- بوعلام ممشرف المرسى الجامعي
- البلد :
الجنس :
عدد المساهمات : 374
نقاط تميز العضو : 102401
تاريخ التسجيل : 08/09/2011
العمر : 42
كتاب من المعاني النحويّة في اللسانيات العَربيّة ـــ المنصف عاشور
22/09/11, 11:59 pm
من المعاني النحويّة في اللسانيات العَربيّة ـــ المنصف عاشور
نروم في فحص التعليق التركيبي بيان أوجه الإجراء التي عمد إليها النحويون في معالجة العملية الإسنادية في اللغة العربية وذلك حسب رؤية أقيمت مشروعيتها في التنظير الوظيفي في النحو العربي واللسانيات العامة. فلقد توخى النحاة في تعليلهم الأنماط التركيبية مسلكاً طريفاً أقاموا بمقتضاه رؤية سديدة تستخبر الكلام حسب ثنائية عامة هي الإظهار والإضمار. فميدان التعليق ليس ـ كما يبدو لأول وهلة ـ سهلاً بسيطاً وإنما هو عبارة عن عملية معقدة وهي سلسلة من التوزيع والتخير للصوغ النهائي الذي يتبلور في سبك البنية السطحية للعملية الإسنادية التي تخضع إلى مجموعة من القوانين المضبوطة في باب النحو العربي. فالرؤية إلى "المعاني النحوية" إنما هي ضمنية في نصوص النحاة منذ المنطق أي مع إمام اللسانيات العربية سيبويه فكانت طرف الإجراء(1) ثابتة في وصف النماذج التركيبية واستقراء درجة التعلق بين الكلم والمؤلفات المباشرة لعملية الإسناد. ولكن نشير إلى أن مصطلح "الوظيفة التركيبية" لم يكن مذكوراً بهذا الملفوظ وإنما هو من المصطلحات التي برزت في العصور الحديثة مع استقلال العلوم ولم يكن للوظيفة اللسانية حظ إلا مؤخراً مع بعض اللغويين مثل أندري مارتيني الذي بلور اللسانيات الوظيفة في أعماله ومؤلفاته.
وما نطلق عليه لفظ "المعاني النحوية" إنما هو اصطلاح عبد القاهر الجرجاني الذي نعرض لرؤيته في هذه الدراسة وغايتنا هي المساهمة في التأكيد على جوانب حركية أصيلة تنبع من النصوص الأصول. وتستقطب النظر في طرق الإجراء للوظيفة النحوية، مجال العملية التركيبية في اللغة. وليس القصد عرض مسائل النحو جميعاً وإنما سنسعى إلى إبراز جوانب الإفادة في معالجة العلاقة النحوية حسب إفراز باستقراء واستنباط يؤول إلى التنظيمية والشمول العلمي في اختبار المادة النحوية. ولئن كانت النصوص عديدة في التراث النحوي العربي فإننا انتقينا بعض النصوص التي تتجلى فيها "المعاني النحوية" محورية في التعليق التركيبي الذي كان وصفه مطرداً في المؤلفات المختلفة لكننا نعتبر النصوص الأصول الناطقة بالمسألة من كتاب سيبويه فابن جني ثم عبد القاهر الجرجاني.
ونختار الأبواب التي تتميز بمعالجتها التراكيب المستحيلة والتراكيب الممكنة ونستغني عن التعليق في أبواب الإسناد النحوي الذي لا يثير خلافاً وهو باب ينظر إليه في غير هذه المساهمة ـ تتواتر فكرة التعليق بين الكلم والضم في مجموعة من النصوص يمكن استعراضها وإن اختلفت في غاياتها أو في تجديد المصطلح الموضوع لهذه العملية التركيبية فنورد بعض النصوص المعروفة بداية من سيبويه وهو معدن النظر.
1ـ التعليق = عند سيبويه = (ت 180ه).
وأبرز قسم من الكتاب تناول فيه سيبويه فكرة التعليق ذلك الباب الذي يحمل عنوان "باب الاستقامة من الكلام والإحالة"(2) ويقسم ضروب التراكيب التي تخضع إلى القوانين النحوية وقد تتنافى مع المقصود المنطقي والدلالة اللفظية وتبرز القيمة الأخلاقية لعباراته، فالكلام منه مستقيم حسن ومحال، ومستقيم كذب ومستقيم قبيح وما هو محال كذب"(3). ومن خلال معالجة سيبويه للتراكيب نلاحظ أنه يفكر ضمنياً في التعليق الإسنادي على طريقة مخصوصة ونماذجه التركيبية توصي بتفكيره ويقدم الأمثلة على ما ذهب إليه في تقسيمه فالمستقيم الحسن مثل الجملة: /أتيتك أمس/ أو /سآتيك غداً/
والمحال (وهو نقض أول كلامك بآخره) مثل: /أتيتك غداً/.
/سآتيك أمس/ ونلاحظ أن المحال في نظر سيبويه لا يرجع إلى السياق النحوي التركيبي وإنما المنطقي والمعنوي.
ومثال المستقيم الكذب /حملت الجبل/ أو /شربت ماء البحر/ فهما من التراكيب النحوية المقبولة من حيث الصوغ والقوانين النحوية فهما يتكونان من وحدة إسنادية بسيطة.
ج = م + م إ + مفع
ج = مسند + مسند إليه + مفعول به
وهذان التركيبان يتنافيان مع الصحة والصواب ولكن المقياس الدلالي قد يسوغهما اليوم في الكتابة الحجازية، فمقياس الحقيقة المعنوية لا يمكن أن يقبل بهذه النماذج ولكن حسن التأليف بيَّن فيها. وتتواتر الألفاظ التي توحي بأن سيبويه يفكر بمقتضى وحدة العلاقة التركيبية النحوية ويطرد ذلك في حديثه عن الترتيب والموضع في التراكيب فيقدم التراكيب التالية ليثبت بها المستقيم القبيح.
أ ـ /قد يزيداً رأيت/
ب ـ /كي زيد يأتيك/
"ومصدر القبح في هذه الوحدات التركيبية: وضع اللفظ في غير موضعه"(4). فالموضع قانون تركيبي لا يمكن الاستغناء عنه في تأليف علاقات الكلام في مجموعات العمليات الإسنادية. والحالة الأخيرة هي التي تعود إلى "المحال الكذب" ومثالها =/ سوف أشرب ماء البحر أمس/ فمن حيث الباب النحوي يمكن قبول هذه العملية الإسنادية التي تتألف من العناصر التركيبية الموالية =
(أداة + (م + م إ) + (مفع به (مضاف إليه) + ظرف زمان)
وهذا الشكل من التراكيب الإسنادية مطرد في الكلام العربي ومقبول نحوياً من حيث توفر العناصر الإسنادية. وتعلقها في سياق إبلاغي غير ممكن على الصعيد المنطقي المعنوي ـ وحرص النحاة العرب على ربط الدلالة بالوظائف التركيبية جرى في أغلب النماذج الموصوفة التي تكون مظهره ولا مجال للإضمار فيها أو للتقدير والنية ـ
2ـ "تقوية المعاني" عند ابن جني =
وهذا النمط من الوصف اللغوي يتجلى في المؤلفات النحوية مع ابن جني في كتاب الخصائص. ولكننا نختار منه باباً يبدو على جانب كبير من الطرافة والأهمية في إبراز تفكير النحاة في التعليق والنظم على الطريقة المخصوصة التي تخضع إلى القوانين النحوية والسياق الإبلاغي المفيد.
ويقع نص ابن جني في آخر باب من آخر الأجزاء لكتاب الخصائص. ويمكن أن نعتبره من أوثق الأبواب حداثة إذ هو منطلق للوصف الحسابي والمنطقي وهو ما تتوخاه بعض مدارس المنطق والرياضيات ومدارس الوصف التركيبي الحسابي.
ونلاحظ أن ابن جني كان واعياً ذكياً بعبقريته العربية وشجاعتها في نظام تراكيبها. ولكن صاحب الخصائص كان له منطلق رياضي حسابي وأتنولوجي واضح في الأمثلة التي يعتمدها. وهو يقدم هذه العمليات وطرق حلولها ثم يعالج الأنماط التركيبية التي أوردها في باب عنوانه:
(باب في المستحيل وصحة قياس الفروع على فساد الأصول).
وهو باب يمتد من صفحة 328 إلى صفحة 341 من الجزء الثالث من كتاب الخصائص. ولعل المحور الاصطلاحي هو أبرز ما في الباب إذ الغاية من بسط التراكيب الموصوفة هي من صلب علم اللغة أو هي حسب تقسيم ابن جني تتوزع إلى "تحصين المعاني" و"تحرير الألفاظ" ثم في التفريغ الثالث وهو يرجع إلى المعرفة والنشاط الذهني لدى الناظرين في مجال التركيب اللغوي وهو التشجيع على مزاولة الأغراض"(5) ثم يتقدم صاحب الخصائص في التحليل لعرضه ويؤكد على جوانب مفيدة في دراسة الكلام ويحدد أوجه الفحص وهي عنده "ذكر استقامة المعنى من استحالته" ثم الاستطالة على اللفظ بتحريفه والتلعب به(6) وهو في عرضه حريص على المظهر العقلاني التنظيري الشكلاني للأشكال الكلامية ويتجلى حرصه من هدفه من هذا العرض وهو بلورة مدارج الفكر وتشجيع النفس والارتياض من طرز الكلم. ويقدم ابن جني مباشرة بعد ذلك نماذج من العمليات الذهنية الشكلانية ليبلور بها نظره في المعطيات اللغوية فيقدم عمليات حسابية في "أجوبة صحيحة على أصول فاسدة" من ضرب وقسمة وكسور والغاية منها "التعمل والتصرف" ثم يقدم نماذج من الفرائض والوراثة. والأنتروبولوجيا على طريقة سؤال وجواب. فأصوله غالطة في منطلقها وصحيحة في النتيجة وتبقى طريقة إدراك الحل من أعسر العمليات الذهنية، وفي القسم الكبير الثاني من الباب يتعرض ابن جني إلى المحال وهو في ذلك يعمد إلى الأمثلة اللغوية والعمليات الإسنادية في حالات ثلاث هي:
أ ـ أن تنقض أول كلامك بآخره.
ب ـ المنطق الشكلي الطبقي في موضوع الإضافة.
ج ـ العلاقة بن أفراد الأسرة وإجراء عملية القياس الاجتماعية.
ويقدم في صحة قياس الفروع على فساد الأصول نماذج تركيبية تنقسم إلى الصيغ الصرفية والأسماء الأعجمية واشتقاق الأفعال والأسماء وهو دائماً يحافظ على قرار تواتر هذه العمليات الذهنية في مجال البحث اللساني ويقول:
"والمسائل من هذا النحو تمتد وتنقاد إلا أن هذا طريق صنعتها"(7) والسمة القارة في تشكيل النظر النحوي هي إبداء ضرب من الارتياض في ميدان تركيبي غايته إبراز المضمر من الكلم والمظهر في حيز عملية الإبلاغ بين المخبرين ويعود مبدأ هذه الرؤية إلى إفراز القوانين النحوية والعلاقات التركيبية بين المؤلفات المباشرة والراجعة إلى ميدان المعاني النحوية أو الوظائف النحوية. ففي حيز الإضمار يمكن قبول التراكيب وأما في حيز الإظهار فلا مجال لها ولا إفادة لما يبدو منافياً للمستعمل لدى المخبرين في سياق إبلاغي يتخير فيه الناطقون معانيهم المقصودة.
وفي إجراء الارتياض بالحساب يقدم ابن جني مجموعة من الفرضيات حسب أصناف منها الضرب والقسمة والكسور في باب الأموال وأما في قسم الفرائض والإرث فيعرض صاحب الخصائص إلى مسألة اقتسام الأسرة وأفرادها لما يخلفه الأب أو المرأة بعد الوفاة وهي جميعاً أوجه يروم فيها اللغوي بيان "الأجوبة الصحيحة على الأصول الفاسدة"( وأما في التركيب فهو يتقصى التمييز بين المستوى المنطقي والمستوى النحوي في التراكيب المستعملة مؤكداً على قرار الوظيفة الإسنادية بين المؤلفات المباشرة في العملية.. الإخبارية.
أولاً: في الحساب:
أ ـ إذا فرضت أن 7+ 5= 40. فكم = 8+ 3= ؟
جوابه أن تقول: 27+ 3/7 وبابه على الاختصار أن تزيد على 24 سبعها 24/7 وهو 3+ 3/7 مثل زيادة السبع من 35 وهو 5 = 35+ 5= 40.
ب ـ فرض من درجة ثانية:
لو قال: 7+ 5= 30
كم: 8+ 3 تقول: 20+ 7
نقصت من 24 سبعها 24 1/7
مثل نقص 1/7 من 35
ج ـ وكذلك لو كان نصف المائة = 40 100/2= 40
لكان 30/2= 12
د ـ وكذلك لو كان نصف 100/2= 60
لكان 30/2= 18
الأصناف المستحيلة = في معالجة الإرث والمال:
أولاً: الأموال:
أ ـ ما تقول في مال فيه 1/2= 2/3. كم ينبغي أن يكون 1/3 فجوابه = 4/9.
ب ـ ما تقول في مال 1/4+ 1/5= 9/3+ 1/10
كم ينبغي أن يكون نصفه وثلثه؟
فجوابه = جميعه + 1/9 منه,
ج ـ ما تقول في مال نصفه ثلاثة أمثاله. كم يجب أن تكون سبعة أمثاله.
فجوابه أن تقول = 42 مثلاً له.
د ـ ما تقول في مال ضعفه = 1/3 منه. كم ينبغي أن يكون أربعة أخماسه؟ وجوابه = عشرة و1/3 عشرة.
ه ـ إذا كانت = 4+ 5= 13
فكم يجب أن تكون = 9+ 6= ؟
فجوابه: 21 + 2/3
ثانياً ـ الفرائض:
أ ـ مات رجل وخلف ابناً و13 بنتاً. فأصاب الواحدة 3/4 ما خلفه المتوفى. كم يجب أن يصيب الجماعة.
فالجواب أنه يصيب جميع الورثة مثل ما خلفه المتوفى 11 مرة و1/4.
ب ـ امرأة ماتت وخلفت زوجاً وأختين لأب وأم.
فأصاب كل واحدة منها 4/9 ما خلفته المتوفاة. كم ينبغي أن يصيب جميع الورثة؟
والجواب أنه يصيبهم ما خلفته المرأة و5/9 منه.
فالمقابلة بين العملية الذهنية في الرياضيات والفرائض مع العملية النحوية متوازنة في إقامة علاقات شكلانية تدور في ضمير المتكلمين حتى تتولد النماذج النحوية المقبولة في سياق الإبلاغ العام وفي المستوى العقلاني المنطقي. ومرمى ابن جني هو بيان أوجه من الإحالة ولكنه ضمنياً يوحي لنا بإمكانية التعليق التركيبي بين أبنية إسنادية ممكنة لدى المتكلمين ويقيم نوعاً من القانون في الكلام قائلاً: "فمن المحال أن تنقض أول كلامك بآخره"(9) ثم يستعرض الأنماط من التراكيب الإسنادية ومنها العمليات المقبولة إسنادياً لكنها مرفوضة مثل: ج1= /قمت غداً/
ج2= /سأقوم أمس/
ولكن ابن جني يلاحظ الأوجه الممكنة في القبولية النحوية ويعرض أمثلة هي في مجموعها تضمن تجنب اللبس وهو شرط كاف لقبول الأفعال حسب السياق التركيبي وخاصة الأفعال التي تقول بالتقابل الزماني فهي قد "خولف بين أمثلتها"(10) وهذا التخالف هو الذي يكسبها وظيفتها الزمانية في الدلالة وتبرز هذه المقابلات في العملية الشرطية الظن فيه. ومن التراكيب يورد ابن جني الأمثلة التالية وفيها لفظ الماضي ومعناه الاستقبال(11):
ج1= /إن قمت غداً قمت معك/
ج2= /لم أقم أمس/
ج3= /أعزّك الله/
ج4= /أطال بقاءك/
ج5= /إن قمت جلست/
ففي الجملة الشرطية لا يصح إلا لكونه يفيد الاستقبال وأما الأمثلة المنفية ففيها أسبقية المضارع في الرتبة بالمقابلة مع الماضي و"إذا نفي الأصل كان الفرع أشد انتفاء"(12) ومن النماذج التركيبية التي يتوخى فيها الفعل بلفظ الماضي الجملة الدعائية مثل:
ج1= /أيَّدك الله/
ج2= /حرسك الله/
ففي هذه الأنماط الدعائية يثبت الفعل ويحقق عملية الإبلاغ عند جواب السامع للدعاء بقوله:
ج1= /وقع إن شاء الله/
ج2= /وجب لا محالة أن يقع ويجب/
ومن النماذج التي تتقابل فيها المؤلفات الفعلية نذكر:
ج1= /ولقد أمرّ على اللئيم يسبني/
ج2= /زيد يتحدث ويقرأ/
ج3= /كان زيد سيقوم أمس/ أي كان متوقعاً منه القيام فيما مضى.
فتلك التراكيب يحكي المخبرون فيها "الحال الماضية" ويعلم أن "الحال لفظها أبداً بالمضارع"(13).
وفي التراكيب إثبات وتحقيق بالوقوع للحدث المخبر عنه. وهذه الأمثلة تتنافى مع المثالين:
ج1= /قمت غداً/
ج2= /سأقوم أمس/
ولكن صاحب الخصائص لا يرفض قطعاً هذه النماذج لو قام عليها دليل في الملفوظ السياقي أو في حال الإخبار(14).
وينتقل ابن جني إلى مصادرة أخرى في التوظيف والعلاقات الإسنادية في الكلام ويطرق عملية الإجراء على الإضافة مستقطباً الرؤية في ميدان المنطق التقسيمي أو أقسام الفئات المنطقية ويبرز الممكن وغير الممكن في مسار عرضه للإحالة الإخبارية وأمثلته هي:
الإحالة = ج1= /زيد أفضل إخوته/. زيد ليس من أخوته
الإمكان= ج1 = /زيد أفضل الناس/ لأنه منهم
ج2= /الياقوت أنفس الأحجار/
الإحالة التناقض في الانتماء الميداني الدلالي:
ج1= /زيد أفضل الحمير/
ج2= /الياقوت أنفس الطعام/
وهذه المنهاجية مطردة في تحديد العلاقة التركيبية في النحو العربي غايتها إفراز البنية الوظيفة المقبولة.
هذه التقسيمات هي من صلب المنطق الرياضي أو ما يطلق عليه لفظ منطق الطبقات أو الفئات (Logique des classes) وهو ميدان له جدوى لا يستهان بها في مجال معالجة التراكيب والوظائف النحوية وخاصة في ميدان الدلالات.
ويعلل ابن جني الجملة ج1= /زيد أفضل إخوته/
بقوله أنه ليس واحداً من إخوته و إنما هو واحد من بني أبيه "وأيضاً" فإن الأخوة مضافون إلى ضمير زيد وهي الهاء في /إخوته/ فلو كان واحداً منهم وهم مضافون إلى ضميره كما ترى لوجب أيضاً أن يكون داخلاً معهم في إضافته إلى ضميره وضمير الشيء هو الشيء البتة والشيء لا يضاف إلى نفسه(15)" ويورد ابن جني نموذجاً من القرآن (الآية 51 من الحاقة) وهو ج1= وإنه لحق اليقين ويعلل بأن الحق هو غير اليقين وإنما هو خالصه وواضحه فجرى مجرى إضافة البعض إلى الكل نحو = ج2/ هذا ثوب خزّا/(16) ومن الأمثلة التي تثير المجادلة النحوية يعرض صاحب الخصائص الجمل التالية:
ج1= /أخذت كل المال/
ج2= /ضربت كل القوم/
ويعلق قائلاً: "فليس الكل هو ما أضيف إليه" ويقويه قول أبي بكر بن السراج: إنما الكل عبارة عن أجزاء الشيء وكما جاز أن يضاف أجزاء الجزء الواحد إلى الجملة جاز أيضاً أن تضاف الأجزاء كلها إليه(17) ويؤدي مجال النظر في البنية التركيبية إلى تقصي الظاهرة الوظيفية في مستوى الحمل على اللفظ الظاهر ويقدم ابن جني أمثلة من هذا النطاق وهي معللة حسب رؤية دلالية: ج1= كل القوم عاقل/ في هذا المثال يرى النحوي أن "حال البعض متصورة في الكل"(18) أي أن كل واحد من القوم إنما هو عاقل على انفراده ومن هذا الطراز الجملة من القرآن (الآية 33 من الكهف).
ج2= كلتا الجنتين آتت أكلها
ومن المحمول على المعنى دون اللفظ الأمثلة القرآنية التالية:
ج1= وكل أتوه داخرين ـ (الآية 87 ـ النمل).
ج2= كل له قانتون (الآية 16. البقرة).
ففيها لم تضف /كلا/ فعوض من ذلك ذكر الجماعة في الخبر(19) وهذا الاستغناء عن ذكر الجماعة في الخبر متواتر في نسج القرآن. مثل = ج1= وكلهم آتية يوم القيامة فرداً.
وهذه الظواهر من العمليات الإسنادية والتراكيب يعالجها النحوي في ميدان العموم والخصوص الدلالي ثم يشير ابن جني إلى تعليل الإضافة المقامة على التقسيم الفئوي في الجملة الأولى.
فالوجه المقبول هو: ج1= /زيد أفضل بني أبيه/
/وأكرم نجل أبيه وعترة أبيه/
كما أنه يضيف تحويلاً مختلفاً بإدخال دليل من الحروف المبنية عن الفئة والقسم في الإضافة ويقدم المثال:
ج2= /زيد أفضل من إخوته/
وهذا الدليل يسقط الإضافة من العملية التركيبية ويسمح بالاختيار في العناصر الكلامية. ومن بين الأوجه المستحيلة في الإخبار الذي يقام على التخالف في الأقسام الأولى والثانية من العملية التركيبية ومثال ابن جني على هذا الضرب هو:
ج1= /أحق الناس بمال أبيه ابنه/
فدلالة الأبوة تتضمن قيمة البنوة وكان المخبر قد استعمل البنية العميقة التالية في ذلك الوجه المستحيل من التركيب.
ج2= /أحق الناس بمال أبيه/
وهو نظير: ج3= /زيد زيد/
ج4= /القائم القائم/
وهو أطناب في الإخبار وتكرار لا يتميز في الإفادة إذ ليس في الجزء الثاني منه إلا ما في الجزء الأول البتة وليس على ذلك عقد الإخبار(20) فالتقابل يقتضي أن يكتسب الجزء الأول من الجملة ما ليس في الجزء الثاني منها ولهذا لم يقبلوا لأن القسم الأول يتضمن الثاني.
ج1= /ربّ الجارية مالكها/
ويتخلص ابن جني إلى تسهيم رؤيته إلى التعليق في ظاهرة "الحمل على المعنى" في أجزاء الكلام بين المنزلة الأولى والمنزلة الثانية في صلب العملية الإسنادية فالإعادة أو الإطناب في الإبلاغ من بين الوسائل المتوخاة في تحديد الوظيفة التي تقوم على التخالف في القيم الدلالية للعلامة اللغوية فالإفادة المختزلة قد تتطلب التكرار "لضرب من الإدلال والثقة بمحصول الحال"(21). ويعود ابن جني إلى تعليل الإضافة في باب استحالة المعنى في مفهوم العلاقة التركيبية مؤكداً القبولية والنحوية للجملة التالية:
البنية المقبولة: ج1= /أحق الناس بمال أبيه أبرهم به وأقومهم بحقوقه/
البنية المستحيلة: ج1= /أحق الناس بمال أبيه ابنه/
فهذه الأشباه والنظائر من الأبنية التركيبية تسمح بفحص التعليق النحوي ومدى ربطه بالتعليق المنطقي في التقسيمات الراجعة إلى حيز الدلالات التي تتوفر فيها مقاييس النحوية والتركيب المقبول في مسألة هي باب الإضافة بتوخي صيغة (أفعل) كما تتوفر فيها الأبعاد المنطقية المؤكدة للإبلاغ.
وعالج القاضي عبد الجبار (ت 415هـ) مجال التحديد للعلاقة النحوية وطرق إبرازها عند حديثه عن الفصاحة وبيَّن بوضوح طرق تعيين الوظيفة عندما يقول:
"اعلم أن الفصاحة لا تظهر في إفراد الكلام وإنما تظهر في الكلام بالضم على طريقة مخصوصة ولا بد مع الضم من أن يكون لكل كلمة صفة وقد يجوز في هذه الصفة أن تكون بالمواضعة التي تتناول الضم وقد تكون بالإعراب الذي له مدخل فيه.
وقد تكون بالموقع
وليس لهذه الأقسام الثلاثة رابع لأنه إما أن تعتبر فيه الكلمة أو حركتها أو موقعها، ولا بد في هذا الاعتبار في كل كلمة ثم لا بد من اعتبار مثله في الكلمات إذا انضم بعضها إلى بعض لأنه قد يكون لها عند الانضمام صفة وكذلك لكيفية إعرابها وحركتها وموقعها. فعلى هذا الوجه الذي ذكرناه إنما تظهر مزية الفصاحة بهذه الوجوه دون ما عداها". (المغني 16/ 1999).
وهذه الطرق في تحديد الوظيفة النحوية تحتويها مختلف الدراسات النحوية في جميع اللغات وهي قد تبلورت في كتب أندري مارتيني وأبرزها في ثلاث طرق هي: الضم بين أصناف الكلم ثم الإعراب وأخيراً المرتبة في نطاق التركيب فوسائل التحديد الوظيفي في المدرسة الهيكلية الوظيفية الواقعية لا تتعدى هذه الأضراب الثلاثة التي تؤديها أصناف من الكلمات المستقلة في نظام العملية الإسنادية أو الكلمات التي تحمل علامات إعرابية تؤدي معاني الفاعلية والمفعولية والإضافة أو معنى الإسنادية عامة وتنضوي تحتها الأدلة الوظيفية (Les Indicateurs fonctionnels) مثل الحروف والأدوات فالكلمات التي تحتل مرتبة معينة في شبكة العلاقات بين المؤلفات المباشرة للجملة(22).
ويهتدي اللغويون العرب إلى هذا التقسيم العام في اللسانيات غير أن الذي بلوره إلى أقصى الدرجات هو عبد القاهر الجرجاني في مؤلفاته. ولقد برزت نظرية النظم عنده مقامة على هذه الوظائف النحوية التي اصطلح عليها بلفظ "المعاني النحوية" وتواتر استعمال هذا اللفظ بحيث يمكن أن ندرك منزلة الظاهرة النحوية في إطار الظاهرة اللسانية العربية العامة وإن كانت دراسة الجرجاني تسعى إلى إبراز جانب الإعجاز حسب ما اتفق عليه الدارسون لكتبه ونصوصه.
ميدان "المعاني النحوية" عند الجرجاني
لقد كان من العسير التمييز بين المستوى المنطقي والدلالي والتركيبي في النصوص القديمة ولكن مفهوم "المعاني النحوية" قد اختص بالتعليق التركيبي حسب قوانين وطرق دقيقة في رؤية عبد القاهر الجرجاني في مؤلفيه أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز.
أ ـ طرق الإجراء للتركيب
ومن المسلمات في النحو العربي أن الكلمة هي محور النظر من حيث حركتها في نسيج من الكلم حسب وحدات إسنادية وعلاقات مكثفة في توزيع سياقي مقنن، وكانت نظرية الإعراب طريفة وأظهرت جدواها في تحديد "المعاني النحوية" من فاعلية ومفعولية وإضافة وأدى التفرد بالعلة النحوية إلى طرق إجراء تفيد الواصف اللغوي من حيث التجريد والتأويل لبعض الأبنية ولكن التوغل في الافتراض قد يحمِّل التوظيف النحوي ما قد لا يستسيغه المخبرون في عملية توليد النماذج الكلامية فالكلمة هي المادة الأولى من سبر أوجه التعليق حسب الحزم التركيبية وتنتقل أنفس الكلم بين بعد ما قبل التعليق وهو الإضمار ثم إلى المستوى الدلالي ثم أخيراً إلى البعد الوظيفي النحوي ـ ويمكن أن نبرز ذلك في شكل يصور مراحل التوليد التعليقي:
الشكل المدلول الشكل الدال
المؤلفات المباشرة للكلام ما قبل التعليق حيِّز الإضمار توليد المدلول مادة توليد المدلول صورة المؤلفات المباشرة في مستوى ما قبل التعليق في العملية الإسنادية حيز الإظهار + ooنهائية
ـ oo ـ لا نهائية نشوء الوحدة الكلامية
وهذه الأبعاد في ما قبل التعليق والنشوء الكلامي ثم ما قبل الدخول في التعليق الإسنادي متجادلة. فالتعليق وما يسبقه عملية إخبارية لا يمكن الفصل فيها بين الأبعاد الزمنية المتماسكة فحيز الإضمار وحيز الإظهار للوحدة التركيبية مقطعان من نقطة إخبارية مفردة لدى المخبرين باللغة.
فهذا الشكل البياني يشير إليه ضمنياً نص الجرجاني في المؤلفين، فعالج عبد القاهر الكلام بمقتضى رؤية ثابتة في دروسه وهي النظم والتعليق أو حسب لفظه اعتماد توخي معاني النحو وأحكامه ووجوهه وفروقه فيما بين معاني الكلم فهي معدنه وموضعه ومكانه(23) فلا يمكن تصور أن يتعلق الفكر بمعاني الكلم أفراداً ومجردة من معاني النحو(24) وتعود المعاني الكلامية إلى أنماط "ينشئها الإنسان في نفسه ويصرفها في فكره ويناجي بها قلبه ويرجع فيها إليه(25) والخبر إنما هو معنى قائم في نفس المتخاطبين باللغة ثم هم يتواضعون على تخير السمات الدالة على تلك المعاني التي يتم سبكها وصوغها في الجملة التي تتصف بالجمال حسب صورتها الواقعة في العقل لا في السمع ويقيم الجرجاني مقايسة بين الكلم والتعليق، والفضة والذهب، والوشي والنسيج، ليؤكد ما تبلغه عملية التعليق حسب القوانين النحوية من تقدير وترتيب وخصوصية وإعرابية وتقابلية بين المؤلفات التركيبية وهذه المعاني هي الأدلة على الأغراض والمقاصد المستفادة.
واستقراء نص الجرجاني يبرز مدى قرار اطراد التعليق النحوي واعتبار الترتيب والتنسيق في بنية التركيب ويربط ذلك بعملية البناء والصياغة قائلاً: "واعلم أن مثل واضع الكلام مثل من يأخذ قطعاً من الذهب أو الفضة فيذيب بعضها في بعض حتى تصير قطعة واحدة(26) ويقدم العملية الإسنادية تدعيماً لفكرة التعليق النحوي ونورد المثال(27) ج1= /ضرب زيد عمراً يوم الجمعة ضرباً شديداً تأديباً له/.
فمحصول التعلق النحوي هو تحديد المعاني بين المسند (ضرب) وما عمل فيه والأحكام التركيبية المتفرعة عن التعليق وهو باب التوسع والفضلة. والمعنى هو أصل الفائدة فيقول الجرجاني واصفاً الجملة أصل الفائدة وهو إسناد ضرب إلى زيد وإثبات الضرب به له حتى يعقل كون /عمرو/ مفعولاً به وكون/ يوم الجمعة/ مفعولاً فيه وكون/ ضرباً شديداً/ مصدراً وكون/ التأديب/ مفعولاً له من غير أن تخطر ببالك كون زيد فاعلاً للضرب"(28).
ويورد الجرجاني نموذجاً تعليقياً هو بيت بشار بن برد.
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه (طويل)
فهذا البيت كالحلقة المفرغة التي لا تقبل التقسيم(29) فهو من أوله إلى آخره كلام واحد منتظم لا عدة معان مفرقة فالنحو ليس غايته الإعراب وإنما الأوصاف التي يوجبها في العلاقات التركيبية حتى تكون للمؤلفات مزية في الإفادة وهذا الضم للكلم شبيه بضم غزل الإبريسم بعضه إلى بعض(30) ومن هذا المنطلق في الصوغ ينتفي الفصل بين النحو والفصاحة في الكلام إذ هي تتجلى في إبداعية التعليق والتأليف على طريقة مخصوصة للمعاني التي يوفرها باب النحو.
وتأكيداً لطرق الإجراء في المعاني النحوية يورد عبد القادر الجرجاني مثالاً يصور منهاجيته في التعليق وهو صدر بيت امرئ القيس.
/قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل/
ومن القوانين التي يضعها قبل تحليل هذا التركيب "لا يصح في عقل أن يتفكر متفكر في معنى فعل من غير أن يريد أعماله في اسم ولا أن يتفكر في معنى اسم من غير أن يريد أعمال فعل فيه وجعله فاعلاً له أو مفعولاً أو يريد منه حكماً سوى ذلك من الأحكام مثل أن يريد جعله مبتدأ أو خبراً أو صفة أو حالاً أو ما شاكل ذلك"(31) وهذا النسق التركيبي بين المعاني النحوية هو نفسه ما يكمن في عملية الإضمار اللا نهائية والإظهار النهائية للتعليق الذي يخضع المؤلفات المباشرة إلى الصياغة التركيبية، وهذه الجدلية بين القوانين المحولة للتركيب بينة إذا سقطت طرق الترتيب والتوزيع في العلاقات التركيبية ويصرح الجرجاني بذلك قائلاً: "وإن أردت أن ترى ذلك عياناً فاعمد إلى أي كلام شئت وأزال أجزاءه عن مواضعها وضعها وضعاً يمتنع معه دخول شيء من معاني النحو فيها فقل في/ قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل/، /من نبك قفا حبيب ذكر منزل/ ثم انظر هل يتعلق منك فكر بمعنى كلمة منها"(32). فالقوانين النحوية تختص بالتراكيب إطلاقاً ولا يمكن تصور عملية إخبارية دون وظيفة إبلاغية وهذا لا يعني انتفاء أن يكون الفكر متعلقاً بمعاني الكلم المفردة أصلاً، ويؤكد ذلك الجرجاني مستدركاً "ولكني أقول أنه لا يتعلق بها مجردة من معاني النحو ومنطوقاً بها على وجه لا يتأتى معه تقدير معاني النحو وتوخيها فيها.."(33) ففي حيز الإضمار أي قبل التعليق تتبلور ما قبلياً الأحكام الوظيفية فما بالنا بالبنية النهائية ولذلك نرى أن عملية التعليق معقدة وهي تتوزع ما بين الإضمار والإظهار وهذه المجادلة بين البعدين هي عينها الوظيفة النحوية أو الكلامية عامة وهي من أخص سمات المخبرين باللغة وتعود هذه الرؤية إلى مجال العلامات اللغوية وتحديد منزلة اللغة التي هي تجري مجرى العلامات والسمات ولا معنى للعلامة والسمة حتى يحتمل الشيء ما جعلت العلامة دليلاً عليه وخلافه"(34) فالعلامات إشارات مرجعية في جداول متقابلة تكتسب قيمها الدلالية حسب سياق تركيبي أو إبلاغي يساهم فيه أطراف الخبر في السلسلة الإبلاغية. فالتفكير في نمط البنية الإسنادية لا يتحقق إلا بعد توخي معاني النحو وهو إجراء مرتبط بمقصد المخبرين وتخيرهم للتوزيع التركيبي ومفهوم القصد جلي لدى عبد القاهر فهو أن تعلم السامع بها (معاني الكلم) شيئاً لا يعلمه(35). فمن المسلمات في النحو إذ أنه لا يتصور ترتيب بنيوي بدون الوظائف النحوية فكل قسم من أقسام الكلم يعود إلى باب تعليقي ونظام هو ميدانه التعليقي في مجالات الكلام وليست من طريقة مخصوصة إلا المعاني النحوية(36).
ب ـ ضروب الكلام وميدان الوظيفة "المعرفة النحوية"
إن مجالات التبويب لأنماط التعليق الإسنادي تؤلف أنظمة من الأبنية التي لا توجد في التركيب إلا حسب المرجعية إلى جداول وتوزيعات. وما عملية التوظيف ألا تجادل الأبنية في المجالين الجدولي والتوزيعي وما من إخبار إلا وهو يحمل مجموعة من القيم التركيبية والأصول المفيدة بمقتضاها تكون الأشباه من التراكيب مطردة حسب أشكال تبلغ درجة الحسابية والتجريد الرياضي وهو ما يشير إليه الجرجاني في أثناء وصفه للتراكيب والمعاني النحوية في ضروب الكلام أو العمليات الإسنادية فالكلام يتحدد بأصول النحو وقواعده الإعرابية حتى يمكن ضبط الوظائف من فاعلية ومفعولية وإضافة وهو مظهر لا يبعث إلى الاختلاف رغم التساؤل عن جدوى هذا التوزيع للوظائف النحوية(37).
وأوجه التعليق بين المعاني النحوية حسب نظر الجرجاني ثلاثة وهي:
أ ـ تعليق اسم باسم.
ب ـ تعليق فعل بفعل.
ج ـ تعليق حرف بهما.
وفي كل ضرب لا بد من توفر المقتضي للوظيفة النحوية وهو ما يسوغ النماذج من التراكيب المتعددة في اللغة، فالإعراب في النحو هو قانون اختزالي يرجع الوظائف إلى عدد محدود وتلك الوظائف تنظيمية إذ بها يمكن اختزال لا نهائية الكلم فالإعراب له جدوى في الكشف عن المعاني النحوية ووعي الجرجاني بمركزية الإعراب يلوح في عرضه أوجه التعليق فيقول:
"إن الألفاظ مغلقة على معانيها حتى يكون الإعراب هو الذي يفتحها وإن الأغراض كامنة فيها حتى يكون هو المستخرج لها وأنه المعيار الذي لا يتبين نقصان كلام ورجحانه حتى يعرض عليه والمقياس الذي لا يعرف صحيح من سقيم حتى يرجع إليه"(38). فالإعراب قانون من المبادئ النظرية الذي به يسبر النحوي والمتكلمون أصناف الكلم ويلحق بالعملية المضمرة لدى المخبرين إذ به تقتفى آثار المعاني وترتب حسب.. ترتيبها في النفس وتتناسق القيم الدلالية في توزيعات منتقاة على وجه رياضي عقلاني، فما يقوم بالعقل هو أقسام كلامية من أسماء وأفعال وحروف، وحيز هذه الأقسام هو باب الوظيفة النحوية فكل قسم ينتمي إلى توزيع وظيفي يعود إليه وإن بدا الملفوظ منعزلاً عن العملية الإسنادية وهذا الضبط شديد البروز في النحو ويسهل اختبار تلك الأنماط في الخبر بين الإثبات والنفي والشرط والجزاء والحال والفضلة عامة. فالمخبرون يقومون بترتيب الكلام حسب مقتضيات علم النحو وقوانينه وأصوله ومناهجه التي نهجت ورسومه التي رسمت(39) ويدخل في ذلك الحذف والتكرار والإضمار والإظهار وجميع ما أورده ابن جني تحت باب شجاعة العربية(40) وتنتظم أنماط الكلم حسب التخير والتدبر والمواقع والمقادير وطرق الصوغ والترتيب ويعرض الجرجاني إلى أبواب التقديم والتأخير والتعريف والتنكير والحذف والإضمار والإظهار والتكرار والوصل والفصل وهي من القوانين التي تحول أبنية التراكيب إلى عمليات إسنادية تقام على الوظيفة النحوية(41) وتعود مجموعة الفضلات (الحال والمطلق) إلى باب الخبر أن الحال تثبت بها المعاني ويحلل أنواع التراكيب التي تتضمن حروف العطف مقيماً المعادلات والمقابلات بين أقسام التراكيب ويقسم الجمل في باب الفصل والوصل إلى ثلاثة أصناف(42).
أ ـ جملة حالها مع التي قبلها حال الصفة مع الموصوف والتأكيد مع المؤكد فلا يكون فيها العطف البتة لشبه العطف فيها لو عطفت بعطف الشيء على نفسه.
ب ـ جملة حالها التي قبلها حال الاسم يكون غير الذي قبله إلا أن يشاركه في حكم ويدخل معه في معنى مثل أن يكون كلا الاسمين فاعلاً أو مفعولاً أو مضافاً إليه فيكون حقها العطف.
ج ـ جملة ليست في شيء من الحالين بل سبيلها مع التي قبلها سبيل الاسم مع الاسم لا يكون منه في شيء. فلا يكون إياه ولا مشاركاً له في معنى بل هو شيء إن ذكر لم يذكر إلا بأمر ينفرد به... ويكون ذكر الذي قبله وترك الذكر سواء في حاله لعدم التعلق بينه وبينه رأساً وحق هذا ترك العطف البتة.
وفي نطاق معالجة ضروب الكلام يستعرض الجرجاني ضربين يؤديان إلى نمط آخر من مستويات الكلام وهو مستوى الدلائلية والدوال الثواني، والضربان يحققان الإبلاغ حسب = أ ـ دلالة اللفظ وحده مثل ج1= /خرج زيد/.
ب ـ ودلالة اللفظ وحده ولكن يدلك اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة ثم يجد لذلك المعنى دلالة ثانية تصل بها إلى الغرض (وهو باب الاستعارة والكناية والتمثيل). ويستعمل الجرجاني مصطلحات تصور هذه المفاهيم مثل:
"المعنى ومعنى المعنى" وتعني بالمعنى المفهوم من ظاهر اللفظ والذي تصل إليه بغير واسطة و"معنى المعنى" هو أن تعقل من اللفظ معنى ثم يفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر.(43) وهذا المستوى هو ثانوي بالمقابلة مع الوظائف الأولى التي تتأصل في الإسنادية وهي من أبرز القوانين النحوية.
ويلوح حرص الجرجاني على المعاني النحوية في استقرائه أنماط الكلم ومدى اختبار جريان أحكام النحو في الكلام من شعر وقرآن وأمثال، وجميع الأنماط تعود إلى وظيفة محورية هي الخبر وهو أول معنى من معاني الكلام وأقدمها ويورد رؤيته في المخبر والمخبر عنه والمخبر به حسب الإثبات والنفي. والظواهر الثابتة في طرق الإجراء للوظيفة هي الثنائية بين ما هو قائم في النفس وما هو مرتب حسب المعاني من الجملة الاسمية والجملة الفعلية، وليس من الجدل أن نرى في رؤية الجرجاني مساهمة طريفة تقفل به سلسلة التأصيل للتنظير الألسني في ميدان النحو والتعليق التركيبي باعتماد خصائص العلامات اللغوية التي تولد قيمها الدلالية والوظيفة بالمخالفة والتقابل فجدوى الكلام مقياسها الدلالات على البلاغ بمراعاة القوانين النحوية من إعراب وتقديم وتأخير وترتيب ومطابقة وإدراك بالعقل وهذه المعاني نوعان عقلي وتخييلي وهي صريحة ملفوظة أو معبر عنها ومدار هذه الأضرب من التعليق تجمع في عقد مفرد مطلق هو المسند والمسند إليه أو الحديث والمحدث عنه وهو ما يؤسس عليه الجرجاني نظره في الوظائف النحوية وهو ما يؤكد طرق الإجراء للوظيفة التركيبية في اللسانيات العربية. ولعل الجرجاني هو خاتمة المطاف بعد المبدأ مع سيبويه والتبلور والتجريد مع ابن جني في كتبه النحوية.
فلفظ "المعاني النحوية" متواتر مطرد في المصنفات اللغوية في العربية ويبلغ القمة مع عبد القاهر الجرجاني في مفهوم الوظيفة النحوية والكيفيات التي بها تؤدي أقسام الكلم دوراً تعليقياً في العملية الإسنادية ولقد عالج النحاة المعاني حسب ثنائية الإضمار والإظهار وحسب النحوية والمنطقية والدلالية. وباب الإحالة في أصناف من التراكيب وأقيمت مقارنة بين العملية الذهنية في الرياضيات والعملية الإبلاغية في الكلام المتميز بالمقاطع والعلامات المتقابلة(44).
لقد تراءت لنا رؤية اللغويين متماسكة في التأكيد على التعليق في المعطيات التركيبية في مستوى الإخبار منذ الما قبل تعليقية إلى التعليق مع إفراز الأبنية المستحيلة والأبنية الممكنة والمرجع في طرق الإجراء هو المعاني النحوية أو ما يطلق عليه اليوم لفظ الوظيفة التركيبية وهي مركز الوصف التركيبي في اللسانيات العامة تنطلق من واقع الكلام وعملية الإبلاغ في جميع اللغات كما أن الوظيفة النحوية هي المنطلق والمرجع في تحديد خصائص النحو العام الذي تطرد فيه القوانين العامة الشاملة وخصائص النحو الخاص بلغة معينة. وإدراك التعليق النحوي في اللسانيات العربية ليس وليد اليوم وإنما هو أساساً من صلب طرق التحليل والإجراء لأقسام الكلام حسب الإعرابية بمقتضى ذلك وصفت اللغة وصفاً تنظيمياً إيجابياً وتبلورت الرؤية النحوية لدى بعض اللغويين الذين أقاموا نظرياتهم النحوية على أطراف الوظيفة هي علامة قارة لدى النحاة صاغ الجرجاني التنظير في درجة قصوى نعتبرها خاتمة المطاف وكان ذلك بيتاً في كتابه المخطوط: المقتصد في النحو(45) فمع نظرية النظم تبلغ الوظيفة النحوية أسمى منازلها ومراتبها من التجريد فمجالات التعليق تنفجر من الصوغ المخصوص والنسيج بين المؤلفات المباشرة للتركيب وليس في اللغة من الأنظمة ما هو مجاناً فكل باب مرجعي يوحي بجدول وسياق بين المظهر والمضمر، ويبلغ الإبلاغ قمته وتكامله عند اجتماع المؤلفات الدنيا في شبكة شديدة العقد والتركيب. ويعود عمل التوظيف إلى اختيار المتكلمين في سياق إخباري عام وخاص يبرز في العام محيط الخبر وفي الخاص الصياغة التعليقية ـ في التركيب النهائي للعملية الإسنادية. ولعل ذلك التعليق النحوي هو الذي يولد النمط العالي من الكلام في مستوى الدال والمدلول وهو ما يسمح بتأول دلالي للتراكيب لدى المتخاطبين. فالتركيب مضبوط بالوظائف النحوية لكنه يولد الدلالات في سياق معين فالتفجير للدلالات منطلقه توخي معاني النحو وقوانينه ووجوهه وفروقه وفصوله فيما بين معاني الكلم.
ففي مساهمتنا سعينا إلى تأكيد مفهوم المعاني النحوية في نسق العلاقات التركيبية حسب نصوص تؤلف محور التنظير ومنطلق التحديد والاستكشاف لمجالات التعليق للممكن من النماذج وغير الممكن. وطرافة "المعاني النحوية" هي أنها تقوم بدورها في النظرية اللغوية العربية ويمكن أن تضيف إلى التراث اللساني بعض المنهاجية وجوانب من التحليل للوظائف النحوية وكانت الغاية هي تحصين المعاني والتفكير في منهاجية النحاة في فحص "المعاني النحوية" وهو جانب يسوغه البحث الحديث عن مؤصلات المعرفة اللغوية حتى يمكن وضع مصادرات جديدة ومنطلقات مبدئية ومنهجية في معالجة التركيب والتعليق النحوي في النحو العربي واللسانيات العامة.
الهوامش:
(1)ـ نطلق هذا اللفظ على ما تقفيناه في المصنفات النحوية بين المجرى والمُجرى (بالضم) ويقابل اللفظان العبارات الفرنسية Comportementl Traitement.
فطرق الإجراء تقابل لفظ (Preocédures de Traitement).
(2)ـ سيبويه ـ الكتاب ـ 1ـ 8.
(3)ـ نفس المرجع ـ وطبعة عبد السلام هارون 1977 ص 25ـ 26.
(4)ـ نفس المرجع ـ ونفس الصفحات.
(5)ـ ابن جني ـ الخصائص ـ ص328.
(6)ـ يتناول ابن جني في صفحات 339 ـ 340ـ 341 مسألة: صحة قياس الفروع على فساد الأصول في الاشتقاق للأفعال الأسماء وقد تعرض إلى ذلك في باب سقطات العلماء ص282ـ 309.
(7)ـ الخصائص ص341.
(ـ ابن جني ـ الخصائص 330، وانظر العمليات الحسابية التي قدمها ابن جني وهي أصناف نعرضها حسب نصها في الكتاب.
(9)ـ الخصائص ـ 330.
(10)ـ نفس المرجع ـ ص331.
(11)ـ نفس المرجع.
(12)ـ نفس المرجع.
(13)ـ الخصائص 332.
(14)ـ نفسه ـ 333.
(15)ـ الخصائص ـ ص333ـ 334.
(16)ـ نفسه ـ ص334.
(17)ـ نفسه.
(18)ـ الخصائص ص334.
(19)ـ نفسه ص335.
(20)ـ الخصائص ـ ص336.
(21)ـ الخصائص ـ ص338.
(22)ـ انظر مؤلفات أندري مارتيني اللغة والوظيفة ـ 1969ـ 1669 باريس ـ المعجم اللساني ـ 1969 ـ باريس. اللسانيات الآنية ـ 1974 باريس.
(23)ـ الدلائل ـ ص367.
(24)ـ نفسه. ص286.
(25)ـ الدلائل ـ ص381.
(26)ـ الدلائل ـ ص288.
(27)ـ الدلائل ـ ص289.
(28)ـ الدلائل ـ ص289.
(29)ـ نفسه نفس الصفحة.
(30)ـ الدلائل ـ ص286ـ 287.
(31)ـ
(32)ـ الدلائل ـ ص287.
(33)ـ الدلائل ـ ص827.
(34)ـ أسرار البلاغة ـ 422.
(35)ـ الدلائل ـ ص288.
(36)ـ الدلائل ـ ص295.
(37)ـ انظر ـ الزجاجي ـ الإيضاح في علل النحو ـ تحقيق مازن المبارك ـ العددين ـ سوريا ـ 1959.
(38)ـ الدلائل ـ ص23.
(39)ـ الدلائل ـ ص24.
(40)ـ ابن جني ـ الخصائص ص360.
(41)ـ انظر الدلائل 108ـ 115ـ 119ـ 133.
(42)ـ الدلائل: ص171.
(43)ـ الدلائل ـ ص186.
(44)ـ منجم الموارد والتقصي لمدلول "المعاني النحوية" هو عبد القاهر الجرجاني في كتابيه الدلائل والأسرار. وقمنا بإحصاء معنى العبارات حسب إفادة الغرض والمقصود وحسب إفادة الوظيفة النحوية في الأسرار:
1ـ نسبة المعاني النحوية =مرة واحدة
2ـ نسبة المعنى المقصود = 267 مرة + 65= 332 الدلائل =
1ـ المعاني النحوية = 56
2ـ المعنى المقصود= 1512
مجموع لفظ المعاني النحوية في الكتابين= 1+ 56= 57 مرة ومجموع لفظ المعنى (الغرض المقصود)= 332 + 1512 مرة ومنها= 1272 في لفظ "المعنى" مفرداً و240 في لفظ الجمع (المعاني).
(45)ـ عبد القاهر الجرجاني ـ كتاب المقتصد في النحو ـ مخطوط ـ رقم 73 ـ دار الكتب المصرية.
المصادر والمراجع:
1ـ سيبويه ـ الكتاب ـ1ـ ص8، 1881 طبعة باريس وبولاق ـ 1900 ـ طبعة عبد السلام هارون الجزء ـ1ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب. 1977.
وينظر في الكتاب في الأبواب الأولى التي تبرز التعليق النحوي المألوف في باب المسند والمسند إليه والمرفوعات والمنصوبات والمجرورات.. ص43 (المسند والمسند إليه). وفي صفحة 25 باب الاستقامة من الكلام والإحالة وهو باب لا يحتل إلا نصف صفحة لكنه يصور مجرى التعليق.
2ـ ابن جني ـ الخصائص ـ 3 أجزاء تحقيق محمد علي النجار ـ بيروت ـ دار الهدى. وخاصة الباب الأخير من الجزء الثالث ص388ـ 341.
3ـ عبد القاهر الجرجاني.
أ ـ أسرار البلاغة ـ 1367 ـ 1948.
ب ـ دلائل الإعجاز ـ محمد عبده ـ 1331 هـ مصر.
ج ـ المقتصد في النحو ـ مخطوط رقم 73 دار الكتب المصرية.
د ـ القاضي عبد الجبار ـ كتاب المغني ج16.
نروم في فحص التعليق التركيبي بيان أوجه الإجراء التي عمد إليها النحويون في معالجة العملية الإسنادية في اللغة العربية وذلك حسب رؤية أقيمت مشروعيتها في التنظير الوظيفي في النحو العربي واللسانيات العامة. فلقد توخى النحاة في تعليلهم الأنماط التركيبية مسلكاً طريفاً أقاموا بمقتضاه رؤية سديدة تستخبر الكلام حسب ثنائية عامة هي الإظهار والإضمار. فميدان التعليق ليس ـ كما يبدو لأول وهلة ـ سهلاً بسيطاً وإنما هو عبارة عن عملية معقدة وهي سلسلة من التوزيع والتخير للصوغ النهائي الذي يتبلور في سبك البنية السطحية للعملية الإسنادية التي تخضع إلى مجموعة من القوانين المضبوطة في باب النحو العربي. فالرؤية إلى "المعاني النحوية" إنما هي ضمنية في نصوص النحاة منذ المنطق أي مع إمام اللسانيات العربية سيبويه فكانت طرف الإجراء(1) ثابتة في وصف النماذج التركيبية واستقراء درجة التعلق بين الكلم والمؤلفات المباشرة لعملية الإسناد. ولكن نشير إلى أن مصطلح "الوظيفة التركيبية" لم يكن مذكوراً بهذا الملفوظ وإنما هو من المصطلحات التي برزت في العصور الحديثة مع استقلال العلوم ولم يكن للوظيفة اللسانية حظ إلا مؤخراً مع بعض اللغويين مثل أندري مارتيني الذي بلور اللسانيات الوظيفة في أعماله ومؤلفاته.
وما نطلق عليه لفظ "المعاني النحوية" إنما هو اصطلاح عبد القاهر الجرجاني الذي نعرض لرؤيته في هذه الدراسة وغايتنا هي المساهمة في التأكيد على جوانب حركية أصيلة تنبع من النصوص الأصول. وتستقطب النظر في طرق الإجراء للوظيفة النحوية، مجال العملية التركيبية في اللغة. وليس القصد عرض مسائل النحو جميعاً وإنما سنسعى إلى إبراز جوانب الإفادة في معالجة العلاقة النحوية حسب إفراز باستقراء واستنباط يؤول إلى التنظيمية والشمول العلمي في اختبار المادة النحوية. ولئن كانت النصوص عديدة في التراث النحوي العربي فإننا انتقينا بعض النصوص التي تتجلى فيها "المعاني النحوية" محورية في التعليق التركيبي الذي كان وصفه مطرداً في المؤلفات المختلفة لكننا نعتبر النصوص الأصول الناطقة بالمسألة من كتاب سيبويه فابن جني ثم عبد القاهر الجرجاني.
ونختار الأبواب التي تتميز بمعالجتها التراكيب المستحيلة والتراكيب الممكنة ونستغني عن التعليق في أبواب الإسناد النحوي الذي لا يثير خلافاً وهو باب ينظر إليه في غير هذه المساهمة ـ تتواتر فكرة التعليق بين الكلم والضم في مجموعة من النصوص يمكن استعراضها وإن اختلفت في غاياتها أو في تجديد المصطلح الموضوع لهذه العملية التركيبية فنورد بعض النصوص المعروفة بداية من سيبويه وهو معدن النظر.
1ـ التعليق = عند سيبويه = (ت 180ه).
وأبرز قسم من الكتاب تناول فيه سيبويه فكرة التعليق ذلك الباب الذي يحمل عنوان "باب الاستقامة من الكلام والإحالة"(2) ويقسم ضروب التراكيب التي تخضع إلى القوانين النحوية وقد تتنافى مع المقصود المنطقي والدلالة اللفظية وتبرز القيمة الأخلاقية لعباراته، فالكلام منه مستقيم حسن ومحال، ومستقيم كذب ومستقيم قبيح وما هو محال كذب"(3). ومن خلال معالجة سيبويه للتراكيب نلاحظ أنه يفكر ضمنياً في التعليق الإسنادي على طريقة مخصوصة ونماذجه التركيبية توصي بتفكيره ويقدم الأمثلة على ما ذهب إليه في تقسيمه فالمستقيم الحسن مثل الجملة: /أتيتك أمس/ أو /سآتيك غداً/
والمحال (وهو نقض أول كلامك بآخره) مثل: /أتيتك غداً/.
/سآتيك أمس/ ونلاحظ أن المحال في نظر سيبويه لا يرجع إلى السياق النحوي التركيبي وإنما المنطقي والمعنوي.
ومثال المستقيم الكذب /حملت الجبل/ أو /شربت ماء البحر/ فهما من التراكيب النحوية المقبولة من حيث الصوغ والقوانين النحوية فهما يتكونان من وحدة إسنادية بسيطة.
ج = م + م إ + مفع
ج = مسند + مسند إليه + مفعول به
وهذان التركيبان يتنافيان مع الصحة والصواب ولكن المقياس الدلالي قد يسوغهما اليوم في الكتابة الحجازية، فمقياس الحقيقة المعنوية لا يمكن أن يقبل بهذه النماذج ولكن حسن التأليف بيَّن فيها. وتتواتر الألفاظ التي توحي بأن سيبويه يفكر بمقتضى وحدة العلاقة التركيبية النحوية ويطرد ذلك في حديثه عن الترتيب والموضع في التراكيب فيقدم التراكيب التالية ليثبت بها المستقيم القبيح.
أ ـ /قد يزيداً رأيت/
ب ـ /كي زيد يأتيك/
"ومصدر القبح في هذه الوحدات التركيبية: وضع اللفظ في غير موضعه"(4). فالموضع قانون تركيبي لا يمكن الاستغناء عنه في تأليف علاقات الكلام في مجموعات العمليات الإسنادية. والحالة الأخيرة هي التي تعود إلى "المحال الكذب" ومثالها =/ سوف أشرب ماء البحر أمس/ فمن حيث الباب النحوي يمكن قبول هذه العملية الإسنادية التي تتألف من العناصر التركيبية الموالية =
(أداة + (م + م إ) + (مفع به (مضاف إليه) + ظرف زمان)
وهذا الشكل من التراكيب الإسنادية مطرد في الكلام العربي ومقبول نحوياً من حيث توفر العناصر الإسنادية. وتعلقها في سياق إبلاغي غير ممكن على الصعيد المنطقي المعنوي ـ وحرص النحاة العرب على ربط الدلالة بالوظائف التركيبية جرى في أغلب النماذج الموصوفة التي تكون مظهره ولا مجال للإضمار فيها أو للتقدير والنية ـ
2ـ "تقوية المعاني" عند ابن جني =
وهذا النمط من الوصف اللغوي يتجلى في المؤلفات النحوية مع ابن جني في كتاب الخصائص. ولكننا نختار منه باباً يبدو على جانب كبير من الطرافة والأهمية في إبراز تفكير النحاة في التعليق والنظم على الطريقة المخصوصة التي تخضع إلى القوانين النحوية والسياق الإبلاغي المفيد.
ويقع نص ابن جني في آخر باب من آخر الأجزاء لكتاب الخصائص. ويمكن أن نعتبره من أوثق الأبواب حداثة إذ هو منطلق للوصف الحسابي والمنطقي وهو ما تتوخاه بعض مدارس المنطق والرياضيات ومدارس الوصف التركيبي الحسابي.
ونلاحظ أن ابن جني كان واعياً ذكياً بعبقريته العربية وشجاعتها في نظام تراكيبها. ولكن صاحب الخصائص كان له منطلق رياضي حسابي وأتنولوجي واضح في الأمثلة التي يعتمدها. وهو يقدم هذه العمليات وطرق حلولها ثم يعالج الأنماط التركيبية التي أوردها في باب عنوانه:
(باب في المستحيل وصحة قياس الفروع على فساد الأصول).
وهو باب يمتد من صفحة 328 إلى صفحة 341 من الجزء الثالث من كتاب الخصائص. ولعل المحور الاصطلاحي هو أبرز ما في الباب إذ الغاية من بسط التراكيب الموصوفة هي من صلب علم اللغة أو هي حسب تقسيم ابن جني تتوزع إلى "تحصين المعاني" و"تحرير الألفاظ" ثم في التفريغ الثالث وهو يرجع إلى المعرفة والنشاط الذهني لدى الناظرين في مجال التركيب اللغوي وهو التشجيع على مزاولة الأغراض"(5) ثم يتقدم صاحب الخصائص في التحليل لعرضه ويؤكد على جوانب مفيدة في دراسة الكلام ويحدد أوجه الفحص وهي عنده "ذكر استقامة المعنى من استحالته" ثم الاستطالة على اللفظ بتحريفه والتلعب به(6) وهو في عرضه حريص على المظهر العقلاني التنظيري الشكلاني للأشكال الكلامية ويتجلى حرصه من هدفه من هذا العرض وهو بلورة مدارج الفكر وتشجيع النفس والارتياض من طرز الكلم. ويقدم ابن جني مباشرة بعد ذلك نماذج من العمليات الذهنية الشكلانية ليبلور بها نظره في المعطيات اللغوية فيقدم عمليات حسابية في "أجوبة صحيحة على أصول فاسدة" من ضرب وقسمة وكسور والغاية منها "التعمل والتصرف" ثم يقدم نماذج من الفرائض والوراثة. والأنتروبولوجيا على طريقة سؤال وجواب. فأصوله غالطة في منطلقها وصحيحة في النتيجة وتبقى طريقة إدراك الحل من أعسر العمليات الذهنية، وفي القسم الكبير الثاني من الباب يتعرض ابن جني إلى المحال وهو في ذلك يعمد إلى الأمثلة اللغوية والعمليات الإسنادية في حالات ثلاث هي:
أ ـ أن تنقض أول كلامك بآخره.
ب ـ المنطق الشكلي الطبقي في موضوع الإضافة.
ج ـ العلاقة بن أفراد الأسرة وإجراء عملية القياس الاجتماعية.
ويقدم في صحة قياس الفروع على فساد الأصول نماذج تركيبية تنقسم إلى الصيغ الصرفية والأسماء الأعجمية واشتقاق الأفعال والأسماء وهو دائماً يحافظ على قرار تواتر هذه العمليات الذهنية في مجال البحث اللساني ويقول:
"والمسائل من هذا النحو تمتد وتنقاد إلا أن هذا طريق صنعتها"(7) والسمة القارة في تشكيل النظر النحوي هي إبداء ضرب من الارتياض في ميدان تركيبي غايته إبراز المضمر من الكلم والمظهر في حيز عملية الإبلاغ بين المخبرين ويعود مبدأ هذه الرؤية إلى إفراز القوانين النحوية والعلاقات التركيبية بين المؤلفات المباشرة والراجعة إلى ميدان المعاني النحوية أو الوظائف النحوية. ففي حيز الإضمار يمكن قبول التراكيب وأما في حيز الإظهار فلا مجال لها ولا إفادة لما يبدو منافياً للمستعمل لدى المخبرين في سياق إبلاغي يتخير فيه الناطقون معانيهم المقصودة.
وفي إجراء الارتياض بالحساب يقدم ابن جني مجموعة من الفرضيات حسب أصناف منها الضرب والقسمة والكسور في باب الأموال وأما في قسم الفرائض والإرث فيعرض صاحب الخصائص إلى مسألة اقتسام الأسرة وأفرادها لما يخلفه الأب أو المرأة بعد الوفاة وهي جميعاً أوجه يروم فيها اللغوي بيان "الأجوبة الصحيحة على الأصول الفاسدة"( وأما في التركيب فهو يتقصى التمييز بين المستوى المنطقي والمستوى النحوي في التراكيب المستعملة مؤكداً على قرار الوظيفة الإسنادية بين المؤلفات المباشرة في العملية.. الإخبارية.
أولاً: في الحساب:
أ ـ إذا فرضت أن 7+ 5= 40. فكم = 8+ 3= ؟
جوابه أن تقول: 27+ 3/7 وبابه على الاختصار أن تزيد على 24 سبعها 24/7 وهو 3+ 3/7 مثل زيادة السبع من 35 وهو 5 = 35+ 5= 40.
ب ـ فرض من درجة ثانية:
لو قال: 7+ 5= 30
كم: 8+ 3 تقول: 20+ 7
نقصت من 24 سبعها 24 1/7
مثل نقص 1/7 من 35
ج ـ وكذلك لو كان نصف المائة = 40 100/2= 40
لكان 30/2= 12
د ـ وكذلك لو كان نصف 100/2= 60
لكان 30/2= 18
الأصناف المستحيلة = في معالجة الإرث والمال:
أولاً: الأموال:
أ ـ ما تقول في مال فيه 1/2= 2/3. كم ينبغي أن يكون 1/3 فجوابه = 4/9.
ب ـ ما تقول في مال 1/4+ 1/5= 9/3+ 1/10
كم ينبغي أن يكون نصفه وثلثه؟
فجوابه = جميعه + 1/9 منه,
ج ـ ما تقول في مال نصفه ثلاثة أمثاله. كم يجب أن تكون سبعة أمثاله.
فجوابه أن تقول = 42 مثلاً له.
د ـ ما تقول في مال ضعفه = 1/3 منه. كم ينبغي أن يكون أربعة أخماسه؟ وجوابه = عشرة و1/3 عشرة.
ه ـ إذا كانت = 4+ 5= 13
فكم يجب أن تكون = 9+ 6= ؟
فجوابه: 21 + 2/3
ثانياً ـ الفرائض:
أ ـ مات رجل وخلف ابناً و13 بنتاً. فأصاب الواحدة 3/4 ما خلفه المتوفى. كم يجب أن يصيب الجماعة.
فالجواب أنه يصيب جميع الورثة مثل ما خلفه المتوفى 11 مرة و1/4.
ب ـ امرأة ماتت وخلفت زوجاً وأختين لأب وأم.
فأصاب كل واحدة منها 4/9 ما خلفته المتوفاة. كم ينبغي أن يصيب جميع الورثة؟
والجواب أنه يصيبهم ما خلفته المرأة و5/9 منه.
فالمقابلة بين العملية الذهنية في الرياضيات والفرائض مع العملية النحوية متوازنة في إقامة علاقات شكلانية تدور في ضمير المتكلمين حتى تتولد النماذج النحوية المقبولة في سياق الإبلاغ العام وفي المستوى العقلاني المنطقي. ومرمى ابن جني هو بيان أوجه من الإحالة ولكنه ضمنياً يوحي لنا بإمكانية التعليق التركيبي بين أبنية إسنادية ممكنة لدى المتكلمين ويقيم نوعاً من القانون في الكلام قائلاً: "فمن المحال أن تنقض أول كلامك بآخره"(9) ثم يستعرض الأنماط من التراكيب الإسنادية ومنها العمليات المقبولة إسنادياً لكنها مرفوضة مثل: ج1= /قمت غداً/
ج2= /سأقوم أمس/
ولكن ابن جني يلاحظ الأوجه الممكنة في القبولية النحوية ويعرض أمثلة هي في مجموعها تضمن تجنب اللبس وهو شرط كاف لقبول الأفعال حسب السياق التركيبي وخاصة الأفعال التي تقول بالتقابل الزماني فهي قد "خولف بين أمثلتها"(10) وهذا التخالف هو الذي يكسبها وظيفتها الزمانية في الدلالة وتبرز هذه المقابلات في العملية الشرطية الظن فيه. ومن التراكيب يورد ابن جني الأمثلة التالية وفيها لفظ الماضي ومعناه الاستقبال(11):
ج1= /إن قمت غداً قمت معك/
ج2= /لم أقم أمس/
ج3= /أعزّك الله/
ج4= /أطال بقاءك/
ج5= /إن قمت جلست/
ففي الجملة الشرطية لا يصح إلا لكونه يفيد الاستقبال وأما الأمثلة المنفية ففيها أسبقية المضارع في الرتبة بالمقابلة مع الماضي و"إذا نفي الأصل كان الفرع أشد انتفاء"(12) ومن النماذج التركيبية التي يتوخى فيها الفعل بلفظ الماضي الجملة الدعائية مثل:
ج1= /أيَّدك الله/
ج2= /حرسك الله/
ففي هذه الأنماط الدعائية يثبت الفعل ويحقق عملية الإبلاغ عند جواب السامع للدعاء بقوله:
ج1= /وقع إن شاء الله/
ج2= /وجب لا محالة أن يقع ويجب/
ومن النماذج التي تتقابل فيها المؤلفات الفعلية نذكر:
ج1= /ولقد أمرّ على اللئيم يسبني/
ج2= /زيد يتحدث ويقرأ/
ج3= /كان زيد سيقوم أمس/ أي كان متوقعاً منه القيام فيما مضى.
فتلك التراكيب يحكي المخبرون فيها "الحال الماضية" ويعلم أن "الحال لفظها أبداً بالمضارع"(13).
وفي التراكيب إثبات وتحقيق بالوقوع للحدث المخبر عنه. وهذه الأمثلة تتنافى مع المثالين:
ج1= /قمت غداً/
ج2= /سأقوم أمس/
ولكن صاحب الخصائص لا يرفض قطعاً هذه النماذج لو قام عليها دليل في الملفوظ السياقي أو في حال الإخبار(14).
وينتقل ابن جني إلى مصادرة أخرى في التوظيف والعلاقات الإسنادية في الكلام ويطرق عملية الإجراء على الإضافة مستقطباً الرؤية في ميدان المنطق التقسيمي أو أقسام الفئات المنطقية ويبرز الممكن وغير الممكن في مسار عرضه للإحالة الإخبارية وأمثلته هي:
الإحالة = ج1= /زيد أفضل إخوته/. زيد ليس من أخوته
الإمكان= ج1 = /زيد أفضل الناس/ لأنه منهم
ج2= /الياقوت أنفس الأحجار/
الإحالة التناقض في الانتماء الميداني الدلالي:
ج1= /زيد أفضل الحمير/
ج2= /الياقوت أنفس الطعام/
وهذه المنهاجية مطردة في تحديد العلاقة التركيبية في النحو العربي غايتها إفراز البنية الوظيفة المقبولة.
هذه التقسيمات هي من صلب المنطق الرياضي أو ما يطلق عليه لفظ منطق الطبقات أو الفئات (Logique des classes) وهو ميدان له جدوى لا يستهان بها في مجال معالجة التراكيب والوظائف النحوية وخاصة في ميدان الدلالات.
ويعلل ابن جني الجملة ج1= /زيد أفضل إخوته/
بقوله أنه ليس واحداً من إخوته و إنما هو واحد من بني أبيه "وأيضاً" فإن الأخوة مضافون إلى ضمير زيد وهي الهاء في /إخوته/ فلو كان واحداً منهم وهم مضافون إلى ضميره كما ترى لوجب أيضاً أن يكون داخلاً معهم في إضافته إلى ضميره وضمير الشيء هو الشيء البتة والشيء لا يضاف إلى نفسه(15)" ويورد ابن جني نموذجاً من القرآن (الآية 51 من الحاقة) وهو ج1= وإنه لحق اليقين ويعلل بأن الحق هو غير اليقين وإنما هو خالصه وواضحه فجرى مجرى إضافة البعض إلى الكل نحو = ج2/ هذا ثوب خزّا/(16) ومن الأمثلة التي تثير المجادلة النحوية يعرض صاحب الخصائص الجمل التالية:
ج1= /أخذت كل المال/
ج2= /ضربت كل القوم/
ويعلق قائلاً: "فليس الكل هو ما أضيف إليه" ويقويه قول أبي بكر بن السراج: إنما الكل عبارة عن أجزاء الشيء وكما جاز أن يضاف أجزاء الجزء الواحد إلى الجملة جاز أيضاً أن تضاف الأجزاء كلها إليه(17) ويؤدي مجال النظر في البنية التركيبية إلى تقصي الظاهرة الوظيفية في مستوى الحمل على اللفظ الظاهر ويقدم ابن جني أمثلة من هذا النطاق وهي معللة حسب رؤية دلالية: ج1= كل القوم عاقل/ في هذا المثال يرى النحوي أن "حال البعض متصورة في الكل"(18) أي أن كل واحد من القوم إنما هو عاقل على انفراده ومن هذا الطراز الجملة من القرآن (الآية 33 من الكهف).
ج2= كلتا الجنتين آتت أكلها
ومن المحمول على المعنى دون اللفظ الأمثلة القرآنية التالية:
ج1= وكل أتوه داخرين ـ (الآية 87 ـ النمل).
ج2= كل له قانتون (الآية 16. البقرة).
ففيها لم تضف /كلا/ فعوض من ذلك ذكر الجماعة في الخبر(19) وهذا الاستغناء عن ذكر الجماعة في الخبر متواتر في نسج القرآن. مثل = ج1= وكلهم آتية يوم القيامة فرداً.
وهذه الظواهر من العمليات الإسنادية والتراكيب يعالجها النحوي في ميدان العموم والخصوص الدلالي ثم يشير ابن جني إلى تعليل الإضافة المقامة على التقسيم الفئوي في الجملة الأولى.
فالوجه المقبول هو: ج1= /زيد أفضل بني أبيه/
/وأكرم نجل أبيه وعترة أبيه/
كما أنه يضيف تحويلاً مختلفاً بإدخال دليل من الحروف المبنية عن الفئة والقسم في الإضافة ويقدم المثال:
ج2= /زيد أفضل من إخوته/
وهذا الدليل يسقط الإضافة من العملية التركيبية ويسمح بالاختيار في العناصر الكلامية. ومن بين الأوجه المستحيلة في الإخبار الذي يقام على التخالف في الأقسام الأولى والثانية من العملية التركيبية ومثال ابن جني على هذا الضرب هو:
ج1= /أحق الناس بمال أبيه ابنه/
فدلالة الأبوة تتضمن قيمة البنوة وكان المخبر قد استعمل البنية العميقة التالية في ذلك الوجه المستحيل من التركيب.
ج2= /أحق الناس بمال أبيه/
وهو نظير: ج3= /زيد زيد/
ج4= /القائم القائم/
وهو أطناب في الإخبار وتكرار لا يتميز في الإفادة إذ ليس في الجزء الثاني منه إلا ما في الجزء الأول البتة وليس على ذلك عقد الإخبار(20) فالتقابل يقتضي أن يكتسب الجزء الأول من الجملة ما ليس في الجزء الثاني منها ولهذا لم يقبلوا لأن القسم الأول يتضمن الثاني.
ج1= /ربّ الجارية مالكها/
ويتخلص ابن جني إلى تسهيم رؤيته إلى التعليق في ظاهرة "الحمل على المعنى" في أجزاء الكلام بين المنزلة الأولى والمنزلة الثانية في صلب العملية الإسنادية فالإعادة أو الإطناب في الإبلاغ من بين الوسائل المتوخاة في تحديد الوظيفة التي تقوم على التخالف في القيم الدلالية للعلامة اللغوية فالإفادة المختزلة قد تتطلب التكرار "لضرب من الإدلال والثقة بمحصول الحال"(21). ويعود ابن جني إلى تعليل الإضافة في باب استحالة المعنى في مفهوم العلاقة التركيبية مؤكداً القبولية والنحوية للجملة التالية:
البنية المقبولة: ج1= /أحق الناس بمال أبيه أبرهم به وأقومهم بحقوقه/
البنية المستحيلة: ج1= /أحق الناس بمال أبيه ابنه/
فهذه الأشباه والنظائر من الأبنية التركيبية تسمح بفحص التعليق النحوي ومدى ربطه بالتعليق المنطقي في التقسيمات الراجعة إلى حيز الدلالات التي تتوفر فيها مقاييس النحوية والتركيب المقبول في مسألة هي باب الإضافة بتوخي صيغة (أفعل) كما تتوفر فيها الأبعاد المنطقية المؤكدة للإبلاغ.
وعالج القاضي عبد الجبار (ت 415هـ) مجال التحديد للعلاقة النحوية وطرق إبرازها عند حديثه عن الفصاحة وبيَّن بوضوح طرق تعيين الوظيفة عندما يقول:
"اعلم أن الفصاحة لا تظهر في إفراد الكلام وإنما تظهر في الكلام بالضم على طريقة مخصوصة ولا بد مع الضم من أن يكون لكل كلمة صفة وقد يجوز في هذه الصفة أن تكون بالمواضعة التي تتناول الضم وقد تكون بالإعراب الذي له مدخل فيه.
وقد تكون بالموقع
وليس لهذه الأقسام الثلاثة رابع لأنه إما أن تعتبر فيه الكلمة أو حركتها أو موقعها، ولا بد في هذا الاعتبار في كل كلمة ثم لا بد من اعتبار مثله في الكلمات إذا انضم بعضها إلى بعض لأنه قد يكون لها عند الانضمام صفة وكذلك لكيفية إعرابها وحركتها وموقعها. فعلى هذا الوجه الذي ذكرناه إنما تظهر مزية الفصاحة بهذه الوجوه دون ما عداها". (المغني 16/ 1999).
وهذه الطرق في تحديد الوظيفة النحوية تحتويها مختلف الدراسات النحوية في جميع اللغات وهي قد تبلورت في كتب أندري مارتيني وأبرزها في ثلاث طرق هي: الضم بين أصناف الكلم ثم الإعراب وأخيراً المرتبة في نطاق التركيب فوسائل التحديد الوظيفي في المدرسة الهيكلية الوظيفية الواقعية لا تتعدى هذه الأضراب الثلاثة التي تؤديها أصناف من الكلمات المستقلة في نظام العملية الإسنادية أو الكلمات التي تحمل علامات إعرابية تؤدي معاني الفاعلية والمفعولية والإضافة أو معنى الإسنادية عامة وتنضوي تحتها الأدلة الوظيفية (Les Indicateurs fonctionnels) مثل الحروف والأدوات فالكلمات التي تحتل مرتبة معينة في شبكة العلاقات بين المؤلفات المباشرة للجملة(22).
ويهتدي اللغويون العرب إلى هذا التقسيم العام في اللسانيات غير أن الذي بلوره إلى أقصى الدرجات هو عبد القاهر الجرجاني في مؤلفاته. ولقد برزت نظرية النظم عنده مقامة على هذه الوظائف النحوية التي اصطلح عليها بلفظ "المعاني النحوية" وتواتر استعمال هذا اللفظ بحيث يمكن أن ندرك منزلة الظاهرة النحوية في إطار الظاهرة اللسانية العربية العامة وإن كانت دراسة الجرجاني تسعى إلى إبراز جانب الإعجاز حسب ما اتفق عليه الدارسون لكتبه ونصوصه.
ميدان "المعاني النحوية" عند الجرجاني
لقد كان من العسير التمييز بين المستوى المنطقي والدلالي والتركيبي في النصوص القديمة ولكن مفهوم "المعاني النحوية" قد اختص بالتعليق التركيبي حسب قوانين وطرق دقيقة في رؤية عبد القاهر الجرجاني في مؤلفيه أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز.
أ ـ طرق الإجراء للتركيب
ومن المسلمات في النحو العربي أن الكلمة هي محور النظر من حيث حركتها في نسيج من الكلم حسب وحدات إسنادية وعلاقات مكثفة في توزيع سياقي مقنن، وكانت نظرية الإعراب طريفة وأظهرت جدواها في تحديد "المعاني النحوية" من فاعلية ومفعولية وإضافة وأدى التفرد بالعلة النحوية إلى طرق إجراء تفيد الواصف اللغوي من حيث التجريد والتأويل لبعض الأبنية ولكن التوغل في الافتراض قد يحمِّل التوظيف النحوي ما قد لا يستسيغه المخبرون في عملية توليد النماذج الكلامية فالكلمة هي المادة الأولى من سبر أوجه التعليق حسب الحزم التركيبية وتنتقل أنفس الكلم بين بعد ما قبل التعليق وهو الإضمار ثم إلى المستوى الدلالي ثم أخيراً إلى البعد الوظيفي النحوي ـ ويمكن أن نبرز ذلك في شكل يصور مراحل التوليد التعليقي:
الشكل المدلول الشكل الدال
المؤلفات المباشرة للكلام ما قبل التعليق حيِّز الإضمار توليد المدلول مادة توليد المدلول صورة المؤلفات المباشرة في مستوى ما قبل التعليق في العملية الإسنادية حيز الإظهار + ooنهائية
ـ oo ـ لا نهائية نشوء الوحدة الكلامية
وهذه الأبعاد في ما قبل التعليق والنشوء الكلامي ثم ما قبل الدخول في التعليق الإسنادي متجادلة. فالتعليق وما يسبقه عملية إخبارية لا يمكن الفصل فيها بين الأبعاد الزمنية المتماسكة فحيز الإضمار وحيز الإظهار للوحدة التركيبية مقطعان من نقطة إخبارية مفردة لدى المخبرين باللغة.
فهذا الشكل البياني يشير إليه ضمنياً نص الجرجاني في المؤلفين، فعالج عبد القاهر الكلام بمقتضى رؤية ثابتة في دروسه وهي النظم والتعليق أو حسب لفظه اعتماد توخي معاني النحو وأحكامه ووجوهه وفروقه فيما بين معاني الكلم فهي معدنه وموضعه ومكانه(23) فلا يمكن تصور أن يتعلق الفكر بمعاني الكلم أفراداً ومجردة من معاني النحو(24) وتعود المعاني الكلامية إلى أنماط "ينشئها الإنسان في نفسه ويصرفها في فكره ويناجي بها قلبه ويرجع فيها إليه(25) والخبر إنما هو معنى قائم في نفس المتخاطبين باللغة ثم هم يتواضعون على تخير السمات الدالة على تلك المعاني التي يتم سبكها وصوغها في الجملة التي تتصف بالجمال حسب صورتها الواقعة في العقل لا في السمع ويقيم الجرجاني مقايسة بين الكلم والتعليق، والفضة والذهب، والوشي والنسيج، ليؤكد ما تبلغه عملية التعليق حسب القوانين النحوية من تقدير وترتيب وخصوصية وإعرابية وتقابلية بين المؤلفات التركيبية وهذه المعاني هي الأدلة على الأغراض والمقاصد المستفادة.
واستقراء نص الجرجاني يبرز مدى قرار اطراد التعليق النحوي واعتبار الترتيب والتنسيق في بنية التركيب ويربط ذلك بعملية البناء والصياغة قائلاً: "واعلم أن مثل واضع الكلام مثل من يأخذ قطعاً من الذهب أو الفضة فيذيب بعضها في بعض حتى تصير قطعة واحدة(26) ويقدم العملية الإسنادية تدعيماً لفكرة التعليق النحوي ونورد المثال(27) ج1= /ضرب زيد عمراً يوم الجمعة ضرباً شديداً تأديباً له/.
فمحصول التعلق النحوي هو تحديد المعاني بين المسند (ضرب) وما عمل فيه والأحكام التركيبية المتفرعة عن التعليق وهو باب التوسع والفضلة. والمعنى هو أصل الفائدة فيقول الجرجاني واصفاً الجملة أصل الفائدة وهو إسناد ضرب إلى زيد وإثبات الضرب به له حتى يعقل كون /عمرو/ مفعولاً به وكون/ يوم الجمعة/ مفعولاً فيه وكون/ ضرباً شديداً/ مصدراً وكون/ التأديب/ مفعولاً له من غير أن تخطر ببالك كون زيد فاعلاً للضرب"(28).
ويورد الجرجاني نموذجاً تعليقياً هو بيت بشار بن برد.
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه (طويل)
فهذا البيت كالحلقة المفرغة التي لا تقبل التقسيم(29) فهو من أوله إلى آخره كلام واحد منتظم لا عدة معان مفرقة فالنحو ليس غايته الإعراب وإنما الأوصاف التي يوجبها في العلاقات التركيبية حتى تكون للمؤلفات مزية في الإفادة وهذا الضم للكلم شبيه بضم غزل الإبريسم بعضه إلى بعض(30) ومن هذا المنطلق في الصوغ ينتفي الفصل بين النحو والفصاحة في الكلام إذ هي تتجلى في إبداعية التعليق والتأليف على طريقة مخصوصة للمعاني التي يوفرها باب النحو.
وتأكيداً لطرق الإجراء في المعاني النحوية يورد عبد القادر الجرجاني مثالاً يصور منهاجيته في التعليق وهو صدر بيت امرئ القيس.
/قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل/
ومن القوانين التي يضعها قبل تحليل هذا التركيب "لا يصح في عقل أن يتفكر متفكر في معنى فعل من غير أن يريد أعماله في اسم ولا أن يتفكر في معنى اسم من غير أن يريد أعمال فعل فيه وجعله فاعلاً له أو مفعولاً أو يريد منه حكماً سوى ذلك من الأحكام مثل أن يريد جعله مبتدأ أو خبراً أو صفة أو حالاً أو ما شاكل ذلك"(31) وهذا النسق التركيبي بين المعاني النحوية هو نفسه ما يكمن في عملية الإضمار اللا نهائية والإظهار النهائية للتعليق الذي يخضع المؤلفات المباشرة إلى الصياغة التركيبية، وهذه الجدلية بين القوانين المحولة للتركيب بينة إذا سقطت طرق الترتيب والتوزيع في العلاقات التركيبية ويصرح الجرجاني بذلك قائلاً: "وإن أردت أن ترى ذلك عياناً فاعمد إلى أي كلام شئت وأزال أجزاءه عن مواضعها وضعها وضعاً يمتنع معه دخول شيء من معاني النحو فيها فقل في/ قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل/، /من نبك قفا حبيب ذكر منزل/ ثم انظر هل يتعلق منك فكر بمعنى كلمة منها"(32). فالقوانين النحوية تختص بالتراكيب إطلاقاً ولا يمكن تصور عملية إخبارية دون وظيفة إبلاغية وهذا لا يعني انتفاء أن يكون الفكر متعلقاً بمعاني الكلم المفردة أصلاً، ويؤكد ذلك الجرجاني مستدركاً "ولكني أقول أنه لا يتعلق بها مجردة من معاني النحو ومنطوقاً بها على وجه لا يتأتى معه تقدير معاني النحو وتوخيها فيها.."(33) ففي حيز الإضمار أي قبل التعليق تتبلور ما قبلياً الأحكام الوظيفية فما بالنا بالبنية النهائية ولذلك نرى أن عملية التعليق معقدة وهي تتوزع ما بين الإضمار والإظهار وهذه المجادلة بين البعدين هي عينها الوظيفة النحوية أو الكلامية عامة وهي من أخص سمات المخبرين باللغة وتعود هذه الرؤية إلى مجال العلامات اللغوية وتحديد منزلة اللغة التي هي تجري مجرى العلامات والسمات ولا معنى للعلامة والسمة حتى يحتمل الشيء ما جعلت العلامة دليلاً عليه وخلافه"(34) فالعلامات إشارات مرجعية في جداول متقابلة تكتسب قيمها الدلالية حسب سياق تركيبي أو إبلاغي يساهم فيه أطراف الخبر في السلسلة الإبلاغية. فالتفكير في نمط البنية الإسنادية لا يتحقق إلا بعد توخي معاني النحو وهو إجراء مرتبط بمقصد المخبرين وتخيرهم للتوزيع التركيبي ومفهوم القصد جلي لدى عبد القاهر فهو أن تعلم السامع بها (معاني الكلم) شيئاً لا يعلمه(35). فمن المسلمات في النحو إذ أنه لا يتصور ترتيب بنيوي بدون الوظائف النحوية فكل قسم من أقسام الكلم يعود إلى باب تعليقي ونظام هو ميدانه التعليقي في مجالات الكلام وليست من طريقة مخصوصة إلا المعاني النحوية(36).
ب ـ ضروب الكلام وميدان الوظيفة "المعرفة النحوية"
إن مجالات التبويب لأنماط التعليق الإسنادي تؤلف أنظمة من الأبنية التي لا توجد في التركيب إلا حسب المرجعية إلى جداول وتوزيعات. وما عملية التوظيف ألا تجادل الأبنية في المجالين الجدولي والتوزيعي وما من إخبار إلا وهو يحمل مجموعة من القيم التركيبية والأصول المفيدة بمقتضاها تكون الأشباه من التراكيب مطردة حسب أشكال تبلغ درجة الحسابية والتجريد الرياضي وهو ما يشير إليه الجرجاني في أثناء وصفه للتراكيب والمعاني النحوية في ضروب الكلام أو العمليات الإسنادية فالكلام يتحدد بأصول النحو وقواعده الإعرابية حتى يمكن ضبط الوظائف من فاعلية ومفعولية وإضافة وهو مظهر لا يبعث إلى الاختلاف رغم التساؤل عن جدوى هذا التوزيع للوظائف النحوية(37).
وأوجه التعليق بين المعاني النحوية حسب نظر الجرجاني ثلاثة وهي:
أ ـ تعليق اسم باسم.
ب ـ تعليق فعل بفعل.
ج ـ تعليق حرف بهما.
وفي كل ضرب لا بد من توفر المقتضي للوظيفة النحوية وهو ما يسوغ النماذج من التراكيب المتعددة في اللغة، فالإعراب في النحو هو قانون اختزالي يرجع الوظائف إلى عدد محدود وتلك الوظائف تنظيمية إذ بها يمكن اختزال لا نهائية الكلم فالإعراب له جدوى في الكشف عن المعاني النحوية ووعي الجرجاني بمركزية الإعراب يلوح في عرضه أوجه التعليق فيقول:
"إن الألفاظ مغلقة على معانيها حتى يكون الإعراب هو الذي يفتحها وإن الأغراض كامنة فيها حتى يكون هو المستخرج لها وأنه المعيار الذي لا يتبين نقصان كلام ورجحانه حتى يعرض عليه والمقياس الذي لا يعرف صحيح من سقيم حتى يرجع إليه"(38). فالإعراب قانون من المبادئ النظرية الذي به يسبر النحوي والمتكلمون أصناف الكلم ويلحق بالعملية المضمرة لدى المخبرين إذ به تقتفى آثار المعاني وترتب حسب.. ترتيبها في النفس وتتناسق القيم الدلالية في توزيعات منتقاة على وجه رياضي عقلاني، فما يقوم بالعقل هو أقسام كلامية من أسماء وأفعال وحروف، وحيز هذه الأقسام هو باب الوظيفة النحوية فكل قسم ينتمي إلى توزيع وظيفي يعود إليه وإن بدا الملفوظ منعزلاً عن العملية الإسنادية وهذا الضبط شديد البروز في النحو ويسهل اختبار تلك الأنماط في الخبر بين الإثبات والنفي والشرط والجزاء والحال والفضلة عامة. فالمخبرون يقومون بترتيب الكلام حسب مقتضيات علم النحو وقوانينه وأصوله ومناهجه التي نهجت ورسومه التي رسمت(39) ويدخل في ذلك الحذف والتكرار والإضمار والإظهار وجميع ما أورده ابن جني تحت باب شجاعة العربية(40) وتنتظم أنماط الكلم حسب التخير والتدبر والمواقع والمقادير وطرق الصوغ والترتيب ويعرض الجرجاني إلى أبواب التقديم والتأخير والتعريف والتنكير والحذف والإضمار والإظهار والتكرار والوصل والفصل وهي من القوانين التي تحول أبنية التراكيب إلى عمليات إسنادية تقام على الوظيفة النحوية(41) وتعود مجموعة الفضلات (الحال والمطلق) إلى باب الخبر أن الحال تثبت بها المعاني ويحلل أنواع التراكيب التي تتضمن حروف العطف مقيماً المعادلات والمقابلات بين أقسام التراكيب ويقسم الجمل في باب الفصل والوصل إلى ثلاثة أصناف(42).
أ ـ جملة حالها مع التي قبلها حال الصفة مع الموصوف والتأكيد مع المؤكد فلا يكون فيها العطف البتة لشبه العطف فيها لو عطفت بعطف الشيء على نفسه.
ب ـ جملة حالها التي قبلها حال الاسم يكون غير الذي قبله إلا أن يشاركه في حكم ويدخل معه في معنى مثل أن يكون كلا الاسمين فاعلاً أو مفعولاً أو مضافاً إليه فيكون حقها العطف.
ج ـ جملة ليست في شيء من الحالين بل سبيلها مع التي قبلها سبيل الاسم مع الاسم لا يكون منه في شيء. فلا يكون إياه ولا مشاركاً له في معنى بل هو شيء إن ذكر لم يذكر إلا بأمر ينفرد به... ويكون ذكر الذي قبله وترك الذكر سواء في حاله لعدم التعلق بينه وبينه رأساً وحق هذا ترك العطف البتة.
وفي نطاق معالجة ضروب الكلام يستعرض الجرجاني ضربين يؤديان إلى نمط آخر من مستويات الكلام وهو مستوى الدلائلية والدوال الثواني، والضربان يحققان الإبلاغ حسب = أ ـ دلالة اللفظ وحده مثل ج1= /خرج زيد/.
ب ـ ودلالة اللفظ وحده ولكن يدلك اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة ثم يجد لذلك المعنى دلالة ثانية تصل بها إلى الغرض (وهو باب الاستعارة والكناية والتمثيل). ويستعمل الجرجاني مصطلحات تصور هذه المفاهيم مثل:
"المعنى ومعنى المعنى" وتعني بالمعنى المفهوم من ظاهر اللفظ والذي تصل إليه بغير واسطة و"معنى المعنى" هو أن تعقل من اللفظ معنى ثم يفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر.(43) وهذا المستوى هو ثانوي بالمقابلة مع الوظائف الأولى التي تتأصل في الإسنادية وهي من أبرز القوانين النحوية.
ويلوح حرص الجرجاني على المعاني النحوية في استقرائه أنماط الكلم ومدى اختبار جريان أحكام النحو في الكلام من شعر وقرآن وأمثال، وجميع الأنماط تعود إلى وظيفة محورية هي الخبر وهو أول معنى من معاني الكلام وأقدمها ويورد رؤيته في المخبر والمخبر عنه والمخبر به حسب الإثبات والنفي. والظواهر الثابتة في طرق الإجراء للوظيفة هي الثنائية بين ما هو قائم في النفس وما هو مرتب حسب المعاني من الجملة الاسمية والجملة الفعلية، وليس من الجدل أن نرى في رؤية الجرجاني مساهمة طريفة تقفل به سلسلة التأصيل للتنظير الألسني في ميدان النحو والتعليق التركيبي باعتماد خصائص العلامات اللغوية التي تولد قيمها الدلالية والوظيفة بالمخالفة والتقابل فجدوى الكلام مقياسها الدلالات على البلاغ بمراعاة القوانين النحوية من إعراب وتقديم وتأخير وترتيب ومطابقة وإدراك بالعقل وهذه المعاني نوعان عقلي وتخييلي وهي صريحة ملفوظة أو معبر عنها ومدار هذه الأضرب من التعليق تجمع في عقد مفرد مطلق هو المسند والمسند إليه أو الحديث والمحدث عنه وهو ما يؤسس عليه الجرجاني نظره في الوظائف النحوية وهو ما يؤكد طرق الإجراء للوظيفة التركيبية في اللسانيات العربية. ولعل الجرجاني هو خاتمة المطاف بعد المبدأ مع سيبويه والتبلور والتجريد مع ابن جني في كتبه النحوية.
فلفظ "المعاني النحوية" متواتر مطرد في المصنفات اللغوية في العربية ويبلغ القمة مع عبد القاهر الجرجاني في مفهوم الوظيفة النحوية والكيفيات التي بها تؤدي أقسام الكلم دوراً تعليقياً في العملية الإسنادية ولقد عالج النحاة المعاني حسب ثنائية الإضمار والإظهار وحسب النحوية والمنطقية والدلالية. وباب الإحالة في أصناف من التراكيب وأقيمت مقارنة بين العملية الذهنية في الرياضيات والعملية الإبلاغية في الكلام المتميز بالمقاطع والعلامات المتقابلة(44).
لقد تراءت لنا رؤية اللغويين متماسكة في التأكيد على التعليق في المعطيات التركيبية في مستوى الإخبار منذ الما قبل تعليقية إلى التعليق مع إفراز الأبنية المستحيلة والأبنية الممكنة والمرجع في طرق الإجراء هو المعاني النحوية أو ما يطلق عليه اليوم لفظ الوظيفة التركيبية وهي مركز الوصف التركيبي في اللسانيات العامة تنطلق من واقع الكلام وعملية الإبلاغ في جميع اللغات كما أن الوظيفة النحوية هي المنطلق والمرجع في تحديد خصائص النحو العام الذي تطرد فيه القوانين العامة الشاملة وخصائص النحو الخاص بلغة معينة. وإدراك التعليق النحوي في اللسانيات العربية ليس وليد اليوم وإنما هو أساساً من صلب طرق التحليل والإجراء لأقسام الكلام حسب الإعرابية بمقتضى ذلك وصفت اللغة وصفاً تنظيمياً إيجابياً وتبلورت الرؤية النحوية لدى بعض اللغويين الذين أقاموا نظرياتهم النحوية على أطراف الوظيفة هي علامة قارة لدى النحاة صاغ الجرجاني التنظير في درجة قصوى نعتبرها خاتمة المطاف وكان ذلك بيتاً في كتابه المخطوط: المقتصد في النحو(45) فمع نظرية النظم تبلغ الوظيفة النحوية أسمى منازلها ومراتبها من التجريد فمجالات التعليق تنفجر من الصوغ المخصوص والنسيج بين المؤلفات المباشرة للتركيب وليس في اللغة من الأنظمة ما هو مجاناً فكل باب مرجعي يوحي بجدول وسياق بين المظهر والمضمر، ويبلغ الإبلاغ قمته وتكامله عند اجتماع المؤلفات الدنيا في شبكة شديدة العقد والتركيب. ويعود عمل التوظيف إلى اختيار المتكلمين في سياق إخباري عام وخاص يبرز في العام محيط الخبر وفي الخاص الصياغة التعليقية ـ في التركيب النهائي للعملية الإسنادية. ولعل ذلك التعليق النحوي هو الذي يولد النمط العالي من الكلام في مستوى الدال والمدلول وهو ما يسمح بتأول دلالي للتراكيب لدى المتخاطبين. فالتركيب مضبوط بالوظائف النحوية لكنه يولد الدلالات في سياق معين فالتفجير للدلالات منطلقه توخي معاني النحو وقوانينه ووجوهه وفروقه وفصوله فيما بين معاني الكلم.
ففي مساهمتنا سعينا إلى تأكيد مفهوم المعاني النحوية في نسق العلاقات التركيبية حسب نصوص تؤلف محور التنظير ومنطلق التحديد والاستكشاف لمجالات التعليق للممكن من النماذج وغير الممكن. وطرافة "المعاني النحوية" هي أنها تقوم بدورها في النظرية اللغوية العربية ويمكن أن تضيف إلى التراث اللساني بعض المنهاجية وجوانب من التحليل للوظائف النحوية وكانت الغاية هي تحصين المعاني والتفكير في منهاجية النحاة في فحص "المعاني النحوية" وهو جانب يسوغه البحث الحديث عن مؤصلات المعرفة اللغوية حتى يمكن وضع مصادرات جديدة ومنطلقات مبدئية ومنهجية في معالجة التركيب والتعليق النحوي في النحو العربي واللسانيات العامة.
الهوامش:
(1)ـ نطلق هذا اللفظ على ما تقفيناه في المصنفات النحوية بين المجرى والمُجرى (بالضم) ويقابل اللفظان العبارات الفرنسية Comportementl Traitement.
فطرق الإجراء تقابل لفظ (Preocédures de Traitement).
(2)ـ سيبويه ـ الكتاب ـ 1ـ 8.
(3)ـ نفس المرجع ـ وطبعة عبد السلام هارون 1977 ص 25ـ 26.
(4)ـ نفس المرجع ـ ونفس الصفحات.
(5)ـ ابن جني ـ الخصائص ـ ص328.
(6)ـ يتناول ابن جني في صفحات 339 ـ 340ـ 341 مسألة: صحة قياس الفروع على فساد الأصول في الاشتقاق للأفعال الأسماء وقد تعرض إلى ذلك في باب سقطات العلماء ص282ـ 309.
(7)ـ الخصائص ص341.
(ـ ابن جني ـ الخصائص 330، وانظر العمليات الحسابية التي قدمها ابن جني وهي أصناف نعرضها حسب نصها في الكتاب.
(9)ـ الخصائص ـ 330.
(10)ـ نفس المرجع ـ ص331.
(11)ـ نفس المرجع.
(12)ـ نفس المرجع.
(13)ـ الخصائص 332.
(14)ـ نفسه ـ 333.
(15)ـ الخصائص ـ ص333ـ 334.
(16)ـ نفسه ـ ص334.
(17)ـ نفسه.
(18)ـ الخصائص ص334.
(19)ـ نفسه ص335.
(20)ـ الخصائص ـ ص336.
(21)ـ الخصائص ـ ص338.
(22)ـ انظر مؤلفات أندري مارتيني اللغة والوظيفة ـ 1969ـ 1669 باريس ـ المعجم اللساني ـ 1969 ـ باريس. اللسانيات الآنية ـ 1974 باريس.
(23)ـ الدلائل ـ ص367.
(24)ـ نفسه. ص286.
(25)ـ الدلائل ـ ص381.
(26)ـ الدلائل ـ ص288.
(27)ـ الدلائل ـ ص289.
(28)ـ الدلائل ـ ص289.
(29)ـ نفسه نفس الصفحة.
(30)ـ الدلائل ـ ص286ـ 287.
(31)ـ
(32)ـ الدلائل ـ ص287.
(33)ـ الدلائل ـ ص827.
(34)ـ أسرار البلاغة ـ 422.
(35)ـ الدلائل ـ ص288.
(36)ـ الدلائل ـ ص295.
(37)ـ انظر ـ الزجاجي ـ الإيضاح في علل النحو ـ تحقيق مازن المبارك ـ العددين ـ سوريا ـ 1959.
(38)ـ الدلائل ـ ص23.
(39)ـ الدلائل ـ ص24.
(40)ـ ابن جني ـ الخصائص ص360.
(41)ـ انظر الدلائل 108ـ 115ـ 119ـ 133.
(42)ـ الدلائل: ص171.
(43)ـ الدلائل ـ ص186.
(44)ـ منجم الموارد والتقصي لمدلول "المعاني النحوية" هو عبد القاهر الجرجاني في كتابيه الدلائل والأسرار. وقمنا بإحصاء معنى العبارات حسب إفادة الغرض والمقصود وحسب إفادة الوظيفة النحوية في الأسرار:
1ـ نسبة المعاني النحوية =مرة واحدة
2ـ نسبة المعنى المقصود = 267 مرة + 65= 332 الدلائل =
1ـ المعاني النحوية = 56
2ـ المعنى المقصود= 1512
مجموع لفظ المعاني النحوية في الكتابين= 1+ 56= 57 مرة ومجموع لفظ المعنى (الغرض المقصود)= 332 + 1512 مرة ومنها= 1272 في لفظ "المعنى" مفرداً و240 في لفظ الجمع (المعاني).
(45)ـ عبد القاهر الجرجاني ـ كتاب المقتصد في النحو ـ مخطوط ـ رقم 73 ـ دار الكتب المصرية.
المصادر والمراجع:
1ـ سيبويه ـ الكتاب ـ1ـ ص8، 1881 طبعة باريس وبولاق ـ 1900 ـ طبعة عبد السلام هارون الجزء ـ1ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب. 1977.
وينظر في الكتاب في الأبواب الأولى التي تبرز التعليق النحوي المألوف في باب المسند والمسند إليه والمرفوعات والمنصوبات والمجرورات.. ص43 (المسند والمسند إليه). وفي صفحة 25 باب الاستقامة من الكلام والإحالة وهو باب لا يحتل إلا نصف صفحة لكنه يصور مجرى التعليق.
2ـ ابن جني ـ الخصائص ـ 3 أجزاء تحقيق محمد علي النجار ـ بيروت ـ دار الهدى. وخاصة الباب الأخير من الجزء الثالث ص388ـ 341.
3ـ عبد القاهر الجرجاني.
أ ـ أسرار البلاغة ـ 1367 ـ 1948.
ب ـ دلائل الإعجاز ـ محمد عبده ـ 1331 هـ مصر.
ج ـ المقتصد في النحو ـ مخطوط رقم 73 دار الكتب المصرية.
د ـ القاضي عبد الجبار ـ كتاب المغني ج16.
- محمدمشرف مرسى الرياضة
- البلد :
عدد المساهمات : 7229
نقاط تميز العضو : 205023
تاريخ التسجيل : 10/12/2009
رد: كتاب من المعاني النحويّة في اللسانيات العَربيّة ـــ المنصف عاشور
23/09/11, 12:00 am
دمت متميزا ونشيطا
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى