التعبير ولسانيات النصّ
+3
رعاش المبارك
foufou90
إسماعيل سعدي
7 مشترك
- إسماعيل سعديمدير الموقع
- البلد :
الجنس :
عدد المساهمات : 3758
نقاط تميز العضو : 150694
تاريخ التسجيل : 03/04/2009
التعبير ولسانيات النصّ
09/01/10, 11:56 am
مقدّمة
تحدّثنا عن بعض جوانب " لسانيات الكلام " فيما يخصّ التعبير الشفهيّ وفي حدود الإشكاليات التي أثرناها هناك، فها نحن نجهِّز أنفسنا في سبيل الخوض في ماهية التعبير الكتابي وخصائصه، ونبحث عمّا من شأنه أن يؤطِّر هذا النمط التعبيري الهامّ، لهذا ارتأينا أن ننصرف إلى لسانيات النصّ مستجيبين لنفس النسق من الإشكاليات السابقة تقريبًا.
هل هناك لسانيات نصية، أم أنّ الأمرَ يتعلّق ـ بكلّ بساطة ـ بمنهج نصي تنطوي عليه هذه ” اللّسانيات النصيّة “ ولا بدّ أن يختلف عن المنهج اللّسانيّ في تحليل الجمل والتراكيب الصغرى ؟ وإذا أقرّ الواحِد بأنّ للنصّ منظومةً فلا ضيرَ أن يكون للنصّ لسانياتٌ كعلم يؤسِّس لتلك المنظومة النصية ويحلِّلها وينظر في أسرارها؛ لكن لماذا يتخصّص النص بلسانيات والحال إنّه لا يزال أسير اللغة ؟ فالجواب عن هذا السؤال يكمن في ترداد كلمات مثل ” التقنية “ أو فنيات التعبير الكتابي و” الإبداع الفنّي “ هذا المَعينُ الذي يُستخلَص منه جزءٌ كبيرٌ من تلك الفنيات؛ لكن ما دخل الإبداع هنا ؟ وكذلك يُردّ على هذا السؤال بالقول إنّ الإبداع يظل المحرك والأداة الحقيقية لما يمكن أن يُدعى ” النص الأدبي “.
1. التعبير والنصّ والكتابة:
1.1 معالجة مصطلحيّة:
أولى المفاهيم التي تصفّحتها لسانياتُ النصّ وفحصتها ـ فضلاً عمّا تفرضه وحدة النصّ من الخصوصيات ـ هي ما أصدرته من ملاحظات تُعنى بالاصطلاح نفسه: سنرى أنّ مِن بين ما يميِّز نشاط ” فنيات التعبير “ الذي أفاد مِن تلكم اللّسانيات هو اختصاصه ببعض مصطلحات؛ وعندما تكون هذه الأخيرة شائعةً في مجالات اختصاص أخرى تُمعِن في اكتساب معانٍ خاصّة بها؛ من ذلك مصطلحي (الكتابة / التحرير):
أ ـ الكتابة:
(1) الخطّ:
ويمثِّل مهارة الحرف التي تُكتَسَب في العهود الأولى من التمدرس ويرجع التدريب عليه إلى الخطوات الأولى من الأشكال الخطية التي يرسمها الطفلُ.
(2) النظم:
ترتيب الكلمات وتصفيفها وفقَ قواعِد نحويّة لتشكيل الجمل وبمراعاة الكتلة المقصودة (وحدة النص) وأخذًا بعين الاعتبار وظائفها المتنوِّعة.
(3) الكتابة الفنية:
تدلّ على ما يتعلّق بالإبداع الفنّي، فيشمل كلَّ فنّ يُعنى بالأساليب، أدب، له قوانينه الأسلوبيّة، وهذا النوع من الكتابة ” الفنيّة “ قد عنيَ به، لكن من الخطأ ربط التعبير الكتابي بالكتابات الإبداعيّة،
وهو المحور الذي يدرس عملية الإبداع الفني ذاتها متتبّعاً خطواتها، وآلياتها عند الأديب إلى أن يتمخض عنها تشكّل العمل الفنيّ. وقد ينطلق هذا المحور من الأثر الأدبي لتحليل تلك العملية، ولكن وظيفته تبقى محصورةً في فهم آليتها ودينا ميتها.
ولهذا، فدراسة هذه الإشكالية أقرب إلى العلم منها إلى الفن، لأنها تتطلّب معالجةً علميّةً سيكولوجيّةً لفهمها وتعمّقها. وقد لا تفلح هذه المعالجة في فكّ مغالقها، لأنها على قدرٍ كبيرٍ من التّعقيد والغموض، فهي تتّصل بما يجري في باطن الشاعر من حالاتٍ نفسيّةٍ معقّدةٍ، وصراعاتٍ حادّةٍ في أثناء الإبداع، فضلاً عمّا له من سلوكٍ وعاداتٍ يمارسها وقت الكتابة. ولكلّ هذا أثرٌ في صياغة مسوداته إذ غالباً ما يطرأ عليها الشّطب والحذف والزيادة.. فعملية الإبداع من هذا الجانب إذن، لا تحتاج إلى إثبات صلتها بالنقد النفسي الأدبي.
ب ـ التحرير عمليّة تعبيريّة ذات فنيات تتّخذ عدّة مسارات:
تحويل الشفهي إلى الكتابي
التعامل مع الكتابي بحيث يتمّ تحويل نصّ إلى آخر عن طريق تقنية الاقتباس أو فنية التلخيص.
إنّ نشاطَ التحرير هو نشاطٌ معقَّد، لا يدرِك المتعلِّم أسرارَ إنتاج النصوص معتمِدًا النقل الحرفيّ لنصوصٍ أخرى ولملمة شمل الكلمات وتنظيم سلاسل جمليّة فحسب، لكن التحرير عمليّةٌ محرِّكة لمستوياتٍ عديدة من الإجراءات: لتحصيل فِكرة ـ ولو عامّة ـ عن تلك الإجراءات حسبُنا ذكر ما يخضع له التحرير في النشاط الصحافيّ ولنتصوّر تعدّد مراحِل التحرير من التقاط رؤوس الأقلام والبحث عن المعلومة (الخبر) والحرص على تسجيلها (الصورة الأولى للتحرير) .. إلى آخِر مراجعاته المتكرِّرة.
2.1 النصّ والكتابة:
الكتابة نشاطٌ لغويٌّ أساسيٌّ نستخدمه في حياتنا اللّغويّة. فنحن نكتب عادةً لننقل إلى الآخرين أفكارَنا وأخبارَنا وخبراتنا، أو لنعبِّر عن مشاعرنا وأحاسيسنا وعواطفنا حيال الآخرين. فالكتابة إرسال والقراءة استقبال، وبين هذه وتلك تقع الرسالة التي نستخدم فيها اللّغة وسيلتنا في التواصل بين بني البشر وعاء الفكر وحافظة التراث وأداة التعبير والتفكير.
لكن علينا أن نعرف أنّ الكتابة شيءٌ واستهداف وضع نصٍّ قد يكون شيئًا آخر لكونه لا بدّ أن يستوي على فنياتٍ أدائيّة محقِّقة لما يُدعى النصيّة ومن شأنها أن تعضد عمليّة الكتابة ذاتها، فإذا كان الرّامي إلى إنشاء نصٍّ مغلوبًا على أمره لأسبابٍ ما فهذا قد لا يمنعه من مواصلة الكتابة، أفلا يكتب الذين ” يعانون من ضعف الأسلوب “ في أداءاتهم التعبيريّة (التعبير الكتابيّ) ؟ أمّا انهزامه أمامَ تأليف نصٍّ فقد يرجع إلى استعصاء بعض المعايير والخصائص التي يتمتّع بها كلُّ شكلٍّ تعبيريٍّ على حدة، كما يمكن إيعاز الصعوبة إلى الخصائص العامّة.
إنّ الانطِلاق مِن ” النصّ “ لتمييز (التعبير الكتابيّ) تسوِّغه عوامِل، نذكر منها اقتران هذا النوع من التعبير بمصطلح (الكِتابة) الذي ينطوي على مفاهيم تجاذبت أطرَفها عدّةُ اختصاصات اهتمّت بدراسة الانجازات الحضاريّة المرتبِطة بالآثار الناقِلة لمختلَف الثقافات، والمعبِّرة عن العادات الاجتماعيّة والطقوس الدينيّة والسنن القوليّة المأثورة؛ وأهمّ مَعلَمٍ انجذبنا إليه في تمييز التعبير الكتابي هو التواصل كما رأينا في المحاضرة الأولى، فاعتبرنا من تلك العوامِل أيضًا:
إنّ النصّ كمنتوجٍ مرتبِطٌ بالكِتابة، أي فِعل الكِتابة هو ما ينتِج النصَّ، ولاكتساب مراس الكتابة لا بدّ مِن ممارستها. ونعني بفعل الكتابة هنا ما نعنيه ﺒ ” التعبير الكتابي “.
إن تفاعل عدة نظريات في ضبط مفهوم النص أفضت إلى تفسيرات متداخلة له أسفر عن تفريعات يطول بنا المقام لاستعراضها، هذا حدث على مستوى عدّة اختصاصات:
ففي مجال علم أصول الفقه نقرأ مثلاً:
« قد يحتمل اللّفظُ معنى واحدًا، وقد يحتمل أكثر من معنى، فالأوّل هو المسمّى عند الأصوليّين بالنّصّ، وهذا لا إشكال في فهم المراد منه، والثاني هو المسمّى بالظّاهر، وهذا الذي يحتمل معاني متعدّدة » .
إنّ تعريف النص بأنّه مجالٌ للتّنظيم (يحتوي أفكارًا، يُشحَن بالعواطف، تنسجِم فيه المعاني) واعتبار نقيضها هو (الفوضى) يعدّ تعريفًا من التّعريفات النّابعة من ” داخل “ موضوع الوصف (تكليف المتعلِّم بضبط مظاهر الاتّساق والانسجام في تركيب فقرات النص). وهذا في ذاته يعتبر دليلاً على أنّ المعلِّم لا يتّخذه نظامًا ما ورائيًّا فحسب ولكنّه جزء من موضوع الدّراسة. إذا حاولنا الآن تعريف النّص سيميائيًّا، فإنّنا نجد أنفسنا مضطرِّين إلى التّمييز بين خطابين يبدوان متوافقيْن:
بالنّسبة للسّيميائيّين البنويّين، يبدو ـ رغم بعض الاختلافات المصطلحيّة ـ أنّ الاتّفاق تمّ حول تحديد النّص بوصفه مجموعة يؤلِّفها الخطاب، الحكاية والعلاقات القائمة بين هذيْن الموضوعيْن، المحدّديْن كطبقات دلاليّة مستقلّة نسبيًّا وقابلة بدورها إلى أن تتراتب في أصعدة متعدِّدة. في السّيميائيّة التّحليليّة، لا يُحدَّد النّص كموضوع (جماليّ أدبيّ، الخ)، ولكنّه يُحدَّد باعتباره عمليّة لسانيّة، يستوعب خاصيّة النّصيّة. يجب أن يُحدَّد موقع النص ليس في العمل فحسب (موقعه ضمن الديوان أو الفصل) بل بالنسبة إلى للقارئ. وأهمّ ما يشدّ انتباه هذا الأخير هو تلك الخاصيات النّصيّة: الانسجام، الاتّساق؛ وفي كلِّ ذلك بات من الضرورة اعتبار عنصر السياق.
3.1 النصّ والسياق:
يقول عبد الهادي بن ظافر الشهري:
« يمكن القول بدءا إنّ مصطلح السياق يطلق على مفهومين:
1. السياق اللغوي.
2. سياق التلفّظ، أو سياق الحال، أو سياق الموقف.
فالمفهوم الأول كان المفهوم الأكثر شيوعا في البحث المعاصر، فهو الجواب البدهي عندما يتبادر إلى الذهن السؤال الهام، وهو: " ما السياق ؟ إنه حسب المعجم تلك الأجزاء من الخطاب التي تحف بالكلمة في المقطع وتساعد في الكشف عن معناها، وسوف ندعو هذا التعريف النموذجي » .
ومراعاة السياق أو دراسته من جانب، أو تحليله في أذهان كلٍّ من المرسل والمرسل إليه من جانب آخر، ليس بالأمر اليسير، لأهميّته ودقّته، ولذلك يعترف كارنب (Carnap) أنّ التداولية درس غزير وجديد، بل يذهب إلى أكثر من هذا بقوله إنها قاعدة اللسانيات، إذ إنها محاولة للإجابة عن أسئلة تطرح نفسها على البحث العلمي، ولم تجب عليها المناهج الكثيرة، وقد لا تسلم من المشكلات حالها حال أي منهج لدراسة اللغة .
4.1 تعرف الاتّساق:
« يُقصَد عادة بالاتّساق ذلك التّماسك الشديد بين الأجزاء المشكِّلة لنص / خطاب ما، ويهتم فيه بالوسائل اللغويّة (الشكليّة) التي تصل بين العناصر المكوِّنة لجزء من خطاب أو خطاب برمّته. ومن أجل وصف اتّساق الخطاب / النص يسلك المحلِّل ـ الواصف طريقة خطية، متدرّجًا من بداية الخطاب (الجملة الثّانية منه غالبًا) حتى نهايته، راصدًا الضمائر والإشارات المحلية، إحالة قبلية أو بعديّة، مهتمًّا أيضًا بوسائل الربط المتنوِّعة كالعطف، والاستبدال، والحذف، والمقارنة والاستدراك وهلمّ جرّا. كلّ ذلك من أجل البرهنة على أنّ النص / الخطاب (المعطى اللغوي بصفة عامة) يشكل كلاًّ متآخذًا » .
فإذا أردنا البحث عن أثر الفعل « كان » على ما عرض الشاعر عنترة بن شدّاد العبسي (525م ـ 614م) من وقائع في الأبيات الآتية ؟
وسَيفـي كـان بالهَيْجـا طبيبًا يُـداوي مَن يشكـو الصُّداعـا
أنا العبـدُ الـذي خُبِّرت عنـه وقَد عايَنتَنـي فـدَعِ السَّماعـا
ولَو أرسَلتُ رُمحِـي مَعْ جَبانٍ لَكـان بهيبتـي يَلقى السِّباعـا
مَلأتُ الأرضَ خوْفًا من حُسامي وخَصمِي لم يَجِد فيها اتِّساعـا
إذا الأبطالُ فَرَّت خَوفَ بَأسـي تَرَى الأقطـارَ باعًا أو ذِراعا
نجد أنّه لا ريبَ أن الفعل (كان) وُظِّف قبل الأفعال المنصرفة في المضارع لتفيد الاستمراريّة وليفيد الشاعر أن ما يفخر به صفة هي لصيقة به.
وإذا عدنا إلى التساؤل بم يرتبط مطلع القصيدة بخاتمتها فنجد أنّ الاستعانة بضمير المخاطبة عزّز سبل اتّساق الأبيات « ويوجد بوجه خاص في الشعر، إلى جوار النصوص الحوارية الكاملة التي يُنشِئها أشخاص الحوار الحقيقيين، نصوص شبه حوارية، تشتمل على (ضمير) أنت ضمني » .
كما أنّ الصورة تُسهِم كثيرًا في أمر استحضار السّمات الدّلاليّة المشتركة الغالبة على النص. وشبيهٌ بِهذا ما حدث بيْن استِعمال كلِمة السِّباعـا (الأسد) كحيوان، وبِاعتبِارها دالّة على مَفهوم (الشّجاعة) في هذا السياق:
ولَو أرسَلتُ رُمحِـي مَعْ جَبانٍ لَكـان بهيبتـي يَلقى السِّباعـا
5.1 تعريف الانسجام:
إنّ محلّلي الخطاب يميلون دومًا إلى تعريف انسجام النصّ بأنّه خاصيّة من خصائص الخطابات عندما تكون سليمة البناء ، « بيد أنّ الإنجاز اللغوي المكتوب خاصة (وكذا المتكلِّم) لا يسلك دومًا السبيل، إذ كثيرًا ما يجد المتلقّي نفسَه أمام نص / خطاب لا توظف فيه الوسائل التي أسلفنا الإشارة إليها وإنما توضع الجمل بعضها إلى جوار بعض دونما أدنى اهتمام من الكاتب بالروابط التي تجسد الاتساق. على أن هذا النوع من الكتابة تمليه حينًا ضرورات تواصلية (التلغراف، الإعلانات الحائطية) أو تجارية (إعلانات البيع والكراء، والخدمات... في الجرائد)، وقد تكون خلفه، أحيانًا أخرى، مقصدية إبداعية ابتكارية (الشعر الحديث مثلاً، خاصة التوجه التجريبي فيه). حين يحدث هذا لإن الاهتمام يتغيّر من اتّساق النص / الخطاب إلى انسجامه، أي أن على المتلقّي، في هذه الحالة، أن يعيد بناء انسجام النص " الممزقة أوصاله " » .
فإذا ما سقنا مثالاً عن آيات الانسجام في النص نسأل أوّلاً ما علاقة قول الشاعر عنترة بن شدّاد : « يقول لك الطبيب » بتعبير « ما قسى النزاعا » في البيتين الآتيين ؟
يقـولُ لك الطّبيبُ: دَوَاكَ عِندي إذا مـا جَـسَّ كفَّك والذِّراعـا
ولو عَـرف الطّبيـبُ دواءَ داءٍ يرُدُّ الموتَ، ما قاسى النِّزاعـا
لقد تصوّر الشّاعر هنا حوارًا بين المخَاطب والطّبيب الذي يدّعي امتلاك سبل العلاج، وفيه نجد عناصر ستة: المخاطِب، المخاطَب، الرسالة، الوضع، المرجع، النّاقل، وهي تمثّل العناصِر الست التي تحتكّ بها الوظائف الستّ المسندة إلى اللغة؛ وهذه الظاهرة مرتبطة من جهة بقضايا تخصّ نفسيّة الشّاعر، ومن جهة ثانية بالانسجام. « إذا كان الغرض الأصلي من إلقاء الكلام هو إفادة المخاطَب أو المستمع الحكم الذي تضمنه القول، فقد نلقي الكلام لأغراض أخرى تُستفاد من سياقه. كما أن القوة اللزومية للقول قد تتسع إلى حد يعجز معه المتلقي عن الإحاطة بها كاملة. ولهذا لا بدّ من الاستعانة بالمقتضيات المقاميّة والسياقيّة بغرض استخلاص المستلزمات التي تخدم تحقيق المطالب وإدراك المقاصد من الخطاب.
أ ـ الاستلزامات المتولِّدة من معاني المفردات التي يتركّب منها القول.
ب ـ الاستلزمات المتولِّدة من البنية الدّلاليّة لهذا القول.
ج ـ الاستلزمات المتولِّدة من البنية التّداوليّة لهذا القول » .
أما الاستلزمات المتولِّدة من البنية التّداوليّة لهذا القول، فلاحظ مايأتي:
أنا العبـدُ الـذي خُبِّرت عنـه وقَد عايَنتَنـي فـدَعِ السَّماعـا
إن الشاعر يقابل بين (خُبِّرت) و(عاينتني) على مستوى اللغة، لكنّه لا يعدم قصد الحقيقة، فالانسجام يأخذ هنا بعدين. وهذه الظّاهرة قد تحمل المعلِّم على أن يعيِّن للتّلاميذ علاقة الاتساق بالتّرادف:
« والمَصدرُ الثّالِثُ [ لِلتّرادُف ] أنّ اللّفظَ قد تَرِد عليْه الحقيقةُ والمَجازُ، لأنّ المَعروفَ أنّ ألفاظَ اللُّغة مُتناهِيةٌ، وأنّ المَعاني غيْرُ مُتناهِية. ومِن المُحال أن تَستطيعَ لُغةٌ ما أنْ تُقدِّمَ لَفظًا مُنفصِلاً لِكلِّ مَعنى يَرِد على الخاطِر، [...] ولأنّ الذّاكِرةَ الإنسانيّة ذاتُ طاقة اختِزانيّة مُعيّنة لا تُمكِنها مِن استيعاب ما لا يَقع تَحت الحصْر مِن الألفاظ. فَإذا كانَ ذلِك كذلِك فلا بُدّ مِن التّوسُّع في استِعمال اللّفظ بِأن نُجوِّز بِه مَعناه الحقيقيّ الّذي كانَ لَه بِأصل الوضْع ونَستعمِله بِواسِطة هذا ” الجواز “ أو ” المَجاز “ [...] في مَعنى آخَر، تَطبيقًا لِفِكرة الاقتِصاد في الاستِعمال اللُّغويّ» .
كثيرًا ما يحقِّق الانسجام العلاقات الدلاليّة الترادفيّة وحتّى التضاديّة: (الزّمــانُ / الدّهر)، (فـلا تخـشَ المنية / اقتحمها)، (دواء / داء)، (الموت / المنايا)، (شَرَى / باعا)، (يُـداوي مَن يشكـو)، (خُبِّرت عنـه وقَد/عايَنتَنـي)، مع العلم أنّ للتّرادف سمة الاقتصاد لهذا يُسخَّر. مع التّذكير بأنّ السّياق هو الذي يعيِّن الدّلالة المناسبة من هذه الثّنائيّات التّرادفيّة والتّضاديّة.
وكذلك إذا بحثنا في أثر الضمير « هن » على البيتين من شِعر جميل بن معمر (ت.82ﻫ) في الغزل العفيف من حيث المعنى ؟
يقولون جـاهِدْ يا جميـل بِغـزوةٍ وأيُّ جِـهـادٍ غيـرَهـنَّ أريـدُ
ولِـكلِّ حَديـثٍ بينـهنَّ بشـاشـةٌ وكـلُّ قَتِـيـلٍ بَيـنَهُـنَّ شهيـدُ
نجد البعد الصّوتي النّبري بيِّنًا في هذين البيتين، فالانسجام واقع على مستوى الأصوات، وذلك ﺒ: " بتكرار صوت الهاء " بين الفعل (جاهد) واسم (جهاد) وإضافة الاسمين (بين) مع تكراره و(غير) إلى الضمير (هنّ). هذا من شأنه أن يُعدَّ مثالاً حيًّا لاستعمالٍ سيّاقيٍّ تركيبيٍّ أسلوبيّ جماليّ.
الأسلوبيّة ترى أنّ:
« الشعر اختراقٌ لنمطيّة اللّغة، فهو انزياح وتفارق عن المعيار في حدود الأدائيّة، وهذا الانزياح لا يعني انبتاتًا أو خرقًا غير محكوم للقواعد، [...]
إن التّراتُب اللّغوي المعهود يكسر انتظامه، تقديم وتأخير وحذوفات وإضافات، ولكنها جميعها يحتضنه الحقل اللّغوي الأشمل والأفسح، ومن ثمّ فالشعر كامن في اللّغة، ولكنه يبني لغة من لغة حتى جانبها الصّوتي، فالوزن الشعري ينسج تناغمًا وتآلفًا أو نسقًا خاصًّا من الأصوات سواء ما يتّصل بموسيقاه الظّاهرة أو الباطِنة » .
كما أمكن تفسير الأمر بظاهرة التشاكل والتباين.
التّشاكل والتّباين:
لقد حدّد راستي التّشاكل بأنّه كلّ تكرار لوحدة لغويّة مهما كانت « وهذا التحديد يضيف عناصر أخرى لما جاء عند " كريماص " فإذا كانت بينهما عناصر مشتركة وهي: أن التشاكل لا يحصل إلاّ من تعدّد الوحدات اللّغويّة المختلفة، ومعنى هذا أنّه ينتج عن التباين ! فالتشاكل والتباين إذن لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر. وأنّه هو الذي يحصل به الفهم الموحد والموحد للنص المقروء وهو الضامن لانسجام أجزائه وارتباط أقواله، وأنه يتولّد عنه تراكم تعبري ومضموني تحتّمه طبيعة اللغة والكلام، وأنه هو الذي يبعد الغموض والإبهام اللذين يكونان في بعض النصوص التي تحتمل قراءات متعدّدة » .
6.1 بين الانسجام والاتّساق:
« يترتّب على السّالف ذكره أن الانسجام أعمّ من الاتّساق، كما أنّه يغدو أعمق منه بحيث يتطلّب بناء الانسجام، من المتلقّي، صرف الاهتمام جهة العلاقات الخفيّة التي تنظّم النص وتولّده. بمعنى تجاوز رصد المتحقّق فعلاً (أو المتحقّق) أي الاتّساق، إلى الكامن (الانسجام) » .
فمن وجهة تنظيميّة، فإن إشكاليّة الاتّساق تدخل في علاقة ترابطيّة مع إصدار الكلام، أمّا إشكاليّة الانسجام فتدخل ضمن علاقة تلقّي الكلام .
فهكذا أمكن فحص مظاهر الاتّساق والانسجام في البيت الآتي لجميل بن معمر:
وإن قلتُ رُدِّي بَعضَ عقلي أَعِشْ به مـعَ النَّاس قالتْ ذاكَ منـكَ بعيدُ
ففعل (أَعِشْ به) لقد ورد مجزومًا لأنّه جواب طلب (أمر)، كما يمتدّ التّركيب عبر الجملة الشرطيّة في كلّ البيت:
وإن قلتُ رُدِّي بَعضَ عقلي أَعِشْ به مـعَ النَّاس جملة الشرط.
قالتْ ذاكَ منـكَ بعيدُ جملة جواب الشّرط.
وهذه الظاهرة مرتبطة من جهة بقضايا التّقدير، ومن جهة ثانية بالاتّساق.
ولا نمرِّر هذه الظّاهِر بدون التذكير بأنّه « أدرك النّحويّون العرب أنّه خلفَ التّركيب الظّاهِر يَكمُن تركيبٌ آخر في ضوئه يَتحدّد المَعنى الوظيفيّ لِعناصِر الجُملة وثمّةَ صِلة بين التّركيبيْن، وقد عرض لِذلِك ابن جنّي في بابٍ عقَده لِبيان الفرق بيْن تقدير الإعراب وتفسير المَعنى، وتقدير الإعراب مُتّصِلٌ بِالتّركيب الظّاهِر وتفسير المَعنى مُعتمِدٌ على تركيب مُقدّر وكأنّه يُشبِه تركيبًا باطِنًا قد يَختلِف النّحويّون في تصوُّرِه، ولِذا يَقولُ ابنُ جنِّي: " هذا الموضِع كثيرًا ما يستهوى فيه مَن يَضعُف نظرُه الّذي يَقوده إلى فساد الصّنعة وذلِك كقولِهم في تَفسير قولِنا: ” أهلك واللّيل “، معناه: الحق أهلك قبلَ اللّيل، فربّما دعا ذلِك مَن لا دربةَ لَه أن يَقول: أهلك واللّيل فيجرّه، وإنّما التّقدير: الحق أهلك وسابِق اللّيل " » .
2. النصّ وعلومه:
1.2 أزمة ” علم “ إنتاج النصّ:
إذا قصدنا الوقوف عند معرفة ما مِن شأنه أن يعلِّم كيف يُنظِّم المتعلِّمُ نصَّه الذي يطمح إلى إنتاجه ـ لأنّ عمليّة الإنتاج قد تنفصِل عن المنتوج الذي يطالَب صاحِبُه بأن ينظِّمه، ويعيد النظر فيه ـ أي عباراته التي يُعبِّر بها والتي يضعها ضمن شبكة من العلاقات التي تميِّز ما يُدعى ” نصَّه “، وليس مجرّد الاطِّلاع على سبل تأويل النصوص كما سيحتاج إليه المتعامِل مع نشاط ” النصوص والأدب “ ـ فيحقّ له أن يتوجّه صوبَ معرِفة متخصّصة قد يجدها في اللّسانيات، غير أنّ هذه الأخيرة تحدِّد موضوعَ بحثها في الجملة. وهي حالة قصوى، كما هي الحال عند سوسير، فإنّ ما يُمكِن أن يُعرَف لسانيًّا يتوقّف عند الكلِمة أو عند التركيب. ولقد أرادت البلاغة الكلاسيكية أن تجعل لضوابط بناء الخطاب شرعة. ولكن قصدها المعياري وإهمالها للأشكال الكلامية الواقِعيّة، جعلا ميراثها يشتمِل على قليل من المعلومات التي يمكِن استخدامها. وأخيرًا، فإنّ الأسلوبيّة، عند بالي وتقاليده، قد اهتمّت بالأحرى بتأويل العبارة وبالتعبير وليس بتنظيم العبارة نفسها. ولقد نتج عن هذا فراغٌ في ” نظريّة النصّ “، لم تملأه ملاحظات متناثِرة جاء الأدباء بها.
2.2 تقاليد الممارسة النصيّة عند القدماء:
وتشمل هذه التقاليد كلاًّ مِن الإفرازات الكتابية التي ارتبطت بفئاتٍ عديدة وكانت تستجيب لأغراضٍ متنوِّعة (محدِّثون، فقهاء، أدباء، محقِّقون، إداريون، تجّار، مراسلات، مؤلّفات علميّة وتعليميّة ..الخ).
إذا ربطنا بين النصّ والكتابة فقد لا نجد لدى جميع الثقافات الإنسانيّة (البشريّة) تقاليد نصيّة، فبعض الثقافات تكاد تخلو منها إذ تظلّ عاجزة عن الخروج عمّا كرّسه الطابع الشفهي المسيطِر عليها أو تكون راغبة عن ذلك، وقد يرجع الأمر إلى أسبابٍ يهمّ البحث فيها؛ وفي المقابل نجد إجادة وضع النصّ وإبداعه وتخريجه جزءًا من ثقافات بعض المجتمعات؛ فإثبات وجود الاهتمام بالنصوص في الثقافات العربيّة المتنوِّعة من شأنه أن يبرز أهميّتها، فبالتالي أهميّة تحليلها؛ والتاريخ يشهد على انطواء الحضارة الإسلاميّة على تسخير النصّ كوسيلة وكهدف في ذاته يفيد الوقوف عند التمييز بين حدود هذه الثنائية، كيف لا وقد لاحظ كثيرٌ من المفكِّرين لدى هذه الأخيرة بوادر الاهتمام بالنصّ وضعًا وتحليلاً وتخريجًا. هذا ما يذهب إليه حسن حنفي: ونقد النصوص عرفته الحضارة الإسلاميّة في علم مصطلح الحديث قبل أن يضع الغرب ” النقد التاريخي للكتب المقدّسة “. هذا المقتبس يذكر أهمّ العلوم التي لها فضل السبق إلى تحليل النصوص ونقدها وتخريجها وقبولها ورفضها وهو علم مصطلح الحديث: ألا يمكن البحث في غيره من الفروع العلميّة مثل فقه اللّغة على سبيل المثال ؟
1.2.2 حاجة التحليل إلى المنهج أو المقاربة أو المنظور أو القراءة:
لا بدّ أن تقوم دراسة النصوص وتحليلها على مناهج يحسن الوقوف عند أهمّها بمراعاة واقع التعاطي مع النصوص وما تسعى إليه المنظومة التربويّة الجزائريّة من استقطاب مناهج وطرح أخرى، بيد أنّ إشكاليّة المنهج قد يجوز التعرّض إليها من منظور ابستيمولوجي بحيث يُركَّز فيها على تمفصل التحليل إلى ما هو منهج وما هو مقاربة وما يُعدُّ من جنس المنظور أو ما لا يمكِن الإطلاق عليه إلاّ تسمية القراءة. وهذا كلّه بالاحتفاظ على التداخل القائم بين هذه المصطلحات.
3.2.2 الأساس التصنيفي للنّصوص الأدبيّة: قراءة في آليات الأداء التربوي المعهود واستشراف الحديث المفقود:
لماذا على الدّارِس أن يصنِّف النصوص ؟ أي ما جدوى تصنيف النصوص ؟ لا يغيب عنّا ما عمدت إليه المنظومة التربويّة الجزائريّة من إرساء قواعد تتعلّق بتصنيف النصوص يمكن تفكيك بعضها أو كلّها سواء كانت متينة أم فيها خللٌ لا يزال يتعقّبها إلى يومنا هذا رغم الإصلاحات المتعاقِبة والاصطلاحات المكرَّسة (كأن يصنَّف النصّ إلى ما هو علمي وما هو أدبيّ)، وهي قواعد لم تقصر تلك المنظومة التربويّة في شأن الخضوع لها، لكن هل كانت تراعي اجتهادات بعض الأساتذة أثناء إدارة أقسامهم بل إثر مناقشاتهم بعض التلاميذ لبعض الأسس التي تبنى عليها تصنيفات أساتذتهم ؟ ولمّا كانت تلك القواعد ـ أوّلاً وقبل كلّ شيء ـ بمثابة معايير صار العمل على اكتشافها جزءًا من تعليل التراجع الذي قد يُقدِم عليه بعض الأساتذة.
4.2.2 إخضاع تحليل نصوص القراءة في الكتب المدرسيّة لوظائفها:
يمكن توسيع الفكرة لتشمل الوظائف المحتمَلة:
النصّ ـ بوصفه كتلة لغويّة ـ يستعان به من أجل تعلّم / تعليم اللّغة.
النص ـ بصفته مقروءًا ـ يؤدّى من أجل التواصل، ويمكن هنا إجراء مقارنة بينه وبين أنظمة التواصل الأخرى مثل الاستعانة بالصورة، والسمعي البصري ..الخ.
النصّ ـ يحشد أسرارًا ولكونه مفتوحًا فهو قابل لأكثر من قراءة ـ هو أثر فنّي جميل مهمّ لذاته.
النصّ ـ باعتباره فضاءً ـ يُسخَّر كوثيقة تاريخيّة تراثيّة عاكسة.
النصّ ـ لكونه أداة تعليميّة ـ هو عالَم زاخِرٌ بالمعرفة وناقلٌ لها وملئ بالمعطيات ومنظِّمٌ لها.
5.2.2 أهمّ الكفاءات التي يُنتظَر من تحليل النصوص أن يكسِبها المتعلِّمَ:
نقصد هنا بالكفاءات تلك القدرات التي يناط بالمعلِّم أن يلقِّنها تلاميذه وأن يسهر على تنميّتها، وذلك بتسخير جميع الوسائل المتاحة بما فيها الكتاب المدرسيّ الذي تودَع فيه النصوص، وهي:
الفهم والاستيعاب: النص خزين الدلالات، والبحث عنها يشغِّل الذهن ويقوّي كفاءة التفكير .. الخ.
الكلام أو المحادثة: اللّغة ممارسة، فالتعليق على النصّ: شكله ومضمونه يعوِّد اللّسان على عبارات لغويّة أصيلة ..الخ.
القراءة: تتيح فرصة الإمساك ببنية النصّ وتعالقاته التي تتجلّى على المستوى التركيبيّ، وبالتالي التعويد على أداء البنى اللّغويّة، كما أنّ لمس النص عن طريق القراءة يساعد على تقويم الخطأ وملاحقته ..الخ.
الكتابة: قد تكون غاية إدراج النصوص لقراءتها وفهمها والتعليق حولها وإثارة موضوعات جديدة على هامشها من أجل إبداع نصوص جديدة ..الخ.
6.2.2 تحليل النصوص والإعلام الآلي:
إنّ ” معالجة النصوص “ مصطلح يصطلَح به في ميدان الإعلام الآلي على إدخال المعطيات المختلفة في الحاسوب ومعالجتها باستعمال نظام مكيَّف للآلة لكنه ليس ببعيدٍ كلَّ البعد عن المألوف من ترتيب المعلومات والرّبط فيما بينها عن طريق النصوص المكتوبة (المسجَّلة في الكتب)، فهل الإعلام الآلي يفيد في القضايا الشكليّة في إخراج النص فحسب أم أنّه يمسّ المضمون أيضًا ؟ وكيف ؟ بل إنّ الأولى تكاد تكون من وحي ما طوّرته المناهج إثر نظرها في الثانية؛ كيف وقع ذلك ؟ هنا يصحّ طرح سؤالٍ عن مصير هذا النوع من النصوص ونحن في عصر الانترنت ؟ (هذا الفصل يظلّ مفتوحًا على نفسه نظرًا لتعدّد الاختصاصات التي لها شرعيّة البحث فيه ولسعة آفاقه).
تحدّثنا عن بعض جوانب " لسانيات الكلام " فيما يخصّ التعبير الشفهيّ وفي حدود الإشكاليات التي أثرناها هناك، فها نحن نجهِّز أنفسنا في سبيل الخوض في ماهية التعبير الكتابي وخصائصه، ونبحث عمّا من شأنه أن يؤطِّر هذا النمط التعبيري الهامّ، لهذا ارتأينا أن ننصرف إلى لسانيات النصّ مستجيبين لنفس النسق من الإشكاليات السابقة تقريبًا.
هل هناك لسانيات نصية، أم أنّ الأمرَ يتعلّق ـ بكلّ بساطة ـ بمنهج نصي تنطوي عليه هذه ” اللّسانيات النصيّة “ ولا بدّ أن يختلف عن المنهج اللّسانيّ في تحليل الجمل والتراكيب الصغرى ؟ وإذا أقرّ الواحِد بأنّ للنصّ منظومةً فلا ضيرَ أن يكون للنصّ لسانياتٌ كعلم يؤسِّس لتلك المنظومة النصية ويحلِّلها وينظر في أسرارها؛ لكن لماذا يتخصّص النص بلسانيات والحال إنّه لا يزال أسير اللغة ؟ فالجواب عن هذا السؤال يكمن في ترداد كلمات مثل ” التقنية “ أو فنيات التعبير الكتابي و” الإبداع الفنّي “ هذا المَعينُ الذي يُستخلَص منه جزءٌ كبيرٌ من تلك الفنيات؛ لكن ما دخل الإبداع هنا ؟ وكذلك يُردّ على هذا السؤال بالقول إنّ الإبداع يظل المحرك والأداة الحقيقية لما يمكن أن يُدعى ” النص الأدبي “.
1. التعبير والنصّ والكتابة:
1.1 معالجة مصطلحيّة:
أولى المفاهيم التي تصفّحتها لسانياتُ النصّ وفحصتها ـ فضلاً عمّا تفرضه وحدة النصّ من الخصوصيات ـ هي ما أصدرته من ملاحظات تُعنى بالاصطلاح نفسه: سنرى أنّ مِن بين ما يميِّز نشاط ” فنيات التعبير “ الذي أفاد مِن تلكم اللّسانيات هو اختصاصه ببعض مصطلحات؛ وعندما تكون هذه الأخيرة شائعةً في مجالات اختصاص أخرى تُمعِن في اكتساب معانٍ خاصّة بها؛ من ذلك مصطلحي (الكتابة / التحرير):
أ ـ الكتابة:
(1) الخطّ:
ويمثِّل مهارة الحرف التي تُكتَسَب في العهود الأولى من التمدرس ويرجع التدريب عليه إلى الخطوات الأولى من الأشكال الخطية التي يرسمها الطفلُ.
(2) النظم:
ترتيب الكلمات وتصفيفها وفقَ قواعِد نحويّة لتشكيل الجمل وبمراعاة الكتلة المقصودة (وحدة النص) وأخذًا بعين الاعتبار وظائفها المتنوِّعة.
(3) الكتابة الفنية:
تدلّ على ما يتعلّق بالإبداع الفنّي، فيشمل كلَّ فنّ يُعنى بالأساليب، أدب، له قوانينه الأسلوبيّة، وهذا النوع من الكتابة ” الفنيّة “ قد عنيَ به، لكن من الخطأ ربط التعبير الكتابي بالكتابات الإبداعيّة،
وهو المحور الذي يدرس عملية الإبداع الفني ذاتها متتبّعاً خطواتها، وآلياتها عند الأديب إلى أن يتمخض عنها تشكّل العمل الفنيّ. وقد ينطلق هذا المحور من الأثر الأدبي لتحليل تلك العملية، ولكن وظيفته تبقى محصورةً في فهم آليتها ودينا ميتها.
ولهذا، فدراسة هذه الإشكالية أقرب إلى العلم منها إلى الفن، لأنها تتطلّب معالجةً علميّةً سيكولوجيّةً لفهمها وتعمّقها. وقد لا تفلح هذه المعالجة في فكّ مغالقها، لأنها على قدرٍ كبيرٍ من التّعقيد والغموض، فهي تتّصل بما يجري في باطن الشاعر من حالاتٍ نفسيّةٍ معقّدةٍ، وصراعاتٍ حادّةٍ في أثناء الإبداع، فضلاً عمّا له من سلوكٍ وعاداتٍ يمارسها وقت الكتابة. ولكلّ هذا أثرٌ في صياغة مسوداته إذ غالباً ما يطرأ عليها الشّطب والحذف والزيادة.. فعملية الإبداع من هذا الجانب إذن، لا تحتاج إلى إثبات صلتها بالنقد النفسي الأدبي.
ب ـ التحرير عمليّة تعبيريّة ذات فنيات تتّخذ عدّة مسارات:
تحويل الشفهي إلى الكتابي
التعامل مع الكتابي بحيث يتمّ تحويل نصّ إلى آخر عن طريق تقنية الاقتباس أو فنية التلخيص.
إنّ نشاطَ التحرير هو نشاطٌ معقَّد، لا يدرِك المتعلِّم أسرارَ إنتاج النصوص معتمِدًا النقل الحرفيّ لنصوصٍ أخرى ولملمة شمل الكلمات وتنظيم سلاسل جمليّة فحسب، لكن التحرير عمليّةٌ محرِّكة لمستوياتٍ عديدة من الإجراءات: لتحصيل فِكرة ـ ولو عامّة ـ عن تلك الإجراءات حسبُنا ذكر ما يخضع له التحرير في النشاط الصحافيّ ولنتصوّر تعدّد مراحِل التحرير من التقاط رؤوس الأقلام والبحث عن المعلومة (الخبر) والحرص على تسجيلها (الصورة الأولى للتحرير) .. إلى آخِر مراجعاته المتكرِّرة.
2.1 النصّ والكتابة:
الكتابة نشاطٌ لغويٌّ أساسيٌّ نستخدمه في حياتنا اللّغويّة. فنحن نكتب عادةً لننقل إلى الآخرين أفكارَنا وأخبارَنا وخبراتنا، أو لنعبِّر عن مشاعرنا وأحاسيسنا وعواطفنا حيال الآخرين. فالكتابة إرسال والقراءة استقبال، وبين هذه وتلك تقع الرسالة التي نستخدم فيها اللّغة وسيلتنا في التواصل بين بني البشر وعاء الفكر وحافظة التراث وأداة التعبير والتفكير.
لكن علينا أن نعرف أنّ الكتابة شيءٌ واستهداف وضع نصٍّ قد يكون شيئًا آخر لكونه لا بدّ أن يستوي على فنياتٍ أدائيّة محقِّقة لما يُدعى النصيّة ومن شأنها أن تعضد عمليّة الكتابة ذاتها، فإذا كان الرّامي إلى إنشاء نصٍّ مغلوبًا على أمره لأسبابٍ ما فهذا قد لا يمنعه من مواصلة الكتابة، أفلا يكتب الذين ” يعانون من ضعف الأسلوب “ في أداءاتهم التعبيريّة (التعبير الكتابيّ) ؟ أمّا انهزامه أمامَ تأليف نصٍّ فقد يرجع إلى استعصاء بعض المعايير والخصائص التي يتمتّع بها كلُّ شكلٍّ تعبيريٍّ على حدة، كما يمكن إيعاز الصعوبة إلى الخصائص العامّة.
إنّ الانطِلاق مِن ” النصّ “ لتمييز (التعبير الكتابيّ) تسوِّغه عوامِل، نذكر منها اقتران هذا النوع من التعبير بمصطلح (الكِتابة) الذي ينطوي على مفاهيم تجاذبت أطرَفها عدّةُ اختصاصات اهتمّت بدراسة الانجازات الحضاريّة المرتبِطة بالآثار الناقِلة لمختلَف الثقافات، والمعبِّرة عن العادات الاجتماعيّة والطقوس الدينيّة والسنن القوليّة المأثورة؛ وأهمّ مَعلَمٍ انجذبنا إليه في تمييز التعبير الكتابي هو التواصل كما رأينا في المحاضرة الأولى، فاعتبرنا من تلك العوامِل أيضًا:
إنّ النصّ كمنتوجٍ مرتبِطٌ بالكِتابة، أي فِعل الكِتابة هو ما ينتِج النصَّ، ولاكتساب مراس الكتابة لا بدّ مِن ممارستها. ونعني بفعل الكتابة هنا ما نعنيه ﺒ ” التعبير الكتابي “.
إن تفاعل عدة نظريات في ضبط مفهوم النص أفضت إلى تفسيرات متداخلة له أسفر عن تفريعات يطول بنا المقام لاستعراضها، هذا حدث على مستوى عدّة اختصاصات:
ففي مجال علم أصول الفقه نقرأ مثلاً:
« قد يحتمل اللّفظُ معنى واحدًا، وقد يحتمل أكثر من معنى، فالأوّل هو المسمّى عند الأصوليّين بالنّصّ، وهذا لا إشكال في فهم المراد منه، والثاني هو المسمّى بالظّاهر، وهذا الذي يحتمل معاني متعدّدة » .
إنّ تعريف النص بأنّه مجالٌ للتّنظيم (يحتوي أفكارًا، يُشحَن بالعواطف، تنسجِم فيه المعاني) واعتبار نقيضها هو (الفوضى) يعدّ تعريفًا من التّعريفات النّابعة من ” داخل “ موضوع الوصف (تكليف المتعلِّم بضبط مظاهر الاتّساق والانسجام في تركيب فقرات النص). وهذا في ذاته يعتبر دليلاً على أنّ المعلِّم لا يتّخذه نظامًا ما ورائيًّا فحسب ولكنّه جزء من موضوع الدّراسة. إذا حاولنا الآن تعريف النّص سيميائيًّا، فإنّنا نجد أنفسنا مضطرِّين إلى التّمييز بين خطابين يبدوان متوافقيْن:
بالنّسبة للسّيميائيّين البنويّين، يبدو ـ رغم بعض الاختلافات المصطلحيّة ـ أنّ الاتّفاق تمّ حول تحديد النّص بوصفه مجموعة يؤلِّفها الخطاب، الحكاية والعلاقات القائمة بين هذيْن الموضوعيْن، المحدّديْن كطبقات دلاليّة مستقلّة نسبيًّا وقابلة بدورها إلى أن تتراتب في أصعدة متعدِّدة. في السّيميائيّة التّحليليّة، لا يُحدَّد النّص كموضوع (جماليّ أدبيّ، الخ)، ولكنّه يُحدَّد باعتباره عمليّة لسانيّة، يستوعب خاصيّة النّصيّة. يجب أن يُحدَّد موقع النص ليس في العمل فحسب (موقعه ضمن الديوان أو الفصل) بل بالنسبة إلى للقارئ. وأهمّ ما يشدّ انتباه هذا الأخير هو تلك الخاصيات النّصيّة: الانسجام، الاتّساق؛ وفي كلِّ ذلك بات من الضرورة اعتبار عنصر السياق.
3.1 النصّ والسياق:
يقول عبد الهادي بن ظافر الشهري:
« يمكن القول بدءا إنّ مصطلح السياق يطلق على مفهومين:
1. السياق اللغوي.
2. سياق التلفّظ، أو سياق الحال، أو سياق الموقف.
فالمفهوم الأول كان المفهوم الأكثر شيوعا في البحث المعاصر، فهو الجواب البدهي عندما يتبادر إلى الذهن السؤال الهام، وهو: " ما السياق ؟ إنه حسب المعجم تلك الأجزاء من الخطاب التي تحف بالكلمة في المقطع وتساعد في الكشف عن معناها، وسوف ندعو هذا التعريف النموذجي » .
ومراعاة السياق أو دراسته من جانب، أو تحليله في أذهان كلٍّ من المرسل والمرسل إليه من جانب آخر، ليس بالأمر اليسير، لأهميّته ودقّته، ولذلك يعترف كارنب (Carnap) أنّ التداولية درس غزير وجديد، بل يذهب إلى أكثر من هذا بقوله إنها قاعدة اللسانيات، إذ إنها محاولة للإجابة عن أسئلة تطرح نفسها على البحث العلمي، ولم تجب عليها المناهج الكثيرة، وقد لا تسلم من المشكلات حالها حال أي منهج لدراسة اللغة .
4.1 تعرف الاتّساق:
« يُقصَد عادة بالاتّساق ذلك التّماسك الشديد بين الأجزاء المشكِّلة لنص / خطاب ما، ويهتم فيه بالوسائل اللغويّة (الشكليّة) التي تصل بين العناصر المكوِّنة لجزء من خطاب أو خطاب برمّته. ومن أجل وصف اتّساق الخطاب / النص يسلك المحلِّل ـ الواصف طريقة خطية، متدرّجًا من بداية الخطاب (الجملة الثّانية منه غالبًا) حتى نهايته، راصدًا الضمائر والإشارات المحلية، إحالة قبلية أو بعديّة، مهتمًّا أيضًا بوسائل الربط المتنوِّعة كالعطف، والاستبدال، والحذف، والمقارنة والاستدراك وهلمّ جرّا. كلّ ذلك من أجل البرهنة على أنّ النص / الخطاب (المعطى اللغوي بصفة عامة) يشكل كلاًّ متآخذًا » .
فإذا أردنا البحث عن أثر الفعل « كان » على ما عرض الشاعر عنترة بن شدّاد العبسي (525م ـ 614م) من وقائع في الأبيات الآتية ؟
وسَيفـي كـان بالهَيْجـا طبيبًا يُـداوي مَن يشكـو الصُّداعـا
أنا العبـدُ الـذي خُبِّرت عنـه وقَد عايَنتَنـي فـدَعِ السَّماعـا
ولَو أرسَلتُ رُمحِـي مَعْ جَبانٍ لَكـان بهيبتـي يَلقى السِّباعـا
مَلأتُ الأرضَ خوْفًا من حُسامي وخَصمِي لم يَجِد فيها اتِّساعـا
إذا الأبطالُ فَرَّت خَوفَ بَأسـي تَرَى الأقطـارَ باعًا أو ذِراعا
نجد أنّه لا ريبَ أن الفعل (كان) وُظِّف قبل الأفعال المنصرفة في المضارع لتفيد الاستمراريّة وليفيد الشاعر أن ما يفخر به صفة هي لصيقة به.
وإذا عدنا إلى التساؤل بم يرتبط مطلع القصيدة بخاتمتها فنجد أنّ الاستعانة بضمير المخاطبة عزّز سبل اتّساق الأبيات « ويوجد بوجه خاص في الشعر، إلى جوار النصوص الحوارية الكاملة التي يُنشِئها أشخاص الحوار الحقيقيين، نصوص شبه حوارية، تشتمل على (ضمير) أنت ضمني » .
كما أنّ الصورة تُسهِم كثيرًا في أمر استحضار السّمات الدّلاليّة المشتركة الغالبة على النص. وشبيهٌ بِهذا ما حدث بيْن استِعمال كلِمة السِّباعـا (الأسد) كحيوان، وبِاعتبِارها دالّة على مَفهوم (الشّجاعة) في هذا السياق:
ولَو أرسَلتُ رُمحِـي مَعْ جَبانٍ لَكـان بهيبتـي يَلقى السِّباعـا
5.1 تعريف الانسجام:
إنّ محلّلي الخطاب يميلون دومًا إلى تعريف انسجام النصّ بأنّه خاصيّة من خصائص الخطابات عندما تكون سليمة البناء ، « بيد أنّ الإنجاز اللغوي المكتوب خاصة (وكذا المتكلِّم) لا يسلك دومًا السبيل، إذ كثيرًا ما يجد المتلقّي نفسَه أمام نص / خطاب لا توظف فيه الوسائل التي أسلفنا الإشارة إليها وإنما توضع الجمل بعضها إلى جوار بعض دونما أدنى اهتمام من الكاتب بالروابط التي تجسد الاتساق. على أن هذا النوع من الكتابة تمليه حينًا ضرورات تواصلية (التلغراف، الإعلانات الحائطية) أو تجارية (إعلانات البيع والكراء، والخدمات... في الجرائد)، وقد تكون خلفه، أحيانًا أخرى، مقصدية إبداعية ابتكارية (الشعر الحديث مثلاً، خاصة التوجه التجريبي فيه). حين يحدث هذا لإن الاهتمام يتغيّر من اتّساق النص / الخطاب إلى انسجامه، أي أن على المتلقّي، في هذه الحالة، أن يعيد بناء انسجام النص " الممزقة أوصاله " » .
فإذا ما سقنا مثالاً عن آيات الانسجام في النص نسأل أوّلاً ما علاقة قول الشاعر عنترة بن شدّاد : « يقول لك الطبيب » بتعبير « ما قسى النزاعا » في البيتين الآتيين ؟
يقـولُ لك الطّبيبُ: دَوَاكَ عِندي إذا مـا جَـسَّ كفَّك والذِّراعـا
ولو عَـرف الطّبيـبُ دواءَ داءٍ يرُدُّ الموتَ، ما قاسى النِّزاعـا
لقد تصوّر الشّاعر هنا حوارًا بين المخَاطب والطّبيب الذي يدّعي امتلاك سبل العلاج، وفيه نجد عناصر ستة: المخاطِب، المخاطَب، الرسالة، الوضع، المرجع، النّاقل، وهي تمثّل العناصِر الست التي تحتكّ بها الوظائف الستّ المسندة إلى اللغة؛ وهذه الظاهرة مرتبطة من جهة بقضايا تخصّ نفسيّة الشّاعر، ومن جهة ثانية بالانسجام. « إذا كان الغرض الأصلي من إلقاء الكلام هو إفادة المخاطَب أو المستمع الحكم الذي تضمنه القول، فقد نلقي الكلام لأغراض أخرى تُستفاد من سياقه. كما أن القوة اللزومية للقول قد تتسع إلى حد يعجز معه المتلقي عن الإحاطة بها كاملة. ولهذا لا بدّ من الاستعانة بالمقتضيات المقاميّة والسياقيّة بغرض استخلاص المستلزمات التي تخدم تحقيق المطالب وإدراك المقاصد من الخطاب.
أ ـ الاستلزامات المتولِّدة من معاني المفردات التي يتركّب منها القول.
ب ـ الاستلزمات المتولِّدة من البنية الدّلاليّة لهذا القول.
ج ـ الاستلزمات المتولِّدة من البنية التّداوليّة لهذا القول » .
أما الاستلزمات المتولِّدة من البنية التّداوليّة لهذا القول، فلاحظ مايأتي:
أنا العبـدُ الـذي خُبِّرت عنـه وقَد عايَنتَنـي فـدَعِ السَّماعـا
إن الشاعر يقابل بين (خُبِّرت) و(عاينتني) على مستوى اللغة، لكنّه لا يعدم قصد الحقيقة، فالانسجام يأخذ هنا بعدين. وهذه الظّاهرة قد تحمل المعلِّم على أن يعيِّن للتّلاميذ علاقة الاتساق بالتّرادف:
« والمَصدرُ الثّالِثُ [ لِلتّرادُف ] أنّ اللّفظَ قد تَرِد عليْه الحقيقةُ والمَجازُ، لأنّ المَعروفَ أنّ ألفاظَ اللُّغة مُتناهِيةٌ، وأنّ المَعاني غيْرُ مُتناهِية. ومِن المُحال أن تَستطيعَ لُغةٌ ما أنْ تُقدِّمَ لَفظًا مُنفصِلاً لِكلِّ مَعنى يَرِد على الخاطِر، [...] ولأنّ الذّاكِرةَ الإنسانيّة ذاتُ طاقة اختِزانيّة مُعيّنة لا تُمكِنها مِن استيعاب ما لا يَقع تَحت الحصْر مِن الألفاظ. فَإذا كانَ ذلِك كذلِك فلا بُدّ مِن التّوسُّع في استِعمال اللّفظ بِأن نُجوِّز بِه مَعناه الحقيقيّ الّذي كانَ لَه بِأصل الوضْع ونَستعمِله بِواسِطة هذا ” الجواز “ أو ” المَجاز “ [...] في مَعنى آخَر، تَطبيقًا لِفِكرة الاقتِصاد في الاستِعمال اللُّغويّ» .
كثيرًا ما يحقِّق الانسجام العلاقات الدلاليّة الترادفيّة وحتّى التضاديّة: (الزّمــانُ / الدّهر)، (فـلا تخـشَ المنية / اقتحمها)، (دواء / داء)، (الموت / المنايا)، (شَرَى / باعا)، (يُـداوي مَن يشكـو)، (خُبِّرت عنـه وقَد/عايَنتَنـي)، مع العلم أنّ للتّرادف سمة الاقتصاد لهذا يُسخَّر. مع التّذكير بأنّ السّياق هو الذي يعيِّن الدّلالة المناسبة من هذه الثّنائيّات التّرادفيّة والتّضاديّة.
وكذلك إذا بحثنا في أثر الضمير « هن » على البيتين من شِعر جميل بن معمر (ت.82ﻫ) في الغزل العفيف من حيث المعنى ؟
يقولون جـاهِدْ يا جميـل بِغـزوةٍ وأيُّ جِـهـادٍ غيـرَهـنَّ أريـدُ
ولِـكلِّ حَديـثٍ بينـهنَّ بشـاشـةٌ وكـلُّ قَتِـيـلٍ بَيـنَهُـنَّ شهيـدُ
نجد البعد الصّوتي النّبري بيِّنًا في هذين البيتين، فالانسجام واقع على مستوى الأصوات، وذلك ﺒ: " بتكرار صوت الهاء " بين الفعل (جاهد) واسم (جهاد) وإضافة الاسمين (بين) مع تكراره و(غير) إلى الضمير (هنّ). هذا من شأنه أن يُعدَّ مثالاً حيًّا لاستعمالٍ سيّاقيٍّ تركيبيٍّ أسلوبيّ جماليّ.
الأسلوبيّة ترى أنّ:
« الشعر اختراقٌ لنمطيّة اللّغة، فهو انزياح وتفارق عن المعيار في حدود الأدائيّة، وهذا الانزياح لا يعني انبتاتًا أو خرقًا غير محكوم للقواعد، [...]
إن التّراتُب اللّغوي المعهود يكسر انتظامه، تقديم وتأخير وحذوفات وإضافات، ولكنها جميعها يحتضنه الحقل اللّغوي الأشمل والأفسح، ومن ثمّ فالشعر كامن في اللّغة، ولكنه يبني لغة من لغة حتى جانبها الصّوتي، فالوزن الشعري ينسج تناغمًا وتآلفًا أو نسقًا خاصًّا من الأصوات سواء ما يتّصل بموسيقاه الظّاهرة أو الباطِنة » .
كما أمكن تفسير الأمر بظاهرة التشاكل والتباين.
التّشاكل والتّباين:
لقد حدّد راستي التّشاكل بأنّه كلّ تكرار لوحدة لغويّة مهما كانت « وهذا التحديد يضيف عناصر أخرى لما جاء عند " كريماص " فإذا كانت بينهما عناصر مشتركة وهي: أن التشاكل لا يحصل إلاّ من تعدّد الوحدات اللّغويّة المختلفة، ومعنى هذا أنّه ينتج عن التباين ! فالتشاكل والتباين إذن لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر. وأنّه هو الذي يحصل به الفهم الموحد والموحد للنص المقروء وهو الضامن لانسجام أجزائه وارتباط أقواله، وأنه يتولّد عنه تراكم تعبري ومضموني تحتّمه طبيعة اللغة والكلام، وأنه هو الذي يبعد الغموض والإبهام اللذين يكونان في بعض النصوص التي تحتمل قراءات متعدّدة » .
6.1 بين الانسجام والاتّساق:
« يترتّب على السّالف ذكره أن الانسجام أعمّ من الاتّساق، كما أنّه يغدو أعمق منه بحيث يتطلّب بناء الانسجام، من المتلقّي، صرف الاهتمام جهة العلاقات الخفيّة التي تنظّم النص وتولّده. بمعنى تجاوز رصد المتحقّق فعلاً (أو المتحقّق) أي الاتّساق، إلى الكامن (الانسجام) » .
فمن وجهة تنظيميّة، فإن إشكاليّة الاتّساق تدخل في علاقة ترابطيّة مع إصدار الكلام، أمّا إشكاليّة الانسجام فتدخل ضمن علاقة تلقّي الكلام .
فهكذا أمكن فحص مظاهر الاتّساق والانسجام في البيت الآتي لجميل بن معمر:
وإن قلتُ رُدِّي بَعضَ عقلي أَعِشْ به مـعَ النَّاس قالتْ ذاكَ منـكَ بعيدُ
ففعل (أَعِشْ به) لقد ورد مجزومًا لأنّه جواب طلب (أمر)، كما يمتدّ التّركيب عبر الجملة الشرطيّة في كلّ البيت:
وإن قلتُ رُدِّي بَعضَ عقلي أَعِشْ به مـعَ النَّاس جملة الشرط.
قالتْ ذاكَ منـكَ بعيدُ جملة جواب الشّرط.
وهذه الظاهرة مرتبطة من جهة بقضايا التّقدير، ومن جهة ثانية بالاتّساق.
ولا نمرِّر هذه الظّاهِر بدون التذكير بأنّه « أدرك النّحويّون العرب أنّه خلفَ التّركيب الظّاهِر يَكمُن تركيبٌ آخر في ضوئه يَتحدّد المَعنى الوظيفيّ لِعناصِر الجُملة وثمّةَ صِلة بين التّركيبيْن، وقد عرض لِذلِك ابن جنّي في بابٍ عقَده لِبيان الفرق بيْن تقدير الإعراب وتفسير المَعنى، وتقدير الإعراب مُتّصِلٌ بِالتّركيب الظّاهِر وتفسير المَعنى مُعتمِدٌ على تركيب مُقدّر وكأنّه يُشبِه تركيبًا باطِنًا قد يَختلِف النّحويّون في تصوُّرِه، ولِذا يَقولُ ابنُ جنِّي: " هذا الموضِع كثيرًا ما يستهوى فيه مَن يَضعُف نظرُه الّذي يَقوده إلى فساد الصّنعة وذلِك كقولِهم في تَفسير قولِنا: ” أهلك واللّيل “، معناه: الحق أهلك قبلَ اللّيل، فربّما دعا ذلِك مَن لا دربةَ لَه أن يَقول: أهلك واللّيل فيجرّه، وإنّما التّقدير: الحق أهلك وسابِق اللّيل " » .
2. النصّ وعلومه:
1.2 أزمة ” علم “ إنتاج النصّ:
إذا قصدنا الوقوف عند معرفة ما مِن شأنه أن يعلِّم كيف يُنظِّم المتعلِّمُ نصَّه الذي يطمح إلى إنتاجه ـ لأنّ عمليّة الإنتاج قد تنفصِل عن المنتوج الذي يطالَب صاحِبُه بأن ينظِّمه، ويعيد النظر فيه ـ أي عباراته التي يُعبِّر بها والتي يضعها ضمن شبكة من العلاقات التي تميِّز ما يُدعى ” نصَّه “، وليس مجرّد الاطِّلاع على سبل تأويل النصوص كما سيحتاج إليه المتعامِل مع نشاط ” النصوص والأدب “ ـ فيحقّ له أن يتوجّه صوبَ معرِفة متخصّصة قد يجدها في اللّسانيات، غير أنّ هذه الأخيرة تحدِّد موضوعَ بحثها في الجملة. وهي حالة قصوى، كما هي الحال عند سوسير، فإنّ ما يُمكِن أن يُعرَف لسانيًّا يتوقّف عند الكلِمة أو عند التركيب. ولقد أرادت البلاغة الكلاسيكية أن تجعل لضوابط بناء الخطاب شرعة. ولكن قصدها المعياري وإهمالها للأشكال الكلامية الواقِعيّة، جعلا ميراثها يشتمِل على قليل من المعلومات التي يمكِن استخدامها. وأخيرًا، فإنّ الأسلوبيّة، عند بالي وتقاليده، قد اهتمّت بالأحرى بتأويل العبارة وبالتعبير وليس بتنظيم العبارة نفسها. ولقد نتج عن هذا فراغٌ في ” نظريّة النصّ “، لم تملأه ملاحظات متناثِرة جاء الأدباء بها.
2.2 تقاليد الممارسة النصيّة عند القدماء:
وتشمل هذه التقاليد كلاًّ مِن الإفرازات الكتابية التي ارتبطت بفئاتٍ عديدة وكانت تستجيب لأغراضٍ متنوِّعة (محدِّثون، فقهاء، أدباء، محقِّقون، إداريون، تجّار، مراسلات، مؤلّفات علميّة وتعليميّة ..الخ).
إذا ربطنا بين النصّ والكتابة فقد لا نجد لدى جميع الثقافات الإنسانيّة (البشريّة) تقاليد نصيّة، فبعض الثقافات تكاد تخلو منها إذ تظلّ عاجزة عن الخروج عمّا كرّسه الطابع الشفهي المسيطِر عليها أو تكون راغبة عن ذلك، وقد يرجع الأمر إلى أسبابٍ يهمّ البحث فيها؛ وفي المقابل نجد إجادة وضع النصّ وإبداعه وتخريجه جزءًا من ثقافات بعض المجتمعات؛ فإثبات وجود الاهتمام بالنصوص في الثقافات العربيّة المتنوِّعة من شأنه أن يبرز أهميّتها، فبالتالي أهميّة تحليلها؛ والتاريخ يشهد على انطواء الحضارة الإسلاميّة على تسخير النصّ كوسيلة وكهدف في ذاته يفيد الوقوف عند التمييز بين حدود هذه الثنائية، كيف لا وقد لاحظ كثيرٌ من المفكِّرين لدى هذه الأخيرة بوادر الاهتمام بالنصّ وضعًا وتحليلاً وتخريجًا. هذا ما يذهب إليه حسن حنفي: ونقد النصوص عرفته الحضارة الإسلاميّة في علم مصطلح الحديث قبل أن يضع الغرب ” النقد التاريخي للكتب المقدّسة “. هذا المقتبس يذكر أهمّ العلوم التي لها فضل السبق إلى تحليل النصوص ونقدها وتخريجها وقبولها ورفضها وهو علم مصطلح الحديث: ألا يمكن البحث في غيره من الفروع العلميّة مثل فقه اللّغة على سبيل المثال ؟
1.2.2 حاجة التحليل إلى المنهج أو المقاربة أو المنظور أو القراءة:
لا بدّ أن تقوم دراسة النصوص وتحليلها على مناهج يحسن الوقوف عند أهمّها بمراعاة واقع التعاطي مع النصوص وما تسعى إليه المنظومة التربويّة الجزائريّة من استقطاب مناهج وطرح أخرى، بيد أنّ إشكاليّة المنهج قد يجوز التعرّض إليها من منظور ابستيمولوجي بحيث يُركَّز فيها على تمفصل التحليل إلى ما هو منهج وما هو مقاربة وما يُعدُّ من جنس المنظور أو ما لا يمكِن الإطلاق عليه إلاّ تسمية القراءة. وهذا كلّه بالاحتفاظ على التداخل القائم بين هذه المصطلحات.
3.2.2 الأساس التصنيفي للنّصوص الأدبيّة: قراءة في آليات الأداء التربوي المعهود واستشراف الحديث المفقود:
لماذا على الدّارِس أن يصنِّف النصوص ؟ أي ما جدوى تصنيف النصوص ؟ لا يغيب عنّا ما عمدت إليه المنظومة التربويّة الجزائريّة من إرساء قواعد تتعلّق بتصنيف النصوص يمكن تفكيك بعضها أو كلّها سواء كانت متينة أم فيها خللٌ لا يزال يتعقّبها إلى يومنا هذا رغم الإصلاحات المتعاقِبة والاصطلاحات المكرَّسة (كأن يصنَّف النصّ إلى ما هو علمي وما هو أدبيّ)، وهي قواعد لم تقصر تلك المنظومة التربويّة في شأن الخضوع لها، لكن هل كانت تراعي اجتهادات بعض الأساتذة أثناء إدارة أقسامهم بل إثر مناقشاتهم بعض التلاميذ لبعض الأسس التي تبنى عليها تصنيفات أساتذتهم ؟ ولمّا كانت تلك القواعد ـ أوّلاً وقبل كلّ شيء ـ بمثابة معايير صار العمل على اكتشافها جزءًا من تعليل التراجع الذي قد يُقدِم عليه بعض الأساتذة.
4.2.2 إخضاع تحليل نصوص القراءة في الكتب المدرسيّة لوظائفها:
يمكن توسيع الفكرة لتشمل الوظائف المحتمَلة:
النصّ ـ بوصفه كتلة لغويّة ـ يستعان به من أجل تعلّم / تعليم اللّغة.
النص ـ بصفته مقروءًا ـ يؤدّى من أجل التواصل، ويمكن هنا إجراء مقارنة بينه وبين أنظمة التواصل الأخرى مثل الاستعانة بالصورة، والسمعي البصري ..الخ.
النصّ ـ يحشد أسرارًا ولكونه مفتوحًا فهو قابل لأكثر من قراءة ـ هو أثر فنّي جميل مهمّ لذاته.
النصّ ـ باعتباره فضاءً ـ يُسخَّر كوثيقة تاريخيّة تراثيّة عاكسة.
النصّ ـ لكونه أداة تعليميّة ـ هو عالَم زاخِرٌ بالمعرفة وناقلٌ لها وملئ بالمعطيات ومنظِّمٌ لها.
5.2.2 أهمّ الكفاءات التي يُنتظَر من تحليل النصوص أن يكسِبها المتعلِّمَ:
نقصد هنا بالكفاءات تلك القدرات التي يناط بالمعلِّم أن يلقِّنها تلاميذه وأن يسهر على تنميّتها، وذلك بتسخير جميع الوسائل المتاحة بما فيها الكتاب المدرسيّ الذي تودَع فيه النصوص، وهي:
الفهم والاستيعاب: النص خزين الدلالات، والبحث عنها يشغِّل الذهن ويقوّي كفاءة التفكير .. الخ.
الكلام أو المحادثة: اللّغة ممارسة، فالتعليق على النصّ: شكله ومضمونه يعوِّد اللّسان على عبارات لغويّة أصيلة ..الخ.
القراءة: تتيح فرصة الإمساك ببنية النصّ وتعالقاته التي تتجلّى على المستوى التركيبيّ، وبالتالي التعويد على أداء البنى اللّغويّة، كما أنّ لمس النص عن طريق القراءة يساعد على تقويم الخطأ وملاحقته ..الخ.
الكتابة: قد تكون غاية إدراج النصوص لقراءتها وفهمها والتعليق حولها وإثارة موضوعات جديدة على هامشها من أجل إبداع نصوص جديدة ..الخ.
6.2.2 تحليل النصوص والإعلام الآلي:
إنّ ” معالجة النصوص “ مصطلح يصطلَح به في ميدان الإعلام الآلي على إدخال المعطيات المختلفة في الحاسوب ومعالجتها باستعمال نظام مكيَّف للآلة لكنه ليس ببعيدٍ كلَّ البعد عن المألوف من ترتيب المعلومات والرّبط فيما بينها عن طريق النصوص المكتوبة (المسجَّلة في الكتب)، فهل الإعلام الآلي يفيد في القضايا الشكليّة في إخراج النص فحسب أم أنّه يمسّ المضمون أيضًا ؟ وكيف ؟ بل إنّ الأولى تكاد تكون من وحي ما طوّرته المناهج إثر نظرها في الثانية؛ كيف وقع ذلك ؟ هنا يصحّ طرح سؤالٍ عن مصير هذا النوع من النصوص ونحن في عصر الانترنت ؟ (هذا الفصل يظلّ مفتوحًا على نفسه نظرًا لتعدّد الاختصاصات التي لها شرعيّة البحث فيه ولسعة آفاقه).
- foufou90مشرفة المرسى العام
- البلد :
الجنس :
عدد المساهمات : 3749
نقاط تميز العضو : 148155
تاريخ التسجيل : 24/10/2009
العمر : 34
رد: التعبير ولسانيات النصّ
09/01/10, 01:30 pm
شكرا اخي اسماعيل مواضيع في القمة وقيمة بارك الله بك وبقلمك دمت ودام تالقك ...تقبل مروري المتواضع اختك فوفو
- رعاش المباركعضو جديد
- البلد :
عدد المساهمات : 2
نقاط تميز العضو : 107191
تاريخ التسجيل : 22/03/2010
رد: التعبير ولسانيات النصّ
01/04/10, 07:47 pm
شكرا
- hamzabenzعضو جديد
- البلد :
عدد المساهمات : 1
نقاط تميز العضو : 102070
تاريخ التسجيل : 03/12/2010
رد: التعبير ولسانيات النصّ
03/12/10, 03:40 am
مشكووووووووووووووووووووووووووووووووررر...و بارك الله فيك
- طه بوصوارعضو جديد
- البلد :
عدد المساهمات : 7
نقاط تميز العضو : 97412
تاريخ التسجيل : 26/07/2011
رد: التعبير ولسانيات النصّ
05/08/11, 07:15 pm
مشكوووووووووور و بارك الله فيك
- إسماعيل سعديمدير الموقع
- البلد :
الجنس :
عدد المساهمات : 3758
نقاط تميز العضو : 150694
تاريخ التسجيل : 03/04/2009
رد: التعبير ولسانيات النصّ
05/08/11, 07:34 pm
شكرا لكم على المرور العبق .
- شريك الروحعضو جديد
- البلد :
عدد المساهمات : 1
نقاط تميز العضو : 94090
تاريخ التسجيل : 06/01/2012
رد: التعبير ولسانيات النصّ
06/01/12, 09:38 pm
بارك الله فيك
- عبدالله حسن الذنيباتمشرف علوم العربية و آدابها
- البلد :
الجنس :
عدد المساهمات : 973
نقاط تميز العضو : 123687
تاريخ التسجيل : 08/07/2009
العمر : 39
رد: التعبير ولسانيات النصّ
06/01/12, 09:49 pm
بوركت جهودك أخانا الكريم
إلى الأمام دائما
إلى الأمام دائما
- إسماعيل سعديمدير الموقع
- البلد :
الجنس :
عدد المساهمات : 3758
نقاط تميز العضو : 150694
تاريخ التسجيل : 03/04/2009
رد: التعبير ولسانيات النصّ
06/01/12, 10:04 pm
سعدت بمرورك أستاذنا الفاضل عبد الله حسن الذنيبات .
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى