- عبد الملكعضو نشيط
- البلد :
عدد المساهمات : 131
نقاط تميز العضو : 110150
تاريخ التسجيل : 31/12/2009
نظرة الحداثة عن أوغيست
28/05/10, 09:08 pm
ينبغي العلم بان أحد الأسباب الأساسية للصدام المروع الحاصل حاليا بين العالم الإسلامي والغرب يعود إلى جهلنا بكيفية تشكل حضارته. ولكي نعرف كيف نتعامل مع الغرب وعقليته ينبغي أن نفهم كيف تشكلت هذه العقلية تاريخياً. فعقلية الحداثة غير العقلية الغيبية أو اللاهوتية التي كانت سائدة قبلها. والواقع أن أكثر ما يصدم حساسيتنا وعقليتنا نحن الباحثين العرب أو المسلمين عندما نجيء إلى أوروبا وجامعاتها هو هذه العقلية الوضعية، العلمية، الباردة، المقطوعة كلياً عن اللاهوت والتعالي الرباني.
وأنا شخصياً فوجئت بذلك كثيراً عندما جئت إلى فرنسا قبل ثلاثين سنة أو أكثر قليلا. وما كان من السهل عليَّ أن أتعود على هذه العقلية الجديدة: عقلية الحداثة. ولزمني وقت طويل لكي أفهمها وأستوعبها وأميز فيها بين الصالح والطالح. فالحداثة تسحقك في البداية وتبهرك وتفرض نفسها عليك وكأنها حقيقة مطلقة. بعدئذ وبمرور الزمن تنكشف لك نقاط قوتها وضعفها في آن معا. فهذه الحضارة التكنولوجية الجبارة التي تسيطر على العالم اليوم ليس من السهل استيعابها أو فهم منطقها بين عشية وضحاها! ويمكن القول بأن اوغست كونت (1798-1857) يمثل إحدى اللحظات أو المحطات الأساسية في تاريخ تشكل الحداثة الغربية. فهو مؤسس الفلسفة الوضعية التي سيطرت على فرنسا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
وهذا الرجل الذي ولد بعد الثورة الفرنسية مباشرة كان يعرف أنه ينبغي بناء نظام جديد على أنقاض النظام الإقطاعي واللاهوتي المسيحي القديم الذي أطاحت به الثورة. وكان يعتقد أن على العلم أن يقدم للمجتمع الصناعي الذي كان في طور التشكل مشروعيته ووحدته المتماسكة. فالنظام الاصولي المسيحي السابق كان يشكل أيضا وحدة متماسكة ورؤيا متكاملة للعالم وليس من السهل الحلول محلها. نقول ذلك وبخاصة أنها متجذرة في العقلية الجماعية منذ مئات السنين.
هذا هو التحدي الكبير الذي كان مطروحا على جيل أوغست كونت. ولكن بما أنه كان تلميذاً وسكرتيراً للفيلسوف الكبير سان سيمون (1760-1825) فإنه كان يعرف أن العلم وحده لا يكفي. وإنما ينبغي تأسيس دين جديد يتناسب مع هذا المجتمع الوليد في أوروبا. ولذلك، فبعد أن أسس علم البشرية ودعاه بالسوسيولوجيا، أي علم الاجتماع، فإنه راح يؤسس في نهايات حياته دين البشرية الذي ينبغي بحسب نظره أن يحلّ محل المسيحية التقليدية. ففي رأيه إن العلم والدين ليسا متناقضين وإنما متكاملين. ولكن ينبغي تشكيل دين جديد يشمل البشرية كلها وليس فقط إحدى فئاتها أي المسيحيين هنا. وهذا الدين ينبغي أن يكون خالياً من الطائفية والتعصب.
يقول المؤرخ المعاصر "ميشيل وينوك" الذي نعتمد عليه كثيراً في كتابة هذه الدراسة: في البداية كان اوغست كونت يعطي ثقته كلياً لشيء واحد هو العلم. وكان تكوينه المعرفي يقوده إلى ذلك بشكل طبيعي. فقد تخرج من مدرسة العلوم المتشعبة الاختصاصات، أي البوليتيكنيك، وعمره لا يتجاوز السادسة عشر ونصف. وكان أساتذته قد توسَّموا فيه أمارات العبقرية منذ البداية. وقالوا عنه بأنه أذكى طالب في دورته. وحتى زملاؤه على مقاعد الدراسة راحوا يدعونه بالفيلسوف بالرغم من صغر سنه. ولكن المشاغبات السياسية التي حصلت في المدرسة دفعت بالسلطات إلى إلغاء الدورة وطرد الطلاب. ولذا فلم يستطع اوغست كونت إتمام دراساته ونيل الشهادة التي تمكنه من أن يصبح بروفيسوراً، أي أستاذاً. وسوف يتأثر من هذه القضية طيلة حياته كلها، وبخاصة من الناحية المادية والمعاشية. ولكن هذه الهامشية التي أُجبر عليها كانت مفيدة جداً لكي يتفرغ لبلورة فلسفته بشكل جديد ومستقل عن السلطات الجامعية القائمة. وهكذا ربح في يدٍ ما خسره في اليد الأخرى.
وقد عاد إلى مدينته الأصلية "مونبلييه" الواقعة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط بعد طرده من الكلية الباريسية الشهيرة. ولكنه لم يستطع أن يعيش فيها طويلاً. فباريس كانت مغرية بمسارحها، وعلومها، وفتياتها.. ولذلك عاد إليها وراح يعيش من الدروس الخصوصية التي كان يعطيها للطلاب في مادة الرياضيات. وفي عام 1817 حصل حدث مهم في حياته: فقد تعرف على الفيلسوف سان سيمون الذي ضمَّه بسرعة إلى فريق المجلة التي كان يصدرها تحت اسم "الصناعة". وقد بُهِر، وهو شاب في مقتبل العمر، بعبقرية أستاذه الذي كان قد تجاوز السابعة والخمسين. ومنذ البداية أحس بأنه يشاطره جملة من الأفكار الأساسية. وكان الإعجاب متبادلاً.
من بين هذه الأفكار ما يلي: بعد أن تخلَّص الإنسان من هيمنة اللاهوت القديم ورجال الدين المسيحيين أصبح هو مركز الكون، وهو سيد نفسه وقدره ومصيره. ولم يعد يقبل بالهيبة اللاهوتية القديمة التي كانت تُفْرض عليه من الخارج أو من فوق كما حصل طيلة قرون وقرون. وعندئذ شعر الإنسان الأوروبي بأنه بحاجة إلى أخلاق جديدة وسياسة جديدة هي ما يُدعى بالأخلاق الوضعية والسياسة الوضعية. وقال سان سيمون بأن على مفكري هذا القرن أن يكرسوا كل جهودهم لتحقيق ذلك. وهكذا انضمّ إليه اوغست كونت لمساعدته على بلورة هذا المشروع الفكري الكبير. وظل مساعده، بل وسكرتيره، لسنوات عديدة قبل أن تتحول علاقتهما إلى منافسة بعد أن كبر اوغست كونت عن الطوق واشتدّ عوده.
والواقع أن كونت استطاع أثناء هذه الفترة الخصبة التي قضاها في ظل فيلسوف كبير أن يحصل معلومات ومعارف عديدة في مختلف المجالات: من الفلسفة، إلى السياسة، إلى الاقتصاد، إلى العلوم الفيزيائية والبيولوجية والفلكية والرياضية... لقد أصبح موسوعة بحد ذاته ولا ينبغي أن يفلت منه شيء أو يفوته أي اختصاص أو علم. كان نهماً إلى المعرفة، لا يشبع. وقد كتب إلى أحد أصدقائه عام 1819 يقول: "أشعر بأن الشهرة العلمية التي اكتسبتها سوف تخلع قيمة أكبر على أفكاري السياسية". وبالفعل فان السياسة بدون فكر لاقيمة لها. ومنذ ذلك الوقت أخذ كونت يتصور الأمور على النحو التالي: لقد قام فلاسفة التنوير في القرن الماضي بعملية الهدم، أي هدم المعرفة اللاهوتية التي أمضى رجال الكنيسة قروناً في بنائها، وأنه آن الأوان في هذا القرن لإعادة بناء شيء آخر من جديد. يقول في إحدى تصريحاته الشهيرة: الشيء المطروح علينا اليوم ولأول مرة في التاريخ هو إحلال الأرضيّ محل السماوي، والوضعي محل الغيبي، والواقعي محل الشعري... ومن هو العبقري الذي لا يشعر بأن هذه هي المهمة الأساسية المطروحة على عصرنا؟ لحسن الحظ فإن الأمر لم يعد يتعلق بالهدم وإنما بالبناء والتعمير والتنظيم... لقد انتهى عهد الثورة الفرنسية.
أتوقف هنا لحظة وأقول بأن لبّ الحداثة الغربية يكمن في هذه الكلمات القلائل. ولهذا السبب فهي تصدمنا نحن الشرقيين المثاليين أو الحالمين. فالقضاء على التعالي، أو على الشعر يجعلنا نشعر بأننا يتامى، بأننا فقدنا أعزّ ما في الوجود. والواقع أننا لسنا مخطئين تماماً. فالحداثة الوضعية إذا ما سارت إلى نهاياتها تقود إلى العقلية التكنولوجية الباردة التي لا عاطفة فيها ولا رحمة. وهي التي تصدمنا لأول وهلة عندما نجيء إلى الغرب. وهذه هي إحدى سمات الحضارة الغربية التي أصبحت موضوعية أو جافة أكثر مما ينبغي. لقد فقدت إنسانيتها بسبب تركيزها على الماديات أكثر مما يجب. فالقطيعة التي أحدثتها مع التعالي الروحاني أو البعد الشعري جعلت الحداثة تبدو وكأنها بلا روح ولا قلب.
ولذلك يحاول فلاسفة الغرب اليوم تدارك هذا النقص أو الانحراف في بنية الحداثة الغربية. فقد كانت إنجازاتها التكنولوجية أكبر بكثير من إنجازاتها الروحية. أو قل إن التقدم الذي حصل على مستوى الصناعة والتكنولوجيا والعلم والطب وشتى مناحي الحياة لم يسايره تقدم مواز على المستوى الأخلاقي والروحاني. وهنا تكمن نقطة الضعف الكبرى في الحداثة الغربية بدون شك. ولكن هذا التوجه كان مفهوما في عصر فيلسوفنا الشهير لأن اللاهوت كان لا يزال طاغيا. وبالتالي كان بحاجة إلى رد فعل عنيف عليه. هكذا نلاحظ أنه ينبغي ربط الأمور بسياقاتها التاريخية لكي تفهم على حقيقتها. فحاجيات المجتمع الفرنسي في عهد كونت غير حاجياته الآن.
لكن لنعد إلى الماضي ولنواصل حديثنا عن أوغست كونت وكيفية تشكل هذه الحداثة الوضعية في بداياتها. فبعد أن نشر عدة مقالات في الصحافة السان سيمونية استطاع أن يخرج من عزلته وينال بعض الشهرة وعمره لا يتجاوز الرابعة والعشرين عاماً. وكان ذلك عندما نشر دراسة مطولة بعنوان: "مخطط الأعمال العلمية الضرورية لإعادة تنظيم المجتمع". وفي هذه الدراسة نجد بذور كل أفكاره اللاحقة. فهو يقول فيها بما معناه: علينا أن نتخلص نهائياً من النظام المسيحي-الإقطاعي القديم الذي سيطر علينا طيلة قرون وقرون، ونحلّ محله نظاماً جديداً كلياً قائما على العلم والصناعة والتكنولوجيا. ولكن التيار النقدي التهديمي الموروث عن عصر التنوير والثورة الفرنسية لا يزال يحول دون تبنّي هذه العقلية البنائية الجديدة. ونحن لا نستطيع أن نعيش على النقد والهدم إلى ما لا نهاية.. وبالتالي فينبغي أن نتجاوز الجانب التدميري من الثورة الفرنسية لكي ننتقل إلى مرحلة التعمير، والبناء، والتنظيم وإيجاد البديل. وعندئذ طرح كونت لأول مرة نظريته المشهورة باسم: فلسفة التاريخ. وقال بأن تاريخ البشرية يمر بمراحل ثلاث: المرحلة اللاهوتية، فالمرحلة الميتافيزيقية (أو الانتقالية الوسيطة)، فالمرحلة العلمية أو الوضعية. وهي آخر مراحل البشرية تطوراً. هذا هو الاكتشاف المعرفي الكبير الذي لمع في رأس اوغست كونت وهو لا يزال شاباً في مقتبل العمر. ومعلوم أنه سيقود كل حياته اللاحقة وكل كتاباته ومشروعه الفكري.
ولكن القطيعة مع أستاذه لم تكن فورية أو مباشرة على الرغم من بداية التنافس بينهما. ومعلوم أن كل تلميذ نابغة سوف ينقلب على أستاذه يوما ما لكي ينطلق بجناحيه فقط أو لكي يضيف شيئا جديدا بكل بساطة. وهذه سنَّة الحياة وقانون الكون. والواقع أن كونت هرع لمواساة سان سيمون بعد أن حاول هذا الأخير الانتحار نظراً لظروف عديدة. وهنا نتوقف لحظة لكي نتساءل: كيف يمكن أن نعطي مصداقية لفيلسوف ينتحر أو يحاول الانتحار؟ كيف يمكن لفيلسوف كهذا أن يصوغ المشروع الحضاري للغرب؟ هنا أيضا فوجئتُ بأشياء في الغرب ما كنت أعرفها. فنحن في العالم العربي أو الإسلامي نحتقر كل شخص يلجأ إلى مثل هذه الطريقة ونعتبر كل أعماله السابقة لاغية. ولكنهم في الغرب لهم وجهة نظر أخرى. فالمفكر ليس معصوماً عن الخطأ أو الزلل وليس عارياً من النقص والضعف. بل إن إنجازاته المعرفية تنهض على نواقصه وتحصل كتعويض عن نقاط ضعفه... وسوف نرى لاحقاً أن اوغست كونت نفسه تعرض أيضا لهزات نفسية خطيرة وضعته على حافة الجنون أكثر من مرة. ومع ذلك فلا أحد يشك في أنه أحد كبار الفلاسفة! وهناك أمثلة اخرى عديدة على ذلك ليس أقلها نيتشه أو ميشيل فوكو أو التوسير الخ...
مهما يكن من أمر فإن الخلافات اندلعت بين التلميذ والأستاذ، لأن الأستاذ يعتبر التلميذ دائماً طفلاً وينزعج كالأب إذا ما كبر وحاول الاستقلالية عنه... يضاف إلى ذلك أن سان سيمون كان يعطي الأولوية لتغيير المؤسسات، في حين أن اوغست كونت كان يفكر أولاً بتغيير العقائد والأفكار. و على هذا النحو شرع كونت باكتشاف القوانين التي تتحكم بتطور الجنس البشري. وقال بأن الجنس البشري يخضع لقوانين مشابهة لتلك القوانين التي تتحكم بالعالم الفيزيائي أو المادي. وعندئذ راح يتحدث عن بلورة علم جديد يدعى بالفيزياء الاجتماعية، وذلك قبل أن يتوصل إلى اكتشاف مصطلح السوسيولوجيا، أي علم الاجتماع. وهنا تكمن إحدى الميزات الأساسية للحداثة الغربية. وهي ميزة تصدم أيضا حساسيتنا نحن الشرقيين. لماذا؟ لأنها تختزل الإنسان إلى مجرد قوانين علمية ومعادلات رياضية.. وهكذا ينزعون عن الإنسان تلك الصورة المثالية الرائعة التي ورثناها عن الماضي لكي يحولوه إلى مجرد ماديات محسوبة بدقة.. طالما صدمتني هذه الظاهرة في عقلية الغربيين وطالما طرحت عليّ مشكلة.. ولم أستطع فهمها أو حلها قبل أن أنخرط في دراسات معمَّقة عن كيفية تشكل الحداثة الغربية. لزمني مرور أكثر من عشرين سنة لكي أفهم الأسباب. وخلاصة هذا الفهم هو هذه المقالات التي أقدمها هنا...
مهما يكن من أمر فإن المشاريع العلمية لاوغست كونت راحت تضطرب شيئاً ما بسبب تقلبات حياته العاطفية. فقد تعرف على عاهرة –نعم عاهرة!- عام 1825 وتزوجها... فبما أنه كان قبيحاً جداً فإنه ما كان يستطيع أن يجذب أي امرأة إلا عن طريق الفلوس... وهذا ما قاله حرفياً في وصيته التي وجدوها مكتوبة بعد موته. وكان يعتقد بأن زواجه منها سوف يربطها به إلى الأبد ويجعلها تشعر بالامتنان نحوه لأنه أنقذها من حمأة العهر واحتقار الناس لها ولأمثالها. ولكنه ما كان يعرف أن مشاكله الحقيقية سوف تبتدئ منذ الآن فصاعدا. فالمرأة كانت جميلة وتدعى كارولين ماسّان. ولم تقطع علاقتها بحاميها السابق أي القواد، بل وفرضت على زوجها أن يستقبله في بيته وهو يعلم أنها تنام معه! فجنَّ جنونه واضطرب عقله، وكان أن حصلت معه الأزمة النفسية الشهيرة عام 1826. وقد حصلت في وضح النهار، أمام الناس، عندما كان يلقي دروسه عن الفلسفة الوضعية. وكان من بين الحاضرين شخصيات مشهورة من بينها أعضاء في أكاديمية العلوم بالإضافة إلى فلاسفة مهمين. وكانت المفاجأة الكبرى: فالأستاذ يقع في وسط القاعة مغمياً عليه، ثم يفيق لكي يبتدئ بالهذيان والجنون!... وعندئذ اقتادوه إلى أكبر مستشفى للأمراض العقلية في فرنسا، وأشرف على معالجته أشهر الأطباء. وهناك تعرض "للدوش" البارد طيلة سبعة أشهر ونصف، بالإضافة إلى معالجات أخرى، ولكنه لم يُشفَ. ومع استطالة مرضه راحت زوجته تهجم عليه في المستشفى وتقوده إلى البيت بدون إذن الطبيب. وهناك فوجئ بأنهم أحضروا الكاهن من أجل القيام بمراسيم الزواج الشرعي على الطريقة الدينية المسيحية. وفيما كان يهذي ويشتم الكهنة ورجال الدين راح يوقع على زواجه الكنسي! وكان منظراً سوريالياً مضحكاً أو مبكياً، لا فرق. ولكن أمه الكاثوليكية المتدينة جداً وصلت إلى غايتها. فهي التي نظَّمت هذا الزواج الديني وهي التي أرادته. ثم دفعت له أجور المشفى على الرغم من أنه لم يكن قد شفي بعد. ولكن هل سيشفى أوغست كونت تماماً يوما ما؟ فالواقع أنه انتكس وسقط في المرض النفسي بعدئذ أكثر من مرة. بل وحاول الانتحار عام 1827 عندما ألقى بنفسه من أحد الجسور الباريسية المطلة على نهر السين. ولكن صادف سقوطه مرور أحد رجال الشرطة فانقضَّ عليه وانتشله. والغريب العجيب أنه بعد ذلك بسنتين فقط استعاد قواه العقلية إلى الدرجة الكافية التي تسمح له باستئناف دروسه عن الفلسفة الوضعية في منزله. وهي الفلسفة التي سوف تسيطر على عقلية الغرب والغربيين طيلة العصر الصناعي، بل وحتى هذه اللحظة بشكل ما.
وكان آخر جزء من الفلسفة الوضعية، أي الجزء السادس، قد صدر عام 1842. وهذه الأجزاء أو الدروس مجتمعةً تشتمل على جميع الاختصاصات والعلوم التي كانت سائدة في عصر اوغست كونت. إنها خلاصة الفكر والعصر. فهي تشتمل على العلوم الأساسية: كالرياضيات، والفلك، والفيزياء، والكيمياء، والبيولوجيا. ولكن نصف الدروس كان مكرساً للفيزياء الاجتماعية، أي لدراسة المجتمع. وهو المصطلح الذي كان يستخدمه قبل أن يتوصل إلى اختراع مصطلح السوسيولوجيا: أي علم الاجتماع.
وفي الافتتاحية العامة لهذا الكتاب الضخم يستعرض كونت بشكل مفصل هذه المرة نظرية المراحل الثلاث من تطور البشرية. وهي النظرية التي بقيت منه وأشهرته في عالم الفكر. يقول بما معناه: كل واحد من تصوراتنا الأساسية، وكل فرع من فروع المعرفة يمر تدريجياً، وعلى التوالي، بثلاث مراحل نظرية مختلفة. المرحلة الأولى هي المرحلة اللاهوتية أو الخيالية، والمرحلة الثانية ندعوها بالميتافيزيقية او التدريجية، والمرحلة الثالثة هي العلمية أو الوضعية. وينتج عن ذلك ثلاثة أنواع من الفلسفة. ففي المرحلة اللاهوتية تحاول الروح البشرية أن تفسر المسببات الأولى والغايات النهائية. وهي تعتقد عندئذ أن الظواهر الطبيعية تنتج عن القوى الخارقة للطبيعة وتأثيرها المباشر والمتواصل. وتعتقد أن الكون كله خاضع للنزوات الاعتباطية لهذه القوى. وفي مثل هذه الحالة البدائية يكون هدف المجتمع هو التوسع عن طريق الفتوحات والحروب. وتكون المؤسسة المركزية للمجتمع قائمة على نظام العبودية.
ثم تتطور البشرية قليلا بعدئذ وتدخل في المرحلة الميتافيزيقية. أو قل ان البشرية تنتقل من المرحلة اللاهوتية إلى المرحلة الميتافيزيقية. وهي مرحلة مترجرجة انتقالية تحل فيها القوى التجريدية محل القوى الخارقة للطبيعة. ونقصد بالقوى التجريدية هنا القدر، أو المصير، أو المبدأ الحيوي الذي يحرك الكون، أو الطبيعة. وعندئذ تبتدئ الملاحظة البشرية بالتحرر من الخيال إلى حد ما. ولا تعود فعاليات البشر فقط عسكرية. وأما نظام الرق والعبودية فيتم إلغاؤه تدريجياً.
وأخيراً تنتقل البشرية إلى المرحلة الثالثة من مراحل تطورها: وهي المرحلة الوضعية. وعندئذ نشهد تطور العلوم والصناعة، ولا تعود الروح البشرية تبحث عن أصل الكون وغايته ومآله، أو من أين جئنا والى أين المصير... وإنما تحاول أن تكتشف عن طريق المحاجة العقلانية والملاحظة العيانية والتجريب القوانين الفعلية التي تتحكم بالظواهر. و الواقع أن الإنسان نفسه يلخص في مساره الشخصي حياة البشرية كلها. يقول اوغست كونت مختتما: من منا لا يتذكر أنه كان لاهوتياً في طفولته، وميتافيزيقياً في شبابه، ووضعياً في كهولته ونضجه؟...
وأنا شخصياً فوجئت بذلك كثيراً عندما جئت إلى فرنسا قبل ثلاثين سنة أو أكثر قليلا. وما كان من السهل عليَّ أن أتعود على هذه العقلية الجديدة: عقلية الحداثة. ولزمني وقت طويل لكي أفهمها وأستوعبها وأميز فيها بين الصالح والطالح. فالحداثة تسحقك في البداية وتبهرك وتفرض نفسها عليك وكأنها حقيقة مطلقة. بعدئذ وبمرور الزمن تنكشف لك نقاط قوتها وضعفها في آن معا. فهذه الحضارة التكنولوجية الجبارة التي تسيطر على العالم اليوم ليس من السهل استيعابها أو فهم منطقها بين عشية وضحاها! ويمكن القول بأن اوغست كونت (1798-1857) يمثل إحدى اللحظات أو المحطات الأساسية في تاريخ تشكل الحداثة الغربية. فهو مؤسس الفلسفة الوضعية التي سيطرت على فرنسا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
وهذا الرجل الذي ولد بعد الثورة الفرنسية مباشرة كان يعرف أنه ينبغي بناء نظام جديد على أنقاض النظام الإقطاعي واللاهوتي المسيحي القديم الذي أطاحت به الثورة. وكان يعتقد أن على العلم أن يقدم للمجتمع الصناعي الذي كان في طور التشكل مشروعيته ووحدته المتماسكة. فالنظام الاصولي المسيحي السابق كان يشكل أيضا وحدة متماسكة ورؤيا متكاملة للعالم وليس من السهل الحلول محلها. نقول ذلك وبخاصة أنها متجذرة في العقلية الجماعية منذ مئات السنين.
هذا هو التحدي الكبير الذي كان مطروحا على جيل أوغست كونت. ولكن بما أنه كان تلميذاً وسكرتيراً للفيلسوف الكبير سان سيمون (1760-1825) فإنه كان يعرف أن العلم وحده لا يكفي. وإنما ينبغي تأسيس دين جديد يتناسب مع هذا المجتمع الوليد في أوروبا. ولذلك، فبعد أن أسس علم البشرية ودعاه بالسوسيولوجيا، أي علم الاجتماع، فإنه راح يؤسس في نهايات حياته دين البشرية الذي ينبغي بحسب نظره أن يحلّ محل المسيحية التقليدية. ففي رأيه إن العلم والدين ليسا متناقضين وإنما متكاملين. ولكن ينبغي تشكيل دين جديد يشمل البشرية كلها وليس فقط إحدى فئاتها أي المسيحيين هنا. وهذا الدين ينبغي أن يكون خالياً من الطائفية والتعصب.
يقول المؤرخ المعاصر "ميشيل وينوك" الذي نعتمد عليه كثيراً في كتابة هذه الدراسة: في البداية كان اوغست كونت يعطي ثقته كلياً لشيء واحد هو العلم. وكان تكوينه المعرفي يقوده إلى ذلك بشكل طبيعي. فقد تخرج من مدرسة العلوم المتشعبة الاختصاصات، أي البوليتيكنيك، وعمره لا يتجاوز السادسة عشر ونصف. وكان أساتذته قد توسَّموا فيه أمارات العبقرية منذ البداية. وقالوا عنه بأنه أذكى طالب في دورته. وحتى زملاؤه على مقاعد الدراسة راحوا يدعونه بالفيلسوف بالرغم من صغر سنه. ولكن المشاغبات السياسية التي حصلت في المدرسة دفعت بالسلطات إلى إلغاء الدورة وطرد الطلاب. ولذا فلم يستطع اوغست كونت إتمام دراساته ونيل الشهادة التي تمكنه من أن يصبح بروفيسوراً، أي أستاذاً. وسوف يتأثر من هذه القضية طيلة حياته كلها، وبخاصة من الناحية المادية والمعاشية. ولكن هذه الهامشية التي أُجبر عليها كانت مفيدة جداً لكي يتفرغ لبلورة فلسفته بشكل جديد ومستقل عن السلطات الجامعية القائمة. وهكذا ربح في يدٍ ما خسره في اليد الأخرى.
وقد عاد إلى مدينته الأصلية "مونبلييه" الواقعة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط بعد طرده من الكلية الباريسية الشهيرة. ولكنه لم يستطع أن يعيش فيها طويلاً. فباريس كانت مغرية بمسارحها، وعلومها، وفتياتها.. ولذلك عاد إليها وراح يعيش من الدروس الخصوصية التي كان يعطيها للطلاب في مادة الرياضيات. وفي عام 1817 حصل حدث مهم في حياته: فقد تعرف على الفيلسوف سان سيمون الذي ضمَّه بسرعة إلى فريق المجلة التي كان يصدرها تحت اسم "الصناعة". وقد بُهِر، وهو شاب في مقتبل العمر، بعبقرية أستاذه الذي كان قد تجاوز السابعة والخمسين. ومنذ البداية أحس بأنه يشاطره جملة من الأفكار الأساسية. وكان الإعجاب متبادلاً.
من بين هذه الأفكار ما يلي: بعد أن تخلَّص الإنسان من هيمنة اللاهوت القديم ورجال الدين المسيحيين أصبح هو مركز الكون، وهو سيد نفسه وقدره ومصيره. ولم يعد يقبل بالهيبة اللاهوتية القديمة التي كانت تُفْرض عليه من الخارج أو من فوق كما حصل طيلة قرون وقرون. وعندئذ شعر الإنسان الأوروبي بأنه بحاجة إلى أخلاق جديدة وسياسة جديدة هي ما يُدعى بالأخلاق الوضعية والسياسة الوضعية. وقال سان سيمون بأن على مفكري هذا القرن أن يكرسوا كل جهودهم لتحقيق ذلك. وهكذا انضمّ إليه اوغست كونت لمساعدته على بلورة هذا المشروع الفكري الكبير. وظل مساعده، بل وسكرتيره، لسنوات عديدة قبل أن تتحول علاقتهما إلى منافسة بعد أن كبر اوغست كونت عن الطوق واشتدّ عوده.
والواقع أن كونت استطاع أثناء هذه الفترة الخصبة التي قضاها في ظل فيلسوف كبير أن يحصل معلومات ومعارف عديدة في مختلف المجالات: من الفلسفة، إلى السياسة، إلى الاقتصاد، إلى العلوم الفيزيائية والبيولوجية والفلكية والرياضية... لقد أصبح موسوعة بحد ذاته ولا ينبغي أن يفلت منه شيء أو يفوته أي اختصاص أو علم. كان نهماً إلى المعرفة، لا يشبع. وقد كتب إلى أحد أصدقائه عام 1819 يقول: "أشعر بأن الشهرة العلمية التي اكتسبتها سوف تخلع قيمة أكبر على أفكاري السياسية". وبالفعل فان السياسة بدون فكر لاقيمة لها. ومنذ ذلك الوقت أخذ كونت يتصور الأمور على النحو التالي: لقد قام فلاسفة التنوير في القرن الماضي بعملية الهدم، أي هدم المعرفة اللاهوتية التي أمضى رجال الكنيسة قروناً في بنائها، وأنه آن الأوان في هذا القرن لإعادة بناء شيء آخر من جديد. يقول في إحدى تصريحاته الشهيرة: الشيء المطروح علينا اليوم ولأول مرة في التاريخ هو إحلال الأرضيّ محل السماوي، والوضعي محل الغيبي، والواقعي محل الشعري... ومن هو العبقري الذي لا يشعر بأن هذه هي المهمة الأساسية المطروحة على عصرنا؟ لحسن الحظ فإن الأمر لم يعد يتعلق بالهدم وإنما بالبناء والتعمير والتنظيم... لقد انتهى عهد الثورة الفرنسية.
أتوقف هنا لحظة وأقول بأن لبّ الحداثة الغربية يكمن في هذه الكلمات القلائل. ولهذا السبب فهي تصدمنا نحن الشرقيين المثاليين أو الحالمين. فالقضاء على التعالي، أو على الشعر يجعلنا نشعر بأننا يتامى، بأننا فقدنا أعزّ ما في الوجود. والواقع أننا لسنا مخطئين تماماً. فالحداثة الوضعية إذا ما سارت إلى نهاياتها تقود إلى العقلية التكنولوجية الباردة التي لا عاطفة فيها ولا رحمة. وهي التي تصدمنا لأول وهلة عندما نجيء إلى الغرب. وهذه هي إحدى سمات الحضارة الغربية التي أصبحت موضوعية أو جافة أكثر مما ينبغي. لقد فقدت إنسانيتها بسبب تركيزها على الماديات أكثر مما يجب. فالقطيعة التي أحدثتها مع التعالي الروحاني أو البعد الشعري جعلت الحداثة تبدو وكأنها بلا روح ولا قلب.
ولذلك يحاول فلاسفة الغرب اليوم تدارك هذا النقص أو الانحراف في بنية الحداثة الغربية. فقد كانت إنجازاتها التكنولوجية أكبر بكثير من إنجازاتها الروحية. أو قل إن التقدم الذي حصل على مستوى الصناعة والتكنولوجيا والعلم والطب وشتى مناحي الحياة لم يسايره تقدم مواز على المستوى الأخلاقي والروحاني. وهنا تكمن نقطة الضعف الكبرى في الحداثة الغربية بدون شك. ولكن هذا التوجه كان مفهوما في عصر فيلسوفنا الشهير لأن اللاهوت كان لا يزال طاغيا. وبالتالي كان بحاجة إلى رد فعل عنيف عليه. هكذا نلاحظ أنه ينبغي ربط الأمور بسياقاتها التاريخية لكي تفهم على حقيقتها. فحاجيات المجتمع الفرنسي في عهد كونت غير حاجياته الآن.
لكن لنعد إلى الماضي ولنواصل حديثنا عن أوغست كونت وكيفية تشكل هذه الحداثة الوضعية في بداياتها. فبعد أن نشر عدة مقالات في الصحافة السان سيمونية استطاع أن يخرج من عزلته وينال بعض الشهرة وعمره لا يتجاوز الرابعة والعشرين عاماً. وكان ذلك عندما نشر دراسة مطولة بعنوان: "مخطط الأعمال العلمية الضرورية لإعادة تنظيم المجتمع". وفي هذه الدراسة نجد بذور كل أفكاره اللاحقة. فهو يقول فيها بما معناه: علينا أن نتخلص نهائياً من النظام المسيحي-الإقطاعي القديم الذي سيطر علينا طيلة قرون وقرون، ونحلّ محله نظاماً جديداً كلياً قائما على العلم والصناعة والتكنولوجيا. ولكن التيار النقدي التهديمي الموروث عن عصر التنوير والثورة الفرنسية لا يزال يحول دون تبنّي هذه العقلية البنائية الجديدة. ونحن لا نستطيع أن نعيش على النقد والهدم إلى ما لا نهاية.. وبالتالي فينبغي أن نتجاوز الجانب التدميري من الثورة الفرنسية لكي ننتقل إلى مرحلة التعمير، والبناء، والتنظيم وإيجاد البديل. وعندئذ طرح كونت لأول مرة نظريته المشهورة باسم: فلسفة التاريخ. وقال بأن تاريخ البشرية يمر بمراحل ثلاث: المرحلة اللاهوتية، فالمرحلة الميتافيزيقية (أو الانتقالية الوسيطة)، فالمرحلة العلمية أو الوضعية. وهي آخر مراحل البشرية تطوراً. هذا هو الاكتشاف المعرفي الكبير الذي لمع في رأس اوغست كونت وهو لا يزال شاباً في مقتبل العمر. ومعلوم أنه سيقود كل حياته اللاحقة وكل كتاباته ومشروعه الفكري.
ولكن القطيعة مع أستاذه لم تكن فورية أو مباشرة على الرغم من بداية التنافس بينهما. ومعلوم أن كل تلميذ نابغة سوف ينقلب على أستاذه يوما ما لكي ينطلق بجناحيه فقط أو لكي يضيف شيئا جديدا بكل بساطة. وهذه سنَّة الحياة وقانون الكون. والواقع أن كونت هرع لمواساة سان سيمون بعد أن حاول هذا الأخير الانتحار نظراً لظروف عديدة. وهنا نتوقف لحظة لكي نتساءل: كيف يمكن أن نعطي مصداقية لفيلسوف ينتحر أو يحاول الانتحار؟ كيف يمكن لفيلسوف كهذا أن يصوغ المشروع الحضاري للغرب؟ هنا أيضا فوجئتُ بأشياء في الغرب ما كنت أعرفها. فنحن في العالم العربي أو الإسلامي نحتقر كل شخص يلجأ إلى مثل هذه الطريقة ونعتبر كل أعماله السابقة لاغية. ولكنهم في الغرب لهم وجهة نظر أخرى. فالمفكر ليس معصوماً عن الخطأ أو الزلل وليس عارياً من النقص والضعف. بل إن إنجازاته المعرفية تنهض على نواقصه وتحصل كتعويض عن نقاط ضعفه... وسوف نرى لاحقاً أن اوغست كونت نفسه تعرض أيضا لهزات نفسية خطيرة وضعته على حافة الجنون أكثر من مرة. ومع ذلك فلا أحد يشك في أنه أحد كبار الفلاسفة! وهناك أمثلة اخرى عديدة على ذلك ليس أقلها نيتشه أو ميشيل فوكو أو التوسير الخ...
مهما يكن من أمر فإن الخلافات اندلعت بين التلميذ والأستاذ، لأن الأستاذ يعتبر التلميذ دائماً طفلاً وينزعج كالأب إذا ما كبر وحاول الاستقلالية عنه... يضاف إلى ذلك أن سان سيمون كان يعطي الأولوية لتغيير المؤسسات، في حين أن اوغست كونت كان يفكر أولاً بتغيير العقائد والأفكار. و على هذا النحو شرع كونت باكتشاف القوانين التي تتحكم بتطور الجنس البشري. وقال بأن الجنس البشري يخضع لقوانين مشابهة لتلك القوانين التي تتحكم بالعالم الفيزيائي أو المادي. وعندئذ راح يتحدث عن بلورة علم جديد يدعى بالفيزياء الاجتماعية، وذلك قبل أن يتوصل إلى اكتشاف مصطلح السوسيولوجيا، أي علم الاجتماع. وهنا تكمن إحدى الميزات الأساسية للحداثة الغربية. وهي ميزة تصدم أيضا حساسيتنا نحن الشرقيين. لماذا؟ لأنها تختزل الإنسان إلى مجرد قوانين علمية ومعادلات رياضية.. وهكذا ينزعون عن الإنسان تلك الصورة المثالية الرائعة التي ورثناها عن الماضي لكي يحولوه إلى مجرد ماديات محسوبة بدقة.. طالما صدمتني هذه الظاهرة في عقلية الغربيين وطالما طرحت عليّ مشكلة.. ولم أستطع فهمها أو حلها قبل أن أنخرط في دراسات معمَّقة عن كيفية تشكل الحداثة الغربية. لزمني مرور أكثر من عشرين سنة لكي أفهم الأسباب. وخلاصة هذا الفهم هو هذه المقالات التي أقدمها هنا...
مهما يكن من أمر فإن المشاريع العلمية لاوغست كونت راحت تضطرب شيئاً ما بسبب تقلبات حياته العاطفية. فقد تعرف على عاهرة –نعم عاهرة!- عام 1825 وتزوجها... فبما أنه كان قبيحاً جداً فإنه ما كان يستطيع أن يجذب أي امرأة إلا عن طريق الفلوس... وهذا ما قاله حرفياً في وصيته التي وجدوها مكتوبة بعد موته. وكان يعتقد بأن زواجه منها سوف يربطها به إلى الأبد ويجعلها تشعر بالامتنان نحوه لأنه أنقذها من حمأة العهر واحتقار الناس لها ولأمثالها. ولكنه ما كان يعرف أن مشاكله الحقيقية سوف تبتدئ منذ الآن فصاعدا. فالمرأة كانت جميلة وتدعى كارولين ماسّان. ولم تقطع علاقتها بحاميها السابق أي القواد، بل وفرضت على زوجها أن يستقبله في بيته وهو يعلم أنها تنام معه! فجنَّ جنونه واضطرب عقله، وكان أن حصلت معه الأزمة النفسية الشهيرة عام 1826. وقد حصلت في وضح النهار، أمام الناس، عندما كان يلقي دروسه عن الفلسفة الوضعية. وكان من بين الحاضرين شخصيات مشهورة من بينها أعضاء في أكاديمية العلوم بالإضافة إلى فلاسفة مهمين. وكانت المفاجأة الكبرى: فالأستاذ يقع في وسط القاعة مغمياً عليه، ثم يفيق لكي يبتدئ بالهذيان والجنون!... وعندئذ اقتادوه إلى أكبر مستشفى للأمراض العقلية في فرنسا، وأشرف على معالجته أشهر الأطباء. وهناك تعرض "للدوش" البارد طيلة سبعة أشهر ونصف، بالإضافة إلى معالجات أخرى، ولكنه لم يُشفَ. ومع استطالة مرضه راحت زوجته تهجم عليه في المستشفى وتقوده إلى البيت بدون إذن الطبيب. وهناك فوجئ بأنهم أحضروا الكاهن من أجل القيام بمراسيم الزواج الشرعي على الطريقة الدينية المسيحية. وفيما كان يهذي ويشتم الكهنة ورجال الدين راح يوقع على زواجه الكنسي! وكان منظراً سوريالياً مضحكاً أو مبكياً، لا فرق. ولكن أمه الكاثوليكية المتدينة جداً وصلت إلى غايتها. فهي التي نظَّمت هذا الزواج الديني وهي التي أرادته. ثم دفعت له أجور المشفى على الرغم من أنه لم يكن قد شفي بعد. ولكن هل سيشفى أوغست كونت تماماً يوما ما؟ فالواقع أنه انتكس وسقط في المرض النفسي بعدئذ أكثر من مرة. بل وحاول الانتحار عام 1827 عندما ألقى بنفسه من أحد الجسور الباريسية المطلة على نهر السين. ولكن صادف سقوطه مرور أحد رجال الشرطة فانقضَّ عليه وانتشله. والغريب العجيب أنه بعد ذلك بسنتين فقط استعاد قواه العقلية إلى الدرجة الكافية التي تسمح له باستئناف دروسه عن الفلسفة الوضعية في منزله. وهي الفلسفة التي سوف تسيطر على عقلية الغرب والغربيين طيلة العصر الصناعي، بل وحتى هذه اللحظة بشكل ما.
وكان آخر جزء من الفلسفة الوضعية، أي الجزء السادس، قد صدر عام 1842. وهذه الأجزاء أو الدروس مجتمعةً تشتمل على جميع الاختصاصات والعلوم التي كانت سائدة في عصر اوغست كونت. إنها خلاصة الفكر والعصر. فهي تشتمل على العلوم الأساسية: كالرياضيات، والفلك، والفيزياء، والكيمياء، والبيولوجيا. ولكن نصف الدروس كان مكرساً للفيزياء الاجتماعية، أي لدراسة المجتمع. وهو المصطلح الذي كان يستخدمه قبل أن يتوصل إلى اختراع مصطلح السوسيولوجيا: أي علم الاجتماع.
وفي الافتتاحية العامة لهذا الكتاب الضخم يستعرض كونت بشكل مفصل هذه المرة نظرية المراحل الثلاث من تطور البشرية. وهي النظرية التي بقيت منه وأشهرته في عالم الفكر. يقول بما معناه: كل واحد من تصوراتنا الأساسية، وكل فرع من فروع المعرفة يمر تدريجياً، وعلى التوالي، بثلاث مراحل نظرية مختلفة. المرحلة الأولى هي المرحلة اللاهوتية أو الخيالية، والمرحلة الثانية ندعوها بالميتافيزيقية او التدريجية، والمرحلة الثالثة هي العلمية أو الوضعية. وينتج عن ذلك ثلاثة أنواع من الفلسفة. ففي المرحلة اللاهوتية تحاول الروح البشرية أن تفسر المسببات الأولى والغايات النهائية. وهي تعتقد عندئذ أن الظواهر الطبيعية تنتج عن القوى الخارقة للطبيعة وتأثيرها المباشر والمتواصل. وتعتقد أن الكون كله خاضع للنزوات الاعتباطية لهذه القوى. وفي مثل هذه الحالة البدائية يكون هدف المجتمع هو التوسع عن طريق الفتوحات والحروب. وتكون المؤسسة المركزية للمجتمع قائمة على نظام العبودية.
ثم تتطور البشرية قليلا بعدئذ وتدخل في المرحلة الميتافيزيقية. أو قل ان البشرية تنتقل من المرحلة اللاهوتية إلى المرحلة الميتافيزيقية. وهي مرحلة مترجرجة انتقالية تحل فيها القوى التجريدية محل القوى الخارقة للطبيعة. ونقصد بالقوى التجريدية هنا القدر، أو المصير، أو المبدأ الحيوي الذي يحرك الكون، أو الطبيعة. وعندئذ تبتدئ الملاحظة البشرية بالتحرر من الخيال إلى حد ما. ولا تعود فعاليات البشر فقط عسكرية. وأما نظام الرق والعبودية فيتم إلغاؤه تدريجياً.
وأخيراً تنتقل البشرية إلى المرحلة الثالثة من مراحل تطورها: وهي المرحلة الوضعية. وعندئذ نشهد تطور العلوم والصناعة، ولا تعود الروح البشرية تبحث عن أصل الكون وغايته ومآله، أو من أين جئنا والى أين المصير... وإنما تحاول أن تكتشف عن طريق المحاجة العقلانية والملاحظة العيانية والتجريب القوانين الفعلية التي تتحكم بالظواهر. و الواقع أن الإنسان نفسه يلخص في مساره الشخصي حياة البشرية كلها. يقول اوغست كونت مختتما: من منا لا يتذكر أنه كان لاهوتياً في طفولته، وميتافيزيقياً في شبابه، ووضعياً في كهولته ونضجه؟...
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى