مرسى الباحثين العرب
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
النَّقد الحرّ عـند رولان بارت ـــ محمَّد عزَّام Support
دخول

المتواجدون الآن ؟
ككل هناك 42 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 42 زائر :: 1 روبوت الفهرسة في محركات البحث

لا أحد

أفضل 10 أعضاء في هذا المنتدى
محمد - 7229
7229 المساهمات
بتول - 4324
4324 المساهمات
3758 المساهمات
foufou90 - 3749
3749 المساهمات
1932 المساهمات
1408 المساهمات
1368 المساهمات
1037 المساهمات
973 المساهمات
535 المساهمات

اذهب الى الأسفل
بوعلام م
بوعلام م
مشرف المرسى الجامعي
البلد : النَّقد الحرّ عـند رولان بارت ـــ محمَّد عزَّام Btf96610
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 374
نقاط تميز العضو : 102441
تاريخ التسجيل : 08/09/2011
العمر : 42

النَّقد الحرّ عـند رولان بارت ـــ محمَّد عزَّام Empty النَّقد الحرّ عـند رولان بارت ـــ محمَّد عزَّام

21/03/12, 03:58 pm

مجلة الموقف الأدبي - مجلة أدبية شهرية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق - العدد 348 نيسان 2000


النَّقد الحرّ عـند رولان بارت ـــ محمَّد عزَّام
جاء هذا المنهج النقدي ردّاً على المنهج البنيوي (الشكلي) الذي حصر اهتمام النقد كله في النّص وحده، وأهمل ماعداه من سياق، أو تفسير لنفسية المبدع، أو للظروف الاجتماعية والبيئية التي نما فيها الإبداع.‏
وكما حاول (النقد السيميائي) التخلص من انغلاقية المنهج البنيوي الشكلي، حين راح يستبطن أعماق الدلالات والعلاقات كرموز أدبية، فإن النقد البنيوي التكويني أيضاً حاول ربط الإنتاج الأدبي بالبيئة الاجتماعية التي أبدعته. ومثلهما حاول (النقد الحر) الخروج من صرامة الوصفية والمثولية إلى تداعيات حرة تبدأ بالتعاطف العفوي مع النّص المقروء وتمرّ بالدراسة الموضوعية، وتنتهي بالتفكير الحر الطليق.‏
ورولان بارت هو أول من قال بهذا المنهج (المنهج الحر) في النقد الأدبي. ومن المعلوم أن رولان بارت R. BARTHES (1915-1980) ناقد فرنسي وكاتب لامع لايمكن حصر اهتماماته. وأنه كان حديث العالم كله في الفكر النقدي والأدبي. وقد تقلّب بين مذاهب فكرية وأدبية عديدة: الوجودية، والماركسية، والبنيوية، والألسنية، والنّصية. وهو في مراحله جميعاً يحاول تجاوز حدوده السابقة، ويتأبّى على التصنيفات الجاهزة. وحتى ضمن المنهج النقدي الواحد فإن له اجتهاده وخصوصيته.‏
ورولان بارت هو لحظة باهرة في تاريخ النقد الأدبي المعاصر في أعين عشاق الأدب. كان يقول: "كل منهج كبير هو نوع من التخييل". ولهذا فكثيراً ما اتّهم بتفسير منهجه وطريقته وموقفه، والقفز من منهج نقدي إلى آخر بلا سابق إنذار فحسب، بل يرغب في أن يتجاوز الإنسان نفسه باستمرار، وأن يكون من المناهج والمذاهب، مادام هو الذي يبدعها، والمبدعون أكبر من المذاهب، ماداموا هم الذين يرسمون حدودها. ولهذا كان من الصعب على المبدع الكبير أن يُستوعب في قالب محدد، لأنه يرى القوالب قيوداً على الإبداع. وهكذا كان رولان بارت ناقداً فذّاً أكبر من المناهج والمذاهب، وإن لامسها حيناً، وفارقها أحياناً. فقد بدأ بالنقد (البنيوي الشكلي)، فالنقد (السيميائي) فالنقد (النّصّي) فالنقد (الحرّ) حيث تاق إلى التحرر من سلطة أي منهج نقدي، وترك العنان لخياله ورؤاه في أن يجوب آفاق النّص المفقود، ويبدع النّص الثاني من خلال النّص المقروء، علماً بأن هذه المراحل لم تكن منفصلة عن بعضها بعضاً، وإنما هي متداخلة عبر العقود الثلاثة التي أنتج فيها بارت نصوصه النقدية. وكان بارت يقول: "إذا أردت أن أحيا فإن‏
عليّ أن أنسى جسدي وتاريخي، عليّ أن أقذف بنفسي في وهم أنني معاصر للأجساد الفتية الحاضرة، وليس معاصراً لجسدي الماضي. عليّ أن أولد دورياً، وأن أكون أكثر شباباً مما أنا عليه".‏
(من خطاب بارت الافتتاحي لدرس السيميولوجيا الأدبية عام 1977).‏
هكذا كان بارت في تحوّل فكري دائب. لايتجمد عند حدود مرحلة بعينها كما كان يفعل كثير من الأدباء والنقاد الشيوخ الذين تصلّبت شرايينهم وآراؤهم. بل كان دائم الحركة والحيوية والشباب في خضم الحياة الثقافية والنقدية. وهكذا انتقل بارت من مرحلة النقد البنيوي، فالنقد السيميائي، فالحرّ.‏
1-مرحلة النقد السوسيولوجي:‏
الثقافة التي كانت موجودة، في بداية الخمسينيات على الساحة الفرنسية، هي الوجودية والماركسية. وكلتاهما تؤمن بالالتزام. لكن النقد كان مايزال جامعياً (كلاسياً). ومن هنا، محاولة بارت البحث عن تقييم نقدي جديد للكمّ المتراكم في الثقافة الفرنسية يضع في اعتباره تأصيل البعد التاريخي للحدث الاجتماعي والسياسي، وذلك بإسقاط أقنعة (الشمولية) عن المستجدّات الخاصة واستنباط (ماوراء الكلام)، عبر نشر لغة نقدية جديدة تستلهم شروطها من الوجودية والفرويدية والماركسية، وتتناقض مع الثوابت النقدية والموروث الكلاسي. وقد وضع بارت في هذه المرحلة كتابه (درجة الصفر في الكتابة) 1953 الذي يعتبر البيان (المانيفستو) السوسيولوجي لبارت، حيث يؤكد فيه أهمية الإبداع الأدبي من خلال لغة الكاتب، ويحاول الجمع بين السوسيولوجيا الأدبية والألسنية، في محاولة للكشف عن جذور اللغة والأبعاد التاريخية لها، في محاولة لفضّ اشتباك الأسلوب بالمضمون، وتأكيد على أن للكتابة حياتها الخاصة المستقلة عن حياة مبدعها.‏
وقد طرح بارت، في هذه المرحلة، فكرته عن (درجة الصفر في الكتابة)، وهي تتضّمن (الكتابة البيضاء) المحايدة، البريئة، المجرّدة من الأفكار المقبولة، والتي استخدمها ألبير كامو في روايته (الغريب)، كجواب مناسب، ارتآه آنذاك، لسؤال جان بول سارتر في كتابه (ما الأدب؟).‏
كان بارت يرغب في (تحرير) النصوص من الاختبارات الاتفاقية، بحثاً عن كتابة (خاصة) مستقلة عن حياة مؤلفها، بعد أن انفجرت الكتابة الكلاسية، وأصبح الأدب إشكالية اللغة. وقد استطاع بارت الجمع بين خطاب العالِم المحلل، وخطاب الناقد، بفرض توضح تبعية الكتابة لما هو خارج الذات، وقد احتلّ هذا الكتيّب، لدى جيل الطليعة الفرنسية، نفس المكانة التي احتلّها كتاب سارتر: ما الأدب بالنسبة لجيل الأربعينيات.‏
2-مرحلة النقد البنيوي:‏
يُعنى المنهج البنيوي في النقد بدراسة (البنيات) اللغوية، وإبراز (العلاقات) التركيبية بين عناصر الجملة، دون أن يهتم بالجانب الدلالي الناتج عن تغيير التركيب. وهو يعتبر (النّص بنية ذات دلالة). فيحصر همّه في دراسة النّص وحده، مستبعداً عنصرين على الأقل أسهما في الابتعاد عن (أدبية) الأدب، هما: المبدع، والظرف الاجتماعي، ويدرس (العلاقات) بين العناصر، ويكشف الروابط القائمة بين الأبنية‏
المختلفة، وذلك بهدف فهم حقيقتها، والتحكم فيها، ثم إعادة ترتيبها وتركيبها في (بناء) كلّي جديد.‏
هكذا تبدو أهمّ مميزات النقد البنيوي في أنه يخلّص النقد من أهواء الناقد ومعتقداته الخاصة، كي لايصبح النقد صورة عن أفكار الناقد كما يخلّص النّصّ الأدبي من ظروفه الاجتماعية، ويسبغ عليه الصفة العلمية الانطباعية والتأثرية.‏
ويُعد بارت أبا النقد البنيوي الفرنسي. وقد وضع فيه كتابين هما (عن راسين: محاولة في نقد البنية) 1963، و(التحليل البنيوي للقصص) 1966 في كتابه (عن راسين) وضع بارت نفسه داخل العالم الراسيني، ليصف سكانه، دون أي مرجع خارجي. وغايته تأسيس نوع من الأنثربولوجيا الراسينية: بنيوية وتحليلية في آن: بنيوية في موضوعها، لأن المأساة تُعالج هنا باعتبارها نظاماً من الوحدات الوظائف. وتحليلية لأن لغة التحليل هي وحدها اليوم مستعدة لاستقبال خوف العالم.‏
وفي كتابه (التحليل البنيوي للقصص) حلّل بارت مفاهيم السرد، ولغة السرد، ونظام السرد، والأعمال (الشخصيات الروائية)، والوظائف (الوحدات) تحليلاً علمياً دقيقاً وصارماً، يمكن أن يكون نموذجاً يُحتذى في التحليل البنيوي للقصص.‏
**‏
3-مرحلة النقد السيميائي:‏
أصبحت السيمياء منهجاً في المعرفة، هدفه وضع حقائق صالحة لكل الحقول التي تُستعمل فيها الأنظمة العلامية: اللغوية، وغير اللغوية. وهذا ما يذهب إليه بارت الذي يعتبر السيمياء علماً يستمدّ أصوله النظرية من الألسنية، لأنه فرع منها، ويعتبر (النّص) الأدبي مشتملاً على بنيتين: ظاهرة، وعميقة، يجب تحليلهما، وبيان مابينهما من (علاقات)، لأن انسجام النّص الأدبي ناتج عن تضمّنه بنية عميقة محكمة التركيب.‏
وتتألف (البنية الظاهرة) في النّص الأدبي من الصياغة التعبيرية، فينبغي على الناقد تحليل خصائص هذه (البنية)، وعلاقة اللغة بالسياق الخارجي. أما (البنية العميقة) فتشتمل على القوانين التي يخضع لها العالم السردي، حيث يتم تحليل البناء الوظيفي، والعلاقات بين الفاعلين.‏
في كتابه: ميثولوجيات (1957) يحلل بارت بعض عناصر الحياة البورجوازية المعاصرة، كالأزياء والمسرح والملاكمة والأدب والصحافة والطعام والزواج... الخ. وكيف تحولت إلى (أساطير) في حياتنا اليومية، فيسقط عنها القناع الأيديولوجي للبورجوازية معتبراً الأسطورة نظاماً سيميولوجياً، ولغة مسروقة.‏
وفي كتابه: مبادئ السيميولوجيا (1965) يسهم بارت في إرساء دعائم هذا العلم الجديد، مع أقطاب البحث السيميائي في النقد الأدبي، أمثال كريستيفا، وجينيت، وفيرون، وغيرهم، فيعرض للسان والكلام، وللّدال والمدلول، وللمركب والنظام... الخ.‏
وفي كتابه: نظام الموضة (1967) يدرس -تطبيقياً- الأزياء النسوية في مجلات (الموضة): بقصد البحث عن المعنى الذي يمكن أن تنطوي عليه عناصر الزّي.‏
وفي كتابه: امبراطورية العلامات (1970) الذي خصصه بارت لتحليل مشاهداته في اليابان، بعد زيارته لها. ينتصر فيه للشعري، والباذخ، والهايكو. يثبت قدرته العجيبة على النفاذ، عبر سطح الأعمال‏
الأدبية والمرئيات، إلى قراءة عميقة لبلد لم تُتح له الإقامة الكافية فيه. وقد دلّل فيه على إمكانية فائقة في التغلغل، عبر المرئيات، لتخطيط العقلية الإشارية للمجتمع الياباني.‏
4-مرحلة النقد الحر:‏
هي المرحلة الأخيرة من النقد البارتي، حيث وجد نفسه أكبر من المناهج النقدية التي تجاوزها، بعد أن خلّف على كل منها بصماته الشخصية، وترك لخياله العنان ليحلّق في فضاء (منهج نقدي حر) يؤكد فيه إرادته في الوصول إلى مرحلة الأديب، حيث لايظل النقد (خطاباً حول خطاب)، وليس تعليقاً حول النّص المقروء، وإنما يصبح النقد إبداعاً جديداً لنصّ جديد، يوازي النّص المقروء، لايشرحه أو يفسره، ويتجاوز فيه الناقد ذاته إشارة حرّة، يملؤها بدالّ عائم لايُحدّ بمدلول. ولهذا جاءت كتابات بارت النقدية، في مرحلته الأخيرة، إبداعاً نصّياً، مثلما هي أعمال نقدية وتنظيرية، وشملت مسائل الفكر المعاصر، ليس في الأدب وحده، وإنما أيضاً في السوسيولوجيا والسيميولوجيا والثقافة بشكل عام.‏
وقد انصرف بارت، في هذه المرحلة، إلى النصوص ومتعتها. وكان ذلك بمثابة انصراف عن السياسة، فإخفاق إضرابات الطلاب في أيار 1968 في فرنسا أحدث انقسامات، وأعقب يأساً وشعوراً بعدم جدوى العمل السياسي، فجنح المفكرون إلى الانسحاب نحو مساعٍ أكاديمية، وأنشطة أدبية. واتجه بارت نحو (النصوص) ولذّتها، وعالج قضية (تحرّر) القارئ والناقد.‏
كان بارت، في بداية السبعينيات، قطب مجموعة مجلة (تل كل Tel quell) التي تحوّلت (ثورتها الثقافية) الماويّة إلى اهتمام بتفاعل النصوص وقوة اللغة، بعد أن آمنت بضرورة التركيز على اللغة لإعادة خلقها، وتحرير قوتها الفاعلة في تشكيل طليعة ثقافية تسعى إلى تغيير المجتمع، وتتمثل هذه المجموعة بمثقفي اليسار الراديكالي الملتزم بالفعل السياسي: جوليا كريستيفا وفيليب سولرز وغيرهما. في حين أخذ بارت يتجنّب الالتزام السياسي، حيث أطلق على نفسه صفة (مؤخرة الطليعة).‏
لقد حاول بارت التخلّص من منهجية النقد السيميائي ودلالاته، ليصل إلى (النقد الحر) الذي جعله يستغرق في متعته لذيّة خاصة، بعد أن تحرّر من المناهج النقدية والتقدمية، واليسارية، والسارترية، والماركسية، والتحليل النفسي... من أجل أن ينغمس في اللغة وحدها، ويستخرج المحتوى اللاواعي من اللغة الواعية، ويخلق لغات شارحة لفصول جديدة في لذّته النّصّية، مستمتعاً بالقراءة على نحو يغدو معه النّص موضع لذته ومنطلقاً لتأملاته.‏
بيد أن اللاأيديولوجيا إذا كانت هي نفسها (أيديولوجيا)، باعتبارها اختياراً فكرياً. فإن اللامنهجية هي أيضاً (منهج)، باعتبارها قراراً حراً يرغب صاحبه في التحرّر من المناهج والأيديولوجيات، لينطلق دون قوانين أو قواعد، لأنه يرى نفسه أكبر من القوانين والقواعد. هكذا وجد بارت المناهج النقدية ليست أكثر من إمكانيات للفهم فحسب، وأنه يمكن تعدّد هذه المناهج وتطويرها، وتجاوزها وهكذا تجاوز بارت (النقد السوسيولوجي) حين وجده يركّز على المؤثرات الخارجية على النّص أكثر من تركيزه على النّص وحده.‏
وحين وجد النقد البنيوي الشكلي ينحصر في النصّ وحده، لايتعدّاه ويغلق الأبواب والمنافذ على النّص، تبنّى (النقد السيميائي) الذي يوفّر له حرية أكبر في الانطلاق وراء الدّال والمدلول والدلالة ويجعل‏
النّص مفتوحاً على اللغة والعالم، ويرى فيه تحوّلاً لامحدوداً للمدلولات، من خلال تحرّك الدّال الذي ينطلق بطاقة غير محدودة، ولذلك فهو غير قابل للانغلاق أو التمركز، وفيه تحقّق النّص حدّاً غير قابل للتحجيم من الدلالات الكليّة، لأنه مبنى على الاقتباسات المتداخلة مع النصوص الأخرى، ومن الإرجاعات والأصداء، ومن اللغات الثقافية، ولذلك فإن النّص يستجيب للانتشار والتوسع. وهنا لايعود المؤلف رمزاً لأبوّة النّص، ولايعود البداية ولا الغاية، وإنما يعود المؤلف إلى نصّه كضيف فقط، لأن النّص أصبح مفتوحاً على الدلالات، وأصبح كل قارئ ينتج نصّه الذي يبنيه على النّص الماثل. بيد أن بارت حين وجد (المنهج السيميائي).محصوراً بآفاق الدلالة، تجاوزه إلى (النقد الحر) الذي ينطلق فيه الناقد، كما الأديب المبدع، في إبداع نصوص قديمة جديدة توازي النصوص المنقودة.‏
ويعرّف بارت (الحداثة) بأنها: "أن تجرّب كل أزرار الترانزيستور عساك تلتقط محطة ما". وقد أوصلته مطاردة المعاني إلى أن يفكّر بعالم معفى من المعنى، كما يُعفى المرء من الخدمة العسكرية. ولهذا راح يحلم بالاستراحة من الدلالات، ليصل إلى البياض المطلق، والكتابة النفي أو المحو أو الحياد أو التلاشي أو (درجة الصفر). ووجد ذلك في شعر مالارميه، فاعتبره (هاملت) الكتابة الحديثة التي انطلقت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.‏
كتب بارت مرة: "يجب أن ننفصل عن عالم الدلالات الحزين، وندخل هذا الخيال العقلاني محبة الرغبة ومطالب الجسد. آنذاك يكون النّص، وتكون نظريته". وهذا يعني الخروج بالنص الإبداعي من مأزق التنظير الجاف، إلى متع الأشواق ولذائذ الرغبات. وهكذا خرج بارت من دلالات المجتمع إلى دلالاته الخاصة وتوجّه من (ميثولوجيا) المجتمع الحديث إلى صمته الداخلي وحقيقته الخاصة.‏
وفي مرحلة (النقد الحر) هذه يجعل بارت القراءة عملاً من أعمال الذاكرة، توقظ المعاني والرسوبات السابقة، داخل توالد مستمر للنص نفسه، وبهذا ينجو القارئ من سجن اللغة، ويتجه نحو حرية نسبية في علاقته مع الكاتب، حرية النّص الذي يتحول إلى كائن حيّ مستقل، ينبض في كل الاتجاهات، دون أن تكون هذه الحركة عبثاً.‏
ومثل هذه القراءة تخلّص النّص من القراءة الاستهلاكية السريعة التي لاتسمح إلا بقراءة واحدة للنص. هكذا يمكن أن يتحوّل القارئ، بعد عشرات القراءات، إلى منتج للنص، أي إلى كاتب، فيخرج من دائرة استهلاك الثقافة المنشورة وتصير (لذّة النّص) نوعاً من شرود القارئ، حتى إنه ليجد في ماليس بمقروء نصّاً، يقول بارت: "لقد أحسست بوعي قوي للنصّ والنّصية في أحد وديان المغرب، حيث كانت تصلني مجسدة فرجيلية: عصافير، وصراخ بعيد للأطفال، وحفيف أوراق شجر الليمون. ولكن على مدى النهار، بأكمله -أسمع صوت محرّك المضخة الرتيب. هذا هو النّص. إنه قصيدة ريفية تتقطعها آله ما".‏
وهكذا تحول بارت إلى كاتب انطباعي، يلاحق نبض جسده المتواتر مع تقدّم النّص. لقد ارتاح من علم الدلالات، إلى (اللذة) المارّة عبر الجسد، جسد الكلمات والقارئ. لقد انقاد للذات التي لم يبق لها من شيء سليم في هذا العالم المفكك. وعلى ضوء هذا (المنهج الحر) الذي اعتمده بارت خلال العشر سنوات الأخيرة من حياته، وضع كتبه النقدية: ساد، فورييه، لويولا (1971)، ولذة النّص (1973)، والغرفة المضيئة (1980). وفيها جميعاً يؤكد رغبته، كقارئ ناقد في الانطلاق إلى آفاق يوحي النّص، حتى يصل إلى مرحلة (عشق النّص)، حيث (لذة النّص) ومتعته، وحيث يجمع الناقد بين الفنان والشاعر والروائي‏
والفيلسوف متحداً باللغة، وحالاً فيها، وجاعلاً تجسيداً لذاته ونفسه. وبذلك يدخل عالم الإبداع الأدبي، بالإضافة إلى عالم النقد الجديد.‏
في كتابه (ساد، فورييه، لويولا) يكشف بارت عن (ائتلاف الاختلاف) بين الكاتب الجنسي (المركيز دي ساد) والطوباوي (فورييه)، وقديس الجزويت (لويولا)، ويجعل وجه الشبه بين هؤلاء الثلاثة صارم لاهوادة فيه ولا مرونة.‏
وهؤلاء الكتّاب الثلاثة متعارضون، ظاهرياً، في كل شيء: فالكاتب الشيطاني (ساد) هو أشهر كاتب جنسي يتلذّذ بتعذيب غيره، حتى لقد نسبت (السادية) إليه. والطوباوي العظيم (فورييه) اشتراكي يحلم، بمجتمعات خيالية ينال الفرد بقدر مايعمل. وقديس الجزويت (لويولا) راهب ديني خلّف تمارين ورياضات روحية. فما الذي يجمع بينهم، رغم تنافرهم؟‏
إنه رغبتهم في (الكتابة) حيث لايكبت كل منهم رغبته، بل يكتبها، وحيث تشكل الكتابة لدى كل منهم ملجأ وموقداً لانبثاق النار الكتابية. كتابة يكفّ فيها منهم عن أن يكون ماهو عليه، فيتحرّر من الأغلال التي تعطيه صفته العامة. يقول بارت: "إن التدخل الاجتماعي لنصّ ما لايُقاس بشعبية الاهتمام به، ولا بوفاء القوانين التي يخوّلها لنفسه مجتمع أيديولوجيا وفلسفة لتنسجم معهم هو أنفسهم في أجمل حركة معقول تاريخي، وهذا التجاوز اسمه: الكتابة". (ساد ص16).‏
هكذا يرغب بارت في أن تقدم (الكتابة) نفسها بوصفها تحريضاً للخطاب الأيديولوجي السائد، وفعلاً صريحاً للتحرّر الثقافي، ويرغب في أن يصبح قارئه واحداً من هؤلاء الثلاثة، فيشكّل النّص على هواه، وفقاً لنظام تلذّذه، سعياً وراء اقتصاد تلذّذ أعلى، ينسى فيه النّصّ مهامه الفكرية، ويلبس بعده الإيحائي.‏
وفي هذه المرحلة الأخيرة من حياة بارت النقدية، (مرحلةu أعل النقد الحر) ينبذ بارت بداياته في الاستعمال السوسيولوجي والأيديولوجي للغة، ويستمرّ في إنتاج النصوص التي أصبحت هي ذاتها موضوعاً خالصاً للذّة، التي ترتبط برسالة النّص والسرّية للمركيز دي ساد. حيث لاتدور حول جنس فعلي، بل حول حال مكتف بنفسه، ولا يهتم بارت بساد كفرد، بل كمرسل لسنّة يتناولها بالدراسة.‏
والوصل بن هذه الشخصيات الثلاث انتهاك صادم للمحرّمات يُراد به دغدغة حواس القارئ، ويتكشف عن مستويات متباينة من السخرية التي تخايلنا دلالاتها النابعة من التعارضات. وهو يقترح، على نحو ما فعل في س/ز وماسوف يؤكده في (لذّة النّص) بأن يقوم القارئ بالإسهام في وقائع النّص.‏
ولكي يغدو القارئ قادراً على خلق سياقات مؤتلفة ومختلفة، وعلى نحو تصبح معه كل قراءة بمثابة تحدّ لذاكرة القارئ، بحيث يغدو النّص نفسه نصّاً داخلياً أكثر من كونه نصاً نهائياً أو محدداً، أن القارئ يفسّر النّص بطريقته الخاصة ويحرص بارت على ألا يكون الربط بين ساد وفورييه ولويولا مصدراً لأي حكم بالقيمة ماعدا القيمة الفنية التي تجعل منهم مؤسسي لغة تخلق معنى جديداً. وإنه ليريد (تحرير) هذه الشخصيات ليجعل منها شخصيات (محتملة)، و(ائتلاف) الاختلاف بينها، ليظهر أن الكاتب الشيطان (ساد) يشبه الطوباوي العظيم (فورييه) الذي يشبه بدوره قديس الجزويت (لويولا)، لأنهم جميعاً يقيمون اللذة والسعادة على أساس نظام صارم، وأن لغتهم لا يمكن فضّ مغاليقها إلا بمساعدة السيميولوجيا، لأن (فورييه) مثلاً يقسم النوع الإنساني إلى 1620 عاطفة ثابتة، و(ساد) يقسم الاستمناء إلى أوضاع وأشكال ووقائع، و(لويولا) يمزق الجسد الذي تتعرّفه الحواس الخمس.‏
لقد أصبحت (لذة) بارت في اللعب بالكلمات، حيث يتغمس في اللغة وحدها، فيستخرج المحتوى اللاواعي من اللغة الواعية، ويخلق لغات شارحة لنصوص جديدة، وينغمس في لذّته النصية، مستمتعاً بالقراءة، ومؤكداً أن (الكتابة) ممارسة شهوانية. وتنفجر هذه اللذة الجنسية في كتابه (لذّة النّص)، وإن كانت بدورها قد وجدت في كتبه السابقة، فقد اعتبر بارت، في كتابه (درجة الصفر في الكتابة) أن الأسلوب الفلوبيري إيقاع مكتوب يخلق نوعاً من السحر، يمسّ حاسة سادسة. أدبية بصفة خالصة، حاسة باطنية بالنسبة لمنتجي الأدب ومستهلكيه.‏
وكذلك فإن (القراءة) هي عمل شهواني أيضاً، وهي حركة للرغبة، اتصال خفي بين ذات وذات، فالقارئ يخضع منحنيات الكتابة لشهوانية رغبته. ويؤكد بارت أن المعنى المنقول ليس مهماً، وإنما المهم هو النقل ذاته، حيث إيحاؤه وشعريته وأسلوبيته، وذلك أن الكلمات تشعّ في ماحولها، وتصبح فراشات ملوّنة، تحمل على أجنحة الحلم ناظرها وقارئها في مرحلة لذّته إلى آفاق قصيّة.‏
هل يمكن للنص المكتوب أن يفتض بكارة القارئ؟ نعم، وحتى لقارئ ناقد متمرّس مثل بارت. فقد انبهر، بشكل مفاجئ، بالبروز المجنون.لأثاث ليلي في نص فورييه، فصرخ: "لقد استحوذ الشكل عليّ" (ساد ص96). هذا يعني أن فعل القراءة هو فعل شهواني ناتج عن الرغبة في البحث حيث يظل الجسد مستنفراً حتى يحقق رغبته الخاصة. وكذلك يظل القارئ في سفر الرغبة، يفتش عن متعة النّص حتى يجدها. وقد لايجدها إذا ماكان النّص ضئيل القيمة الفنية.‏
لهذا يؤكد بارت ضرورة تثمين الأعمال الأدبية، انطلاقاً من الدّقة الوضعية للتفصيل، والإشارة المرهفة والدقيقة والمتميزّة وهي تبرز الرغبة الجسدية في اللحظة التي يهدّد فيها المعنى بالارتقاء على حساب الشهوة الحسّية، وذلك أ ن صفة اللون أو الطعم أو صورة الشيء الدقيقة، هي ماتبعث الشهوة، وبالتالي اللذة، في أوصال القارئ الذي ينبغي أن يكون على قدر عال من الثقافة الفنية والعامة، بالنّص الجيد، يقول بارت: "تتدلّى الكلمات كأجمل ماتكون الفواكه من الشجرة اللامبالية للمحكي. وذلك في العمق هو حلم الكاتب". (مقالات نقدية جديدة ص113).‏
إن التلميح لأشد متعة من التصريح، وإن التلويح لأكثر إثارة من الظهور المباشر، فقد لاتكون اللذة في وصف الوعي، أو في وصف المناطق الجنسية من الجسد، ولكن في ترك (الشيء) يُرى بعين الخيال، وليس بعين الكاتب، من خلال، ودون الكشف عنه، كما في: "انحسر الثوب عن...." إن النقاط المتعددة المرصوفة إلى جانب بعضها بعضاً تتيح لخيال القارئ أن يملأها بما يشاء من رغبة لذّية، بخلاف الأمر إذا ملأها الكاتب بأوصاف جنسية تمنع القارئ من بهجة التخييل. وكما كنا نبحث، نحن صغار، عن قلب الشوكولا المخبوء، فكذلك يبحث القارئ عبر السرد والتشويق عن الرمز والمتعة، وينتظر من ذلك الجزء المخبوء ضمن النّص الأدبي.‏
في كتابه: لذّة النّص (1973) لايعرض بارت مذاهب اللّذة والسعادة في الفلسفة والفكر الإنساني، ولا ينشئ نصوصاً لذّية، وإنما يكتفي بالحديث "عن اللذّة، لذة النّص الكتابي، دون أن يتعرّض للذائذ الجسد، يقول بارت: "أحب النّص، لأنه بالنسبة إليّ هو هذا الفضاء اللغوي النادر الذي يغيب فيه كل شجار وتغيب فيه كل مماحكة لفظية. ليس النص أبداً حواراً، وليس فيه من مخاطر المراوغة والعدوان والمساومة. وإذا‏
كنت قد قبلت أن أحكم على نصّ ماحسب اللّذة، فأنا لاأسمح لنفسي بالقول: هذا نص جيد، وذاك نصّ رديء، إذ ليس ثمة قائمة للجوائز، كما أنه ليس ثمة نقد".‏
ويتساءل بارت: لكأن فكرة اللذة لم تعد تغري أحداً، ولكأن مجتمعنا الرصين والعنيف قد أصيب بالبرود الجنسي. ولكن بارت يميّز بين (نصّ اللذة) و(نص المتعة) فالأول هو ذلك الذي يهب الغبطة، ويُرضي. إنه النّص المنحدر من الثقافة، فلا يحدث قطيعة معها، ويرتبط بممارسة مريحة للقراءة. بينما يضعك (نص المتعة) في حالة ضياع. ويحيل الراحة رهقاً، وينسف الأسس التاريخية والثقافية والنفسية للقارئ، كما يزعزع قيمه وذوقه وذكرياته، ويؤزم علاقته باللغة. فهل يمكن جمع (اللذة) و(المتعة) معاً؟‏
إن ذاتاً تحاول ذلك لهي ذات تنطوي على مفارقة تاريخية، وهي ذات منحرفة. ذلك أن (لذة النص) أو (نص اللذة) هي تعبيران ملتبسان، إذ لا توجد في اللغة الفرنسية كلمة تشمل في وقت واحد اللذة (الرضى) والمتعة (التلاشي). فاللذة هنا تتّسع تارة لتشمل المتعة، وتتعارض معها تارة أخرى. فهل اللذة إلا متعة الدنيا؟ وهل المتعة إلا لذة قصوى؟ أليست اللذة متعة لحقها الوهن، وقبلت ثم حُرّفت عبر تسلسل من المصالحات؟ أم هل المتعة إلا لذة عنيفة مباشرة؟‏
ويتعلّق على الجواب بنعم أو لا تاريخ حداثتنا. فإذا قلت إن الفارق بين اللذة والمتعة هو فارق في الدرجة، فإني أقول إن السلام قد عاد إلى التاريخ. وبهذا يكون نص المتعة هو التطور المنطقي والعضوي والتاريخي لنص اللذة.‏
ولاتكون الطليعة سوى الشكل المتقدم والمتحرر لثقافة الماضي، فاليوم يخرج من الأمس، وإنتاج (آلان روب غرييه) موجود في أعمال (فلوبير)، وأعمال (سوليرز) كامنة في أعمال (رابليه)، وكل نتاج (نيكولا دي ستايل) مجتمع في سنتيمتر من أعمال (سيزان). وأما إذا رأيت، على عكس هذا، أن اللذة والمتعة قوتان متوازيتان، وأنهما لا تلتقيان، وأن مايقوم بينهما هو شيء أكثر من حرب أو معركة. إذا اعتقدت ذلك، فإن تاريخنا ليس هادئاً ولا عاقلاً، وإن نصّ المتعة فيه ينبثق دائماً على فضائحي.‏
وثمة طريقة قدّمها علم النفس للتفريق بين نصّ اللذة ونصّ المتعة هي أن اللذة قابلة للوصف. أما المتعة فليست كذلك، وأن النقد ينصّب دائماً على نصوص اللذة، بينما لايتناول أبداً نصوص المتعة. ومع (كاتب) المتعة و(قارئها) يبدأ النّص المستحيل، حيث لايمكن الكلام (عن) مثل هذا النّص، بل يمكن الكلام ((فيه)).‏
ويرى بارت أننا نقرأ (نصّ اللذة) وكأننا ذبابة تطير في فضاء غرفة، تقوم بانعطافات مفاجئة غير مجدية. وأن النّص بحاجة إلى (ظلّ). وهو قليل من الأيديولوجيا، وقليل من العرض، وقليل من الذات، وهذه كلها أشباح وأورام. ولكنها "سحاب" ضروري.‏
والنّص -عند بارت- تميمة. وهذه التميمة ترغب في قارئ النّص ودّ القارئ عن طريق ترتيب كامل لشاشات غير مرئية، وعن طريق مماحكات انتقائية تتصل بالمفردات وبالمراجع وبقابلية القراءة. أما (المؤلف) فيضيع وسط النّص، لا وراءه. بعد أن مات المؤلف من حيث هو مؤسسة، واختفى شخصه المدني والغرامي والسّيري، ولم يعد يمارس على إبداعه تلك الأبوّة الرائعة التي تكلّل بها تاريخ الأدب والتعليم.‏
يبعث النّص في قارئه لذة أحسن إذا ماتمكن من أن يجعله ينعت إليه بكيفيّة غير مباشرة، إذا مادفعه، وهو يقرأ، إلى أن يرفع رأسه عالياً، ليسمع شيئاً آخر. عن اللذة لن يستطيع أن يكون غير نص قصير، لأن اللذة لاتسمح لنفسها بالتعبير إلا من خلال طلب غير مباشر، وما دمنا نتشبث باسم اللذة ذاته، فإن كل نص عن اللذة لن يكون إلا إرجائياً. وسيكون مدخلاً لنص لن يُكتب أبداً، مثله في ذلك مثل الإنتاجات الفنية المعاصرة التي تستنفذ ضرورة وجودها بمجرد ماتُرى أو تُشاهد.‏
وعندما يتساءل بارت: هل (الكتابة) بلذة توجب (القراءة) بلذة أيضا؟ وهل (القراءة) بلذة تعني أن (الكاتب) قد كتب بلذة أيضاً؟ فإنه يرى أن الكاتب لايبحث عن شخص القارئ، بل عن فضاء الكتابة، وهو حين يكتب يتخذ لغة آمرة آلية خالية من العواطف، في حقل قابل للتوسع والانتشار. ومايكتبه بارد جنسياً. مالم يدخله العصاب. فإذا دخله غنجت النصوص وأصبحت مغرية أصبحت الكتابة علم متع اللغة.‏
وفي تقويم أعمال الحداثة قد تأتي قيمة هذه الأعمال من كونها ذات وجهين: أحدهما هدمي مفضّل لأنه وجه العنف، وثانيهما أوزان الشعر وإيقاعاته ولغته.‏
ويشدّد بارت على (القراءة) التي تستوحي ماخلف السطور والكلمات، فيرى أن طلاقاً قاسياً يطبع أدبنا، وتحافظ المؤسسة الأدبية على وجوده، بين صانع النّص ومستعمله، بين (الكاتب) و (القارئ)، يصيب القارئ بنوع من العطالة وعدم الفاعلية. وبدلاً من أن يقوم القارئ باللعب، فيجرّب لذة الدال ومتعة الكتابة، فإنه ليس لديه سوى قبول النّص أو رفضه. فلا تعود القراءة سوى استفتاء فما يمكن أن يُقرأ ولاتُعاد كتابته هو القابل للقراءة، إنه النّص الكلاسي.‏
إن مايتذوقه القارئ في قصة من القصص ليس مضمونها المباشر، ولابنيتها، وإنما الآفاق الفكرية التي يرتادها الخيال بوساطتها. من هنا يمكن القول إن هناك نوعين من القراءة: قراءة تتجه مباشرة إلى مفاصل القصة، وتهتم بامتداد النّص، وتجهل ألاعيب اللغة. فقارئ جول فيرن مثلاً يمضي سريعاً على هدفه، وهو الوصول إلى النهاية.‏
إن التعطش للمعرفة ليدفع بالقارئ إلى أن يتجاوز بعض الفقرات التي يحسّها مملّة، لكي يصل بسرعة إلى مبتغاه من المعرفة، وإنه ليقفز أحياناً فوق الوصف والشرح والتأملات، كمتفرج في ملهى ليلي يستعجل الراقصة التي تخلع ملابسها قطعة قطعة.‏
وأما النوع الثاني من القراءة فهي التي تلتصق بالنّص، وتقرؤه حرفياً، إنها (الاستبطان) الذي تنثال منه الغبطة، عن طريق الكلمات الموحية الفاتنة أو الجارحة في الأدب العظيم. أما في (الأدب الشعبي) فليست الألفاظ سوى أداة أو حلية تختفي عندها كل فعالية شعرية أودلالية.‏
إن اللغة مفهومة، واللغة المكرورة تصبح قديمة. كل المؤسسات الرسمية للغة هي آلات تكرار، بدءاً بالمدرسة، والجامعة، ومروراً بالمجتمع والبيئة، ذاتها بوسائل الإعلام. كلها تعيد البنية نفسها والمعنى نفسه. إن القالب القولي المكرر هو صنيعة سياسية، وهو الصورة العظمى للأيديولوجيا. ومقابل هذا يكون الجديد المتعة حين تكون الكلمة غضّة أو مباغتة. فثمة كلمات تلمع في بعض النصوص كشموس، أو كنجوم في ليل داج.‏
من هنا تنتج سلطة اللغة لغة السلطة ونصبح جميعاً أسراها. وذلك لأن كل لغة تقاتل لتحظى بالسيطرة. فإذا ما انتهت إليها السلطة انتشرت في جميع ميادين الحياة، لتصبح بعد ذلك "طبيعية"، لأنها لغة‏
الصحف والإذاعة والتلفزة والمحادثة...‏
ولكن هذه اللغة (الطبيعية) هي استلاب سياسي، أي إسقاط حق اللذة في مجتمع تفعل فيه منظومتان أخلاقيتان: منظومة الغالبية التي تمجّد السطح، ومنظومة الجماعات الصغيرة التي تتبنّى الصرامة السياسية أو العلمية. ومن هنا فإن بارت يرى أن النّص هو ذلك الشخص المرح الذي يكشف دبره للسياسي، وأن الكاتب ما إن ينبس بكلمة عن (لذة النّص) حتى ينقضّ عليه شرطيان: شرطي سياسي، وشرطي نفسي، باعتبار اللذة انحرافاً أو ذنباً.‏
وينتهي بارت إلى أن على النّص أن يقترب من (لذائذ) الحياة مثل الطعام واللقاء والحديقة... الخ. وبهذا يتمّ إلحاقه بالجدول الشخصي لشهواتنا، أو أن يتم بوساطة النّص فتح طريق للمتعة والضياع الذاتي الكبير.‏
هكذا يبدو (النقد الحر) عند بارت تالياً للنقد البنيوي، وردّاً على انغلاقه، حيث انطلق (النقد الحر) في تداعيات حرة تبدأ من التعاطف العفوي للنص المقروء، إلى الدراسة الموضوعية، فالتفكير الحر الطليق. فالخطوة الأولى فيه تعتمد على اليقين المباشر الذي توفّره القراءة الأولى، والخطوة الثانية تحقق صحّة التقنية (العلمية) التي تؤدي إلى تفسير معقول: بينما تؤدي الخطوة الثالثة إلى ابتعاد ذاتي عن العمل الأدبي، واستقلال في القول النقدي.‏
واستقلالية النقد لاتعني انفصاله عن النّص الأدبي، وإنما تعني استيعابه، وتمثّله، ثم الانطلاق منه إلى مايتجاوزه، أو يوازيه. ومن هنا استمرارية النّص، ولكن بشكل آخر. حيث يصبح النّص الأصيل (المتن) غائباً، ويصبح النّص النقدي ماثلاً. وبمثال آخر: النّص الأصلي هو الأدب الذي تتفرع عنه نصوص نقدية كل منها يحمل سمات الأدب، ولكن لكل منها خصوصيته وتميّزه.‏
وهكذا نصل إلى المثل الأعلى في (منهج النقد الحر) المركّب من الدقة المنهجية المرتبطة بالتقنيات، ومن التحرر التأملي الذي يجعل الناقد طليقاً إزاء كل قيد مذهبي. فالتقنيات العلمية تحمي هذا المنهج عن الانفلات وراء الانطباعات الذاتية، والتفكير الحر ينطلق بالعمل الأدبي إلى أعمق فهم مستطاع.‏
محمد
محمد
مشرف مرسى الرياضة
مشرف مرسى الرياضة
البلد : النَّقد الحرّ عـند رولان بارت ـــ محمَّد عزَّام Btf96610
عدد المساهمات : 7229
نقاط تميز العضو : 205063
تاريخ التسجيل : 10/12/2009

النَّقد الحرّ عـند رولان بارت ـــ محمَّد عزَّام Empty رد: النَّقد الحرّ عـند رولان بارت ـــ محمَّد عزَّام

28/03/12, 03:28 am
موضوع شيق ومهم
بارك الله فيك اخي بوعلام
الرجوع الى أعلى الصفحة
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى