- بوعلام ممشرف المرسى الجامعي
- البلد :
الجنس :
عدد المساهمات : 374
نقاط تميز العضو : 102401
تاريخ التسجيل : 08/09/2011
العمر : 42
حدائق الموت د. محمد بن عبد الرحمن العریفي
23/09/11, 02:29 am
حدائق الموت
الحمد لله رب العالمين .. الرحمن الرحيم .. مالك یوم الدین ..
الحمد لله الكریم الوهاب .. الحمد لله الرحيم التواب .. الحمد لله الهادي إلى
الصواب .. مزیل الشدائد وآاشف المصاب ..
الحمد لله فارج الهم .. وآاشف الغم .. مجيب دعوة المضطر .. فما سأله سائل فخاب ..
یسمع جهر القول وخفي الخطاب .. أخذ بنواصي جميع الدواب .. فسبحانه من إله عظيم ..
لا یماثل .. ولا یضاهى .. ولا یرام له جناب .. هو ربنا لا إله إلا هو .. عليه
توآلنا .. وإليه المرجع والمتاب ..
وسبحان من انفرد بالقهر والاستيلاء ..
واستأثر باستحقاق البقاء ..
وأذل أصناف الخلق بما آتب عليهم من الفناء ..
وأشهد أن لا إله إلا الله ..
أما بعد ..
حدائق الموت ؟
تلك القبور التي غيبت فيها أجساد تحت التراب .. تنتظر البعث والنشور وأن ینفخ في
الصور ..
اجتمع أهلها تحت الثرى .. ولا یعلم بحالهم إلا الذي یعلم السر وأخفى ..
نعم ..
إنه الموت ..
أعظم تحدٍّ تحدى الله به الناس أجمعين ..
الملوك والأمراء .. والحُجّاب والوزراء .. والشرفاء والوضعاء .. والأغنياء والفقراء
..
آلهم عجزوا أن یثبتوا أمام هذا التحدي الإلهي { قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت
إن آنتم صادقين }
أین الجنود ؟ أین الملك ؟ أین الجاه ؟
أین الأآاسرة ؟ أین القياصرة ؟
أین الزعماء ؟
أتى على الكل أمر لا مرد له حتى قضوا فكأن القوم ما آانوا
وصار ما آان من مُلكٍ ومن مَلِكٍ آما حكى عن خيال الطيف وسنان
مرض أبو بكرة رضي الله عنه واشتد مرضه .. فعرض عليه أبناؤه أن یأتوه بطبيب .. فأبى ..
فلما نزل به الموت صرخ بأبنائه وقال : أین طبيبكم ؟ .. ليرّدها إن آان صادقاً ..
ووالله لو جاءه أطباء الدنيا .. ما ردوا روحه إليه ..
{ فلولا إذا بلغت الحلقوم * وأنتم حينئذ تنظرون * ونحن أقرب إليه منكم ولكن
لا تبصرون * فلولا إن آنتم غير مدینين * ترجعونها إن آنتم صادقين * فأما إن آان من
المقربين * فروح وریحان وجنة نعيم * وأما إن آان من أصحاب اليمين * فسلام لك من
أصحاب اليمين * وأما إن آان من المكذبين الضالين * فنزل من حميم * وتصلية جحيم * إن
هذا لهو حق اليقين * فسبح باسم ربك العظيم } ..
إنه الموت ..
هادم اللذات .. ومفرق الجماعات .. وميتم البنين والبنات ..
المنایا تَجُوسُ آلّ البِلادِ والمنایَا تَبيدُ آلّ العِبَادِ
لَتَنالَنّ من قُرونٍ أراها مثلَ ما نِلْنَ من ثَمُودٍ وعادِ
هل تذآّرْتَ من خلا من بني الأصْ فَرِ أهْلِ القِبابِ والأطْوادِ
هلْ تذآّرْتَ من خَلا من بني سَا سانَ أرْبابِ فارِسٍ والسّوَادِ
أینَ داوُدُ أینَ ؟ أینَ سُلَيْمَا نُ المنيعُ الأعراضِ والأجنادِ ؟!
أینَ نُمرُودُ وابْنُهُ أینَ قارُو نُ وهامانُ أینَ ذو الأوتادِ
وَرَدوا آلهم حِياضَ المنایَا ثمّ لم یَصْدِروا عَنِ الإیرادِ
أتَنَاسَيْتَ أمْ نَسيتَ المنایَا؟ أنَسيتَ الفِراقَ للأوْلادِ ؟
أنَسيتَ القُبُورَ إذْ أنتَ فيها بَينَ ذُلٍّ وَوَحشَةٍ وانفِرادِ
أي یَوْمٍ یَومُ الممات وإذْ أنْ تَ تُنادى فَما تُجيبُ المنادي
أيّ یَوْمٍ یوم الفِراقِ وإذْ نَفْسُكَ تَرْقَى عَنِ الحَشا والفُؤادِ
أيّ یَوْمٍ یَوْمُ الفراقِ وإذْ أنْ تَ من النّزْعِ في أشَدّ الجِهادِ
أيّ یَوْمٍ یَوْمُ الصّراخِ وإذْ یَلْطِمن حُرّ الوّجُوهِ والأجيَادِ
باآِياتٍ عَلَيكَ یَندُبنَ شَجواً خافِقاتِ القُلُوبِ والأآْبادِ
یَتَجاوَبْنَ بالرّنينِ ویَذْرِفْ نَ دُمُوعاً تَفيضُ فَيضَ المَزادِ
أيّ یَوْمٍ یوْمُ الوُقوفِ إلى الله ویَوْمُ الحِسابِ والإشْهادِ
أيّ یَوْمٍ یوم المَرور عَلى النّا رِ وأهْوَالِها العِظامِ الشّدادِ
أيّ یَوْمٍ یَوْمُ الخَلاصِ من النّا رِ وهَوْلِ العَذابِ والأصْفادِ
آم وآم في القُبُورِمن أهلِ ملكٍ آمْ وآمْ في القُبورِمن قُوّادِ
آمْ وآم في القُبورِمن أهلِ دُنْيا آمْ وآم في القُبورِ من زُهّادِ
وَرَدوا آلهم حِياضَ المنایَا ثمّ لم یَصْدِروا عَنِ الإیرادِ
* * * * * * * * * *
ومن تأمل في الموت علم أنه أمر آبّار .. وآأس تدار .. على من أقام أو سار .. یخرج
به العباد من الدنيا إلى جنة أو نار ..
ولو لم یكن في الموت إلا الإعدام .. وانحلال الأجسام .. ونسيان أجمل الليالي
والأیام ..
لكان والله لأهل اللذات مكدراً .. ولأصحاب النعيم مغيراً ..
* * * * * * * * * *
وليست المشكلة في الموت .. فالموت باب وآل الناس داخله ..
لكن المشكلة الكبرى .. والداهية العظمى ..
ما الذي یكون بعد الموت ..
أفي { جنات ونهر * في مقعد صدق عند مليك مقتدر } ..
أم في { ضلال وسعر * یوم یسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مسَّ سقر} ..
* * * * * * * * * *
ولأجل ذلك .. فالصالحون یشتاقون إلى لقاء ربهم .. ویعدون الموت جسراً یعبرون عليه
إلى الآخرة ..
نعم .. یفرحون بالموت ما دام یقربهم إلى ربهم ..
ذآر بعض المؤرخين ..
أن العدو أغار على ثغر من ثغور الإسلام .. فقام عبد الواحد بن زید وآان خطيب البصرة
وواعظها .. فحث الناس على البذل والجهاد .. ووصف ما في الجنة من نعيم .. ثم وصف
الحور العين .. وقال :
غادة ذات دلال ومرح
خلقت من آل شيء حسن
أترى خاطبها یسمعها
یا حبيباً لست أهوى غيره
لا تكونن آمن جدّ إلى
لا فما یخطب مثلي من سها یجد الواصف فيها ما اقترح
طيب فالليت عنها مطرح
إذ تدیر الكأس طوراً والقدح
بالخواتيم یتم المفتتح
منتهى حاجته ثم جمح
إنما یخطب مثلي من ألحَّ
فاشتاق الناس إلى الجنة .. وارتفع بكاء بعضهم ..ورخصت عليهم أنفسهم في سبيل الله ..
فوثبت عجوز من بين النساء .. هي أم إبراهيم البصریة ..
وقالت :
یا أبا عبيد .. أتعرف ابني إبراهيم !
الذي یخطبه رؤساء أهل البصرة .. إلى بناتهم .. وأنا أبخل به عليهن ..
قد والله أعجبتني هذه الجاریة وقد رضيتها عروساً لابني إبراهيم .. فكرر ما ذآرت من
أوصاف .. لعله یشتاق ..
فقال أبو عبيد :
إذا ما بدت والبدر ليلة تمه رأیت لها فضلا مبينا على البدر
وتبسم عن ثغر نقى آأنه من اللؤلؤ المكنون في صدف البحر
فلو وطئت بالنعل منها على الحصى لأزهرت الأحجار من غير ما قطر
ولو شئت عقد الخصر منها عقدته آغصن من الریحان ذي ورق خضر
ولو تفلت في البحر حلو لعابها لطاب لأهل البر شرب من البحر
أبى الله إلا أن أموت صبابة بساحرة العينين طيبة النشر
فاضطرب الناس ..وآبروا ..
وقامت أم إبراهيم .. وقالت :
یا أبا عبيد .. قد والله رضيت بهذه الجاریة .. زوجة لإبراهيم ..
فهل لك أن تزوجها له في هذه الساعة ؟ وتأخذَ مني مهرها عشرة آلاف دینار ..
لعل الله أن یرزقه الشهادة .. فيكون شفيعاً لي ولأبيه في القيامة ..
فقال عبد الواحد : لئن فعلت .. فأرجو والله أن تفوزوا فوزاً عظيماً ..
فصاحت العجوز : یا إبراهيم .. یا إبراهيم ..
فوثب شاب نضر .. من وسط الناس .. وقال : لبيك یا أماه ..
فقالت : أي بنيَّ .. أرضيت بهذه الجاریة .. زوجة لك .. ومهرها أن تبذل مهجتك في
سبيل الله .. ؟
فقال : أي والله یا أماه ..
فذهبت العجوز مسرعة إلى بيتها .. ثم جاءت بعشرة آلاف دینار ..
فوضعتها في حجر عبد الواحد .. ثم رفعت بصرها إلى السماء ..
وقالت : اللهم إني أشهدك .. أني زوجت ولدي من هذه الجاریة ..
على أن یبذل مهجته في سبيلك .. فتقبله مني یا أرحم الراحمين ..
ثم قالت : یا أبا عبيد .. هذا مهر الجاریة مني عشرةُ آلاف دینار ..
تجهَّز به وجهز الغزاة في سبيل الله ..
ثم انصرفت .. واشترت لولدها فرساً جيداً .. وسلاحاً حسناً ..
وأخذت تعد الأیام لرحيله ..
وهي تودعه غي آل نظرة تنظرها .. وآلمة تسمعها ..
والمجاهدون یعدون العدة للخروج ..
فلما حان وقت النفير خرج إبراهيم یعدو .. والمجاهدون حوله یتسابقون ..
والقراء حولهم یقرؤون :{ إن الله اشترى من .. }..
فلما أرادت فراق ولدها .. دفعت إليه آفناً .. وطيباً یطيب به الموتى
.. ثم نظرت إليه .. وآأنما هو قلبها یخرج من صدرها ..
ثم قالت :
یا بنيَّ .. إذا أردت لقاء العدو .. فالبس بهذا الكفن .. وتطيب بهذا الطيب ..
وإیاك أن یراك الله مقصراً في سبيله ..
ثم ضمته إلى صدرها .. وآتمت من عبرتها .. وأخذت تشمه .. وتودعه .. وتقبله ..
ثم قالت : اذهب یا بنيّ .. فلا جمع الله بيني وبينك .. إلا بين یدیه یوم القيامة ..
فمضى إبراهيم .. والعجوز تتبعه بصرها .. حتى غاب مع الجيش ..
فلما بلغوا بلاد العدو وبرز الناس للقتال .. أسرع إبراهيم إلى المقدمة ..
فابتدأ القتال .. ورميت النبال .. وتنافس البطال ..
أما إبراهيم .. فقد جال بين العدو وصال .. وقاتل قتال الأبطال ..
حتى قتل أآثر من ثلاثين من جيش العدو ..
فلما رأى العدو ذلك .. أقبل عليه جمع منهم .. هذا یطعنه .. وهذا یضربه .. وهذا
یدفعه .. وهو یقاوم .. ویقاتل .. حتى خارت قواه ووقع من فرسه .. فقتلوه ..
وانتصر المسلمون .. وهزم الكافرون ..
ثم رجع الجيش إلى البصرة ..
فلما وصلوا البصرة تلقاهم الناس .. الرجال .. والعجائز .. والأطفال ..
وأم إبراهيم بينهم .. تدور عيناها في القادمين ..
فلما رأت عبد الواحد .. قالت : یا أبا عبيد !
هل قبل الله هدیتي فأهنا ؟ أم رُدت علي فأعزى ؟
فقال لها : بل قبل الله هدیتك ..
وأرجو أن یكون ابنك الآن مع الشهداء یرزق ..
فصاحت قائلة :
الحمد لله .. الذي لم یخيب فيه ظني .. وتقبل نسكي مني .. وانصرفت إلى بيتها وحدها
.. بعدما فارقت ولدها .. یشتد شوقها .. فتأتي إلى فرشه فتشمها .. وإلى ثيابه
فتقلبها .. حتى نامت ..
فلما آان الغد :
جاءت أم إبراهيم إلى مجلس أبي عبيد وقالت :
السلام عليك یا أبا عبيد .. بشراك .. بشراك ..
فقال : لا زلت مبشرة بالخير یا أم إبراهيم .. ما خبرك ..؟
فقالت : رأیت البارحة ولدي إبراهيم .. في روضة حسناء ..
وعليه قبة خضراء .. وهو على سریر من اللؤلؤ .. وعلى رأسه تاج یتلألأ .. وإآليل یزهر
..
وهو یقول : یا أماه .. أبشري .. قد قُبل المهر .. وزُفت العروس ..
نعم ..
هؤلاء أقوام .. أیقنوا أنه لا مهرب من نزول الموت .. فسعوا إليه قبل أن یسعى إليهم
..
أحبّوا لقاء الله فأحبّ الله لقاءهم .. وبذلوا مهجهم رخيصة في سبيل الله تعالى ..
فما هو الجزاء ؟
{ ولا تحسبن الذین قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم یرزقون *
فرحين بما آتاهم الله من فضله ویستبشرون بالذین لم یلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف
عليهم ولا هم یحزنون * یستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا یضيع أجر المؤمنين
* الذین استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذین أحسنوا منهم واتقوا أجر
عظيم }
نعم والله .. ذلك الفوز الكبير ..
إذا أوقفهم ربهم بين یدیه .. فرحوا بما ماتوا عليه .. فيبيض وجوههم .. ویرفع
درجاتهم .
بل آان الصالحون یفتنون في دینهم .. ویهددون بالموت .. فلا یلتفتون إليه ..
نفوسهم صامدة .. على غایة واحدة .. هي الموت على ما یرضي الله ..
فهم آما قال الله لهم : { یا أیها الذین آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } ..
نعم .. ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ..
- لما ربط الكفار خبيب بن عدي رضي الله عنه على جذع نخلة ليقتلوه .. لم یفزع .. ولم
یجزع .. بل أخذ ینظر إليهم ویقول :
لقد جمع الأحزاب حولي وألبوا قبائلهم واستجمعوا آل مجمع إلى الله أشكو غربتي ثم آربتي وما أرصد
الأعداء لي عند مصرعي ولست أبالي حين أقتل مسلما على أي جنب آان في الله مصرعي وذلك في
ذات الإله وان یشأ یبارك على أوصال شلوٍ ممزع - ولما دخل سعد بن أبي وقاص على ملك الفرس ..
صرخ في وجهه وقال : جئتك بقوم یحبون الموت .. آما تحبون أنتم الحياة ..
- وفي معرآة أحد یكثر القتل بالمسلمين .. وتتسابق سهام الكفار إلى رسول صلى الله عليه وسلم ..
فكان أبو طلحة رضي الله عنه یرفع صدره ویقول :
یا رسول الله لا یصيبك سهم .. نحري دون نحرك ..
نعم ما دام أن الموت في رضا الرحمن فمرحباً بالموت ..
بل آانت المعاصي والشهوات .. والآثام والملذات ..
تعرض على الصالحين .. فلا یلتفتون إليها .. فيهددون بالموت .. فيختارونه .. فربهم
أعظم عندهم من آل شيء ..
ذآر ابن آثير وغيره :
أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث جيشاً لحرب الروم ..
وآان من ضمن هذا الجيش .. شاب من الصحابة .. هو عبد الله بن حذافه رضي الله عنه ..
وطال القتال بين المسلمين والروم .. وعجب قيصرُ ملكُ الروم من ثبات المسلمين ..
وجرأتهم على الموت ..
فأمر أن یحضر إليه أسير من المسلمين ..
فجاءوا بعبد الله بن حذافة .. یجرونه .. الأغلال في یدیه .. والقيود في قدميه ..
فأوقفوه أمام الملك ..
فتحدث قيصر معه فأعجب بذآائه وفطنته ..
فقال له : تنصر .. وأطلقك من الأسر ..
فقال عبد الله : لا ..
فقال قيصر : تنصر .. وأعطيك نصف ملكي ..
فقال : لا ..
فقال : تنصر .. وأعطيك نصف ملكي .. وأشرآك في الحكم معي ..
فقال عبد الله : والله لو أعطيتني ملكك .. وملك آبائك .. وملك العرب والعجم .. على
أن أرجع عن دیني طرفة عين ما فعلت ..
فغضب قيصر .. وقال : أذن أقتلك ..
قال : اقتلني ..
فأمر قيصر به فسحب .. وعلق على خشبة ..
وجاء قيصر .. وأمر الرماة .. أن یرموا السهام حوله ولا یصيبوه ..
وهو في أثناء ذلك یعرض عليه النصرانية .. وهو یأبى .. وینتظر الموت ..
فلما رأى قيصر إصراره ..
أمر أن یمضوا به إلى الحبس ..
ففكوا وثاقه ومضوا به إلى الحبس .. وأمر أن یمنعوا عنه الطعام والشراب .. فمنعوهما
..
حتى إذا آاد أن یهلك من الظمأ والجوع ..
أحضروا له خمراً .. ولحم خنزیر ..
فلما رآهما عبد الله .. قال : والله إني لأعلم أن ذلك یحل لي في دیني .. ولكني لا
أرید أن یشمت بي الكفار .. فلم یقرب الطعام ..
فأخبر قيصر بذلك .. فأمر له بطعام حسن ..
ثم أمر أن تدخل عليه امرأة حسناء تتعرض له بالفاحشة ..
فأدخلت عليه .. وجعلت تتعرض له وهو معرض عنها ..
وهي تتمایل أمامه ولا یلتفت إليها ..
فلما رأت المرأة ذلك .. خرجت غضبى وهي تقول :
والله لقد أدخلتموني على رجل .. لا أدري أهو بشر أم حجر ..
وهو والله لا یدري عني أأنا أنثى أم ذآر ..
فلما یئس منه قيصر .. أمر بقدر من نحاس .. فأغلي فيها الزیت ..
ثم أوقف عبد الله بن حذافة أمامها ..
وأحضروا أحد الأسرى المسلمين موثقاً بالقيود .. حتى ألقوه في هذا الزیت .. وغاب
جسده في الزیت .. ومات .. وطفت عظامه تتقلب في فوق الزیت ..
وعبد الله ینظر إلى العظام .. فالتفت قيصر إلى عبد الله .. وعرض عليه النصرانية ..
فأبى ..
فاشتد غضب قيصر .. وأمر بطرحه في القدر ..
فلما جروه إلى القدر .. وشعر بحرارة النار .. بكى .. ودمعت عيناه ..
ففرح قيصر .. وقال :
تتنصر .. وأعطيك .. وأمنحك ..
قال : لا ..
قال : إذاً .. لماذا بكيت ..
فقال عبد الله : أبكي لأنه ليس لي إلا نفس واحدة تلقى في هذا القدر .. فتموت ..
ولقد وددت والله أن لي مائة نفس آلها تموت في سبيل الله .. مثل هذه الموتة ..
فقال له قيصر : قبل رأسي وأخلي عنك ؟
فقال له عبد الله : وعن جميع أسارى المسلمين عندك ..
قال : نعم ..
فقبل رأسه .. ثم أطلقه مع الأسرى ..
عجباً !! لله دره !!
أین نحن اليوم من مثل هذا الثبات .. ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ..
إن من المسلمين اليوم .. من یتنازل عن دینه .. لأجل دراهم معدودات .. أو تتبع
الشهوات .. أو الولوغ في الملذات .. ثم یختم له بالسوء والعياذ بالله ..
ومن عدل الله تعالى أن العبد یختم له في الغالب على ما عاش عليه ..
فمن آان في حياته یشتغل بالذآر والقيام .. والصدقات والصيام .. ختم له بالصالحات ..
ومن تولى وأعرض عن الخير .. خشي عليه أن یموت على ما اعتاد عليه ..
ولأجل هذا الفرق العظيم .. آان الصالحون یستعدون للموت قبل نزوله ..
بل یغتنم أحدهم آخر الأنفاس واللحظات .. في التزود ورفع الدرجات ..
فتجده یجاهد .. ویأمر بالمعروف .. وینهى عن المنكر .. ویشتغل بالطاعات .. إلى آخر
نفس یتنفسه ..
ثبت الصحيحين وغيرهما ..
أن النبي صلى الله عليه وسلم بعدما رجع من حجة الوداع ..
جعل مرض الموت یشتد عليه .. یوماً بعد یوم .. وهو في آلمة یتكلمها .. ونظرة ینظرها
.. یودع هذه الدار ..
ولما اشتدت عليه الحمى .. وأیقن النقلة للدار الأخرى ..
أراد أن یودع الناس ..
فعصب رأسه ..
ثم أمر الفضل بن العباس أن یجمع الناس في المسجد .. فجمعهم .. فاستند صلى الله عليه وسلم
إليه .. حتى رقى إلى المنبر .. ثم حمد الله وأثنى عليه ثم قال :
أما بعد ..
أیها الناس .. إنه قد دنى مني خلوف من بين أظهرآم ..
ولن تروني في هذا المقام فيكم ..
ألا فمن آنت جلدت له ظهراً .. فهذا ظهري فليستقد منه ..
ومن آنت أخذت له مالاً .. فهذا مالي فليأخذ منه ..
ومن آنت شتمت له عرضاً .. فهذا عرضي فليستقد منه ..
ولا یقولن قائل إني أخشى الشحناء ..
ألا وإن الشحناء ليست من شأني .. ولا من خلقي ..
وإن أحبكم إلي من أخذ حقاً .. إن آان له علي ..
أو حللني فلقيت الله عز وجل .. وليس لأحد عندي مظلمة ..
ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ..ومضى إلى بيته .. وبدأت الحمى تأآل جسده .. وهو یتحامل
على نفسه ویخرج إلى الناس ویصلي بهم ..
حتى صلى بأصحابه المغرب .. من یوم الجمعة ..
ثم دخل بيته .. وقد اشتدت عليه الحمى .. فوضعوا له فراشاً فانطرح عليه ..
وظل على فراشه تكوي الحمى جسده ..
ثم ثقل به مرض الموت .. وهو على فراشه ..
واجتمع الناس لصلاة العشاء .. وجعلوا ینتطرون إمامهم صلى الله عليه وسلم ليصلي بهم ..
ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد هده المرض .. یحاول النهوض من فراشه .. فلا یقدر .. فأبطأ
عليهم ..
فجعل بعض الناس ینادي : الصلاة .. الصلاة ..
فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى من حوله وقال : أصلى الناس ؟
قالوا : لا .. یا رسول الله .. هم ینتظرونك ..
فإذا حرارة جسده صلى الله عليه وسلم تمنعه من النهوض ..
فقال : صبوا لي ماء في المخضب .. وهو إناء آبير ..
فصبوا له الماء .. وجعلوا یصبون الماء البارد من القرب .. فوق جسده ..
فلما برد جسده .. وشعر بشيء من النشاط .. جعل یشير لهم بيده .. فأوقفوا الماء عنه
..
فلما اتكأ على یدیه ليقوم أغمي عليه ..
فلبث ملياً .. ثم أفاق .. فكان أول سؤال سأله .. أن قال :
أصلى الناس ؟
قالوا : لا .. یا رسول الله .. هم ینتظرونك ..
قال : ضعوا لي ماء في المخضب .. فاغتسل .. وجعلوا یصبون عليه الماء ..
حتى إذا شعر بشيء من النشاط .. أراد أم یقوم .. فأغمي عليه ..
فلبث ملياً .. ثم أفاق .. فكان أول سؤال سأله .. أن قال :
أصلى الناس ؟
قالوا : لا .. یا رسول الله .. هم ینتظرونك ..
قال : ضعوا لي ماء في المخضب .. فوضعوا له الماء .. وجعلوا یصبون الماء البارد على
جسده .. وأآثروا الماء .. حتى أشار لهم بيده .. ثم اتكأ على یدیه ليقوم .. فأغمي
عليه ..
وأهله ینظرون إليه .. تضطرب أفئدتهم .. وتدمع أعينهم ..
والناس عكوف في المسجد ینتظرونه ..
فلبث مغمى عليه ملياً .. ثم أفاق ..
فقال : أصلى الناس ؟ قالوا : لا .. هم ینتظرونك یا رسول الله ..
فتأمل صلى الله عليه وسلم في جسده .. فإذا الحمى قد هدته هداً ..
ذاك الجسد المبارك ..
الذي نصر الدین .. وجاهد لرب العالمين ..
ذلك الجسد .. الذي ذاق من العبادة حلاوتها .. ومن الحياة شدتها ..
الجسد الذي تفطرت منه القدمان .. من طول القيام ..
وبكت العينان .. من خشية الرحمن ..
عذب في سبيل الله .. وجاع .. وقاتل ..
لما رأى صلى الله عليه وسلم حاله .. وتمكن المرض مند جسده .. التفت إليهم وقال :
مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس ..
فيقيم بلال الصلاة .. ویتقدم أبو بكر .. في محراب النبي صلى الله عليه وسلم .. فيصلي بالناس
.. ولا یكادون یسمعون قراءته من شدة بكائه وحزنه ..
وانتهت صلاة العشاء ..
ثم اجتمع الناس لصلاة الفجر .. فيصلي بهم أبو بكر .. ویجتمع الناس بعدها للصلوات ..
ویصلي أبو بكر بهم .. أیاماً .. ورسول الله صلى الله عليه وسلم على فراشه ..
فلما آانت صلاة الظهر أو العصر من یوم الاثنين .. وجد رسول صلى الله عليه وسلم خفة في
جسده .. فدعا العباس وعليّاً .. فأسنداه عن یمينه ویساره ..
ثم خرج یمشي بينهما .. تخط رجلاه في الأرض ..
وآشف الستر الذي بين بيته وبين المسجد .. فإذا الصلاة قد أقيمت .. والناس یصلون ..
فرأى أصحابه صفوفاً في الصلاة .. فنظر إليهم ..
وجوه مبارآة .. وأجسادٌ طاهرة ..
ما منهم أحدٌ إلا وقد أصيب في سبيل الله .. منهم من قطعت یده ..
ومنهم من فقئت عينه .. ومنهم من ملأت الجراحات جسده ..
طالما صلى بهؤلاء الأخيار .. وجاهد معهم .. وجالسهم ..
آم ليلة قامها وقاموها .. وأیام صامها وصاموها ..
آم صبروا معه على البلاء .. وأخلصوا معه الدعاء ..
آم فارقوا لنصرة دینه .. الأهل والإخوان .. وهجروا الأحباب والأوطان ..
منهم من قضى نحبه .. ومنهم من ینتظر .. وما بدلوا تبدیلاً ..
ثم هاهو اليوم یفارقهم .. إلى تلك الدار .. التي طالما شوقهم إلى سكناها ..
فلما رآهم في صلاتهم ..
تبسم .. حتى آأن وجهه فلقة من قمر ..
ثم أرخى الستر .. وعاد إلى فراشه .. وبدأت تصارعه سكرات الموت ..
قالت عائشة :
رأیت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو یموت وعنده قدح فيه ماء .. فيدخل یده في القدح ثم یمسح
وجهه بالماء .. ثم یقول : لا إله إلا الله .. إن للموت سكرات ..
وجعلت فاطمة تبكي وتقول : واآرب أبتاه .. فيلتفت إليها ویقول : ليس على أبيك آرب
بعد اليوم ..
فجعلت أمسح وجهه .. وأدعو له بالشفاء ..
فقال : لا .. بل أسأل الله الرفيق الأعلى .. مع جبریل وميكائيل وإسرافيل ..
ثم لما ضاق به النفس .. واشتدت عليه السكرات .. جعل یردد آلمات یودع بها الدنيا ..
بل آان یتكلم فيما أهمه ..
ویحذر من صور الشرك ویقول :
" لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " ..
" اشتد غضب الله على قوم جعلوا قبور أنبيائهم مساجد " ..
وآان من آخر ما قال صلى الله عليه وسلم : " الصلاة الصلاة .. وما ملكت أیمانكم " ..
ثم مات صلى الله عليه وسلم .. نعم ..
مات .. سيد المرسلين .. وإمام المتقين .. وحبيب رب العالمين ..
مات وليس أحد یطالبه بمظلمة .. ولا آذى أحداً بكلمة ..
لم یتدنس بأموال حرام .. ولا غيبة ولا آثام ..
بل آان إلى الله داعياً .. ولعفو ربه راجياً ..
یأمر بالصلاة وعبادة الرحمن .. وینهى عن الشرك والأوثان ..
{ لقد جاءآم رسول من أنفسكم عزیز عليه ما عنتم حریص عليكم بالمؤمنين رؤوف
رحيم } ..
* * * * * * * * * *
وآذلك آان الصالحون من بعده صلى الله عليه وسلم .. یستعدون للموت .. بالإآثار من الطاعات ..
والمسارعة إلى القربات ..
وهم مع آثرة أعمالهم .. وحسن أفعالهم .. إذا فجأهم الموت .. رجوا رحمة ربهم ..
وخافوا من عقابه .. ولم یرآنوا إلى أعمالهم ..
عمر بن الخطاب .. الخليفة الراشد ..
الذي نصر الدین .. وجاهد لرب العالمين .. وأطفأ نيران دولة المجوس ..
حقد عليه الكافرون ..
وآان من أآثرهم حقداً .. أبو لؤلؤة المجوسي ..
وآان عبداً نجاراً حداداً في المدینة .. وآان یصنع الرحاء .. جمع رحى وهي آلة لطحن
الشعير .. وهي حجران مصفحان یوضع أحدهما فوق الآخر ویطرح الحب بينهما .. وتدار
باليد .. فيطحن ..
أخذ هذا العبد یتحين الفرص للانتقام من عمر ..
فلقيه عمر یوماً في طریق فسأله وقال :
حدثت أنك تقول لو أشاء لصنعت رحى تطحن بالریح ؟!
فالتفت العبد عابساً إلى عمر ..
وقال : بلى .. لأصنعن لك رحى یتحدث بها أهل المشرق والمغرب ..
فلتفت عمر إلى من معه .. وقال :
توعدني العبد ..
ثم مضى العبد وصنع خنجراً له رأسان .. مقبضه في وسطه .. فهو إن طعن به من هذه الجهة
قتل .. وإن طعن به من الجهة الأخرى قتل .. وأخذ یطليه بالسم ..
حتى إذا طعن به .. یقتل إما بقوة الطعن أو السم ..
ثم جاء .. في ظلمة الليل .. فاختبأ لعمر في زاویة من زوایا المسجد ..
فلم یزل هناك حتى دخل عمر إلى المسجد ینبه الناس لصلاة الفجر ..
ثم أقيمت الصلاة .. وتقدم بهم عمر .. فكبر ..
فلما ابتدأ القراءة ..
خرج عليه المجوسي .. وفي طرفة عين .. عاجله .. بثلاث طعنات ..
وقعت الأولى في صدره والثانية في جنبه .. والثالثة تحت سرته ..
فصاح عمر .. ووقع على الأرض ..
وهو یردد قوله تعالى : وآان أمر الله قدراً مقدوراً ..
وتقدم عبد الرحمن بن عوف وأآمل الصلاة بالناس ..
أما العبد فقد طار بسكينه یشق صفوف المصلين .. ویطعن المسلمين .. یميناً وشمالاً ..
حتى طعن ثلاثة عشر رجلاً .. مات منهم سبعة ..
ثم وقف شاهراً سكينه ما یقترب منه أحد إلا طعنه .. فاقترب منه رجل وألقى عليه رداءً
غليظاً ..
فاضطرب المجوسي .. وعلم أنهم قدروا عليه .. فطعن نفسه ..
وحُمِل عمر مغشياً عليه إلى بيته .. وانطلق الناس معه یبكون ..
وظل مغمى عليه .. حتى آادت أن تطلع الشمس ..
فلما أفاق .. نظر في وجوه من حوله .. ثم آان أول سؤال سأله .. أن قال :
أصلى الناس ؟ قالوا : نعم ..
فقال : الحمد لله .. لا إسلام لمن ترك الصلاة ..
ثم دعا بماء فتوضأ .. وأراد أن یقوم ليصلي فلم یقدر ..
فأخذ بيد ابنه عبد الله فأجلسه خلفه .. وتساند إليه ليجلس ..
فجعلت جراحه تنزف دماً ..
قال عبد الله بن عمر .. والله إني لأضع أصابعي .. فما تسد الجرح ..
فربطنا جرحه بالعمائم .. فصلى الصبح ..
ثم قال : یا ابن عباس انظر من قتلني ..
فقال : طعنك الغلام المجوسي .. ثم طعن معك رهطاً .. ثم قتل نفسه ..
فقال عمر : الحمد لله .. الذي لم یجعل قاتلي یحاجني عند الله بسجدة سجدها له قط ..
ثم دخل الطبيب على عمر .. لينظر إلى جرحه .. فسقاه ماءً مخلوطاً بتمر ..
فخرج الماء من جروحه ..
فظن الطبيب أن الذي خرج دم وصدید .. فأسقاه لبناً ..
فخرج اللبن من جرحه الذي تحت سرته .. فعلم الطبيب أن الطعنات قد مزقت جسده ..
فقال : یا أمير المؤمنين .. أوص .. فما أظنك إلا ميتاً اليوم أو غداً ..
فقال عمر : صدقتني .. ولو قلت غير ذلك لكذبتك ..
ثم قال :
والله لو أن لي الدنيا آلها .. لافتدیت به من هول المطلع .. یعني الوقوف بين یدي
الله تعالى ..
فقال ابن عباس : وإن قلت ذلك .. فجزاك الله خيراً ..
أليس قد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم .. أن یعز الله بك الدین والمسلمين .. إذ یخافون
بمكة ؟
فلما أسلمت .. آان إسلامك عزاً .. وظهر بك الإسلام ..
وهاجرت .. فكانت هجرتك فتحاً .. ثم لم تغب عن مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم .. من
قتال المشرآين ؟
ثم قبض وهو عنك راضٍ ..
ووازرت الخليفة بعده .. وقُبض وهو عنك راض ..
ثم وليت بخير ما ولي الناس .. مصّر الله بك الأمصار ..
وجبا بك الأموال .. ونفى بك العدو ..
ثم ختم لك بالشهادة .. فهنيئا لك ..
فقال عمر : أجلسوني ..
فلما جلس .. قال لابن عباس : أعد عليَّ آلامك ..
فلما أعاد عليه ..
قال : والله إن المغرور من تغرونه ..
أتشهد لي بذلك عند الله یوم تلقاه ؟
فقال بن عباس : نعم .. ففرح عمر .. وقال : اللهم لك الحمد …
ثم جاء الناس فجعلوا یثنون عليه .. ویودعونه ..
وجاء شاب ..
فقال : أبشر یا أمير المؤمنين .. صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ثم وليت فعدلت .. ثم
شهادة ..
فقال عمر : وددت أني خرجت منها آفافاً .. لا عليَّ ولا لي ..
فلما أدبر الشاب .. فإذا إزاره یمس الأرض .. فقال عمر : ردوا علي الغلام ..
قال : یا ابن أخي .. ارفع ثوبك .. فإنه أنقى لثوبك .. وأتقى لربك ..
ثم اشتد الألم على عمر .. وجعل یتغشاه الكرب .. ویغمى عليه ..
قال عبد الله بن عمر : غشي على أبي فأخذت رأسه فوضعته في حجري ..
فأفاق .. فقال : ضع رأسي في الأرض ثم غشي عليه فأفاق ورأسه في حجري ..
فقال : ضع رأسي على الأرض ..
فقلت : وهل حجري والأرض إلا سواء یا أبتاه ..
فقال : اطرح وجهي على التراب .. لعل الله تعالى أن یرحمني ..
فإذا قبضت .. فأسرعوا بي إلى حفرتي ..
فإنما هو خير تقدموني إليه .. أو شر تضعونه عن رقابكم ..
ثم قال : ویل لعمر .. وویل لأمه .. إن لم یغفر له .. ثم ضاق به النفس .. واشتدت
عليه السكرات .. ثم مات صلى الله عليه وسلم ..
ودفنوه بجانب صاحبيه ..
نعم .. مات عمر بن الخطاب .. لكن مثله في الحقيقة لم یمت ..
قدم على أعمال صالحات .. ودرجات رفيعات ..
صاحبه في قبره قراءته للقرآن .. وبكاؤه من خشيته الرحمن ..
تؤنسه صلاته في وحشته .. ویرفع جهاده من درجته ..
تعب في دنياه قليلاً .. لكنه استراح في آخرته طویلاً ..
بل قد عده النبي صلى الله عليه وسلم من العشرة المبشرین بالجنة ..
بل قد روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال یوماً :
بينا أنا نائم رأیتني في الجنة .. فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر .. فقلت :
لمن هذا القصر ؟ قالوا : لعمر .. فذآرت غيرته فوليت مدبراً ..
فبكى عمر وقال : أعليك أغار یا رسول الله !! ..
نعم ..
هكذا الصالحون .. أیقنوا بنزول الموت فاستعدوا للقائه في آل لحظة ..
لما نزل الموت بالعابد الزاهد عبد الله بن إدریس .. اشتد عليه الكرب .. فلما اخذ
یشهق .. بكت ابنته ..
فقال : یا بنيتي .. لا تبكي .. فقد ختمت القرآن في هذا البيت أربعة آلاف ختمة ..
آلها لأجل هذا المصرع ..
أمّا عامر بن عبد الله بن الزبير .. فلقد آان على فراش الموت .. یعد أنفاس الحياة
.. وأهله حوله یبكون ..
فبينما هو یصارع الموت .. سمع المؤذن ینادي لصلاة المغرب .. ونفسه تحشرج في حلقه ..
وقد أشتدّ نزعه .. وعظم آربه ..
فلما سمع النداء قال لمن حوله : خذوا بيدي ..!!
قالوا : إلى أین ؟ ..
قال : إلى المسجد ..
قالوا : وأنت على هذه الحال !!
قال : سبحان الله .. !! أسمع منادي الصلاة ولا أجيبه ..
خذوا بيدي .. فحملوه بين رجلين .. فصلى رآعة مع الإمام .. ثمّ مات في سجوده ..
نعم .. مات وهو ساجد ..
فمن أقام الصلاة .. وصبر على طاعة مولاه .. ختم له برضاه ..
اصبر لمر حوادث الدهر فلتحمدن مغبة الصبر
وامهد لنفسك قبل ميتتها واذخر ليوم تفاضل الذخر
فكأن أهلك قد دعوك فلم تسمع وأنت محشرج الصدر
وآأنهم قد هيئوك بما یتهيأ الهلكى من العطر
وآأنهم قد قلبوك على ظهر السریر وظلمة القبر
یا ليت شعري آيف أنت على ظهر السریر وأنت لا تدري
أم ليت شعري آيف أنت إذا غسلت بالكافور والسدر
أم ليت شعري آيف أنت إذا وضع الحساب صبيحة الحشر
ما حجتك فيما أتيت وما قولك لربك بل وما العذر
ألا تكون أخذت عذرك أو أقبلت ما استدبرت من
بل آان الصالحون یتحسرون عند الممات .. على فراق الأعمال الصالحات ..
ویودون لو طالت بهم الحياة للتزود في رفع الدرجات .. وتكثير الحسنات ..
احتضر عبد الرحمن بن الأسود .. فبكى .. فقيل له :
ما یبكيك !! وأنت .. أنت ..
یعني في العبادة والخشوع .. والزهد والخضوع ..
فقال : أبكي والله .. أسفاً على الصلاة والصوم .. ثمّ لم یزل یتلو حتى مات ..
أما یزید الرقاشي فإنه لما نزل به الموت .. أخذ یبكي ویقول :
من یصلي لك یا یزید إذا متّ ؟ ومن یصوم لك ؟
ومن یستغفر لك من الذنوب .. ثم تشهد ومات ..
هذه مشاهد الاحتضار .. لأرباب التعبدّ والأسرار ..
فلوا رأیتهم تجافوا عن دفء فرشهم في الأسحار ..
یخافون یوماً تنقلب فيه القلوب والأبصار ..
فدفنوا تحت الثرى .. وقد أرضوا من یعلم السرّ وأخفى ..
هذا هو احتضار المؤمنين .. وما عند الله خير وأبقى و
الموت لا یفرق بين كبير وصغير .. ولا غني وفقير .. ولا عبد وأمير ..
هارون الرشيد
ذاك الذي ملك الأرض وملأها جنوداً ..
ذاك الذي آان یرفع رأسه .. فيقول للسحابة : أمطري في الهند أو في الصين .. أو حيث
شئت .. فوالله ما تمطرین في أرض إلا وهي تحت ملكي ..
هارون الرشيد .. خرج یوماً في رحلة صيد فمرّ برجل یقال له بُهلول ..
فقال هارون : عظني یا بُهلول ..
قال : یا أمير المؤمنين !! أین آباؤك وأجدادك ؟ من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبيك
؟
قال هارون : ماتوا ..
قال : فأین قصورهم ..؟ قال : تلك قصورهم ..
قال : وأین قبورهم ؟ قال : هذه قبورهم ..
فقال بُهلول : تلك قصورهم .. وهذه قبورهم .. فما نفعتهم قصورهم في قبورهم ؟
قال : صدقت .. زدني یا بهلول .. قال :
أما قصورك في الدنيا فواسعة * فليت قبرك بعد الموت یتسع
فبكى هارون وقال : زدني .. فقال :
یا أمير المؤمنين :
هب أنك ملكت كنوز كسرى وعُمرت السنين فكان ماذا
أليس القبر غایة آل حيٍ وتُسأل بعده عن آل هذا ؟
قال : بلى ..
ثم رجع هارون .. وانطرح على فراشه مریضاً .. ولم تمضِ عليه أیام حتى نزل به الموت
..
فلما حضرته الوفاة .. وعاین السكرات .. صاح .. بقواده وحجابه :
اجمعوا جيوشي .. فجاؤوا بهم .. بسيوفهم .. ودروعهم .. لا یكاد یحصي عددهم إلا الله
.. آلهم تحت قيادته وأمره ..
فلما رآهم .. بكى .. ثم قال :
یا من لا یزول ملكه .. ارحم من قد زال ملكه ..
ثم لم یزل یبكي حتى مات .. فلما مات ..
أخذ هذا الخليفة .. الذي ملك الدنيا وأودع حفرة ضيقة ..
لم یصاحبه فيها وزراؤه .. ولم یساآنه ندماؤه ..
لم یدفنوا معه طعاماً .. ولم یفرشوا له فراشا
ما أغنى عنه ملكه وماله ..
سل الخليفة إذ وافت منيته * أین الجنود أین الخيل والخول
أین الكنوز التي آانت مفاتحها * تنوء بالعصبة المقوین لو حملوا
أن الجيوش التي أرصدتها عدداً* أین الحدید وأین البيض والأسل
لا تنكرن فما دامت على أحد * إلا أناخ عليه الموت والوجل
أما عبد الملك بن مروان ..
فإنه لما نزل به الموت ..جعل یتغشاه الكرب .. ویضيق عليه النفس .. فأمر بنوافذ
غرفته ففتحت .. فالتفت فرأى غسالاً فقيراً في دآانه ..
فبكى عبد الملك ثم قل : یا ليتني آنت غسالاً .. یا ليتني آنت نجاراً .. یا ليتني
آنت حمالاً .. یا ليتني لم ألِ من أمر المؤمنين شيئاً .. ثم مات ..
عجباً ..
باتوا على قلل الأجبال تحرسهم * غلب الرجال فما أغنتهم القلل
واستنزلوا بعد عز عن معاقلهم * فأودعوا حفراً یا بئس ما نزلوا
ناداهم صارخ من بعد ما قبروا * أین الأسرة والتيجان والحلل
أین الوجوه التي آانت منعمة * من دونها تضرب الأستار والكلل
أین الرماة ألم تُمنع بأسهمهم * لما أتتك سهام الموت تنتصل
أین الأحبة والجيران أجمعهم * أین الأطباء ما اغنوا ولا الحيل
ما ساعدك ولا واساك أقربهم * بل سلموك لها یا قبح ما فعلوا
ما بال ذآرك منسياً ومطرحاً * وآلهم باقتسام المال قد شغلوا
ما بال قبرك وحشاً لا أنيس به * یغشاك من جانبيه الروع والوهل
ما بال قبرك لا یأتي به أحد * ولا یمرّ به من بينهم رجل
فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم * تلك الوجوه عليها الدود یقتتل
قد طال ما أآلوا دهراً وما شربوا* فأصبحوا بعد طول الأآل قد أآلوا
وطالما آنزوا الأموال وادخروا * فخلفوها على الأعداء وارتحلوا
وطالموا شيدوا دوراً لتحصنهم * ففارقوا الدور والأهلين وانتقلوا
نعم ..
انتقلوا .. إلى دور ليس فيها خدم یخدمون .. ولا أهل یكرمون .. ولا وزراء ینادمون ..
انتقلوا إلى دور .. تجالسهم فيها أعمالهم .. وتخاصمهم صحائفهم .. وما ربك بظلام
للعبيد
وهناك فریق من الناس ..وسع الله عليهم في أرزاقهم .. وعافاهم في أبدانهم ..
فغفلوا عن الاستعداد للموت حتى باغتهم ..
فبدد شملهم .. وأخذهم على قبيح فعلهم .. فلما عاینوا الموت طلبوا الرجوع للدنيا ..
لا لتجارة ولا مال .. ولا أهل ولا عيال .. ونما لإصلاح الأحوال .. وإرضاء القوي
المتعال ..
ولكن قد حكم الخالق العظيم أنهم إليها لا یُرجعون ..
أولئك العصاة والمذنبون .. اللاهون المضيعون ..
غلب عليهم حبهم لدنياهم .. فكان لهم في احتضارهم عذاب وتهویل .. وحيل بينهم وبين
الخالق الجليل ..
ذآر القرطبي :
أن أحد المحتضرین .. ممّن بدنياه انشغل .. وغرّه طول الأمل .. لما نزل به الموت ..
واشتد عليه الكرب ..
اجتمع حوله أبناؤه .. یودعونه .. ویقولون :
قل لا إله إلا الله .. فأخذ یشهق .. ویصيح .. فأعادوها عليه ..
فصاح بهم وقال :
الدار الفلانية أصلحوا فيها آذا .. والبستان الفلاني ازرعوا فيه آذا ..
والدآان الفلاني اقبضوا منه آذا .. ثمّ لم یزل یردد ذلك حتى مات ..
نعم .. مات ..
وترك بستانه ودآانه .. یتمتع بهما ورثته .. وتدوم عليه حسرته
وذآر ابن القيم :
أن أحد تجار العقار .. ذُآّر بلا إله إلاّ الله عند احتضاره فجعل یردّد :
هذه القطعة رخيصة .. وهذا مشترى جيّد .. وهذا آذا .. وهذا آذا .. حتى خرجت روحه ..
وهو على هذا الحال ..
ثم دفن تحت الثرى .. بعدما مشى عليه متكبراً ..
قد جمع الأموال .. وآثر العيال .. فما نفعوه في قبره ولا ساآنوه ..
قال ابن القيم :
واحتضر رجل ممن آان یجالس شراب الخمور .. فلما حضره نزعُ روحه ..
اقبل عليه رجل ممن حوله .. وقال : یا فلان .. یا فلان .. قل لا إله إلا الله ..
فتغير وجهه .. وتلبد لونه .. وثقل لسانه ..
فردد عليه صاحبه : یا فلان .. قل لا إله إلا الله ..
فالتفت إليه وصاح :
لا .. اشرب أنت ثمّ اسقني .. اشرب أنت ثمّ اسقني ..
وما زال یردّدها .. حتى فاضت روحه إلى باریها ..
نعوذ بالله .. { وحيل بينهم وبين ما یشتهون آما فعل بأشياعهم من قبل} .
وذآر الصفدي :
أن رجلاً آان یشرب الخمر ویجالس أهلها .. وآان إذا سكر ونام .. یمشي ولا یعقل ..
فكان ینام في السطح ویشد رجله بحبل آي لا یقع ..
فسكر ليلة ونام .. فقام یمشي .. وسقط من السطح .. فأمسكه الحبل .. فبقي معلقاً
منكساً .. حتى أصبح ميتاً
وذآر في أنموذج الزمان :
أن محمد بن المغيث آان رجلاً فاسقاً .. مفتوناً بشرب الخمر .. ولا یكاد یخرج من بيت
الخمار ..
فلما مرض .. ونزل به الموت .. وخارت قواه ..
سأله رجل ممن حوله .. هل بقي في جسمك قوة ؟ هل تستطيع المشي ..؟
فقال : نعم .. لو شئت مشيت من هنا إلى بيت الخمار ..
فقال صاحبه : أعوذ بالله أفلا قلت أمشي إلى المسجد ؟
فبكى .. وقال :
غلب ذلك عليَّ لكل امرئ من دهره ما تعودا .. وما جرت عادتي بالمشي إلى المسجد
وقال ابن أبي رواد :
حضرت رجلاً عند الموت .. فجعل من حوله یلقّنونه لا إله إلا الله .. فحيل بينه
وبينها .. وثقلت عليه .. فجعلوا یعيدون عليه .. ویكررون .. ویذآرونه بالله .. وهو
في آرب شدید ..
فلما ضاق عليه النفس .. صاح بهم وقال : هو آافر بلا إله إلاّ الله .. ثم شهق ومات
..
قال : فلما دفناه .. سألت أهله عن حاله : فإذا هو مدمن للخمر ..
نعوذ بالله من سوء الخاتمة ..
بل نعوذ بالله من أم الخبائث .. ورأس الفواحش ..
ومن شرب الخمر في الدنيا لم یشربها في الآخرة .. ومن شرب الخمر في الدنيا آان حقاً
على الله أن یسقيه من طينة الخبال .. قيل : یا رسول الله وما طينة الخبال ؟
قال : عصارة أهل النار ..
إلا
أما أهل المعازف والغناء .. فلهم عند الموت آربة وبلاء ..
ذآر ابن القيم :
أن رجلا من أهل الغناء والمعازف حضرته الوفاة .. فلما اشتدّ به نزع روحه ..
قيل له : قل لا إله إلا الله .. فجعل یردد أبياتاً من الغناء ..
فأعادوا عليه التلقين ..: قل لا إله إلا الله .. فجعل یردد الألحان ویقول : تنتنا
.. تنتنا ..
حتى خرجت روحه من جسده .. وهو إنمّا یلحّن ویغني ..
أما أهل الجریمة الكبرى .. والداهية العظمى ..
فهم أنصار الشيطان .. وأعداء الرحمن ..
وخصوم المؤمنين .. وإخوان الكافرین ..
الذین یحشرون مع فرعون وهامان ..ویتقلبون معهم في النيران ..
هم تارآو الصلاة .. وبين الرجل وبين الكفر أو الشرك .. ترك الصلاة ..
وحالهم عند الموت وبعده أدهى وأفظع ..
ذآر ابن القيم :
أن أحد المحتضرین .. آان صاحب معاص وتفریط .. فلم یلبث أن نزل به الموت .. ففزع من
حوله إليه .. وانطرحوا بين یدیه .. وأخذوا یذآرونه بالله .. ویلقنونه لا إله إلا
الله ..
وهو یدافع عبراته .. فلما بدأت روحه تنزع .. صاح بأعلى صوته .. وقال :
أقول : لا إله إلا الله !!
وما تنفعني لا إله إلا الله ؟!! وما أعلم أني صليت لله صلاة !!
ثمّ مات ..
هذا هو الموت .. أول طریق الآخرة ..
وما بعده أفظع وأآبر ..
أما أحوال أهل القبور .. فهي أدهى وأخطر ..
فكم من جسد صحيح .. ووجه صبيح .. ولسان فصيح .. هو اليوم في قبره یصيح ..
على أعماله نادم .. وعلى الله قادم ..
خرج عمر بن عبد العزیز .. في جنازة بعض أهله فلما أسلمه إلى الدیدان .. ودسه في
التراب .. التفت إلى الناس فقال :
أیها الناس :
إن القبر ناداني من خلفي .. أفلا أخبرآم بما قال لي ؟
قالوا : بلى ..
فقال : إن القبر قد ناداني فقال :
یا عمر بن عبد العزیز .. ألا تسألني ما صنعت بالأحبة ؟
قلت : بلى .
قال : خرقت الأآفان .. ومزقت الأبدان .. ومصصت الدم .. وأآلت اللحم ..
ألا تسألني ما صنعت بالأوصال ؟
قلت : بلى .
قال : نزعت الكفين من الذراعين .. والذراعين من العضدین .. والعضدین من الكتفين ..
والورآين من الفخدین .. والفخدین من الرآبتين .. والرآبتين من الساقين .. والساقين
من القدمين .
ثم بكى عمر فقال :
ألا إن الدنيا بقاؤها قليل .. وعزیزها ذليل ..
وشبابها یهرم .. وحيها یموت .. فالمغرور من اغترَّ بها ..
أین سكانها الذین بنوا مدائنها ..
ما صنع الترابُ بأبدانهم ؟
والدیدانُ بعظامهم وأوصالهم ؟
آانوا في الدنيا على أسرةٍ ممهدة .. وفرشٍ منضدة ..
بين خدم یخدمون .. وأهلٍ یكرمون ..
فإذا مررت فنادهم .. وانظر إلى تقارب قبورهم من منازلهم ..
وسل غنيَّهم ما بقي من غناه ؟
وسل فقيرَهم ما بقي من فقره ؟
سلهم .. عن الألسن .. التي آانوا بها یتكلمون .. وعن الأعين التي آانوا إلى اللذات
بها ینظرون ..
وسلهم عن الجلود الرقيقة .. والوجوه الحسنة .. والأجساد الناعمة ..
ما صنع بها الدیدان ؟
محت الألوان .. وأآلت اللحمان .. وعفرت الوجوه .. ومحت المحاسن ..
وآسرت القفا .. وأبانت الأعضاء .. ومزقت الأشلاء ..
أین خدمهم وعبيدهم ..أین جمعهم ومكنوزهم ؟
والله ما زودوهم فَرْشا .. ولا وضعوا هناك متكئاً ..
أليسوا في منازل الخلوات .. وتحت أطباق الثرى في الفلوات ؟
أليس الليل والنهار عليهم سواء ؟
قد حيل بينهم وبين العمل .. وفارقوا الأحبة والأهل ..
قد تزوجت نساؤهم .. وترددت في الطرق أبناؤهم ..
وتوزعت القرابات دیارهم وتراثهم ..
ومنهم والله الموسع له في قبره .. الغض الناضر فيه .. المتنعم بلذته ..
ثم بكى عمر وقال :
یا ساآن القبر غداً ..
ما الذي غرك من الدنيا ! ..
أین رقاق ثيابك .. أین طيبك .. أین بخورك ..
آيف أنت على خشونة الثرى ..
ليت شعري بأي خدیك یبدأ الدود البِلى ..
ليت شعري ما الذي یلقاني به ملك الموت عند خروجي من الدنيا .. وما یأتيني به من
رسالة ربي ..ثم بكى بكاءً ..
ثم انصرف فما بقي بعد ذلك إلا جمعة .. ومات .. رحمه الله .
أهلُ القبور إما معذبون أو منعّمون ..
بل لعله في القبر الواحد دُفن عدة أشخاص .. هذا إلى الجنة وهذا إلى النار ..
بل یا أُخَيَّ ..إن الأمر أعجب من ذلك ..
لعل تحت قدميك الآن أقوام یُعذبون أو ینعمون ..
بل لعل تحتك في غرفة نومك أقواما محبوسين في حفر من جهنم ..
یعرضون على النار بكرة وعشياً ..
من یدري فالناس آثير .. والأرض قد تضيق عنهم ..
صاح هذي قبورنا تملأ الرحب * فأین القبور من عهد عاد
خفف الوَطْء ما أظن أدیم الأرض * إلا من هذه الأجساد
رُبَّ قبر قد صار قبراً مراراً * ضاحكٍ من تزاحم الأضداد
ودفين على رفات دفين * من قدیم الزمان والآماد
تعب آلها الحياة فلا أعجب * إلا من راغب في ازدیاد
فأي عيش صفا وما آدّره الموت ؟
أي قدم سعت وما عثّرها الموت ؟
أما أخذ الآباء والأجداد ؟ أما سلب الحبيب وقطع الوداد ؟
أما أرمل النسوان .. وأیتم الأولاد ؟
عزاءٌ فما یصنع جازعُ ودمع الأسى أبد ضائعُ
بكى الناس من قبل أحبابهم فهل منهم أحدٌ راجعُ
فدلى ابن عشرین في قبره وتسعون صاحبها رافعُ
یُسلِّم مهجته راغماً آما مدّ راحته البائعُ
ولو أن من حدث سالما لما خسف القمر الطالع
وآيف یوقّى الفتى ما یخاف إذا آان حاصده الزارع
فالقبر روضة من الجنان أو حفرة من حفر النيران
وإنه للفيصل الذي به ینكشف الحال فلا یشتبه
فإن یكُ خيراً فالذي من بعده أفضل عند ربنا لعبده
وإن یكن شراً فما بعد أشدّ ویل لعبد عن سبيل الله
روى الإمام أحمد في مسنده :
عن البراء بن عازب قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة .. فجلس رسول الله
صلى الله عليه وسلم على القبر .. وجلسنا حوله .. آأن على رؤوسنا الطير .. وهو یلحد له ..
فقال : تعوذوا بالله من عذاب القبر .. قلنا : نعوذ بالله من عذاب القبر ..
قال : تعوذوا بالله من عذاب القبر .. قلنا : نعوذ بالله من عذاب القبر ..
قال : تعوذوا بالله من عذاب القبر .. قلنا : نعوذ بالله من عذاب القبر ..
ثم قال :
إن العبد المؤمن إذا آان في انقطاع من الدنيا .. وإقبال من الآخرة ..
نزل إليه ملائكة من السماء .. بيض الوجوه .. آأن وجوههم الشمس ..
معهم آفن من أآفان الجنة .. وحنوط من حنوط الجنة ..
حتى یجلسوا منه مد البصر ..
ثم یجئ ملك الموت عليه السلام .. حتى یجلس عند رأسه .. فيقول :
أیتها النفس الطيبة .. أخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان ..
فتخرج تسيل .. آما تسيل القطرة من فيِّ السقاء .. فيأخذها .. فإذا أخذها .. لم
یدعوها في یده طرفة عين .. حتى یأخذوها فيجعلوها .. في ذلك الكفن .. وفي ذلك الحنوط
.. ویخرج منها آأطيب نفحة مسك .. وجدت على وجه الأرض ..
فيصعدون بها .. فلا یمرون على ملأ من الملائكة .. إلا قالوا :
ما هذا الروح الطيب ؟
فيقولون : فلان بن فلان .. بأحسن أسمائه التي آانوا یسمونه بها في الدنيا ..
حتى ینتهوا بها إلى السماء الدنيا .. فيستفتحون له .. فيفتح لهم .. فيشيعه من آل
سماء مقربوها .. إلى السماء التي تليها .. حتى یُنتهى به إلى السماء السابعة ..
فيقول الله عز وجل : اآتبوا آتاب عبدي في عليين .. وأعيدوه إلى الأرض .. فإني منها
خلقتهم .. وفيها أعيدهم .. ومنها أخرجهم تارة أخرى ..
فتعاد روحه في جسده ..
فيأتيه ملكان .. فيجلسانه .. فيقولان له :
من ربك ؟ فيقول : ربي الله ..
فيقولان له : ما دینك ؟ فيقول : دیني الإسلام ..
فيقولان له : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول : هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
فيقولان له : وما علمك ؟ فيقول : قرأت آتاب الله .. فآمنت به .. وصدقت ..
فينادى مناد في السماء : أن صدق عبدي .. فافرشوه من الجنة .. وألبسوه من الجنة ..
وافتحوا له باباً إلى الجنة ..
فيأتيه من روحها .. وطيبها .. ویفسح له في قبره .. مَدَّ بصره ..
ویأتيه رجل حسنُ الوجه .. حسنُ الثياب .. طيب الریح ..
فيقول : أبشر بالذي یسرك .. هذا یومك الذي آنت توعد ..
فيقول له : من أنت ؟ فوجهك الوجه یجئ بالخير ..
فيقول : أنا عملك الصالح .. آنت والله سریعاً في طاعة الله .. بطيئاً عن معصية الله
.. فجزاك الله خيراً ..
نعم .. أیها الإخوة والأخوات ..
یقول له : أنا عملك الصالح ..
أنا صلاتك وصومك .. أنا برك وصدقتك ..
أنا بكاؤك وخشيتك .. أنا حجك وعمرتك ..
أنا قراءتك للقرآن .. وحبك للرحمن ..
أنا قيامك في الأسحار .. وصومك في النهار .. وخوفك من العزیز الجبار ..
أنا برك لوالدیك ..أنا طلبك للعلم ..
أنا دعوتك إلى الله .. أنا جهادك في سبيل الله ..
فإذا رأى العبد المؤمن .. هذا الوجه الصبوح یبشره ..
والتفت حوله فرأى قبره قد أصبح واسعاً .. فيه فرش من الجنة .. ونظر إلى لباسه فإذا
هو من الجنة ..
علم أن هذا النعيم لا یساوي شيئاً بجانب ما ینتظره في الجنة .. فيدعوا ربه ویقول :
رب أقم الساعة .. حتى أرجع إلى أهلي ومالي ..
قال :
وإن العبد الكافر أو الفاسق .. إذا آان في انقطاع من الدنيا .. وإقبال من الآخرة ..
نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه .. معهم المسوح ..
فيجلسون منه مد البصر .. ثم یجئ ملك الموت .. حتى یجلس عند رأسه .. فيقول :
یا أیتها النفس الخبيثة .. أخرجي إلى سخط من الله وغضب ..
فتفرق في جسده .. فينتزع
الحمد لله رب العالمين .. الرحمن الرحيم .. مالك یوم الدین ..
الحمد لله الكریم الوهاب .. الحمد لله الرحيم التواب .. الحمد لله الهادي إلى
الصواب .. مزیل الشدائد وآاشف المصاب ..
الحمد لله فارج الهم .. وآاشف الغم .. مجيب دعوة المضطر .. فما سأله سائل فخاب ..
یسمع جهر القول وخفي الخطاب .. أخذ بنواصي جميع الدواب .. فسبحانه من إله عظيم ..
لا یماثل .. ولا یضاهى .. ولا یرام له جناب .. هو ربنا لا إله إلا هو .. عليه
توآلنا .. وإليه المرجع والمتاب ..
وسبحان من انفرد بالقهر والاستيلاء ..
واستأثر باستحقاق البقاء ..
وأذل أصناف الخلق بما آتب عليهم من الفناء ..
وأشهد أن لا إله إلا الله ..
أما بعد ..
حدائق الموت ؟
تلك القبور التي غيبت فيها أجساد تحت التراب .. تنتظر البعث والنشور وأن ینفخ في
الصور ..
اجتمع أهلها تحت الثرى .. ولا یعلم بحالهم إلا الذي یعلم السر وأخفى ..
نعم ..
إنه الموت ..
أعظم تحدٍّ تحدى الله به الناس أجمعين ..
الملوك والأمراء .. والحُجّاب والوزراء .. والشرفاء والوضعاء .. والأغنياء والفقراء
..
آلهم عجزوا أن یثبتوا أمام هذا التحدي الإلهي { قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت
إن آنتم صادقين }
أین الجنود ؟ أین الملك ؟ أین الجاه ؟
أین الأآاسرة ؟ أین القياصرة ؟
أین الزعماء ؟
أتى على الكل أمر لا مرد له حتى قضوا فكأن القوم ما آانوا
وصار ما آان من مُلكٍ ومن مَلِكٍ آما حكى عن خيال الطيف وسنان
مرض أبو بكرة رضي الله عنه واشتد مرضه .. فعرض عليه أبناؤه أن یأتوه بطبيب .. فأبى ..
فلما نزل به الموت صرخ بأبنائه وقال : أین طبيبكم ؟ .. ليرّدها إن آان صادقاً ..
ووالله لو جاءه أطباء الدنيا .. ما ردوا روحه إليه ..
{ فلولا إذا بلغت الحلقوم * وأنتم حينئذ تنظرون * ونحن أقرب إليه منكم ولكن
لا تبصرون * فلولا إن آنتم غير مدینين * ترجعونها إن آنتم صادقين * فأما إن آان من
المقربين * فروح وریحان وجنة نعيم * وأما إن آان من أصحاب اليمين * فسلام لك من
أصحاب اليمين * وأما إن آان من المكذبين الضالين * فنزل من حميم * وتصلية جحيم * إن
هذا لهو حق اليقين * فسبح باسم ربك العظيم } ..
إنه الموت ..
هادم اللذات .. ومفرق الجماعات .. وميتم البنين والبنات ..
المنایا تَجُوسُ آلّ البِلادِ والمنایَا تَبيدُ آلّ العِبَادِ
لَتَنالَنّ من قُرونٍ أراها مثلَ ما نِلْنَ من ثَمُودٍ وعادِ
هل تذآّرْتَ من خلا من بني الأصْ فَرِ أهْلِ القِبابِ والأطْوادِ
هلْ تذآّرْتَ من خَلا من بني سَا سانَ أرْبابِ فارِسٍ والسّوَادِ
أینَ داوُدُ أینَ ؟ أینَ سُلَيْمَا نُ المنيعُ الأعراضِ والأجنادِ ؟!
أینَ نُمرُودُ وابْنُهُ أینَ قارُو نُ وهامانُ أینَ ذو الأوتادِ
وَرَدوا آلهم حِياضَ المنایَا ثمّ لم یَصْدِروا عَنِ الإیرادِ
أتَنَاسَيْتَ أمْ نَسيتَ المنایَا؟ أنَسيتَ الفِراقَ للأوْلادِ ؟
أنَسيتَ القُبُورَ إذْ أنتَ فيها بَينَ ذُلٍّ وَوَحشَةٍ وانفِرادِ
أي یَوْمٍ یَومُ الممات وإذْ أنْ تَ تُنادى فَما تُجيبُ المنادي
أيّ یَوْمٍ یوم الفِراقِ وإذْ نَفْسُكَ تَرْقَى عَنِ الحَشا والفُؤادِ
أيّ یَوْمٍ یَوْمُ الفراقِ وإذْ أنْ تَ من النّزْعِ في أشَدّ الجِهادِ
أيّ یَوْمٍ یَوْمُ الصّراخِ وإذْ یَلْطِمن حُرّ الوّجُوهِ والأجيَادِ
باآِياتٍ عَلَيكَ یَندُبنَ شَجواً خافِقاتِ القُلُوبِ والأآْبادِ
یَتَجاوَبْنَ بالرّنينِ ویَذْرِفْ نَ دُمُوعاً تَفيضُ فَيضَ المَزادِ
أيّ یَوْمٍ یوْمُ الوُقوفِ إلى الله ویَوْمُ الحِسابِ والإشْهادِ
أيّ یَوْمٍ یوم المَرور عَلى النّا رِ وأهْوَالِها العِظامِ الشّدادِ
أيّ یَوْمٍ یَوْمُ الخَلاصِ من النّا رِ وهَوْلِ العَذابِ والأصْفادِ
آم وآم في القُبُورِمن أهلِ ملكٍ آمْ وآمْ في القُبورِمن قُوّادِ
آمْ وآم في القُبورِمن أهلِ دُنْيا آمْ وآم في القُبورِ من زُهّادِ
وَرَدوا آلهم حِياضَ المنایَا ثمّ لم یَصْدِروا عَنِ الإیرادِ
* * * * * * * * * *
ومن تأمل في الموت علم أنه أمر آبّار .. وآأس تدار .. على من أقام أو سار .. یخرج
به العباد من الدنيا إلى جنة أو نار ..
ولو لم یكن في الموت إلا الإعدام .. وانحلال الأجسام .. ونسيان أجمل الليالي
والأیام ..
لكان والله لأهل اللذات مكدراً .. ولأصحاب النعيم مغيراً ..
* * * * * * * * * *
وليست المشكلة في الموت .. فالموت باب وآل الناس داخله ..
لكن المشكلة الكبرى .. والداهية العظمى ..
ما الذي یكون بعد الموت ..
أفي { جنات ونهر * في مقعد صدق عند مليك مقتدر } ..
أم في { ضلال وسعر * یوم یسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مسَّ سقر} ..
* * * * * * * * * *
ولأجل ذلك .. فالصالحون یشتاقون إلى لقاء ربهم .. ویعدون الموت جسراً یعبرون عليه
إلى الآخرة ..
نعم .. یفرحون بالموت ما دام یقربهم إلى ربهم ..
ذآر بعض المؤرخين ..
أن العدو أغار على ثغر من ثغور الإسلام .. فقام عبد الواحد بن زید وآان خطيب البصرة
وواعظها .. فحث الناس على البذل والجهاد .. ووصف ما في الجنة من نعيم .. ثم وصف
الحور العين .. وقال :
غادة ذات دلال ومرح
خلقت من آل شيء حسن
أترى خاطبها یسمعها
یا حبيباً لست أهوى غيره
لا تكونن آمن جدّ إلى
لا فما یخطب مثلي من سها یجد الواصف فيها ما اقترح
طيب فالليت عنها مطرح
إذ تدیر الكأس طوراً والقدح
بالخواتيم یتم المفتتح
منتهى حاجته ثم جمح
إنما یخطب مثلي من ألحَّ
فاشتاق الناس إلى الجنة .. وارتفع بكاء بعضهم ..ورخصت عليهم أنفسهم في سبيل الله ..
فوثبت عجوز من بين النساء .. هي أم إبراهيم البصریة ..
وقالت :
یا أبا عبيد .. أتعرف ابني إبراهيم !
الذي یخطبه رؤساء أهل البصرة .. إلى بناتهم .. وأنا أبخل به عليهن ..
قد والله أعجبتني هذه الجاریة وقد رضيتها عروساً لابني إبراهيم .. فكرر ما ذآرت من
أوصاف .. لعله یشتاق ..
فقال أبو عبيد :
إذا ما بدت والبدر ليلة تمه رأیت لها فضلا مبينا على البدر
وتبسم عن ثغر نقى آأنه من اللؤلؤ المكنون في صدف البحر
فلو وطئت بالنعل منها على الحصى لأزهرت الأحجار من غير ما قطر
ولو شئت عقد الخصر منها عقدته آغصن من الریحان ذي ورق خضر
ولو تفلت في البحر حلو لعابها لطاب لأهل البر شرب من البحر
أبى الله إلا أن أموت صبابة بساحرة العينين طيبة النشر
فاضطرب الناس ..وآبروا ..
وقامت أم إبراهيم .. وقالت :
یا أبا عبيد .. قد والله رضيت بهذه الجاریة .. زوجة لإبراهيم ..
فهل لك أن تزوجها له في هذه الساعة ؟ وتأخذَ مني مهرها عشرة آلاف دینار ..
لعل الله أن یرزقه الشهادة .. فيكون شفيعاً لي ولأبيه في القيامة ..
فقال عبد الواحد : لئن فعلت .. فأرجو والله أن تفوزوا فوزاً عظيماً ..
فصاحت العجوز : یا إبراهيم .. یا إبراهيم ..
فوثب شاب نضر .. من وسط الناس .. وقال : لبيك یا أماه ..
فقالت : أي بنيَّ .. أرضيت بهذه الجاریة .. زوجة لك .. ومهرها أن تبذل مهجتك في
سبيل الله .. ؟
فقال : أي والله یا أماه ..
فذهبت العجوز مسرعة إلى بيتها .. ثم جاءت بعشرة آلاف دینار ..
فوضعتها في حجر عبد الواحد .. ثم رفعت بصرها إلى السماء ..
وقالت : اللهم إني أشهدك .. أني زوجت ولدي من هذه الجاریة ..
على أن یبذل مهجته في سبيلك .. فتقبله مني یا أرحم الراحمين ..
ثم قالت : یا أبا عبيد .. هذا مهر الجاریة مني عشرةُ آلاف دینار ..
تجهَّز به وجهز الغزاة في سبيل الله ..
ثم انصرفت .. واشترت لولدها فرساً جيداً .. وسلاحاً حسناً ..
وأخذت تعد الأیام لرحيله ..
وهي تودعه غي آل نظرة تنظرها .. وآلمة تسمعها ..
والمجاهدون یعدون العدة للخروج ..
فلما حان وقت النفير خرج إبراهيم یعدو .. والمجاهدون حوله یتسابقون ..
والقراء حولهم یقرؤون :{ إن الله اشترى من .. }..
فلما أرادت فراق ولدها .. دفعت إليه آفناً .. وطيباً یطيب به الموتى
.. ثم نظرت إليه .. وآأنما هو قلبها یخرج من صدرها ..
ثم قالت :
یا بنيَّ .. إذا أردت لقاء العدو .. فالبس بهذا الكفن .. وتطيب بهذا الطيب ..
وإیاك أن یراك الله مقصراً في سبيله ..
ثم ضمته إلى صدرها .. وآتمت من عبرتها .. وأخذت تشمه .. وتودعه .. وتقبله ..
ثم قالت : اذهب یا بنيّ .. فلا جمع الله بيني وبينك .. إلا بين یدیه یوم القيامة ..
فمضى إبراهيم .. والعجوز تتبعه بصرها .. حتى غاب مع الجيش ..
فلما بلغوا بلاد العدو وبرز الناس للقتال .. أسرع إبراهيم إلى المقدمة ..
فابتدأ القتال .. ورميت النبال .. وتنافس البطال ..
أما إبراهيم .. فقد جال بين العدو وصال .. وقاتل قتال الأبطال ..
حتى قتل أآثر من ثلاثين من جيش العدو ..
فلما رأى العدو ذلك .. أقبل عليه جمع منهم .. هذا یطعنه .. وهذا یضربه .. وهذا
یدفعه .. وهو یقاوم .. ویقاتل .. حتى خارت قواه ووقع من فرسه .. فقتلوه ..
وانتصر المسلمون .. وهزم الكافرون ..
ثم رجع الجيش إلى البصرة ..
فلما وصلوا البصرة تلقاهم الناس .. الرجال .. والعجائز .. والأطفال ..
وأم إبراهيم بينهم .. تدور عيناها في القادمين ..
فلما رأت عبد الواحد .. قالت : یا أبا عبيد !
هل قبل الله هدیتي فأهنا ؟ أم رُدت علي فأعزى ؟
فقال لها : بل قبل الله هدیتك ..
وأرجو أن یكون ابنك الآن مع الشهداء یرزق ..
فصاحت قائلة :
الحمد لله .. الذي لم یخيب فيه ظني .. وتقبل نسكي مني .. وانصرفت إلى بيتها وحدها
.. بعدما فارقت ولدها .. یشتد شوقها .. فتأتي إلى فرشه فتشمها .. وإلى ثيابه
فتقلبها .. حتى نامت ..
فلما آان الغد :
جاءت أم إبراهيم إلى مجلس أبي عبيد وقالت :
السلام عليك یا أبا عبيد .. بشراك .. بشراك ..
فقال : لا زلت مبشرة بالخير یا أم إبراهيم .. ما خبرك ..؟
فقالت : رأیت البارحة ولدي إبراهيم .. في روضة حسناء ..
وعليه قبة خضراء .. وهو على سریر من اللؤلؤ .. وعلى رأسه تاج یتلألأ .. وإآليل یزهر
..
وهو یقول : یا أماه .. أبشري .. قد قُبل المهر .. وزُفت العروس ..
نعم ..
هؤلاء أقوام .. أیقنوا أنه لا مهرب من نزول الموت .. فسعوا إليه قبل أن یسعى إليهم
..
أحبّوا لقاء الله فأحبّ الله لقاءهم .. وبذلوا مهجهم رخيصة في سبيل الله تعالى ..
فما هو الجزاء ؟
{ ولا تحسبن الذین قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم یرزقون *
فرحين بما آتاهم الله من فضله ویستبشرون بالذین لم یلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف
عليهم ولا هم یحزنون * یستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا یضيع أجر المؤمنين
* الذین استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذین أحسنوا منهم واتقوا أجر
عظيم }
نعم والله .. ذلك الفوز الكبير ..
إذا أوقفهم ربهم بين یدیه .. فرحوا بما ماتوا عليه .. فيبيض وجوههم .. ویرفع
درجاتهم .
بل آان الصالحون یفتنون في دینهم .. ویهددون بالموت .. فلا یلتفتون إليه ..
نفوسهم صامدة .. على غایة واحدة .. هي الموت على ما یرضي الله ..
فهم آما قال الله لهم : { یا أیها الذین آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } ..
نعم .. ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ..
- لما ربط الكفار خبيب بن عدي رضي الله عنه على جذع نخلة ليقتلوه .. لم یفزع .. ولم
یجزع .. بل أخذ ینظر إليهم ویقول :
لقد جمع الأحزاب حولي وألبوا قبائلهم واستجمعوا آل مجمع إلى الله أشكو غربتي ثم آربتي وما أرصد
الأعداء لي عند مصرعي ولست أبالي حين أقتل مسلما على أي جنب آان في الله مصرعي وذلك في
ذات الإله وان یشأ یبارك على أوصال شلوٍ ممزع - ولما دخل سعد بن أبي وقاص على ملك الفرس ..
صرخ في وجهه وقال : جئتك بقوم یحبون الموت .. آما تحبون أنتم الحياة ..
- وفي معرآة أحد یكثر القتل بالمسلمين .. وتتسابق سهام الكفار إلى رسول صلى الله عليه وسلم ..
فكان أبو طلحة رضي الله عنه یرفع صدره ویقول :
یا رسول الله لا یصيبك سهم .. نحري دون نحرك ..
نعم ما دام أن الموت في رضا الرحمن فمرحباً بالموت ..
بل آانت المعاصي والشهوات .. والآثام والملذات ..
تعرض على الصالحين .. فلا یلتفتون إليها .. فيهددون بالموت .. فيختارونه .. فربهم
أعظم عندهم من آل شيء ..
ذآر ابن آثير وغيره :
أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث جيشاً لحرب الروم ..
وآان من ضمن هذا الجيش .. شاب من الصحابة .. هو عبد الله بن حذافه رضي الله عنه ..
وطال القتال بين المسلمين والروم .. وعجب قيصرُ ملكُ الروم من ثبات المسلمين ..
وجرأتهم على الموت ..
فأمر أن یحضر إليه أسير من المسلمين ..
فجاءوا بعبد الله بن حذافة .. یجرونه .. الأغلال في یدیه .. والقيود في قدميه ..
فأوقفوه أمام الملك ..
فتحدث قيصر معه فأعجب بذآائه وفطنته ..
فقال له : تنصر .. وأطلقك من الأسر ..
فقال عبد الله : لا ..
فقال قيصر : تنصر .. وأعطيك نصف ملكي ..
فقال : لا ..
فقال : تنصر .. وأعطيك نصف ملكي .. وأشرآك في الحكم معي ..
فقال عبد الله : والله لو أعطيتني ملكك .. وملك آبائك .. وملك العرب والعجم .. على
أن أرجع عن دیني طرفة عين ما فعلت ..
فغضب قيصر .. وقال : أذن أقتلك ..
قال : اقتلني ..
فأمر قيصر به فسحب .. وعلق على خشبة ..
وجاء قيصر .. وأمر الرماة .. أن یرموا السهام حوله ولا یصيبوه ..
وهو في أثناء ذلك یعرض عليه النصرانية .. وهو یأبى .. وینتظر الموت ..
فلما رأى قيصر إصراره ..
أمر أن یمضوا به إلى الحبس ..
ففكوا وثاقه ومضوا به إلى الحبس .. وأمر أن یمنعوا عنه الطعام والشراب .. فمنعوهما
..
حتى إذا آاد أن یهلك من الظمأ والجوع ..
أحضروا له خمراً .. ولحم خنزیر ..
فلما رآهما عبد الله .. قال : والله إني لأعلم أن ذلك یحل لي في دیني .. ولكني لا
أرید أن یشمت بي الكفار .. فلم یقرب الطعام ..
فأخبر قيصر بذلك .. فأمر له بطعام حسن ..
ثم أمر أن تدخل عليه امرأة حسناء تتعرض له بالفاحشة ..
فأدخلت عليه .. وجعلت تتعرض له وهو معرض عنها ..
وهي تتمایل أمامه ولا یلتفت إليها ..
فلما رأت المرأة ذلك .. خرجت غضبى وهي تقول :
والله لقد أدخلتموني على رجل .. لا أدري أهو بشر أم حجر ..
وهو والله لا یدري عني أأنا أنثى أم ذآر ..
فلما یئس منه قيصر .. أمر بقدر من نحاس .. فأغلي فيها الزیت ..
ثم أوقف عبد الله بن حذافة أمامها ..
وأحضروا أحد الأسرى المسلمين موثقاً بالقيود .. حتى ألقوه في هذا الزیت .. وغاب
جسده في الزیت .. ومات .. وطفت عظامه تتقلب في فوق الزیت ..
وعبد الله ینظر إلى العظام .. فالتفت قيصر إلى عبد الله .. وعرض عليه النصرانية ..
فأبى ..
فاشتد غضب قيصر .. وأمر بطرحه في القدر ..
فلما جروه إلى القدر .. وشعر بحرارة النار .. بكى .. ودمعت عيناه ..
ففرح قيصر .. وقال :
تتنصر .. وأعطيك .. وأمنحك ..
قال : لا ..
قال : إذاً .. لماذا بكيت ..
فقال عبد الله : أبكي لأنه ليس لي إلا نفس واحدة تلقى في هذا القدر .. فتموت ..
ولقد وددت والله أن لي مائة نفس آلها تموت في سبيل الله .. مثل هذه الموتة ..
فقال له قيصر : قبل رأسي وأخلي عنك ؟
فقال له عبد الله : وعن جميع أسارى المسلمين عندك ..
قال : نعم ..
فقبل رأسه .. ثم أطلقه مع الأسرى ..
عجباً !! لله دره !!
أین نحن اليوم من مثل هذا الثبات .. ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ..
إن من المسلمين اليوم .. من یتنازل عن دینه .. لأجل دراهم معدودات .. أو تتبع
الشهوات .. أو الولوغ في الملذات .. ثم یختم له بالسوء والعياذ بالله ..
ومن عدل الله تعالى أن العبد یختم له في الغالب على ما عاش عليه ..
فمن آان في حياته یشتغل بالذآر والقيام .. والصدقات والصيام .. ختم له بالصالحات ..
ومن تولى وأعرض عن الخير .. خشي عليه أن یموت على ما اعتاد عليه ..
ولأجل هذا الفرق العظيم .. آان الصالحون یستعدون للموت قبل نزوله ..
بل یغتنم أحدهم آخر الأنفاس واللحظات .. في التزود ورفع الدرجات ..
فتجده یجاهد .. ویأمر بالمعروف .. وینهى عن المنكر .. ویشتغل بالطاعات .. إلى آخر
نفس یتنفسه ..
ثبت الصحيحين وغيرهما ..
أن النبي صلى الله عليه وسلم بعدما رجع من حجة الوداع ..
جعل مرض الموت یشتد عليه .. یوماً بعد یوم .. وهو في آلمة یتكلمها .. ونظرة ینظرها
.. یودع هذه الدار ..
ولما اشتدت عليه الحمى .. وأیقن النقلة للدار الأخرى ..
أراد أن یودع الناس ..
فعصب رأسه ..
ثم أمر الفضل بن العباس أن یجمع الناس في المسجد .. فجمعهم .. فاستند صلى الله عليه وسلم
إليه .. حتى رقى إلى المنبر .. ثم حمد الله وأثنى عليه ثم قال :
أما بعد ..
أیها الناس .. إنه قد دنى مني خلوف من بين أظهرآم ..
ولن تروني في هذا المقام فيكم ..
ألا فمن آنت جلدت له ظهراً .. فهذا ظهري فليستقد منه ..
ومن آنت أخذت له مالاً .. فهذا مالي فليأخذ منه ..
ومن آنت شتمت له عرضاً .. فهذا عرضي فليستقد منه ..
ولا یقولن قائل إني أخشى الشحناء ..
ألا وإن الشحناء ليست من شأني .. ولا من خلقي ..
وإن أحبكم إلي من أخذ حقاً .. إن آان له علي ..
أو حللني فلقيت الله عز وجل .. وليس لأحد عندي مظلمة ..
ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ..ومضى إلى بيته .. وبدأت الحمى تأآل جسده .. وهو یتحامل
على نفسه ویخرج إلى الناس ویصلي بهم ..
حتى صلى بأصحابه المغرب .. من یوم الجمعة ..
ثم دخل بيته .. وقد اشتدت عليه الحمى .. فوضعوا له فراشاً فانطرح عليه ..
وظل على فراشه تكوي الحمى جسده ..
ثم ثقل به مرض الموت .. وهو على فراشه ..
واجتمع الناس لصلاة العشاء .. وجعلوا ینتطرون إمامهم صلى الله عليه وسلم ليصلي بهم ..
ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد هده المرض .. یحاول النهوض من فراشه .. فلا یقدر .. فأبطأ
عليهم ..
فجعل بعض الناس ینادي : الصلاة .. الصلاة ..
فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى من حوله وقال : أصلى الناس ؟
قالوا : لا .. یا رسول الله .. هم ینتظرونك ..
فإذا حرارة جسده صلى الله عليه وسلم تمنعه من النهوض ..
فقال : صبوا لي ماء في المخضب .. وهو إناء آبير ..
فصبوا له الماء .. وجعلوا یصبون الماء البارد من القرب .. فوق جسده ..
فلما برد جسده .. وشعر بشيء من النشاط .. جعل یشير لهم بيده .. فأوقفوا الماء عنه
..
فلما اتكأ على یدیه ليقوم أغمي عليه ..
فلبث ملياً .. ثم أفاق .. فكان أول سؤال سأله .. أن قال :
أصلى الناس ؟
قالوا : لا .. یا رسول الله .. هم ینتظرونك ..
قال : ضعوا لي ماء في المخضب .. فاغتسل .. وجعلوا یصبون عليه الماء ..
حتى إذا شعر بشيء من النشاط .. أراد أم یقوم .. فأغمي عليه ..
فلبث ملياً .. ثم أفاق .. فكان أول سؤال سأله .. أن قال :
أصلى الناس ؟
قالوا : لا .. یا رسول الله .. هم ینتظرونك ..
قال : ضعوا لي ماء في المخضب .. فوضعوا له الماء .. وجعلوا یصبون الماء البارد على
جسده .. وأآثروا الماء .. حتى أشار لهم بيده .. ثم اتكأ على یدیه ليقوم .. فأغمي
عليه ..
وأهله ینظرون إليه .. تضطرب أفئدتهم .. وتدمع أعينهم ..
والناس عكوف في المسجد ینتظرونه ..
فلبث مغمى عليه ملياً .. ثم أفاق ..
فقال : أصلى الناس ؟ قالوا : لا .. هم ینتظرونك یا رسول الله ..
فتأمل صلى الله عليه وسلم في جسده .. فإذا الحمى قد هدته هداً ..
ذاك الجسد المبارك ..
الذي نصر الدین .. وجاهد لرب العالمين ..
ذلك الجسد .. الذي ذاق من العبادة حلاوتها .. ومن الحياة شدتها ..
الجسد الذي تفطرت منه القدمان .. من طول القيام ..
وبكت العينان .. من خشية الرحمن ..
عذب في سبيل الله .. وجاع .. وقاتل ..
لما رأى صلى الله عليه وسلم حاله .. وتمكن المرض مند جسده .. التفت إليهم وقال :
مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس ..
فيقيم بلال الصلاة .. ویتقدم أبو بكر .. في محراب النبي صلى الله عليه وسلم .. فيصلي بالناس
.. ولا یكادون یسمعون قراءته من شدة بكائه وحزنه ..
وانتهت صلاة العشاء ..
ثم اجتمع الناس لصلاة الفجر .. فيصلي بهم أبو بكر .. ویجتمع الناس بعدها للصلوات ..
ویصلي أبو بكر بهم .. أیاماً .. ورسول الله صلى الله عليه وسلم على فراشه ..
فلما آانت صلاة الظهر أو العصر من یوم الاثنين .. وجد رسول صلى الله عليه وسلم خفة في
جسده .. فدعا العباس وعليّاً .. فأسنداه عن یمينه ویساره ..
ثم خرج یمشي بينهما .. تخط رجلاه في الأرض ..
وآشف الستر الذي بين بيته وبين المسجد .. فإذا الصلاة قد أقيمت .. والناس یصلون ..
فرأى أصحابه صفوفاً في الصلاة .. فنظر إليهم ..
وجوه مبارآة .. وأجسادٌ طاهرة ..
ما منهم أحدٌ إلا وقد أصيب في سبيل الله .. منهم من قطعت یده ..
ومنهم من فقئت عينه .. ومنهم من ملأت الجراحات جسده ..
طالما صلى بهؤلاء الأخيار .. وجاهد معهم .. وجالسهم ..
آم ليلة قامها وقاموها .. وأیام صامها وصاموها ..
آم صبروا معه على البلاء .. وأخلصوا معه الدعاء ..
آم فارقوا لنصرة دینه .. الأهل والإخوان .. وهجروا الأحباب والأوطان ..
منهم من قضى نحبه .. ومنهم من ینتظر .. وما بدلوا تبدیلاً ..
ثم هاهو اليوم یفارقهم .. إلى تلك الدار .. التي طالما شوقهم إلى سكناها ..
فلما رآهم في صلاتهم ..
تبسم .. حتى آأن وجهه فلقة من قمر ..
ثم أرخى الستر .. وعاد إلى فراشه .. وبدأت تصارعه سكرات الموت ..
قالت عائشة :
رأیت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو یموت وعنده قدح فيه ماء .. فيدخل یده في القدح ثم یمسح
وجهه بالماء .. ثم یقول : لا إله إلا الله .. إن للموت سكرات ..
وجعلت فاطمة تبكي وتقول : واآرب أبتاه .. فيلتفت إليها ویقول : ليس على أبيك آرب
بعد اليوم ..
فجعلت أمسح وجهه .. وأدعو له بالشفاء ..
فقال : لا .. بل أسأل الله الرفيق الأعلى .. مع جبریل وميكائيل وإسرافيل ..
ثم لما ضاق به النفس .. واشتدت عليه السكرات .. جعل یردد آلمات یودع بها الدنيا ..
بل آان یتكلم فيما أهمه ..
ویحذر من صور الشرك ویقول :
" لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " ..
" اشتد غضب الله على قوم جعلوا قبور أنبيائهم مساجد " ..
وآان من آخر ما قال صلى الله عليه وسلم : " الصلاة الصلاة .. وما ملكت أیمانكم " ..
ثم مات صلى الله عليه وسلم .. نعم ..
مات .. سيد المرسلين .. وإمام المتقين .. وحبيب رب العالمين ..
مات وليس أحد یطالبه بمظلمة .. ولا آذى أحداً بكلمة ..
لم یتدنس بأموال حرام .. ولا غيبة ولا آثام ..
بل آان إلى الله داعياً .. ولعفو ربه راجياً ..
یأمر بالصلاة وعبادة الرحمن .. وینهى عن الشرك والأوثان ..
{ لقد جاءآم رسول من أنفسكم عزیز عليه ما عنتم حریص عليكم بالمؤمنين رؤوف
رحيم } ..
* * * * * * * * * *
وآذلك آان الصالحون من بعده صلى الله عليه وسلم .. یستعدون للموت .. بالإآثار من الطاعات ..
والمسارعة إلى القربات ..
وهم مع آثرة أعمالهم .. وحسن أفعالهم .. إذا فجأهم الموت .. رجوا رحمة ربهم ..
وخافوا من عقابه .. ولم یرآنوا إلى أعمالهم ..
عمر بن الخطاب .. الخليفة الراشد ..
الذي نصر الدین .. وجاهد لرب العالمين .. وأطفأ نيران دولة المجوس ..
حقد عليه الكافرون ..
وآان من أآثرهم حقداً .. أبو لؤلؤة المجوسي ..
وآان عبداً نجاراً حداداً في المدینة .. وآان یصنع الرحاء .. جمع رحى وهي آلة لطحن
الشعير .. وهي حجران مصفحان یوضع أحدهما فوق الآخر ویطرح الحب بينهما .. وتدار
باليد .. فيطحن ..
أخذ هذا العبد یتحين الفرص للانتقام من عمر ..
فلقيه عمر یوماً في طریق فسأله وقال :
حدثت أنك تقول لو أشاء لصنعت رحى تطحن بالریح ؟!
فالتفت العبد عابساً إلى عمر ..
وقال : بلى .. لأصنعن لك رحى یتحدث بها أهل المشرق والمغرب ..
فلتفت عمر إلى من معه .. وقال :
توعدني العبد ..
ثم مضى العبد وصنع خنجراً له رأسان .. مقبضه في وسطه .. فهو إن طعن به من هذه الجهة
قتل .. وإن طعن به من الجهة الأخرى قتل .. وأخذ یطليه بالسم ..
حتى إذا طعن به .. یقتل إما بقوة الطعن أو السم ..
ثم جاء .. في ظلمة الليل .. فاختبأ لعمر في زاویة من زوایا المسجد ..
فلم یزل هناك حتى دخل عمر إلى المسجد ینبه الناس لصلاة الفجر ..
ثم أقيمت الصلاة .. وتقدم بهم عمر .. فكبر ..
فلما ابتدأ القراءة ..
خرج عليه المجوسي .. وفي طرفة عين .. عاجله .. بثلاث طعنات ..
وقعت الأولى في صدره والثانية في جنبه .. والثالثة تحت سرته ..
فصاح عمر .. ووقع على الأرض ..
وهو یردد قوله تعالى : وآان أمر الله قدراً مقدوراً ..
وتقدم عبد الرحمن بن عوف وأآمل الصلاة بالناس ..
أما العبد فقد طار بسكينه یشق صفوف المصلين .. ویطعن المسلمين .. یميناً وشمالاً ..
حتى طعن ثلاثة عشر رجلاً .. مات منهم سبعة ..
ثم وقف شاهراً سكينه ما یقترب منه أحد إلا طعنه .. فاقترب منه رجل وألقى عليه رداءً
غليظاً ..
فاضطرب المجوسي .. وعلم أنهم قدروا عليه .. فطعن نفسه ..
وحُمِل عمر مغشياً عليه إلى بيته .. وانطلق الناس معه یبكون ..
وظل مغمى عليه .. حتى آادت أن تطلع الشمس ..
فلما أفاق .. نظر في وجوه من حوله .. ثم آان أول سؤال سأله .. أن قال :
أصلى الناس ؟ قالوا : نعم ..
فقال : الحمد لله .. لا إسلام لمن ترك الصلاة ..
ثم دعا بماء فتوضأ .. وأراد أن یقوم ليصلي فلم یقدر ..
فأخذ بيد ابنه عبد الله فأجلسه خلفه .. وتساند إليه ليجلس ..
فجعلت جراحه تنزف دماً ..
قال عبد الله بن عمر .. والله إني لأضع أصابعي .. فما تسد الجرح ..
فربطنا جرحه بالعمائم .. فصلى الصبح ..
ثم قال : یا ابن عباس انظر من قتلني ..
فقال : طعنك الغلام المجوسي .. ثم طعن معك رهطاً .. ثم قتل نفسه ..
فقال عمر : الحمد لله .. الذي لم یجعل قاتلي یحاجني عند الله بسجدة سجدها له قط ..
ثم دخل الطبيب على عمر .. لينظر إلى جرحه .. فسقاه ماءً مخلوطاً بتمر ..
فخرج الماء من جروحه ..
فظن الطبيب أن الذي خرج دم وصدید .. فأسقاه لبناً ..
فخرج اللبن من جرحه الذي تحت سرته .. فعلم الطبيب أن الطعنات قد مزقت جسده ..
فقال : یا أمير المؤمنين .. أوص .. فما أظنك إلا ميتاً اليوم أو غداً ..
فقال عمر : صدقتني .. ولو قلت غير ذلك لكذبتك ..
ثم قال :
والله لو أن لي الدنيا آلها .. لافتدیت به من هول المطلع .. یعني الوقوف بين یدي
الله تعالى ..
فقال ابن عباس : وإن قلت ذلك .. فجزاك الله خيراً ..
أليس قد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم .. أن یعز الله بك الدین والمسلمين .. إذ یخافون
بمكة ؟
فلما أسلمت .. آان إسلامك عزاً .. وظهر بك الإسلام ..
وهاجرت .. فكانت هجرتك فتحاً .. ثم لم تغب عن مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم .. من
قتال المشرآين ؟
ثم قبض وهو عنك راضٍ ..
ووازرت الخليفة بعده .. وقُبض وهو عنك راض ..
ثم وليت بخير ما ولي الناس .. مصّر الله بك الأمصار ..
وجبا بك الأموال .. ونفى بك العدو ..
ثم ختم لك بالشهادة .. فهنيئا لك ..
فقال عمر : أجلسوني ..
فلما جلس .. قال لابن عباس : أعد عليَّ آلامك ..
فلما أعاد عليه ..
قال : والله إن المغرور من تغرونه ..
أتشهد لي بذلك عند الله یوم تلقاه ؟
فقال بن عباس : نعم .. ففرح عمر .. وقال : اللهم لك الحمد …
ثم جاء الناس فجعلوا یثنون عليه .. ویودعونه ..
وجاء شاب ..
فقال : أبشر یا أمير المؤمنين .. صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ثم وليت فعدلت .. ثم
شهادة ..
فقال عمر : وددت أني خرجت منها آفافاً .. لا عليَّ ولا لي ..
فلما أدبر الشاب .. فإذا إزاره یمس الأرض .. فقال عمر : ردوا علي الغلام ..
قال : یا ابن أخي .. ارفع ثوبك .. فإنه أنقى لثوبك .. وأتقى لربك ..
ثم اشتد الألم على عمر .. وجعل یتغشاه الكرب .. ویغمى عليه ..
قال عبد الله بن عمر : غشي على أبي فأخذت رأسه فوضعته في حجري ..
فأفاق .. فقال : ضع رأسي في الأرض ثم غشي عليه فأفاق ورأسه في حجري ..
فقال : ضع رأسي على الأرض ..
فقلت : وهل حجري والأرض إلا سواء یا أبتاه ..
فقال : اطرح وجهي على التراب .. لعل الله تعالى أن یرحمني ..
فإذا قبضت .. فأسرعوا بي إلى حفرتي ..
فإنما هو خير تقدموني إليه .. أو شر تضعونه عن رقابكم ..
ثم قال : ویل لعمر .. وویل لأمه .. إن لم یغفر له .. ثم ضاق به النفس .. واشتدت
عليه السكرات .. ثم مات صلى الله عليه وسلم ..
ودفنوه بجانب صاحبيه ..
نعم .. مات عمر بن الخطاب .. لكن مثله في الحقيقة لم یمت ..
قدم على أعمال صالحات .. ودرجات رفيعات ..
صاحبه في قبره قراءته للقرآن .. وبكاؤه من خشيته الرحمن ..
تؤنسه صلاته في وحشته .. ویرفع جهاده من درجته ..
تعب في دنياه قليلاً .. لكنه استراح في آخرته طویلاً ..
بل قد عده النبي صلى الله عليه وسلم من العشرة المبشرین بالجنة ..
بل قد روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال یوماً :
بينا أنا نائم رأیتني في الجنة .. فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر .. فقلت :
لمن هذا القصر ؟ قالوا : لعمر .. فذآرت غيرته فوليت مدبراً ..
فبكى عمر وقال : أعليك أغار یا رسول الله !! ..
نعم ..
هكذا الصالحون .. أیقنوا بنزول الموت فاستعدوا للقائه في آل لحظة ..
لما نزل الموت بالعابد الزاهد عبد الله بن إدریس .. اشتد عليه الكرب .. فلما اخذ
یشهق .. بكت ابنته ..
فقال : یا بنيتي .. لا تبكي .. فقد ختمت القرآن في هذا البيت أربعة آلاف ختمة ..
آلها لأجل هذا المصرع ..
أمّا عامر بن عبد الله بن الزبير .. فلقد آان على فراش الموت .. یعد أنفاس الحياة
.. وأهله حوله یبكون ..
فبينما هو یصارع الموت .. سمع المؤذن ینادي لصلاة المغرب .. ونفسه تحشرج في حلقه ..
وقد أشتدّ نزعه .. وعظم آربه ..
فلما سمع النداء قال لمن حوله : خذوا بيدي ..!!
قالوا : إلى أین ؟ ..
قال : إلى المسجد ..
قالوا : وأنت على هذه الحال !!
قال : سبحان الله .. !! أسمع منادي الصلاة ولا أجيبه ..
خذوا بيدي .. فحملوه بين رجلين .. فصلى رآعة مع الإمام .. ثمّ مات في سجوده ..
نعم .. مات وهو ساجد ..
فمن أقام الصلاة .. وصبر على طاعة مولاه .. ختم له برضاه ..
اصبر لمر حوادث الدهر فلتحمدن مغبة الصبر
وامهد لنفسك قبل ميتتها واذخر ليوم تفاضل الذخر
فكأن أهلك قد دعوك فلم تسمع وأنت محشرج الصدر
وآأنهم قد هيئوك بما یتهيأ الهلكى من العطر
وآأنهم قد قلبوك على ظهر السریر وظلمة القبر
یا ليت شعري آيف أنت على ظهر السریر وأنت لا تدري
أم ليت شعري آيف أنت إذا غسلت بالكافور والسدر
أم ليت شعري آيف أنت إذا وضع الحساب صبيحة الحشر
ما حجتك فيما أتيت وما قولك لربك بل وما العذر
ألا تكون أخذت عذرك أو أقبلت ما استدبرت من
بل آان الصالحون یتحسرون عند الممات .. على فراق الأعمال الصالحات ..
ویودون لو طالت بهم الحياة للتزود في رفع الدرجات .. وتكثير الحسنات ..
احتضر عبد الرحمن بن الأسود .. فبكى .. فقيل له :
ما یبكيك !! وأنت .. أنت ..
یعني في العبادة والخشوع .. والزهد والخضوع ..
فقال : أبكي والله .. أسفاً على الصلاة والصوم .. ثمّ لم یزل یتلو حتى مات ..
أما یزید الرقاشي فإنه لما نزل به الموت .. أخذ یبكي ویقول :
من یصلي لك یا یزید إذا متّ ؟ ومن یصوم لك ؟
ومن یستغفر لك من الذنوب .. ثم تشهد ومات ..
هذه مشاهد الاحتضار .. لأرباب التعبدّ والأسرار ..
فلوا رأیتهم تجافوا عن دفء فرشهم في الأسحار ..
یخافون یوماً تنقلب فيه القلوب والأبصار ..
فدفنوا تحت الثرى .. وقد أرضوا من یعلم السرّ وأخفى ..
هذا هو احتضار المؤمنين .. وما عند الله خير وأبقى و
الموت لا یفرق بين كبير وصغير .. ولا غني وفقير .. ولا عبد وأمير ..
هارون الرشيد
ذاك الذي ملك الأرض وملأها جنوداً ..
ذاك الذي آان یرفع رأسه .. فيقول للسحابة : أمطري في الهند أو في الصين .. أو حيث
شئت .. فوالله ما تمطرین في أرض إلا وهي تحت ملكي ..
هارون الرشيد .. خرج یوماً في رحلة صيد فمرّ برجل یقال له بُهلول ..
فقال هارون : عظني یا بُهلول ..
قال : یا أمير المؤمنين !! أین آباؤك وأجدادك ؟ من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبيك
؟
قال هارون : ماتوا ..
قال : فأین قصورهم ..؟ قال : تلك قصورهم ..
قال : وأین قبورهم ؟ قال : هذه قبورهم ..
فقال بُهلول : تلك قصورهم .. وهذه قبورهم .. فما نفعتهم قصورهم في قبورهم ؟
قال : صدقت .. زدني یا بهلول .. قال :
أما قصورك في الدنيا فواسعة * فليت قبرك بعد الموت یتسع
فبكى هارون وقال : زدني .. فقال :
یا أمير المؤمنين :
هب أنك ملكت كنوز كسرى وعُمرت السنين فكان ماذا
أليس القبر غایة آل حيٍ وتُسأل بعده عن آل هذا ؟
قال : بلى ..
ثم رجع هارون .. وانطرح على فراشه مریضاً .. ولم تمضِ عليه أیام حتى نزل به الموت
..
فلما حضرته الوفاة .. وعاین السكرات .. صاح .. بقواده وحجابه :
اجمعوا جيوشي .. فجاؤوا بهم .. بسيوفهم .. ودروعهم .. لا یكاد یحصي عددهم إلا الله
.. آلهم تحت قيادته وأمره ..
فلما رآهم .. بكى .. ثم قال :
یا من لا یزول ملكه .. ارحم من قد زال ملكه ..
ثم لم یزل یبكي حتى مات .. فلما مات ..
أخذ هذا الخليفة .. الذي ملك الدنيا وأودع حفرة ضيقة ..
لم یصاحبه فيها وزراؤه .. ولم یساآنه ندماؤه ..
لم یدفنوا معه طعاماً .. ولم یفرشوا له فراشا
ما أغنى عنه ملكه وماله ..
سل الخليفة إذ وافت منيته * أین الجنود أین الخيل والخول
أین الكنوز التي آانت مفاتحها * تنوء بالعصبة المقوین لو حملوا
أن الجيوش التي أرصدتها عدداً* أین الحدید وأین البيض والأسل
لا تنكرن فما دامت على أحد * إلا أناخ عليه الموت والوجل
أما عبد الملك بن مروان ..
فإنه لما نزل به الموت ..جعل یتغشاه الكرب .. ویضيق عليه النفس .. فأمر بنوافذ
غرفته ففتحت .. فالتفت فرأى غسالاً فقيراً في دآانه ..
فبكى عبد الملك ثم قل : یا ليتني آنت غسالاً .. یا ليتني آنت نجاراً .. یا ليتني
آنت حمالاً .. یا ليتني لم ألِ من أمر المؤمنين شيئاً .. ثم مات ..
عجباً ..
باتوا على قلل الأجبال تحرسهم * غلب الرجال فما أغنتهم القلل
واستنزلوا بعد عز عن معاقلهم * فأودعوا حفراً یا بئس ما نزلوا
ناداهم صارخ من بعد ما قبروا * أین الأسرة والتيجان والحلل
أین الوجوه التي آانت منعمة * من دونها تضرب الأستار والكلل
أین الرماة ألم تُمنع بأسهمهم * لما أتتك سهام الموت تنتصل
أین الأحبة والجيران أجمعهم * أین الأطباء ما اغنوا ولا الحيل
ما ساعدك ولا واساك أقربهم * بل سلموك لها یا قبح ما فعلوا
ما بال ذآرك منسياً ومطرحاً * وآلهم باقتسام المال قد شغلوا
ما بال قبرك وحشاً لا أنيس به * یغشاك من جانبيه الروع والوهل
ما بال قبرك لا یأتي به أحد * ولا یمرّ به من بينهم رجل
فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم * تلك الوجوه عليها الدود یقتتل
قد طال ما أآلوا دهراً وما شربوا* فأصبحوا بعد طول الأآل قد أآلوا
وطالما آنزوا الأموال وادخروا * فخلفوها على الأعداء وارتحلوا
وطالموا شيدوا دوراً لتحصنهم * ففارقوا الدور والأهلين وانتقلوا
نعم ..
انتقلوا .. إلى دور ليس فيها خدم یخدمون .. ولا أهل یكرمون .. ولا وزراء ینادمون ..
انتقلوا إلى دور .. تجالسهم فيها أعمالهم .. وتخاصمهم صحائفهم .. وما ربك بظلام
للعبيد
وهناك فریق من الناس ..وسع الله عليهم في أرزاقهم .. وعافاهم في أبدانهم ..
فغفلوا عن الاستعداد للموت حتى باغتهم ..
فبدد شملهم .. وأخذهم على قبيح فعلهم .. فلما عاینوا الموت طلبوا الرجوع للدنيا ..
لا لتجارة ولا مال .. ولا أهل ولا عيال .. ونما لإصلاح الأحوال .. وإرضاء القوي
المتعال ..
ولكن قد حكم الخالق العظيم أنهم إليها لا یُرجعون ..
أولئك العصاة والمذنبون .. اللاهون المضيعون ..
غلب عليهم حبهم لدنياهم .. فكان لهم في احتضارهم عذاب وتهویل .. وحيل بينهم وبين
الخالق الجليل ..
ذآر القرطبي :
أن أحد المحتضرین .. ممّن بدنياه انشغل .. وغرّه طول الأمل .. لما نزل به الموت ..
واشتد عليه الكرب ..
اجتمع حوله أبناؤه .. یودعونه .. ویقولون :
قل لا إله إلا الله .. فأخذ یشهق .. ویصيح .. فأعادوها عليه ..
فصاح بهم وقال :
الدار الفلانية أصلحوا فيها آذا .. والبستان الفلاني ازرعوا فيه آذا ..
والدآان الفلاني اقبضوا منه آذا .. ثمّ لم یزل یردد ذلك حتى مات ..
نعم .. مات ..
وترك بستانه ودآانه .. یتمتع بهما ورثته .. وتدوم عليه حسرته
وذآر ابن القيم :
أن أحد تجار العقار .. ذُآّر بلا إله إلاّ الله عند احتضاره فجعل یردّد :
هذه القطعة رخيصة .. وهذا مشترى جيّد .. وهذا آذا .. وهذا آذا .. حتى خرجت روحه ..
وهو على هذا الحال ..
ثم دفن تحت الثرى .. بعدما مشى عليه متكبراً ..
قد جمع الأموال .. وآثر العيال .. فما نفعوه في قبره ولا ساآنوه ..
قال ابن القيم :
واحتضر رجل ممن آان یجالس شراب الخمور .. فلما حضره نزعُ روحه ..
اقبل عليه رجل ممن حوله .. وقال : یا فلان .. یا فلان .. قل لا إله إلا الله ..
فتغير وجهه .. وتلبد لونه .. وثقل لسانه ..
فردد عليه صاحبه : یا فلان .. قل لا إله إلا الله ..
فالتفت إليه وصاح :
لا .. اشرب أنت ثمّ اسقني .. اشرب أنت ثمّ اسقني ..
وما زال یردّدها .. حتى فاضت روحه إلى باریها ..
نعوذ بالله .. { وحيل بينهم وبين ما یشتهون آما فعل بأشياعهم من قبل} .
وذآر الصفدي :
أن رجلاً آان یشرب الخمر ویجالس أهلها .. وآان إذا سكر ونام .. یمشي ولا یعقل ..
فكان ینام في السطح ویشد رجله بحبل آي لا یقع ..
فسكر ليلة ونام .. فقام یمشي .. وسقط من السطح .. فأمسكه الحبل .. فبقي معلقاً
منكساً .. حتى أصبح ميتاً
وذآر في أنموذج الزمان :
أن محمد بن المغيث آان رجلاً فاسقاً .. مفتوناً بشرب الخمر .. ولا یكاد یخرج من بيت
الخمار ..
فلما مرض .. ونزل به الموت .. وخارت قواه ..
سأله رجل ممن حوله .. هل بقي في جسمك قوة ؟ هل تستطيع المشي ..؟
فقال : نعم .. لو شئت مشيت من هنا إلى بيت الخمار ..
فقال صاحبه : أعوذ بالله أفلا قلت أمشي إلى المسجد ؟
فبكى .. وقال :
غلب ذلك عليَّ لكل امرئ من دهره ما تعودا .. وما جرت عادتي بالمشي إلى المسجد
وقال ابن أبي رواد :
حضرت رجلاً عند الموت .. فجعل من حوله یلقّنونه لا إله إلا الله .. فحيل بينه
وبينها .. وثقلت عليه .. فجعلوا یعيدون عليه .. ویكررون .. ویذآرونه بالله .. وهو
في آرب شدید ..
فلما ضاق عليه النفس .. صاح بهم وقال : هو آافر بلا إله إلاّ الله .. ثم شهق ومات
..
قال : فلما دفناه .. سألت أهله عن حاله : فإذا هو مدمن للخمر ..
نعوذ بالله من سوء الخاتمة ..
بل نعوذ بالله من أم الخبائث .. ورأس الفواحش ..
ومن شرب الخمر في الدنيا لم یشربها في الآخرة .. ومن شرب الخمر في الدنيا آان حقاً
على الله أن یسقيه من طينة الخبال .. قيل : یا رسول الله وما طينة الخبال ؟
قال : عصارة أهل النار ..
إلا
أما أهل المعازف والغناء .. فلهم عند الموت آربة وبلاء ..
ذآر ابن القيم :
أن رجلا من أهل الغناء والمعازف حضرته الوفاة .. فلما اشتدّ به نزع روحه ..
قيل له : قل لا إله إلا الله .. فجعل یردد أبياتاً من الغناء ..
فأعادوا عليه التلقين ..: قل لا إله إلا الله .. فجعل یردد الألحان ویقول : تنتنا
.. تنتنا ..
حتى خرجت روحه من جسده .. وهو إنمّا یلحّن ویغني ..
أما أهل الجریمة الكبرى .. والداهية العظمى ..
فهم أنصار الشيطان .. وأعداء الرحمن ..
وخصوم المؤمنين .. وإخوان الكافرین ..
الذین یحشرون مع فرعون وهامان ..ویتقلبون معهم في النيران ..
هم تارآو الصلاة .. وبين الرجل وبين الكفر أو الشرك .. ترك الصلاة ..
وحالهم عند الموت وبعده أدهى وأفظع ..
ذآر ابن القيم :
أن أحد المحتضرین .. آان صاحب معاص وتفریط .. فلم یلبث أن نزل به الموت .. ففزع من
حوله إليه .. وانطرحوا بين یدیه .. وأخذوا یذآرونه بالله .. ویلقنونه لا إله إلا
الله ..
وهو یدافع عبراته .. فلما بدأت روحه تنزع .. صاح بأعلى صوته .. وقال :
أقول : لا إله إلا الله !!
وما تنفعني لا إله إلا الله ؟!! وما أعلم أني صليت لله صلاة !!
ثمّ مات ..
هذا هو الموت .. أول طریق الآخرة ..
وما بعده أفظع وأآبر ..
أما أحوال أهل القبور .. فهي أدهى وأخطر ..
فكم من جسد صحيح .. ووجه صبيح .. ولسان فصيح .. هو اليوم في قبره یصيح ..
على أعماله نادم .. وعلى الله قادم ..
خرج عمر بن عبد العزیز .. في جنازة بعض أهله فلما أسلمه إلى الدیدان .. ودسه في
التراب .. التفت إلى الناس فقال :
أیها الناس :
إن القبر ناداني من خلفي .. أفلا أخبرآم بما قال لي ؟
قالوا : بلى ..
فقال : إن القبر قد ناداني فقال :
یا عمر بن عبد العزیز .. ألا تسألني ما صنعت بالأحبة ؟
قلت : بلى .
قال : خرقت الأآفان .. ومزقت الأبدان .. ومصصت الدم .. وأآلت اللحم ..
ألا تسألني ما صنعت بالأوصال ؟
قلت : بلى .
قال : نزعت الكفين من الذراعين .. والذراعين من العضدین .. والعضدین من الكتفين ..
والورآين من الفخدین .. والفخدین من الرآبتين .. والرآبتين من الساقين .. والساقين
من القدمين .
ثم بكى عمر فقال :
ألا إن الدنيا بقاؤها قليل .. وعزیزها ذليل ..
وشبابها یهرم .. وحيها یموت .. فالمغرور من اغترَّ بها ..
أین سكانها الذین بنوا مدائنها ..
ما صنع الترابُ بأبدانهم ؟
والدیدانُ بعظامهم وأوصالهم ؟
آانوا في الدنيا على أسرةٍ ممهدة .. وفرشٍ منضدة ..
بين خدم یخدمون .. وأهلٍ یكرمون ..
فإذا مررت فنادهم .. وانظر إلى تقارب قبورهم من منازلهم ..
وسل غنيَّهم ما بقي من غناه ؟
وسل فقيرَهم ما بقي من فقره ؟
سلهم .. عن الألسن .. التي آانوا بها یتكلمون .. وعن الأعين التي آانوا إلى اللذات
بها ینظرون ..
وسلهم عن الجلود الرقيقة .. والوجوه الحسنة .. والأجساد الناعمة ..
ما صنع بها الدیدان ؟
محت الألوان .. وأآلت اللحمان .. وعفرت الوجوه .. ومحت المحاسن ..
وآسرت القفا .. وأبانت الأعضاء .. ومزقت الأشلاء ..
أین خدمهم وعبيدهم ..أین جمعهم ومكنوزهم ؟
والله ما زودوهم فَرْشا .. ولا وضعوا هناك متكئاً ..
أليسوا في منازل الخلوات .. وتحت أطباق الثرى في الفلوات ؟
أليس الليل والنهار عليهم سواء ؟
قد حيل بينهم وبين العمل .. وفارقوا الأحبة والأهل ..
قد تزوجت نساؤهم .. وترددت في الطرق أبناؤهم ..
وتوزعت القرابات دیارهم وتراثهم ..
ومنهم والله الموسع له في قبره .. الغض الناضر فيه .. المتنعم بلذته ..
ثم بكى عمر وقال :
یا ساآن القبر غداً ..
ما الذي غرك من الدنيا ! ..
أین رقاق ثيابك .. أین طيبك .. أین بخورك ..
آيف أنت على خشونة الثرى ..
ليت شعري بأي خدیك یبدأ الدود البِلى ..
ليت شعري ما الذي یلقاني به ملك الموت عند خروجي من الدنيا .. وما یأتيني به من
رسالة ربي ..ثم بكى بكاءً ..
ثم انصرف فما بقي بعد ذلك إلا جمعة .. ومات .. رحمه الله .
أهلُ القبور إما معذبون أو منعّمون ..
بل لعله في القبر الواحد دُفن عدة أشخاص .. هذا إلى الجنة وهذا إلى النار ..
بل یا أُخَيَّ ..إن الأمر أعجب من ذلك ..
لعل تحت قدميك الآن أقوام یُعذبون أو ینعمون ..
بل لعل تحتك في غرفة نومك أقواما محبوسين في حفر من جهنم ..
یعرضون على النار بكرة وعشياً ..
من یدري فالناس آثير .. والأرض قد تضيق عنهم ..
صاح هذي قبورنا تملأ الرحب * فأین القبور من عهد عاد
خفف الوَطْء ما أظن أدیم الأرض * إلا من هذه الأجساد
رُبَّ قبر قد صار قبراً مراراً * ضاحكٍ من تزاحم الأضداد
ودفين على رفات دفين * من قدیم الزمان والآماد
تعب آلها الحياة فلا أعجب * إلا من راغب في ازدیاد
فأي عيش صفا وما آدّره الموت ؟
أي قدم سعت وما عثّرها الموت ؟
أما أخذ الآباء والأجداد ؟ أما سلب الحبيب وقطع الوداد ؟
أما أرمل النسوان .. وأیتم الأولاد ؟
عزاءٌ فما یصنع جازعُ ودمع الأسى أبد ضائعُ
بكى الناس من قبل أحبابهم فهل منهم أحدٌ راجعُ
فدلى ابن عشرین في قبره وتسعون صاحبها رافعُ
یُسلِّم مهجته راغماً آما مدّ راحته البائعُ
ولو أن من حدث سالما لما خسف القمر الطالع
وآيف یوقّى الفتى ما یخاف إذا آان حاصده الزارع
فالقبر روضة من الجنان أو حفرة من حفر النيران
وإنه للفيصل الذي به ینكشف الحال فلا یشتبه
فإن یكُ خيراً فالذي من بعده أفضل عند ربنا لعبده
وإن یكن شراً فما بعد أشدّ ویل لعبد عن سبيل الله
روى الإمام أحمد في مسنده :
عن البراء بن عازب قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة .. فجلس رسول الله
صلى الله عليه وسلم على القبر .. وجلسنا حوله .. آأن على رؤوسنا الطير .. وهو یلحد له ..
فقال : تعوذوا بالله من عذاب القبر .. قلنا : نعوذ بالله من عذاب القبر ..
قال : تعوذوا بالله من عذاب القبر .. قلنا : نعوذ بالله من عذاب القبر ..
قال : تعوذوا بالله من عذاب القبر .. قلنا : نعوذ بالله من عذاب القبر ..
ثم قال :
إن العبد المؤمن إذا آان في انقطاع من الدنيا .. وإقبال من الآخرة ..
نزل إليه ملائكة من السماء .. بيض الوجوه .. آأن وجوههم الشمس ..
معهم آفن من أآفان الجنة .. وحنوط من حنوط الجنة ..
حتى یجلسوا منه مد البصر ..
ثم یجئ ملك الموت عليه السلام .. حتى یجلس عند رأسه .. فيقول :
أیتها النفس الطيبة .. أخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان ..
فتخرج تسيل .. آما تسيل القطرة من فيِّ السقاء .. فيأخذها .. فإذا أخذها .. لم
یدعوها في یده طرفة عين .. حتى یأخذوها فيجعلوها .. في ذلك الكفن .. وفي ذلك الحنوط
.. ویخرج منها آأطيب نفحة مسك .. وجدت على وجه الأرض ..
فيصعدون بها .. فلا یمرون على ملأ من الملائكة .. إلا قالوا :
ما هذا الروح الطيب ؟
فيقولون : فلان بن فلان .. بأحسن أسمائه التي آانوا یسمونه بها في الدنيا ..
حتى ینتهوا بها إلى السماء الدنيا .. فيستفتحون له .. فيفتح لهم .. فيشيعه من آل
سماء مقربوها .. إلى السماء التي تليها .. حتى یُنتهى به إلى السماء السابعة ..
فيقول الله عز وجل : اآتبوا آتاب عبدي في عليين .. وأعيدوه إلى الأرض .. فإني منها
خلقتهم .. وفيها أعيدهم .. ومنها أخرجهم تارة أخرى ..
فتعاد روحه في جسده ..
فيأتيه ملكان .. فيجلسانه .. فيقولان له :
من ربك ؟ فيقول : ربي الله ..
فيقولان له : ما دینك ؟ فيقول : دیني الإسلام ..
فيقولان له : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول : هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
فيقولان له : وما علمك ؟ فيقول : قرأت آتاب الله .. فآمنت به .. وصدقت ..
فينادى مناد في السماء : أن صدق عبدي .. فافرشوه من الجنة .. وألبسوه من الجنة ..
وافتحوا له باباً إلى الجنة ..
فيأتيه من روحها .. وطيبها .. ویفسح له في قبره .. مَدَّ بصره ..
ویأتيه رجل حسنُ الوجه .. حسنُ الثياب .. طيب الریح ..
فيقول : أبشر بالذي یسرك .. هذا یومك الذي آنت توعد ..
فيقول له : من أنت ؟ فوجهك الوجه یجئ بالخير ..
فيقول : أنا عملك الصالح .. آنت والله سریعاً في طاعة الله .. بطيئاً عن معصية الله
.. فجزاك الله خيراً ..
نعم .. أیها الإخوة والأخوات ..
یقول له : أنا عملك الصالح ..
أنا صلاتك وصومك .. أنا برك وصدقتك ..
أنا بكاؤك وخشيتك .. أنا حجك وعمرتك ..
أنا قراءتك للقرآن .. وحبك للرحمن ..
أنا قيامك في الأسحار .. وصومك في النهار .. وخوفك من العزیز الجبار ..
أنا برك لوالدیك ..أنا طلبك للعلم ..
أنا دعوتك إلى الله .. أنا جهادك في سبيل الله ..
فإذا رأى العبد المؤمن .. هذا الوجه الصبوح یبشره ..
والتفت حوله فرأى قبره قد أصبح واسعاً .. فيه فرش من الجنة .. ونظر إلى لباسه فإذا
هو من الجنة ..
علم أن هذا النعيم لا یساوي شيئاً بجانب ما ینتظره في الجنة .. فيدعوا ربه ویقول :
رب أقم الساعة .. حتى أرجع إلى أهلي ومالي ..
قال :
وإن العبد الكافر أو الفاسق .. إذا آان في انقطاع من الدنيا .. وإقبال من الآخرة ..
نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه .. معهم المسوح ..
فيجلسون منه مد البصر .. ثم یجئ ملك الموت .. حتى یجلس عند رأسه .. فيقول :
یا أیتها النفس الخبيثة .. أخرجي إلى سخط من الله وغضب ..
فتفرق في جسده .. فينتزع
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى