مستوى الصياغة، أم على مستوى التوصيف والعلاقات الإسنادية. والثانية أساسها الترحيل والإدماج؛ حيث تبني اللغة القصصية وفق قانون تطعيم لغة القصة بلغات مُرحَّلة من أجناس وأشكال تعبيرية أخرى: الشعر، والنقد، والسينما.. والثالثة محورها الإرشاد والتنبيه؛ تنبيه المتلقي إلى ضرورة التخلص من ثقل "البلاغة الواضحة" أثناء التعامل مع لغة قصة "ما بعد الحداثة"، باعتبارها قصة تحمل في ذاتها "بلاغتها" الخاصة والجديدة والنوعية و"الغامضة". من هنا، فجمالية الانزياح اللغوي تجعل لغة قصص "علبة الباندورا" مبنينة وفق منطق الخلخلة والتمرد والخرق.. وكل ما يساهم في انتهاك اللغة المطمئنة والهادئة.
د .عبد الرحمن التمارة / ناقد من المغرب
ــــــ
- أنيس الرافعي، علبة الباندورا، متتاليات ما بعد سردية، الشاطئ الثالث، 4، طبعة ثانية تجميعية، 2007. وأرقام الصفحات داخل المجموعة التي لا تحيل على الهوامش هي أرقام صفحات المجموعة. كما أننا سنشير في التحليل إلى مجموعة "علبة الباندورا"، أحيانا، باسم "العلبة"
- عبد السلام المسدي، النقد والحداثة، دار الطليعة ، بيروت، ط1، 1983، ص: 41.
- د. محمد الدغمومي، نقد الرواية والقصة بالمغرب، منشورات المدارس، الدار البيضاء، ط1، 2006، ص: 234.
- محمد برادة، فضاءات روائية، منشورات وزارة الثقافة، ط1، 2003، ص: 8.
- ورد ضمن: اللغة والخطاب الأدبي، اختيار وترجمة: سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء-بيروت، ط1، 1993، ص: 30.
- جان كوهن، بنية اللغة الشعرية، ترجمة: محمد الولي ومحمد العمري، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط1، 1986، ص: 194.
- يرى كوهن أن الشعر رغم إفراطه أحيانا في الانزياح اللغوي فإنه ليس مسكونا بـ"روح السلب"، المرجع السابق، ص: 194. وهي فكرة يمكن سحبها على القصة القصيرة التي تخرق الكثير من "الثوابت" اللغوية.
- د.حميد لحمداني، القراءة وتوليد الدلالة: تغيير عاداتنا في قراءة النص الأدبي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء-بيروت، ط1، 2003، ص: 78.
- عبد الله العروي، ضمن: محمد الداهي، عبد الله العروي: من التاريخ إلى الحب، حوار، نشر الفنك، الدار البيضاء، 1996، ص: 35.
- أورده، تزفيتان تودوروف، نقد النقد، ترجمة: سامي سويدان، مركز الإنماء القومي، بيروت، ط1، 1986، ص: 20.
- ورد في حوار منشور بمجلة الكرمل، العدد 3، صيف 1981، ص: 251.
- أوجستو رواباسطوس، حكى حكاية، قصص قصيرة، ترجمة: أحمد حسان، مكتبة مدبولي، القاهرة، دون تاريخ، ص: 71.
- إلياس خوري، ملاحظات حول الكتابة القصصية، ضمن: دراسات في القصة العربية، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، ط1، 1986، ص: 58.
- وقد جاء هذا العنوان مشفوعا بعنوان فرعي هو: قصة – قصيدة نثر، مما يؤكد الخلفية الشاعرية في البناء القصصي.
1- تأمل أولي..
تعد اللغة عنصرا هاما في تشكيل العمل الإبداعي، وتزداد أهميتها كلما انزاح بها المبدع عن "المعيار"، وجرب نماذج لغوية تمنحه التميز والخصوصية.
هكذا، يصير الانزياح اللغوي في القصة فعلا فنيا يؤسس لجمالية قصصية يمكن وصفها بـ"جمالية الخلخلة"، ما دام "ناموس اللغة يسمح بالابتعاد عن القالب الموضوع مما يسمى بالعرف في الاستعمال، فتكون الطاقة الإبداعية متولدة عما توقعه في نظام اللغة من اضطراب يصبح هو نفسه نظاما جديدا" . مما يوحي بان النص القصصي لا يتحقق وجوده الدلالي وكينونته الفنية باللغة المعيارية، بل بلغة تخرق المألوف والمتداول، وتؤسس لبنية دلالية خاصة، لأنه "مهما ظهر المعنى واضحا، فإن هذا المعنى الواضح ما هو إلا إحدى الخدع التي يتوسل بها النص لإخفاء "مجازيته" وإلا انعدمت أدبيته ولأصبح مجرد لغة تواصلية" . يمنحنا هذا الكلام الوعي بأهمية الانزياح اللغوي في النص القصصي، أهمية تكمن في مستويين؛ الأول أساسه تدمير القصدية الدلالية، وتفعيل آلية التأويل التي تقارب دلالة القصة وفق مبدأ البناء وليس مبدأ التعيين. الثاني قوامه التأكيد على اقتران أدبية النص القصصي بمدى "براعة" القاص في بناء لغة جديدة على أنقاض اللغة التواصلية العادية، بل إن كينونته وإبداعه مرهون بهذه اللغة المعتمدة في بناء النص الإبداعي؛ حيث "يظل وجود المبدع رهين اللغة التي يتوسل بها ليرتاد عالم الكتابة" .
2- قبل الفتح..
يستقي الحديث عن الانزياح اللغوي داخل النص القصصي مشروعيته من الخلخلة الواضحة التي أحدثها عدة قصاصين في المكونات الفكرية والفنية التي تهندس القصة القصيرة، بما في ذلك اللغة التي تعد عنصرا بنائيا هاما للنص الأدبي؛ حيث "إن اللغة هي وسيلة الأدب" . مما يجعل الانزياح اللغوي جزءا من انزياح نوعي تعرفه الكتابة القصصية الراهنة مغربيا وعربيا؛ مما يتطلب فعلا نقديا يلامس هذه الخلخلة، ويبني أبعادها ودلالاتها المضمرة والظاهرة. وينبني الحديث عن الانزياح اللغوي على رؤية تجعله عنصرا هاما في العمل القصصي يؤسس لمبدأ تفاعل تواصلي بين المبدع والمتلقي؛ حيث الأول يؤسس الخرق ويبنيه، والثاني يفككه ويعيد بناءه من جديد عبر التأويل. مما يفضي بالضرورة إلى انبناء الانزياح اللغوي على لحظتين متعاقبتين هما "عرض الانزياح، ونفي الانزياح" . من هنا، فإن الحديث عن الانزياح اللغوي في مجموعة "علبة الباندورا" للقاص المغربي أنيس الرافعي يصير مقترنا –من زاوية منهجية- برصد مظاهر الانزياح كما "عرضها" المبدع، وبعده "نفي" هذه المظاهر بتأويل يبني الدلالة وفق نظرة تجعل النص القصصي متعالق العناصر الجمالية والدلالية، وتجعله مسكونا بـ"روح الإيجاب" الدلالي، التي يولدها تفاعل القارئ معه؛ حيث يغدو النص القصصي منفتحا على دلالات متنوعة، لأن النص الأدبي "لا يقدم نفسه بل يعاش من جديد كتجربة خاصة بالقارئ"
3- اللغات على أشكالها تقع..
لم يعد التنوع اللغوي مقتصرا على النص الروائي، لأنه تنويع صار مميزا للنص القصصي الموسوم بخلفية تجريبية بناءة؛ حيث يصير النص القصصي ورشا مفتوحا لحوارية لغوية أساسها التعدد والاختلاف من جهة، والتجانس والتآلف من جهة ثانية. وبحكم تعدد الأشكال اللغوية في "علبة الباندورا"، فإننا سنقف عند نمطين لغويين -على سبيل التمثيل-، ونحاول رصد أبعادها الدالة، وهي:
اللغة التصويرية:
تشغل هذه اللغة حيزا هاما في "العلبة"، وتؤسس نصيا لتنوع مجالات التصوير القصصي؛ حيث تتباين وتتعدد عناصر الوصف ومكوناته، نوعا ووضعا، فتلتقط اللغة الوصفية الإنسان والفضاء والبناء..، كما تصور الحركة والفعل والحالة والتفاعل والمظهر..إلخ. وإذا كانت هذه اللغة تحضر في النصوص القصصية بناء على مبدأ التعالق الوظيفي والتكويني مع السرد، فإن المقاطع التصويرية، داخل القصص، انبنت على إبدالات لغوية جديدة مؤطرة بجماليات رمزية متنوعة. هكذا، تشتغل جمالية العجز وفق منطق رمزي غايته كشف عجز ذات التلفظ عن الحركة الحرة؛ يقول السارد: "وكنت أثناء اكتظاظي على نفسي بعضي ملتصق ببعضي بصمغ وهمي وعاجز، بشكل رهيب، على إنجاز أدنى حركة سواء إلى الأمام أم إلى الخلف"(ص26). تعبر، هنا، جمالية العجز عن واقع إنساني مكبل بقيود متنوعة؛ بعضها قد يكون وليد الكينونة الخاصة، وبعضها تنتجه عناصر موازية للوجود الإنساني. فيصير الإنسان، بموجب ذلك، مثقلا بإكراهات نوعية، فتشل حركته، ويشعر بثقل جسده، وضعف أدائه الحركي.
وتتولد جمالية الاستغراب والدهشة من اللغة الوصفية؛ حيث تصير ذات التلفظ مصورة وموصوفة بطريقة تعبر عن وضع غريب ومدهش، لأنها ذات تقرب المسرود له من وضعية غير مألوفة، سواء على مستوى الكينونة والتشكل، أم على مستوى الفعل والحركة: "..عندئذ ستدب الكهرباء فجأة في التلفاز المعطل لأبصر عى الشاشة صورة رجل يتهندم بملابسي، يا للهول، هل أنا شبح؟ هل أنا رجل ميت؟ حقا إنني أبصرني وأنا أمامي أحدق إلي.. حقا أن أبصرني وأنا أمامي أحدق إلى وجهي الذي تأكله الديدان من كل ناحية ولا يكف عن الابتسام لي"(ص72) إنها جمالية مؤطرة بقانون التقويم والنقد الذي يخضع له الإنسان في كينونته الثانية؛ حيث ترسم الأنا سيناريوهات محتملة لصورتها في عينها الخاصة، أو عيون "الغير"، بناء على مقولة المرآة. ويمكن القول، من منظور معرفي، إن المقطع السردي السابق يهجس بالرغبة في استجلاء مختلف المميزات النوعية للذات الإنسانية في لحظات "التورط" المختلفة، التي يولدها "الضِّعف"، أي الذات الثانية المحكومة بسلطة القناع عن الذات "الأولى".
وتحضر جمالية التحول في "العلبة" حينما تغدو اللغة الوصفية أداة مناسبة لرسم سيناريو تحول سوريالي، يتجرد بموجبه الإنسان من أدميته، ويعانق عالم الحيوانية أو الجماد. فيصير الفعل الحركي للإنسان متصلا بدينامية التقهقر، وليس بحركية الارتقاء: "فجأة وبكل مبالغة، يشرع في اقتلاع أعضائه عضوا فعضوا ويلقي بها كيفما اتفق على قارعة الطريق.. المرأة بعد أمتار يسيرة منه، يجمع ما تبقى منه –ساقيه طبعا- ويتحول إلى خروف"(76). إنه مقطع سردي معبر عن الجذور اللاشعورية لتبديد الرتابة والملل في كينونة الإنسان، بناء على مبدأ التحول القائم على الانتقال بين وضعيات مختلفة. كما أنه مقطع دال على الصراع الأبدي بين الإنساني والحيواني، وبين الثقافي والطبيعي، من منطلق أن التحول الفانطاستيكي لذات الملفوظ في قصة "التحولات غير المعقولة للسيد "ريباخا"" عبر به من الإنسان إلى الخروف والقرد والحمار والشجرة.
وتقترن جمالية التمرد برغبة قوية في فضح المنطق النفعي وسلطة الرتابة وقانون المشابهة الذي يؤطر الوجود الإنساني، الذي يصير خاضعا للبنيه الذهنية المقترنة بسوء تدبير الفضاء وفق مقتضيات جمالية ودينامية واختلافية؛ مما ينجم عنه سيطرة قانون النمطية والرتابة المتولد عن بنية الثبات المتنوع: "الأبنية طاعنة في الجمود والتجاور الاعتباطي من دون قرابة واضحة كما لو كانت أجزاء منقسمة أو مقاطع غير مكتملة.. النوافذ والأبواب والمحلات والمقاهي وأكشاك الصحف ومخادع الهاتف موصدة على ذاتها بإحكام لا نظير له"(ص82). فهل تستطيع الذات الخارجة من "داخلها" الجارح والمهزوز أن تجد راحتها في "الخارج"؟ في ارتباط بالمقطع السردي السابق، سيكون الجواب: لا لن تستطيع. فالاضطراب النفسي للذات الإنسانية، بناء على السياق الرمزي للقصة، لن يجد في "الخارج" ما يسعف في تجاوزه؛ لأنه "خارج" ينتج القلق والملل والرتابة، ويحسس الذات بوحدتها وعزلتها وتيهها، ويحرمها من اقتناص أي جمالية نوعية ومختلفة عن المألوف. من هنا تصير اللغة القصصية أداة هامة لكشف ثنائية الداخل والخارج، بمستواياته الإنسانية وغير الإنسانية، انسجاما مع التصور القائل بأن: "القصة القصيرة هي لغة الكشف، هذا الكشف هو اللغة" .
اللغة الميتاقصصية:
تضمر هذه اللغة تصورا ذاتيا للنص القصصي من عدة زوايا؛ التلقي والإنتاج، والبناء والتشكيل، وتفاعل المكونات القصصية نصيا.. إلخ. وهي لغة تبني القصة وفق جماليات متنوعة، أهمها "جمالية الانتهاك"؛ حيث تصير لغة القصة عنصرا ينتهك التقاليد التي أرهقها التداول في المنجز القصصي التقليدي، لأن السارد يدرج لغة النقد في بنية النص القصصي. وتكتسي هذه الجمالية بعدا توجيهيا لفعل التلقي؛ تلقي نص قصصي تجريبي ينسجم مع تنبه "نوفاليس" إلى أننا "لم نعد نعيش في العصر الذي تسيطر فيه الأشكال المقبولة عالميا" . فيدمر النص القصصي، بموجب ذلك، مبدأ الانسياب السردي المفضي "للنوم" أمام المحكي القصصي، ويبني بدله نصا يلح على "يقظة" القارئ، لأن التدقيق في متابعة "أحداث" النص رهين بالقبض على مضمراته الجمالية: "وكما يجب أن يحدث فيما بعد حسب رسيمة الحبكة، كان ثمة وازع جمالي ملح وملتبس سوف يستدرجك تدريجيا وسيدفعك خلسة لتكرس لها نظرك وتعيث فيها تحديقا"(ص127).
وتنبثق عن اللغة الميتاقصصية كل من جماليتي التمرد والتجاوز؛ في الجمالية الأولى تصير اللغة النقدية داخل نسق التخييل القصصي مقترنة بالتمرد على اللغة المغرقة في ظلال الواقعية، مما جعل التمرد فعلا ديناميا مولدا للغة قوامها الانحراف عن المعيار الجامد: "وحرصا منك على إطعام التخيل ببعض أو بكل المبالغات القادرة على الفتك بالميراث الثقيل للواقعية، لنقل إنهم كانوا.."(ص137). وفي الجمالية الثانية يتصل التجاوز بالتنبيه إلى أهمية "قصة ما بعد السرد"؛ سواء على مستوى "هويتها" النوعية، أم على مستوى الاشتراطات الجمالية التي تحكمها، بحكم تشكلها وفق "قانون" المغايرة والاختلاف مع غيرها: "وطبعا –وكما هو ضروري لديكور قصصي بالغ التجريب يدعي بوقاحة أنه يندرج ضمن خانة "ما بعد السرد"-: فقد كان ثمة –أيضا- دخان كثيف وسعال جيد"( ص126).
وتولد اللغة الميتاقصصية جمالية التوجيه؛ فأمام نص قصصي ينتهك "الشكل" المألوف، تشتغل لغة نقدية قوامها تعين المحافل السردية، وإبراز اختلافاتها النوعية، وذلك ما يساعد في "إرشاد" القارئ صوب التباين الذي يحدثه التضمين والتوالد القصصي، مما يجعل النص القصصي ثنائي البناء؛ الاستهلال أو الختم القصصي، والمحكي القصصي الإطار: "ثم تبدأ القصة التي ستقرأون الآن"(ص 31)، "تم عادت الأمور إلى سابق بساطتها لتنتهي القصة التي انتهيتم من قراءتها الآن"(ص36). يومكن إدراج الانشغال باللغة الميتاقصصية في المتخيل القصصي ضمن "الجمالية الإنتاجية"؛ حيث تظهر الذات الكاتبة مشغولة بإنتاج لغة قصصية ذات "ماركة" جديدة وخاصة، ومؤسسة لكتابة نوعية، ومتجاوزة اللغة الإبداعية المتداولة باستمرار، لأن "الكاتب الذي لا يجري تجارب على اللغة هو كاتب سيء بشكل عام" .
4- لك واسع النحت والصفات..
يتجلى الانزياح اللغوي هنا في عنصرين؛ الأول يخص المفردات اللغوية في تشكلها الفردي العمودي، حيث يتم الخرق على مستوى الصياغة. أما الثاني فيهم المفردات اللغوية في بنائها العلائقي الأفقي، فيتم الخرق على مستوى العلاقات الإسنادية.
وتتضح معالم العنصر اللغوي الأول في الانزياح اللغوي الممتد إلى تشكيل مفردات لغوية تحكمها جمالية الإدهاش، الناجمة عن إنتاجية لغوية ولود، ألم يقل أوجستو رواباسطوس "يجب العثور على لغة جديدة" ؟ ويمكننا التمثيل لذلك بثلاثة نماذج لغوية، الأول يظهر في مفردة "التراغم"، الدالة في نسق القصة على فعل الإرغام المتبادل بين الذات وضعفها، في إشارة رمزية إلى المسافة الفاصلة بين القيام بالشيء على سبيل الإكراه، وبين جعل الأداء الوظيفي للذات خاضعا لمنطق جلدها بإجبار مضاعف؛ حيث تبدو الذات محكومة بمنطق النزاع بين فكرتين منطلقهما جذر واحد. مما يحين رمزية الاختلال المتصل بالتفكير لدى الكائن البشري، وبتضارب أفكاره جراء الاحتكام لسلطة الحواس والمشاعر والغرائز والطقوس والمظاهر الرامية وضع الذات في إطار التنميط الرتيب للحياة بامتداداتها المتنوعة والمختلفة: "كنت أرغمه على الاستلقاء..، كان يرغمني على الوقوف أمام المرآة ساكنا..، كنت أرغمه بطريقة بوليسية على الحليب بدل عصير الليمون..، كان يرغمني على السير بخطوات مرتبة..، كان يرغمني بلا رحمة على اجترار تلك الدروس البئيسة.." (ص20، 21، 22). ويتجلى النموذج اللغوي الثاني في مفردة "التبرمل"، ويتضح الثالث في مفردة "التراتل". وينبني السياق القصصي المفضي لنحت الكلمة الثانية/التبرمل على جمالية الاستبطان، وذلك عبر إبراز سعة الضيق الممتدة لكل إنسان يعيش "حالة كابوسية"؛ سواء كانت حلما خانقا ومرهقا، أم حياة مثقلة بإكراهات فجائية تجعله قلقا وتائها ومضطربا. أما الكلمة الثالثة/التراتل فجاءت في سياق قصصي مؤطر بجمالية الكشف؛ كشف الانتقال النوعي للإنسان من المستوي القيمي المفضي لتأسيس علاقات بهية مع غيره أساسها "خيوط" الإنسانية النبيلة، إلى المستوى الوضيع القائم على فقدان القيم الإنسانية العليا، كلما وجد نفسه في هذا العالم المعقد التركيب.
وتبرز معالم العنصر اللغوي الثاني في توصيفات نوعية يحكمها التجاور اللغوي، وتؤطرها جمالية الغرابة والسخرية. وهو عنصر لغوي كثيف الحضور في "العلبة"، لكن الاحتكام إلى مبدأ التمثيل يجعلنا نقف عند نماذج محددة، لنكشف الجماليات الدلالية المؤطرة لها.
يظهر هذا العنصر بدءا بالملفوظ السردي التالي: "طبع، سوف يسقط كاملا في قلق فصيح وستصل حواسه الخمسة باكرا إلى شفير الدهشة"(ص80). إن إسناد الفصاحة للقلق، ووسم الحواس بالحركية عبر فعل السيرورة "ستصل"، وتمييز الدهشة بالشفير، يمكن إدراجه ضمن جمالية الفائض الوصفي، الذي يهدف تعميق الوعي بالذات التي تعيش مأساة نفسية عميقة، ووضعا فكريا مضطربا اختلت فيه وظائف الحواس، ووصل القلق مداه، وعكست الحيرة والدهشة القوية تأثرا عميقا للذات الساردة. كما يمكن إدراجه في سياق جمالية الدهشة، التي تستهدف تنبيه القارئ إلى أنه أمام ترسانة لغوية جديدة، تحاول الحسم مع توصيفات "البلاغة الواضحة".
مرورا بملفوظ آخر: "ما رأيته في مستوى طولي لا يقبل الدحض، كان بابا خلفيا شبه موصد تتسلل من فرجته المواربة حزمة ضوء خشنة تجرح العتمة.. كان ثمة ساعة حائطية تجهش بالواحدة صباحا.. تجاورها فيما يشبه صداقة غير معلنة صورة فوطوغرافية بالألوان لامرأة عجفاء تشهر ابتسامة سمينة جدا لا تجدر تماما بزوجة منتهية الصلاحية"(ص96) مقطع سردي مليء بعلاقات إسنادية تفجر التوصيفات المألوفة وتخرقها؛ فهذه "حزمة ضوء خشنة"، وتلك ساعة مؤنسنة تطفر الدموع من عقاربها، وتلك ابتسامة تعاني من السمنة. إنها علاقات إسنادية تؤطرها جمالية التشييد؛ حيث يصير النص القصصي فضاء لبناء علاقات لغوية مليئة بدلالات وإيحاءات جديدة أملها السياق القصصي، وفضاء لنسف العلاقات اللغوية المبنية وفق منطق التطابق المرجعي، لأن "التجريب القصصي يحرر نفسه من المراجع الثابتة"
وصولا إلى الملفوظ الموالي: "وبالطبع، كل هذا "البرشمان" لن يكون مجديا، إذا لم تدرج في جدول أعمال التخيل النقطة المتعلقة بضرورة ضخ الكثير من الصحو والموسيقى القادرين على البطش بحواسي الآيلة للنعاس"(ص132). مقطع يمكن إدراجه ضمن جمالية البناء النقدي؛ ونقصد به بناء تصور نقدي قادر على إدراك خصوصيات الكتابة القصصية القائمة على تقنية "البرشمان"، باعتباره تقنية مرهون إدراكها، على الأقل، بعنصرين هامين، الأول يستبعد "واقعية" الحدث، أو مطابقته لمرجعية ما، لأن النص القصصي في جوهره الفني، يقوم على التخييل. والثاني يستحضر الكاتب والقارئ النوعي في تشغيل تلك التقنية؛ أي الكاتب الذي يستنفر عدة معرفية خاصة لبناء نص قصصي قائم على "تقنيات وجماليات "التخلاف"" (ص113)، والقارئ الذي يفعل حواسه وعقله، كي يقارب بعمق فني وفكري ما توحي به تلك التقنيات والجماليات.
5- الشعر يدنس "العقيدة" القصصية..
تعد اللغة الشعرية جزءا من التنويع اللغوي داخل مجموعة "علبة الباندورا"، لكن بحكم هيمنة هذا النوع اللغوي نفرد له محورا خاصا. وتتجلى معالم اللغة الشعرية في مستويين، الأول يخص المحمولات الدلالية المبنية وفق رؤية رمزية؛ تجعل النص القصصي يتجاوز اللغة السردية المسندة بتعبير واضح، تكمن دلالته في رمزية النسق النصي، صوب لغة قصصية مثقلة بالرمز والإيحاء، يمكن إدراجها ضمن "شعرية الموضوع القصصي". الثاني يهم البناء اللغوي المتسم بخصوصيات شعرية، ويمكن رصد، على سبيل التمثيل، خاصيتين لغويتين لتأكيد شعرية اللغة القصصية: الإيحاء القصصي، التكرار الإيقاعي.
الإيحاء القصصي:
تحكم هذا المكون جمالية الإزاحة؛ حيث تتراجع اللغة القصصية المباشرة أما سلطة الرمز، فيغدو النص القصصيي بناء لغويا مشفرا ومنفتحا على مسارات تدليل متنوعة، يقول السارد في قصة "عندما أصبح السيد "ريباخا" قاتلا": "هكذا كررتها لك بصوت مرتفع داخل هذا الحلم الكريه.. لتضع حدا لصرير الرغبة الدموية التي اهتزت في صدري كأرجوحة تروح وتجيء.. تجيء وتروح.. لتفك الاشتباك اليابس للأصابع التي خنقته بإسراف ودون رحمة على الإطلاق.. لتخمد الأنفاس اللاهثة للمنشار الكهربائي الحاسم الذي قطع أوصاله إربا فإربا.. لتدس في زاوية غابرة السكين الفادح.. ولتمسك بفظاظة اليد الآثمة.."(ص69-70). إنه عبث بالطابع المباشر للغة، واعتناء خاص ببناء المقطع السردي؛ فاللغة الإيحائية صارت أداة جمالية تعبر عن كابوسية الحلم، عبر بناء دلالي منفتح على الدهشة والغرابة. فتبدو مركزية اللغة، هنا، نابعة من قدرتها على خلق أنساق دلالية مضمرة، يمكن ربطها بمقولات القلق والضجر والاستغراب والخوف..، الذي يتولد جراء الانفتاح على حياة مثقلة بفداحات تدمير الكائن البشري.
ويتعمق إيحاء اللغة القصصية بالانفتاح على شعرية التداعي؛ حيث يصير المتخيل القصصي مبنيا بلغة شاعرية، تستحضر، من خلالها، الذات الساردة ماضيها عبر بلاغة التداعي، جاء في قصة "ملاحظات حول الصور الفوطوغرافية": "أنا بالأبيض والأسود ذا وجهي. وجهي محفوق بسنوات عملاي الخمس. وسنوات عمري الخمس على عاتق نظرة جدتي. ونظرة جدتي تثابر على الحنان الزائد. والحنان الزائد يجعلني أسرف في انتهاك حرمة الصورة. وحرمة الصورة تأخذني إلى سنة تحديق عميقة. وسنة التحديق العميقة تنطلق بي بغثة.."(ص123). تمارس الذات الساردة، عبر التداعي اللغوي، بلاغة التأمل في ماضيها المفارق للحظتها الراهنة، فكانت شعرية التداعي قادرة على رسم نظام العلاقات والسلوكات والأفعال التي تؤطر الذات الطفلية في بداية تشكل كينونتها الخاصة والنوعية.
وتشتغل ضمن نفس القصة السابقة لغة شاعرية مؤطرة بجمالية التأمل؛ حيث الذات الساردة تعبر عن دواخلها ومشاعرها، جراء انفتاحها على ماضيها المنصرم وما يتفاعل "خارج" ذاتها، عبر لغة شاعرية قوامها التأمل في ثنائية الغياب/الحضور والداخل/الخارج: "ذا وجهي أنا مصاب على نحو بالغ بامرأة أينما ولى شرط قلبي شطر وجد سطر وجهها. إذن، صحيح تماما أن الغياب يكون أحيانا ظلا للحضور. وليس صحيحا على الإطلاق، أن السنوات السبع المنصرمة كانت كافية لإغلاق الماضي. لتبنيج الشوق. لعرقلة المشاعر. لتدويخ الرجفة. لفك أسنان الرغبة. ولتلفيف هذا الجرح المخيط بطريقة سافلة"(ص122). إنها استعارات قصصية تفتح المتخيل على جمالية التأمل في "الواقع" العاطفي المنفتح على القلق والتيه جراء تدمير الألفة الناجمة عن غياب "المرأة"، وعلى التأمل في الدينامية الزمنية التي توحي بالتطور المؤسسة ببلاغة الاختلاف بين الأزمنة، لكن في الآن نفسه، ببلاغة التضايف والتداخل بين الأزمنة عبر الذات الإنسانة من خلال مكون الذاكرة.
التكرار الإيقاعي:
تبني اللغة القصصية، عبر هذا المكون، عالما سرديا قوامه الحركية الإيقاعية؛ حيث تنتهك اللغة القصصية الموسومة بخاصية التكرار الإيقاعي صمت القصة، وتشيد حركية قصصية قائمة على دينامية موسيقية وإيقاعية، يقول السارد في مقطع قصصي مليء بشعرية التكرار الدالة على الفقدان والأمل: "متى؟.. زندك الممشوق.. المشنوق.. المرشوق.. متى؟.. غنجك الذي طالما طاااااال ما قضمني بشفاه نمر.. متى؟.. صوتك المصفر بمحاذاة الأسلاك الشائكة لأعصابي..متى؟..ما؟.. مات؟..مات..؟..آ؟ فمتى الجحيم يا عزيزتي؟ فمتى النسيان؟" (ص122). إنه مقطع تحكمه جمالية إقاعية منفتحة على الصراخ والتوجع؛ حيث تنوس اللغة بين التكرار الإيقاعي المؤطر بأمل التحول الزمني (متى)، وبين التجنيس والتوازن الصوتيين، كما يظهر في أنماط متنوعة ومختلفة (زندك/غنجك/صوتك، متى/مات، الممشوق/المشنوق/المرشوق..) تعمق الدينامية الإيقاعية والموسيقية للنص القصصي.
وتتقوى الجمالية الموسيقية في قصص "علبة الباندورا" حينما يتخذ التكرار شكلا خاصا، يمكننا تسميته بـ"التكرار التناظري"؛ حيث يصير المقطع السردي مقلوبا في صيغة ثانية تعكس وضعه البنائي والدلالي الأول، مما يقوي جمالية الصعود/النزول عبر بناء هرمي دلالي وفني، يقول السارد في قصة "رنين في رأس "السيد ريباخا"" : "...ويدي الغامضة التي لم تكن تلوح لها بما يشبه الجحود:
آه، من المقهى الصغير
والشارع الطويل
والمصطبة الإسمنتية
وحافلة المحطة الطرقية.
...ويدها الواضحة كانت تلوح لي بما يشبه الرجاء:
آه، من حافلة المحطة الطرقية
والمصطبة الإسمنتية
والشارع الطويل
والمقهى الصغير" (ص66).
يشيد التكرار، هنا، جمالية القلب؛ حيث يبدو التعارض قائما بين الذات الأنثوية والذكورية المدمجة في الخطاب المكرر، مما يوحي بانقلاب العلاقة بينهما، وبداية الاختلاف بين الذاتين مما أدى إلى انفصالهما.
ويتخذ التكرار الإيقاعي ملمحا آخر، يتجلى في جمالية الكثافة والتنويع؛ حيث تتقوى إيقاعية القصة، لينتهك أسلوب التكرار البنيات اللغوية المتأسسة على بلاغة الانسياب السردي الصامت والساكن، ويبني بدلها إيقاعا قصصيا تؤسسه جمالية الحركة والصوت: "وجوه كثيرة. كثيرة الوجوه. وجوه عرفتها جيدا أو ظننت. وجوه عرفتها قليلا. وجوه لم أجشم نفسي عناء معرفتها بالمرة. وجوه بلا حساب. بلا حساب وجوهها. وجوه لم تعرفني جيدا كما يجب. وجوه عرفتني باقتصاد مخل. ووجوه لم أرد أن تجشم نفسها عناء معرفتي ولو مرة.." (ص121). تعبر استعارة الوجه عن نظام العلاقات التي تؤسسها ذات التلفظ، ومنها الذات الإنسانية عموما، مع غيرها، باعتبارها علاقة محكومة بالاختلاف والتعدد والتنوع والسطحية والعمق؛ مما يعبر عن عمق التركيبة البشرية التي تظل مستعصية على الفهم حينا، وعلى رفضها أو قبولها الآخر والتواصل معه، وهو ما تتغنى به الذات الساردة عبر بلاغة التكرار.
تعبر المكونات السابقة لشعرية اللغة القصصية عن خرق للنقاء الأجناسي، لأن الانشغال بشعرية القصة محكوم برؤية فنية وفكرية أساسها جماليتي الإدماج والترميز؛ حيث الجمالية الأولى يؤطرها تضايف الشعر والقصة في بناء فني يدمر مبدأ الأفضلية والقطيعة، ويدعم مبدأ "التعايش" والتداخل بين الأجناس الأدبية. أما الجمالية الثانية فتحكمها الرغبة في بناء نص قصصي يتجاوز قانون "التنويم" الذي تمارسه القصة/الحكاية التقليدية، فتصير لغة القصة "ملغومة" تجعل المتخيل القصصي مضاعف الترميز، لأنها لغة خضعت للتطويع و"الترشيد" الذي تقتضيه الكتابة القصصية التجريبية.
6-قبل الإغلاق..
يمكننا القول إن الانزياح اللغوي –إضافة إلى جماليات أخرى- الذي يسم المجموعة القصصية "علبة الباندورا" للقاص المغربي أنيس الرافعي يعد استجابة فنية وفكرية لنمط إبداعي ينبني على التجريب، وهو انزياح تؤطره ثلاث جماليات كبرى؛ الأولى قوامها المغايرة والاختلاف، حيث لغة القصة التجريبية تمتاز بلغتها المختلفة نوعيا ودلاليا عن لغة القصة التقليدية؛ سواء على مستوى الصياغة، أم على مستوى التوصيف والعلاقات الإسنادية. والثانية أساسها الترحيل والإدماج؛ حيث تبني اللغة القصصية وفق قانون تطعيم لغة القصة بلغات مُرحَّلة من أجناس وأشكال تعبيرية أخرى: الشعر، والنقد، والسينما.. والثالثة محورها الإرشاد والتنبيه؛ تنبيه المتلقي إلى ضرورة التخلص من ثقل "البلاغة الواضحة" أثناء التعامل مع لغة قصة "ما بعد الحداثة"، باعتبارها قصة تحمل في ذاتها "بلاغتها" الخاصة والجديدة والنوعية و"الغامضة". من هنا، فجمالية الانزياح اللغوي تجعل لغة قصص "علبة الباندورا" مبنينة وفق منطق الخلخلة والتمرد والخرق.. وكل ما يساهم في انتهاك اللغة المطمئنة والهادئة.
د .عبد الرحمن التمارة / ناقد من المغرب
ــــــ
- أنيس الرافعي، علبة الباندورا، متتاليات ما بعد سردية، الشاطئ الثالث، 4، طبعة ثانية تجميعية، 2007. وأرقام الصفحات داخل المجموعة التي لا تحيل على الهوامش هي أرقام صفحات المجموعة. كما أننا سنشير في التحليل إلى مجموعة "علبة الباندورا"، أحيانا، باسم "العلبة"
- عبد السلام المسدي، النقد والحداثة، دار الطليعة ، بيروت، ط1، 1983، ص: 41.
- د. محمد الدغمومي، نقد الرواية والقصة بالمغرب، منشورات المدارس، الدار البيضاء، ط1، 2006، ص: 234.
- محمد برادة، فضاءات روائية، منشورات وزارة الثقافة، ط1، 2003، ص: 8.
- ورد ضمن: اللغة والخطاب الأدبي، اختيار وترجمة: سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء-بيروت، ط1، 1993، ص: 30.
- جان كوهن، بنية اللغة الشعرية، ترجمة: محمد الولي ومحمد العمري، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط1، 1986، ص: 194.
- يرى كوهن أن الشعر رغم إفراطه أحيانا في الانزياح اللغوي فإنه ليس مسكونا بـ"روح السلب"، المرجع السابق، ص: 194. وهي فكرة يمكن سحبها على القصة القصيرة التي تخرق الكثير من "الثوابت" اللغوية.
- د.حميد لحمداني، القراءة وتوليد الدلالة: تغيير عاداتنا في قراءة النص الأدبي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء-بيروت، ط1، 2003، ص: 78.
- عبد الله العروي، ضمن: محمد الداهي، عبد الله العروي: من التاريخ إلى الحب، حوار، نشر الفنك، الدار البيضاء، 1996، ص: 35.
- أورده، تزفيتان تودوروف، نقد النقد، ترجمة: سامي سويدان، مركز الإنماء القومي، بيروت، ط1، 1986، ص: 20.
- ورد في حوار منشور بمجلة الكرمل، العدد 3، صيف 1981، ص: 251.
- أوجستو رواباسطوس، حكى حكاية، قصص قصيرة، ترجمة: أحمد حسان، مكتبة مدبولي، القاهرة، دون تاريخ، ص: 71.
- إلياس خوري، ملاحظات حول الكتابة القصصية، ضمن: دراسات في القصة العربية، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، ط1، 1986، ص: 58.
- وقد جاء هذا العنوان مشفوعا بعنوان فرعي هو: قصة – قصيدة نثر، مما يؤكد الخلفية الشاعرية في البناء القصصي.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى