شذرات من جماليات لغة الضّــاد:

شذرات من جماليات لغة الضّــاد:
انفردت اللغة العربية بجماليات لا نجد لها موطنا ولا أثرا فى غيرها من اللغات الأخرى ،ومن ذلك ما يصطلح عليه في البلاغة العربية بـ (حسن التعليل) ويقصد به: أنك تعلل الشئ بعلة طريفة غير حقيقية، أي غيرُ مطابِقةٍ للواقعِ، بمعنى آخر أنها ليستْ علَّةً في نفْسِ الأمْرِ بل اعتُبِرَتْ علَّةً بوجْهٍ يُتَخَيَّلُ به كونُ التعليلِ بها صحيحاً سواءٌ كانت أمراً اعتباريًّا أو موجوداً في الخارجِ, وهذا القيْدُ لازِمٌ؛ إذ لو كانت تلك العِلَّةُ حقيقيَّةً, أي: عِلَّةً في نفسِ الأمرِ لم يكنْ ذلك من محسِّناتِ الكلامِ لعدَمِ التصرُّفِ فيه. ومن أمثلة ذلك أن رجلا كان يحب امرأة فتزوجها وعاش معها فترة من الزمن ، ثم حدثت بينهما جفوة فتركها وتزوج غيرها، وفى يوم من الأيام وهو يجوب الارض، لاح بصره فوقع على زوجته الأولى التى شغف بها حبا ، فحنّ إليها وذرف دموعا لأجلها، وكانت هذه النظرة كفيلة بعودتهما الى بعضهما. وقد تساءلت محبوبته آنذاك عن دواعي بكائه وعبراته المهراقة، فأنشدها يقول:
أتتنى تؤنبنى بالبـــكاء فـأهلا بهـا وبتأنيبها
تقـول وفى قولهـا حرقة أتبكى بعين ترانى بهـا
فقلت:اذا استحسنت غيركم أمرت الدموع بتأديبها

فهو يعلل لدموع عينيه بأن عينه استحسنت امرأة غير محبوبته فأمر الدموع بتأديب عينيه جزاء ما اقترفت من اثم واعجاب بغير محبوبته ، فهذه علة طريفة غير حقيقية لكنها أفضل من العلة الحقيقية وهذا تخريج من الكلام لا نجده فى غير اللغة العربية .
ومن ذلك أيضا أن رجلا قدّم لضيفه مشروبا فوقع المشروب على الأرض، فقام الضيف وانشد معللا لوقوع الكوب والمشروب على الأرض قائلا :

شربنا شرابا طيبا عند طيّب كذاك شراب الطيبـين يطيبُ
شربنا وأهرقنا على الأرض بعضه وللأرض من كأس الطيّبين نصيبُ

فيا له من تعليل يشخص بحق جماليات واستطيقا لغة الضّاد ويقرّ اقرارا بأنها أغنى لغة معنى ودلالة ، وبدون منازع إذ لا تضاهيها في ذلك أيّ لغة مهما جدّ وأوجد منظّروها من تخريجات لغوية ومفارقات في التعبير سواء على مستوى البناء والدلالة أو على مستوى الصورة ، وفنّيات تسخير اللغة ...لغة تبقى للأسف تبكي صلتها بأهلها اليوم الذين هجروها وترثي حالها، وهي تردد ...ياليت قومى يعلمون .

لغة الضاد بحر لا تكدره الدلاء
مميز ما اتحفتنا به