أدبية الادب
+2
محمد
بوعلام م
6 مشترك
- بوعلام ممشرف المرسى الجامعي
- البلد :
الجنس :
عدد المساهمات : 374
نقاط تميز العضو : 102401
تاريخ التسجيل : 08/09/2011
العمر : 42
أدبية الادب
21/09/11, 02:14 pm
أدبية الأدب
أبدع الله في خلق هذا الكون بقدر يعجز أي مخلوق على تجسيده, ولكن له أن يبرز نعمه التي ميز بها الكائنات عن بعضها البعض ... فللبنات سحر اللون وجمال الشكل وللإنسان ميزة العقل والإبداع .
من هنا كان لزاما على الإنسان أن يبحث عن نفسه وسط صخب الحياة ومشاكلها , وان يسمو بنفسه أولا ثم يرتقي بعمله الفني شيئا فـشيئا, هكذا سار الأديب في طريقه الطويل الذي عرف فيه الأدب بمفهومه الأوسع , ورسالته التي تعبر عنه.
يواجه الدارس في ميدان الأدب صعوبات في تحديد المادة وتصنيفها ولكي يكشف عن هذا الغطاء لا بد له من منهج أو نظرية , وهذا ما كان كبدايات أولى في العهد اليوناني مع أفلاطون حيث كشف عن هوية وطبيعة الأدب وفقا لرؤاه ومنهجه الفلسفي المثالي .
في كتابه الجمهورية نجد محاورات عن الفن والأدب بين فيها اثر الشعر على سلوك الفرد , كما حدد وظائف العالم الطبيعي القائم على " المحاكاة للمحاكاة " باعتبار الوعي سابق في الوجود من المادة وبذلك فالفنان لا يبدع بل يحاكي الفكرة الفوقية في عالم المثل , ويكون كمرآة عاكسة لها وهذا لا يعد تعبير صادق عن الحياة, ولا يؤدي دوره كموجه أخلاقي, فدور الأديب هو الكشف عن الحقيقة , وكما يقول توفيق الحكيم في مهمة الأدب<< أن يعين الناس على فهم حكمة الخلق وروح الوجود وإفهام البشر أن السعادة عمل وكفاح وتقدم وتطور>> () وهكذا يشترط بلوغ المثل الدائم ويبحث عن النموذج الخالد .
جاء بعده ارسطو التلميذ الذي خالف أستاذه , فأعلن أن الفن ليس محاكاة لعالم المثل بل محاكاة للطبيعة بغية خلق نموذج افضل واجمل, فالفنان وهو يحاكي الطبيعة يصنع ما هو اجمل منها ويرفع بذلك الفن درجات عالية فمهمة الأديب ?تعدى عمل المرآة إلى إبراز مهمة الأدب, وبذلك فالمبدع ? حين يحاكي فانه لا ينقل فقط بل يتصرف ... فيحاكي ما يمكن أن يكون ? أو ما ينبغي أن يكون " (), بما أن مفهوم المحاكاة اقتصرت عنده على الفنون فيرى أن الشعر والفن يحققان متعة ?منفعة في نفس الوقت فيحدث التطهير للذات , فماهي القضايا التي تطرح نفسها في مجال الأدب ?
قضية الالتزام , التي أثارت الكثير من الفلاسفة والأدباء والنقاد, فبرزت بذلك عدة اتجاهات أهمها تلك التي ?بنت فكرة الالتزام والتي نحصرها في الاتجاه الماركسي, والاتجاه الوجودي ثم الاتجاه الثالث وهو الالتزام في الأدب الإسلامي.
1-الالتزام في الواقعية الاشتراكية :
يعد كارل ماركس وانجليز فريدريك من السباقين إلى ترسيخ المنطلق المادي الديالكتيكي ومعطيات النظرية الدورانية ومنتوجات افكار فرويد منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين , وتعود اسباب نشأة هذا المذهب الى الثورة العمالية (البوليتارية ) التي ظهرت في كل من فرنسا والمانيا وانجلترا.
والالتزام في الفلسفة الماركسية هو الايمان بتفسير الكون والتاريخ تفسيرا ماديا,واعتبرت المادة هي العامل المحرك للفكر الإنساني فالمادة هي الأساس, اما الوجود فهو الذي يفرض على المبدع وعلى عواطفه ومشاعره أن تهتز فالماركسيون يعتقدون ان مفاهيم الناس وادراكهم للأشياء تتغير كلما طرأ أي تغيير على ظروف حياتهم الاجتماعية والاقتصادية , ومن ثم تتأثر انتاجاتهم الفكرية بهذه الظروف المحيطة بهم, فالأديب المبدع في فنه يكون ملتزما بالظروف المادية التزاما شديدا .
ومن ثم كانت الواقعية الاشتراكية تؤكد على ضرورة الالتزام في الأدب وذلك <<حتى يلعب دورا إيجابيا في توجيه المجتمع, ويمسك بزمام مصيره, وعلى عاتقه تقع المسؤولية التطور الحضاري والتقدم المادي والفكري>>(), فالالتزام في الأدب هو الشيء الإيجابي الذي يقوم به الأديب في توجيه المجتمع وحل مشاكله الاجتماعية , كما يرون أن الفن إذا كان بناءا فوقيا فيبقي دائما على صلة قوية بالجانب المادي –الأصل –الذي هو الأساس.
ومن هذه النقطة تبين الواقعية ان<< الفن هو نشر فكر ايديولوجي معين>> لأنها ترى أن الفن الوحيد هو الذي يخدم الثورة ومتطلباتها (), ولا يمكن أن يخرج الفن عن نطاقه المحدد , فالماركسية ترفض الخيال لعجزه عن التعبير في الحياة اليومية وتجاربها .
فموقف الواقعية من الأدب والالتزام يقوم على أحكام الصلة القائمة بين الادب والحياة وعلى رسالة الأديب ودوره الفعال في توجيه المجتمع .
وفي كيفية نشر الوعي فيه والأخذ به الى طريق التطور والتقدم والتحرر من كل القيود التي تعرقل مسيرته ?<< الأديب يترجم الحركة المنظومة الى فكرة فواقع الحياة واحداث المجتمع, وحوادث الأفراد تمر امام الأديب فيلاحظ دقائقها ويحاول تصويرها>> (), مثلما نرى ذلك في أعمال مكسيم غوركي خاصة في روايته" الام" وبرتول بريخت في مسرحياته منها دائرة الطباشير القوقازية.
وفي النهاية تبقى الواقعية على حسب اعتقاداتهم هي الوجه الشجاع النبيل للفن لأنه يخدم مصالح الأمة (), ويهتم بأدق تفاصيلها.
2- الالتزام في الوجودية :
الوجودية جملة من المذاهب التي عنيت بالأدب , وكل مذهب له أفكاره الخاصة, كما لها جذور تمتد إلى سقراط, ثم تبلورت ولم تنضج كفكرة مستقلة إلا في القرن التاسع عشر على يد العديد من الفلاسفة الأوروبيين وفي مقدمتهم جون بول سارتر الذي جسد فكرة الالتزام في فلسفته وكتاباته .
لقد ارتبط الالتزام في الفكر الوجودي بفلسفتهم للكون والوجود , إذ تعتبر الوجودية أن الإنسان هو الجوهر المطلق , كما اهتمت بذاتية الفرد لا الجماعة وهذا مخالف للمادية الجدلية –التي جعلت من إنسان شيئا – كما أنها اهتمت في تحرير هذه الذات من القيود والضغوطات المفروضة من طرف المجتمع , وان يتخذ باختياره طريق الالتزام الحر , الذي يكون فيه الأديب ملتزم تجاه ذاته من ناحية وتجاه المجتمع من ناحية ثانية , فالالتزام في اصله فردي ولكنه يتحول تلقائيا ليصطبغ بلون جماعي مثلما يرى سارتر أن الموجود لذاته لا يقوم وجوده الا بالغير ومع الغير (), وهذا ما جسده فعلا في روايته ّالغثيان " ومسرحيته" الغرفة " ومثلما فعل أيضا ألبار كامي في روايته " الطاعون " إضافة الى اندري جيد وغيرهم كثير .
ومن هنا يكون الالتزام في اصله فردي يصدر عن الانسان طوعا لا قصرا, والانسان حر في جميع تصرفاته بشرط أن يتحمل مسؤولية هذا الاختيار.
فالوجودية تجسد ثلاثة مفاهيم: الحرية والمسؤولية والالتزام, فبالرغم ?ن أن الذات تتمتع بحرية كاملة في الاختيار, لكن هذه الحرية ليست مطلقة كون الفرد مسؤول عن تصرفاته, فالفرد عندما يسعى إلى تحقيق وجوده معناه انه يحقق وجود الآخرين .
إذن الوجودية تعيد الاعتبار للفردية التي هي أساس بناء المجتمع وأساس الفكر والفن ? الإبداع وبذلك فهي توجه ردا للماركسية التي ألغت دور الفرد لاعتبار الذات عاطلة عن أية قوة ومجردة من كل قدرة .
فالالتزام نوعان : نوع سلبي يتضح من خلال خضوع الذات لكل ما تمليه عليها الجماعة فيحدث ذوبان الذات في هذه الجماعة , ويفقدها بذلك أسمى خصوصياتها ألا وهي الحرية ويتحول من موجود لذاته إلى موجود في ذاته , ونوع ثان : وهذا النوع هو الإيجابي لأنه ينتج عن رفض الذات أحكام سابقة , وهذا يؤدي إلى مواجهة الحياة بالنفس من غير مساعدة خارجية ورفضها للمثل الجاهزة ().
وبذلك جعل سارتر أدبه أدب التزام لموقف (), وجعل القيم الأخلاقية والاجتماعية في الدرجة الأولى تمتليها القيم الفنية الجمالية ,كما ان الالتزام عنده قائم على فكر واسع غائص داخل أوضاع الفرد والجماعة –المجتمع –
ومن هنا فالأديب وكذلك الفنان ليس منطويا على نفسه بشكل كلي , انه منفتح على الآخرين داخل وحدة لا تنفصم وموقفه –الأديب – له من ورائه هدف ودلالة نحو هذا العالم المتوحد والكاتب في هذا الصراع يشارك فيه مع الآخرين, ملتزم بمتطلبات عصره, من المساهمة الفعالة, والوعي الكامل الذي يصدر فيه هذا العالم المنعكس على مرآة ذاته ليخلقه من جديد.
فرسالة الأديب تتمثل في الكشف عن الواقع وفي تحقيق التحولات الحضارية والفن الحقيقي هو الذي يخدم شريحة عريضة من الناس ويكون في متناول الجميع كما قال سارتر في حديثه عن الفن, بأنه وضع فنه في مستوى الجميع وليس فوق الجميع , والفن ليس مجرد متعة فردية , بل وسيلة جادة لتحريك الغالبية القصوى من الناس, وذلك عندما يقدم الفن صورة عن الآلام المشتركة والقضايا الإنسانية الكبرى ()? ومن هنا يكون الأدب الوجودي هو الموقف الواعي الذي يتخذه الكاتب تجاه قضايا مجتمعه مع المحافظة على الحرية الفردية .
3-الالتزام في الأدب الإسلامي :
إذا أردنا أن نبين الالتزام في الأدب الإسلامي فلا يعني ذلك أن الأدب الإسلامي لا يخضع للالتزام , بل انه ولد منذ ولادة الإسلام .
إن الالتزام في الأدب الإسلامي يختلف عن المذاهب والاتجاهات المادية , لأنه نابع من ذلك التصور الشامل للفرد والحياة والكون , فهو التزام بالإسلام , وبالكلمة والعقيدة والالتزام بالسلوك وبالعالم الإسلامي ككل الذي نراه محتكما إلى الشريعة الربانية, فالالتزام صفة الأديب المسلم, الذي ينظر إلى الحياة من التصور الشامل , فيحقق تفاعله مع الحياة, ويكون في النهاية إنسانا إيجابيا, إنسان يسعى لخير مجتمعه مراعيا بذلك القيم والمبادئ من خلال تعبير فني جميل.
فالالتزام ليس إلزاميا , ? إنما هو شيء عفوي نابع من إيمان الأديب المسلم (),فهو شبيه بالذي يؤدي واجب العبادة تجاه المولى عز وجل وتجاه شريعته كما قال توفيق الحكيم " أنا لا اطلب من الأديب أن يلتزم وانما اطلب منه أن يكون حرا ()
ومن هذا الأديب المسلم يكون أدبه نابع من الحرية الملتزمة بواقع الحياة الإنسانية , بحيث لا مجال لتطرف العقل ولجموح الخيال , بل يكون العقل والخيال في توازن تام مثلما هو الشأن عند الشاعر محمد متلا عزيل في مجموعته " اللؤلؤ المكنون " ومحمد الحسناوي في ديوانه"? عودة الغائب"ومع القاص نحيب الكيلاني في " عمر يظهر في القدس ", ? "نور الله "...
فهو التقيد بالثوابت والقيم والأصول التي تبقى خالدة ابد الدهر كالتوحيد لله والتحلي بفضائل الأخلاق , ومن هنا يكون الالتزام منبعث من روح الكاتب وفكره وعواطفه بعيدا عن التكلف والتصنع .
ومن هذا المنطلق يتضح أن محاولات الادعاء أن الالتزام تحجر وجمود على الفكر , فهو ضرب العبث والتخريب.
فبالالتزام يحقق الأدب المتعة والافادة شكلا ومضمونا , ويوجه الادباء , واصحاب الابداعات والفنون الى التعبير في نظام الحضارة لبناءها , واحياءها , وحينما يبتعد عن هذه الحياة الادبية والفنية تظهر بوادر الانحلال والميوع والابتعاد عن الاصول والاعراف فشكل ذلك اضطراب فني واجتماعي مثلما حدث في فترات التاريخ الإسلامي () يقول لخضر العرابي انه "عندما يغيب الالتزام عن ساحة الادب ويميل الابداع جهة الميوعة والانحلال دون اعتبار للقيم الاخلاقية للمجتمع , فان ذلك يخلق جوا مضطربا تتجاذبه السلبيات من جميع النواحي"() .
كما أننا نضطر إلى طرح سؤال آخر : كيف يمكننا أن نقول بان هذا الأدب ملتزم ? هذا يظهر حينما ينزل الأديب المسلم إلى حياة الناس ليعيش مشاكلهم وانشغالاتهم , لا ان يكون متحررا يسعى للخلاص من الحياة وقضاياها المعقدة مثلما عبرت عنه رواية ? الكوخ الصغير ? لاندريه روسان ().
فالالتزام في الإسلام ليس التزام المضمون كما تدعو إليه الماركسية ?الوجودية بل هو التزام مضمون وشكل للمحافظة على طبيعة الأدب فهو يؤكد على الجمال البديع كما يؤكد على إبراز الحق أينما كان ().
والأدب الإسلامي لم يبق منحصرا في مواضيع وقضايا معينة بل اتسع ليشمل ويلتزم بكل مواضع الحياة ? إلا فما تفسير كل هذا التنوع , بحيث نجد فيه أدب البطولات الإسلامية والإشادة بأمجاد الأمة وتاريخها العريق مثلما فعل احمد شوقي في " دول العرب وعظماء الإسلام" ?" الحضارة الإسلامية " للسيد قطب ومحمد قطب وغيرهم , ? أدب السيرة النبوية والصحابة والتابعين لأخذ العبرة والقدوة كديوان " من وحي النبوة " للشاعر محمد عبد الغني حسن , ? أدب التشريع والقيم الإسلامية لتحقيق العزة للإسلام والمسلمين مثل ديوان" الحق المبين" للشاعر خير الدين , ?"ألوان طيف" الأميري .
إضافة إلى أدب الأخلاق السامية . ? أدب التقدم والتفوق والبناء الاقتصادي والعسكري والاجتماعي , وادب الاعتزاز بالغة العربية , كما فيها أدب التضامن والوحدة التي تحقق للمسلم القوة والصرامة لمواجهة المذاهب المادية والفلسفات المنحرفة().
كما أن الأديب له الحرية المطلقة في التعبير عن أفكاره كما يشاء مثلما له الحرية في اختيار الجنس الذي يراه مناسب كالقصيدة والمقالة والرواية إضافة إلى القصة والمسرحية وغيرها من الأجناس الأدبية ? ولا يشترط في جنسه أن يكثر من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية حتى يكون أدبه إسلاميا , ولكنه يصل إلى ذلك الأدب الرفيع حينما ينفعل الفنان بما حوله من مشاهد الكون والحياة الإنسانية وما يتضمن من الترغيب في الحب والخير والجمال , والتنفير من الفساد والتخريب والضياع , وهذا هو جوهر الخلاف بين الأدب الإسلامي والأدب المادي
و الادب الإسلامي هو ادب الانفتاح على القيم الإنسانية التي تجمع بين البشر متجاوزة لحدود الزمان والمكان ومحطمة لاسوار الإيديولوجيات والانكماش الفكري فتنهار بذلك النظرية السطحية ويصبح أدب الناس أيما ثقفوا ().
فلا يزال الأدب الإسلامي في طور التشكل والنمو يبحث عن مفهوم واسع وشامل , شمول هذه الرسالة السماوية الخالدة ليعكس نظرة وتعريف الإسلام للأدب , من الجهة الإبداعية والفنية وليصبح منهجا إسلاميا نقدي يخدم الإنسانية جمعاء ?ن منظور إسلامي خالد ().
قضية الالتزام كان لها دورا بارزا ? أساسا في الأدب الإسلامي , فهو شبيه بعلاقة الروح من الجسد, ومن هنا نكون قد بينا من خلال هذه المرحلة العلمية أهميته عند الأديب المسلم لنواصل هذا البحث بطرح أسئلة من جديد: كيف كانت رحلة الأدب الإسلامي؟ خاصة ونحن نعلم أنها ليست رحلة إلى الفردوس , ? إنما هي رحلة مليئة بالأشواك والمخاطر , خاصة من حيث النشأة والمصطلح وفي بعض قضاياه , فهذه الأسئلة المتنوعة تتطلب منا دراسة علمية ومعرفة واسعة لنوفي بها قراءنا المتعطشين إلى هذا النوع من الأدب .
أبدع الله في خلق هذا الكون بقدر يعجز أي مخلوق على تجسيده, ولكن له أن يبرز نعمه التي ميز بها الكائنات عن بعضها البعض ... فللبنات سحر اللون وجمال الشكل وللإنسان ميزة العقل والإبداع .
من هنا كان لزاما على الإنسان أن يبحث عن نفسه وسط صخب الحياة ومشاكلها , وان يسمو بنفسه أولا ثم يرتقي بعمله الفني شيئا فـشيئا, هكذا سار الأديب في طريقه الطويل الذي عرف فيه الأدب بمفهومه الأوسع , ورسالته التي تعبر عنه.
يواجه الدارس في ميدان الأدب صعوبات في تحديد المادة وتصنيفها ولكي يكشف عن هذا الغطاء لا بد له من منهج أو نظرية , وهذا ما كان كبدايات أولى في العهد اليوناني مع أفلاطون حيث كشف عن هوية وطبيعة الأدب وفقا لرؤاه ومنهجه الفلسفي المثالي .
في كتابه الجمهورية نجد محاورات عن الفن والأدب بين فيها اثر الشعر على سلوك الفرد , كما حدد وظائف العالم الطبيعي القائم على " المحاكاة للمحاكاة " باعتبار الوعي سابق في الوجود من المادة وبذلك فالفنان لا يبدع بل يحاكي الفكرة الفوقية في عالم المثل , ويكون كمرآة عاكسة لها وهذا لا يعد تعبير صادق عن الحياة, ولا يؤدي دوره كموجه أخلاقي, فدور الأديب هو الكشف عن الحقيقة , وكما يقول توفيق الحكيم في مهمة الأدب<< أن يعين الناس على فهم حكمة الخلق وروح الوجود وإفهام البشر أن السعادة عمل وكفاح وتقدم وتطور>> () وهكذا يشترط بلوغ المثل الدائم ويبحث عن النموذج الخالد .
جاء بعده ارسطو التلميذ الذي خالف أستاذه , فأعلن أن الفن ليس محاكاة لعالم المثل بل محاكاة للطبيعة بغية خلق نموذج افضل واجمل, فالفنان وهو يحاكي الطبيعة يصنع ما هو اجمل منها ويرفع بذلك الفن درجات عالية فمهمة الأديب ?تعدى عمل المرآة إلى إبراز مهمة الأدب, وبذلك فالمبدع ? حين يحاكي فانه لا ينقل فقط بل يتصرف ... فيحاكي ما يمكن أن يكون ? أو ما ينبغي أن يكون " (), بما أن مفهوم المحاكاة اقتصرت عنده على الفنون فيرى أن الشعر والفن يحققان متعة ?منفعة في نفس الوقت فيحدث التطهير للذات , فماهي القضايا التي تطرح نفسها في مجال الأدب ?
قضية الالتزام , التي أثارت الكثير من الفلاسفة والأدباء والنقاد, فبرزت بذلك عدة اتجاهات أهمها تلك التي ?بنت فكرة الالتزام والتي نحصرها في الاتجاه الماركسي, والاتجاه الوجودي ثم الاتجاه الثالث وهو الالتزام في الأدب الإسلامي.
1-الالتزام في الواقعية الاشتراكية :
يعد كارل ماركس وانجليز فريدريك من السباقين إلى ترسيخ المنطلق المادي الديالكتيكي ومعطيات النظرية الدورانية ومنتوجات افكار فرويد منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين , وتعود اسباب نشأة هذا المذهب الى الثورة العمالية (البوليتارية ) التي ظهرت في كل من فرنسا والمانيا وانجلترا.
والالتزام في الفلسفة الماركسية هو الايمان بتفسير الكون والتاريخ تفسيرا ماديا,واعتبرت المادة هي العامل المحرك للفكر الإنساني فالمادة هي الأساس, اما الوجود فهو الذي يفرض على المبدع وعلى عواطفه ومشاعره أن تهتز فالماركسيون يعتقدون ان مفاهيم الناس وادراكهم للأشياء تتغير كلما طرأ أي تغيير على ظروف حياتهم الاجتماعية والاقتصادية , ومن ثم تتأثر انتاجاتهم الفكرية بهذه الظروف المحيطة بهم, فالأديب المبدع في فنه يكون ملتزما بالظروف المادية التزاما شديدا .
ومن ثم كانت الواقعية الاشتراكية تؤكد على ضرورة الالتزام في الأدب وذلك <<حتى يلعب دورا إيجابيا في توجيه المجتمع, ويمسك بزمام مصيره, وعلى عاتقه تقع المسؤولية التطور الحضاري والتقدم المادي والفكري>>(), فالالتزام في الأدب هو الشيء الإيجابي الذي يقوم به الأديب في توجيه المجتمع وحل مشاكله الاجتماعية , كما يرون أن الفن إذا كان بناءا فوقيا فيبقي دائما على صلة قوية بالجانب المادي –الأصل –الذي هو الأساس.
ومن هذه النقطة تبين الواقعية ان<< الفن هو نشر فكر ايديولوجي معين>> لأنها ترى أن الفن الوحيد هو الذي يخدم الثورة ومتطلباتها (), ولا يمكن أن يخرج الفن عن نطاقه المحدد , فالماركسية ترفض الخيال لعجزه عن التعبير في الحياة اليومية وتجاربها .
فموقف الواقعية من الأدب والالتزام يقوم على أحكام الصلة القائمة بين الادب والحياة وعلى رسالة الأديب ودوره الفعال في توجيه المجتمع .
وفي كيفية نشر الوعي فيه والأخذ به الى طريق التطور والتقدم والتحرر من كل القيود التي تعرقل مسيرته ?<< الأديب يترجم الحركة المنظومة الى فكرة فواقع الحياة واحداث المجتمع, وحوادث الأفراد تمر امام الأديب فيلاحظ دقائقها ويحاول تصويرها>> (), مثلما نرى ذلك في أعمال مكسيم غوركي خاصة في روايته" الام" وبرتول بريخت في مسرحياته منها دائرة الطباشير القوقازية.
وفي النهاية تبقى الواقعية على حسب اعتقاداتهم هي الوجه الشجاع النبيل للفن لأنه يخدم مصالح الأمة (), ويهتم بأدق تفاصيلها.
2- الالتزام في الوجودية :
الوجودية جملة من المذاهب التي عنيت بالأدب , وكل مذهب له أفكاره الخاصة, كما لها جذور تمتد إلى سقراط, ثم تبلورت ولم تنضج كفكرة مستقلة إلا في القرن التاسع عشر على يد العديد من الفلاسفة الأوروبيين وفي مقدمتهم جون بول سارتر الذي جسد فكرة الالتزام في فلسفته وكتاباته .
لقد ارتبط الالتزام في الفكر الوجودي بفلسفتهم للكون والوجود , إذ تعتبر الوجودية أن الإنسان هو الجوهر المطلق , كما اهتمت بذاتية الفرد لا الجماعة وهذا مخالف للمادية الجدلية –التي جعلت من إنسان شيئا – كما أنها اهتمت في تحرير هذه الذات من القيود والضغوطات المفروضة من طرف المجتمع , وان يتخذ باختياره طريق الالتزام الحر , الذي يكون فيه الأديب ملتزم تجاه ذاته من ناحية وتجاه المجتمع من ناحية ثانية , فالالتزام في اصله فردي ولكنه يتحول تلقائيا ليصطبغ بلون جماعي مثلما يرى سارتر أن الموجود لذاته لا يقوم وجوده الا بالغير ومع الغير (), وهذا ما جسده فعلا في روايته ّالغثيان " ومسرحيته" الغرفة " ومثلما فعل أيضا ألبار كامي في روايته " الطاعون " إضافة الى اندري جيد وغيرهم كثير .
ومن هنا يكون الالتزام في اصله فردي يصدر عن الانسان طوعا لا قصرا, والانسان حر في جميع تصرفاته بشرط أن يتحمل مسؤولية هذا الاختيار.
فالوجودية تجسد ثلاثة مفاهيم: الحرية والمسؤولية والالتزام, فبالرغم ?ن أن الذات تتمتع بحرية كاملة في الاختيار, لكن هذه الحرية ليست مطلقة كون الفرد مسؤول عن تصرفاته, فالفرد عندما يسعى إلى تحقيق وجوده معناه انه يحقق وجود الآخرين .
إذن الوجودية تعيد الاعتبار للفردية التي هي أساس بناء المجتمع وأساس الفكر والفن ? الإبداع وبذلك فهي توجه ردا للماركسية التي ألغت دور الفرد لاعتبار الذات عاطلة عن أية قوة ومجردة من كل قدرة .
فالالتزام نوعان : نوع سلبي يتضح من خلال خضوع الذات لكل ما تمليه عليها الجماعة فيحدث ذوبان الذات في هذه الجماعة , ويفقدها بذلك أسمى خصوصياتها ألا وهي الحرية ويتحول من موجود لذاته إلى موجود في ذاته , ونوع ثان : وهذا النوع هو الإيجابي لأنه ينتج عن رفض الذات أحكام سابقة , وهذا يؤدي إلى مواجهة الحياة بالنفس من غير مساعدة خارجية ورفضها للمثل الجاهزة ().
وبذلك جعل سارتر أدبه أدب التزام لموقف (), وجعل القيم الأخلاقية والاجتماعية في الدرجة الأولى تمتليها القيم الفنية الجمالية ,كما ان الالتزام عنده قائم على فكر واسع غائص داخل أوضاع الفرد والجماعة –المجتمع –
ومن هنا فالأديب وكذلك الفنان ليس منطويا على نفسه بشكل كلي , انه منفتح على الآخرين داخل وحدة لا تنفصم وموقفه –الأديب – له من ورائه هدف ودلالة نحو هذا العالم المتوحد والكاتب في هذا الصراع يشارك فيه مع الآخرين, ملتزم بمتطلبات عصره, من المساهمة الفعالة, والوعي الكامل الذي يصدر فيه هذا العالم المنعكس على مرآة ذاته ليخلقه من جديد.
فرسالة الأديب تتمثل في الكشف عن الواقع وفي تحقيق التحولات الحضارية والفن الحقيقي هو الذي يخدم شريحة عريضة من الناس ويكون في متناول الجميع كما قال سارتر في حديثه عن الفن, بأنه وضع فنه في مستوى الجميع وليس فوق الجميع , والفن ليس مجرد متعة فردية , بل وسيلة جادة لتحريك الغالبية القصوى من الناس, وذلك عندما يقدم الفن صورة عن الآلام المشتركة والقضايا الإنسانية الكبرى ()? ومن هنا يكون الأدب الوجودي هو الموقف الواعي الذي يتخذه الكاتب تجاه قضايا مجتمعه مع المحافظة على الحرية الفردية .
3-الالتزام في الأدب الإسلامي :
إذا أردنا أن نبين الالتزام في الأدب الإسلامي فلا يعني ذلك أن الأدب الإسلامي لا يخضع للالتزام , بل انه ولد منذ ولادة الإسلام .
إن الالتزام في الأدب الإسلامي يختلف عن المذاهب والاتجاهات المادية , لأنه نابع من ذلك التصور الشامل للفرد والحياة والكون , فهو التزام بالإسلام , وبالكلمة والعقيدة والالتزام بالسلوك وبالعالم الإسلامي ككل الذي نراه محتكما إلى الشريعة الربانية, فالالتزام صفة الأديب المسلم, الذي ينظر إلى الحياة من التصور الشامل , فيحقق تفاعله مع الحياة, ويكون في النهاية إنسانا إيجابيا, إنسان يسعى لخير مجتمعه مراعيا بذلك القيم والمبادئ من خلال تعبير فني جميل.
فالالتزام ليس إلزاميا , ? إنما هو شيء عفوي نابع من إيمان الأديب المسلم (),فهو شبيه بالذي يؤدي واجب العبادة تجاه المولى عز وجل وتجاه شريعته كما قال توفيق الحكيم " أنا لا اطلب من الأديب أن يلتزم وانما اطلب منه أن يكون حرا ()
ومن هذا الأديب المسلم يكون أدبه نابع من الحرية الملتزمة بواقع الحياة الإنسانية , بحيث لا مجال لتطرف العقل ولجموح الخيال , بل يكون العقل والخيال في توازن تام مثلما هو الشأن عند الشاعر محمد متلا عزيل في مجموعته " اللؤلؤ المكنون " ومحمد الحسناوي في ديوانه"? عودة الغائب"ومع القاص نحيب الكيلاني في " عمر يظهر في القدس ", ? "نور الله "...
فهو التقيد بالثوابت والقيم والأصول التي تبقى خالدة ابد الدهر كالتوحيد لله والتحلي بفضائل الأخلاق , ومن هنا يكون الالتزام منبعث من روح الكاتب وفكره وعواطفه بعيدا عن التكلف والتصنع .
ومن هذا المنطلق يتضح أن محاولات الادعاء أن الالتزام تحجر وجمود على الفكر , فهو ضرب العبث والتخريب.
فبالالتزام يحقق الأدب المتعة والافادة شكلا ومضمونا , ويوجه الادباء , واصحاب الابداعات والفنون الى التعبير في نظام الحضارة لبناءها , واحياءها , وحينما يبتعد عن هذه الحياة الادبية والفنية تظهر بوادر الانحلال والميوع والابتعاد عن الاصول والاعراف فشكل ذلك اضطراب فني واجتماعي مثلما حدث في فترات التاريخ الإسلامي () يقول لخضر العرابي انه "عندما يغيب الالتزام عن ساحة الادب ويميل الابداع جهة الميوعة والانحلال دون اعتبار للقيم الاخلاقية للمجتمع , فان ذلك يخلق جوا مضطربا تتجاذبه السلبيات من جميع النواحي"() .
كما أننا نضطر إلى طرح سؤال آخر : كيف يمكننا أن نقول بان هذا الأدب ملتزم ? هذا يظهر حينما ينزل الأديب المسلم إلى حياة الناس ليعيش مشاكلهم وانشغالاتهم , لا ان يكون متحررا يسعى للخلاص من الحياة وقضاياها المعقدة مثلما عبرت عنه رواية ? الكوخ الصغير ? لاندريه روسان ().
فالالتزام في الإسلام ليس التزام المضمون كما تدعو إليه الماركسية ?الوجودية بل هو التزام مضمون وشكل للمحافظة على طبيعة الأدب فهو يؤكد على الجمال البديع كما يؤكد على إبراز الحق أينما كان ().
والأدب الإسلامي لم يبق منحصرا في مواضيع وقضايا معينة بل اتسع ليشمل ويلتزم بكل مواضع الحياة ? إلا فما تفسير كل هذا التنوع , بحيث نجد فيه أدب البطولات الإسلامية والإشادة بأمجاد الأمة وتاريخها العريق مثلما فعل احمد شوقي في " دول العرب وعظماء الإسلام" ?" الحضارة الإسلامية " للسيد قطب ومحمد قطب وغيرهم , ? أدب السيرة النبوية والصحابة والتابعين لأخذ العبرة والقدوة كديوان " من وحي النبوة " للشاعر محمد عبد الغني حسن , ? أدب التشريع والقيم الإسلامية لتحقيق العزة للإسلام والمسلمين مثل ديوان" الحق المبين" للشاعر خير الدين , ?"ألوان طيف" الأميري .
إضافة إلى أدب الأخلاق السامية . ? أدب التقدم والتفوق والبناء الاقتصادي والعسكري والاجتماعي , وادب الاعتزاز بالغة العربية , كما فيها أدب التضامن والوحدة التي تحقق للمسلم القوة والصرامة لمواجهة المذاهب المادية والفلسفات المنحرفة().
كما أن الأديب له الحرية المطلقة في التعبير عن أفكاره كما يشاء مثلما له الحرية في اختيار الجنس الذي يراه مناسب كالقصيدة والمقالة والرواية إضافة إلى القصة والمسرحية وغيرها من الأجناس الأدبية ? ولا يشترط في جنسه أن يكثر من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية حتى يكون أدبه إسلاميا , ولكنه يصل إلى ذلك الأدب الرفيع حينما ينفعل الفنان بما حوله من مشاهد الكون والحياة الإنسانية وما يتضمن من الترغيب في الحب والخير والجمال , والتنفير من الفساد والتخريب والضياع , وهذا هو جوهر الخلاف بين الأدب الإسلامي والأدب المادي
و الادب الإسلامي هو ادب الانفتاح على القيم الإنسانية التي تجمع بين البشر متجاوزة لحدود الزمان والمكان ومحطمة لاسوار الإيديولوجيات والانكماش الفكري فتنهار بذلك النظرية السطحية ويصبح أدب الناس أيما ثقفوا ().
فلا يزال الأدب الإسلامي في طور التشكل والنمو يبحث عن مفهوم واسع وشامل , شمول هذه الرسالة السماوية الخالدة ليعكس نظرة وتعريف الإسلام للأدب , من الجهة الإبداعية والفنية وليصبح منهجا إسلاميا نقدي يخدم الإنسانية جمعاء ?ن منظور إسلامي خالد ().
قضية الالتزام كان لها دورا بارزا ? أساسا في الأدب الإسلامي , فهو شبيه بعلاقة الروح من الجسد, ومن هنا نكون قد بينا من خلال هذه المرحلة العلمية أهميته عند الأديب المسلم لنواصل هذا البحث بطرح أسئلة من جديد: كيف كانت رحلة الأدب الإسلامي؟ خاصة ونحن نعلم أنها ليست رحلة إلى الفردوس , ? إنما هي رحلة مليئة بالأشواك والمخاطر , خاصة من حيث النشأة والمصطلح وفي بعض قضاياه , فهذه الأسئلة المتنوعة تتطلب منا دراسة علمية ومعرفة واسعة لنوفي بها قراءنا المتعطشين إلى هذا النوع من الأدب .
- محمدمشرف مرسى الرياضة
- البلد :
عدد المساهمات : 7229
نقاط تميز العضو : 205023
تاريخ التسجيل : 10/12/2009
رد: أدبية الادب
21/09/11, 02:33 pm
معلومات قيمة
بارك الله فيك
بارك الله فيك
- إسماعيل سعديمدير الموقع
- البلد :
الجنس :
عدد المساهمات : 3758
نقاط تميز العضو : 150694
تاريخ التسجيل : 03/04/2009
رد: أدبية الادب
21/09/11, 10:11 pm
جزاك الله خيرا ونفع بما انتقيت أعضاء المرسى وزوّاره .
- عيسى بلخباطعضو جديد
- البلد :
الجنس :
عدد المساهمات : 9
نقاط تميز العضو : 95690
تاريخ التسجيل : 22/10/2011
العمر : 44
رد: أدبية الادب
22/10/11, 02:19 pm
في أدبية الأدب
لايخفى على الدارسين ان مسألة تحديد المصطلحات و المفاهيم من الاولويات المعرفية في ثقافتنا المعاصرة ، ويظهر اننا لم نصل الى حالة (العمى المصطلحي) الذي يمكننا من تجاوز حالة الخلط المفاهيمي. و في هذا الاطار تناول المنظرون الادبيون و الفلاسفة و نقاد الادب و علماء اللسانيات مسالة تحديد مفهوم الادب و الادبية و تعريف ما يسمح للمتلقي بتجربة الادب بوصفه ادبا. و يبدو ان ثمة اتفاق شبه ضمني حول عدم توفر تعريف جامع مانع و تجريدي للأدب والأدبية ولم تقدم اجابات وافية لتساؤل قديم متجدد حول ماهية الادب.
صنف تودوروف تعريفات الادب الى نوعين رئيسين؛ يؤكد الأول ان الادب لغة تستعمل لأغراض المحاكاة (لصنع التخييل)، في حين يؤكد الثاني على ان الادب لغة تستعمل بطريقة ممتعة جماليا و تجذب الانتباه الى نفسها بوصفها وسطا. و يرى ديفيد لوج في كتابه انماط الكتابة الحديثة (1979) ان ثمة ارتباط جوهري بين هذين النوعين حيث يبرز مصطلح اخر يضاف الى الادبية و هو FICTIONALITY الذي ينطوي على القص و التخييل: اذن اذا كان التخييل بهذا المعنى فإننا نجد ان ثمة ادب لا ينطوي على قص خيالي كما هو الحال بالنسبة الى الشعر الغنائي و ثمة قص ليس خياليا و ليس ادبا كما هو الحال بالنسبة للاعلان التجاري بشكل سردي. لذا يتطلب الامر هنا توسيع مصطلح القصص التخييلي ليغطي القضايا و التوصيفات طالما ان قدرا كبيرا من الادب يتألف من القضايا و ليس من التوصيفات( الشعر الغنائي مثلا).
لقد عززت الجهود المبذولة لتطبيق نظرية افعال الكلام لاوستن في نظرية الادب فهمنا لما يكمن في التفوه المحاكي بيد انها لم تستطع ان تفسر كيف تكتسب الكتابة الواقعية بالقصد مكانة الادب. يرى ريتشارد اوهمان في دراسته الموسومة افعال الكلام و تعريف الادب) ان النصوص الادبية تتبع الشروط التي وضعها اوستن لافعال الكلام و خصوصا النجاح الانجازي، لذا يقترح ان العمل الادبي خطاب تنقص جمله القوة الانجازية (المحاكية) .. ان العمل الادبي يحاكي ايهاميا سلسلة من افعال الكلام لا وجود لها حقيقة و لذلك يقود القاريء الى تخيل متكلم و موقف و مجموعة من الاحداث الملحقة. و يحدد اوهمان تعريف الادب التخييلي مستثنيا التاريخ و العلم و السيرة ..الخ من معادلته. لذا فهو ملزم بالقول ان رواية مثل بدم بارد للروائي ترومان كابوتي عمل ليس ادبيا لأنها تستند الى و تعمل على وفق معايير اوستن. و يستعمل جون سيرل في مقالته المكانة المنطقية للقص المصطلحات نفسها للتمييز بين الخطاب التخييلي و الخطاب اللاتخييلي و يتوصل الى ان من غير الممكن التمييز شكليا بين الخطاب الادبي و الخطاب اللا ادبي.
اما النوع الثاني من التعريفات فيمكن ان نجد جذورا لها في البلاغة الكلاسيكية و تقرن هذه النظرية الادب بوفرة العبارات و الاشكال الخاصة أو غزارتها، فالباحثة رقية حسن ترى ان تكرر ادوات مميزة في الاعمال النثرية الطويلة يختلف جوهريا عن تكرر نفس الادوات في مقالة صحفية مثلا. و بهذا الخصوص تعد طروحات مدرسة براغ من المحاولات لجادة التي تنص على ان الخطاب الادبي يتصف بالتفعيل المتماسك و المنتظم و التفعيل مصطلح مركزي في ادوات مدرسة براغ: يتعارض عند هذه المدرسة الفكرية الجمالي مع النفعي، فكل عنصر في الخطاب يجذب الانتباه الى ذاته بدلا من كونه مجرد وسيلة ناقلة للمعلومات و يستند التفصيل الى مهاد من المكونات المؤتمنة، اي اللغة المستعملة طرق اعتيادية و قابلة للتنبوء الى درجة لا تجذب الانتباه. لقد عرف موكاروفسكي التفعيل على انه ” تصحيف قصدي جماليا للمكونات اللغوية” و بذا لايختص الادب وحده بالتفعيل ، فاستعمال التورية مثلا في المحادثات اليومية هو تفعيل و لا يتبع التفعيل عرف لغويا واحدا وذلك لان ما يؤتمن في نوع من الخطاب قد يفعّل عند نقله الى خطاب من نوع اخر( استعمال الرطانة التقنية في محادثة يومية بين الاصدقاء) اذا فان ما يميز الخطاب الادبي ليس تكرار المكونات المفعّلة بل سمة التماسك و الانتظام في التفعيل فضلا عن ان المهاد و التفعيل و العلاقة بينهما تتعلق جماليا في حين ان الامر يختلف في الخطاب اللا أدبي ذلك ان المكونات المفعلة هي المتعلقة جماليا فقط. ويعد مهاد الخطاب الادبي ازدواجيا لكونه يتكون من اللغة الاعتيادية و المروث الادبي، و يمكن اضافة نوع آخر من المهاد وهو الاعراف اللغوية التي يؤسسها العمل الادبي لنفسه.
يعد التفعيل معيارا كفوءا و مناسبا لأدبية النص، بيد ان رقية حسن تعتقد ان التفعيل الادبي يتطلب نوعا من التحفيز على التفسير وهو امر موجود في وحدة النصوص الادبية، وحدة الموضوع او الثيمة التي تنظم نمو الخطاب دون حضورهما فعليا فيه. هناك مستويان من الترميز: الاول هو باستعمال الشفرة اللغوية لترميز مواقف و سيرورات ، و الثاني هو استعمال هذه المواقف و السيرورات لترميز مجموعة ثيمية؛ ثيمة العمل هي تعليم و تجريد و مجموعة المواقف هي تمظهر لمبدأ اساس. هذا الموقف يقترب كثيرا من تعريف ارسطو للشعرية بوصفها التبير عن العام بالخاص حيث يعادل ارسطو االادب بالتخييل و يستثني التاريخ و الفلسفة وهذا ما تنطوي عليه ضمنيا نظرية رقية حسن.
من سمات القراءة الادبية تساؤلنا حول هدف النص و ما يتحدث عنه، و نحن نعرف ضمنا ان الاجابة ليست بسيطة’ اننا لا نفك شفرة الرسالة الادبية بل نؤولها و قد نحصل منها على معلومات اكبر مما كان المرسل على وعي به – ان الخطاب منفتح على نوع التأويل نفسه. و كتاب بارت اساطير خير مثال على كيفية اكتشاف المستوى الثاني من الترميز بحسب مفهوم رقية حسن.
ان مبدأ التنظيمي الذي تبحث عنه رقية حسن في الثيمة هو ما يطلق عليه منظروا براغ ”المهيمن”: المكون الذي يحرك و يوجه علاقات جميع المكونات الاخرى وطالما ان الادب ليس عن العالم الواقعي فلا يمكن ان يكون عن نفسه (الوظيفة الشعرية عند ياكوبسن).
و عند النظر ثانية في تعريف ياكوبسن و موكاروفسكي للأدبية نجد ان التعريف هذا ينحاز الى انواع الادب المنزاحة و لا يشمل انواع الادب التي يتمركز فيها العنصر التواصلي و التأشيري ( القص الواقعي او السيرة الذاتية، مثلا). يرفض ستانلي فيش تعريف ياكوبسن (ناقص الرسالة) لكنه في عين الوقت لا يؤيد تعريف الادب(زائد الرسالة) الذي ينص على ان الادب هو ((حامل اكثر تأثيرا للرسائل التي تنقلها اللغة الاعتيادية)) و ذلك لان مؤيدي وجهة النظر هذه يهتمون بالاعمال الهابطة التي لا تعكس عناصر الاسلوب و لا تقدم اي محتوى قضوي .
يرى كل من فيش و تودوروف ان التعريفات المتوفرة للادب تفشل لكونها تستبعد النصوص التي يمكن تعريفها براغماتيا بوصفها ادباز ان الخطأ بحسب ما يرى تودوروف هو بناء او تثبيت ارتباط بين الادب و اللاادب ((من وجهة لنظر البنيوية، كل نوع من الخطاب يشار اليه عادة بالادبية يمتلك قرابات لا ادبية …)) يمكن القول هنا ان (( الشعر الغنائي مثلا يرتبط بالترانيم الدينية بقدر اكبر من ارتباطه بالاعمال الروائية التاريخية، لذا يمكننا اتبدال التعارض بين الادب و اللاادب بتصنيف لخطابات الى انواع))، و مع ذلك لم يقدم فيش طريقة خاصة للتمييز بين النماذج الادبية و النماذج اللاادبية ضمن نوع من الخطابات و اوضح بان (( الادب .. صنف مفتوح.. لما نقرر ان نضع فيه)).
و فضلا عن ذلك، ثمة اضطراب في التمييز بين الشكل اللغوي للعمل الادبي و وظيفة لغته في مجال توصيل المعنى. لقد ميّز هـ . جي ويديسون بين الاثنين مستعملا مصطلحي النص و الخطاب حيث يعتقد ان الادب لا يتطلب ان يكون انزياحا لكونه نصا بيد انه يجب ان يكون انزياحا بوصفه خطابا و من المصطلحات المهمة للتعبير عن الانزياح مصطلح التخييل fictionality الذي ذكرناه انفا. يرى ديفيد لوج ان الخطاب الادبي اما ان يكون تخييليا على نحو جلي او ان يقرأ لكونه كذلك و ما يسمح بهذه القراءة هو التنظيم البنائي لاجزاءه المكونة و لتفعيله المنتظم و يؤكد ويديسون في السياق نفسه على ان :
ما يميز فهمنا للخطاب الادبي هو استناده الى ادراكنا لقوالب من التنظيم اللغوي مفروضة عليه، كما هو الحال بالنسبة للقوالب التي تتطلبها الشفرة. و الى استدلالنا على القيم الخاصة التي تعقدها العناصر اللغوية في هذه القوالب المشكلة.
يقترح كولر في الشعرية البنيوية ان النصوص الادبية هي تخييل و مكن ان نضع هذا كعرف للتأويل الادبي و نقول ن قراءة نص ما بوصفه ادبا هي قراءته بوصفه تخييلا. و كولر في هذا التوجه مثله مثل تودوروف و فيش ( رغم الاختلاف في الاساس النظري بينهم) يرى ان الادب يمكن ان ينظر فيه بواسطة عملية القراءة- انه صنف من اجراءات القراءة و ليس خصيصة من خصائص النصوص. لكن هذا التوكيد على اعتماد الادب على انماط خاصة من القراءة هو نصف الحقيقة اما النصف الثاني هو اعتماد تلك الانماط على وجود الادب و هذه عملية جدلية بحتة. و النقطة الجوهرية ان الادب ليس مجموعة نصوص و جدت مصادفة و قررنا تلقائيا قراءتها بطريقة معينة. ان معظم الخطاب الذي نقرأه بوصفه ادبا هو على احد المستويات تعبير عن قصدية كتابة الادب و من هذا الخطاب نستقي اعراف و قوانين التأويل التي يطلق عليها كولر الكفاءة الادبية. لذا فأن المقاربة البنيوية تقدم طروحات تؤكد على ان الكتابة تتطلب القراءة لاكتمالها بيد انها في عين الوقت تعلّم نوع القراءة التي تتطلبها الكتابة.
من هنا يمكن القول ان الادب صنف مفتوح بمعنى ان المرء يستطيع نظريا ان يضع اي نوع من الخطاب فيه بشرط ان خطابا من هذا النوع يشترك بشئ ما مع الصنف لا يستطيع المرء اخراجه منه.
لايخفى على الدارسين ان مسألة تحديد المصطلحات و المفاهيم من الاولويات المعرفية في ثقافتنا المعاصرة ، ويظهر اننا لم نصل الى حالة (العمى المصطلحي) الذي يمكننا من تجاوز حالة الخلط المفاهيمي. و في هذا الاطار تناول المنظرون الادبيون و الفلاسفة و نقاد الادب و علماء اللسانيات مسالة تحديد مفهوم الادب و الادبية و تعريف ما يسمح للمتلقي بتجربة الادب بوصفه ادبا. و يبدو ان ثمة اتفاق شبه ضمني حول عدم توفر تعريف جامع مانع و تجريدي للأدب والأدبية ولم تقدم اجابات وافية لتساؤل قديم متجدد حول ماهية الادب.
صنف تودوروف تعريفات الادب الى نوعين رئيسين؛ يؤكد الأول ان الادب لغة تستعمل لأغراض المحاكاة (لصنع التخييل)، في حين يؤكد الثاني على ان الادب لغة تستعمل بطريقة ممتعة جماليا و تجذب الانتباه الى نفسها بوصفها وسطا. و يرى ديفيد لوج في كتابه انماط الكتابة الحديثة (1979) ان ثمة ارتباط جوهري بين هذين النوعين حيث يبرز مصطلح اخر يضاف الى الادبية و هو FICTIONALITY الذي ينطوي على القص و التخييل: اذن اذا كان التخييل بهذا المعنى فإننا نجد ان ثمة ادب لا ينطوي على قص خيالي كما هو الحال بالنسبة الى الشعر الغنائي و ثمة قص ليس خياليا و ليس ادبا كما هو الحال بالنسبة للاعلان التجاري بشكل سردي. لذا يتطلب الامر هنا توسيع مصطلح القصص التخييلي ليغطي القضايا و التوصيفات طالما ان قدرا كبيرا من الادب يتألف من القضايا و ليس من التوصيفات( الشعر الغنائي مثلا).
لقد عززت الجهود المبذولة لتطبيق نظرية افعال الكلام لاوستن في نظرية الادب فهمنا لما يكمن في التفوه المحاكي بيد انها لم تستطع ان تفسر كيف تكتسب الكتابة الواقعية بالقصد مكانة الادب. يرى ريتشارد اوهمان في دراسته الموسومة افعال الكلام و تعريف الادب) ان النصوص الادبية تتبع الشروط التي وضعها اوستن لافعال الكلام و خصوصا النجاح الانجازي، لذا يقترح ان العمل الادبي خطاب تنقص جمله القوة الانجازية (المحاكية) .. ان العمل الادبي يحاكي ايهاميا سلسلة من افعال الكلام لا وجود لها حقيقة و لذلك يقود القاريء الى تخيل متكلم و موقف و مجموعة من الاحداث الملحقة. و يحدد اوهمان تعريف الادب التخييلي مستثنيا التاريخ و العلم و السيرة ..الخ من معادلته. لذا فهو ملزم بالقول ان رواية مثل بدم بارد للروائي ترومان كابوتي عمل ليس ادبيا لأنها تستند الى و تعمل على وفق معايير اوستن. و يستعمل جون سيرل في مقالته المكانة المنطقية للقص المصطلحات نفسها للتمييز بين الخطاب التخييلي و الخطاب اللاتخييلي و يتوصل الى ان من غير الممكن التمييز شكليا بين الخطاب الادبي و الخطاب اللا ادبي.
اما النوع الثاني من التعريفات فيمكن ان نجد جذورا لها في البلاغة الكلاسيكية و تقرن هذه النظرية الادب بوفرة العبارات و الاشكال الخاصة أو غزارتها، فالباحثة رقية حسن ترى ان تكرر ادوات مميزة في الاعمال النثرية الطويلة يختلف جوهريا عن تكرر نفس الادوات في مقالة صحفية مثلا. و بهذا الخصوص تعد طروحات مدرسة براغ من المحاولات لجادة التي تنص على ان الخطاب الادبي يتصف بالتفعيل المتماسك و المنتظم و التفعيل مصطلح مركزي في ادوات مدرسة براغ: يتعارض عند هذه المدرسة الفكرية الجمالي مع النفعي، فكل عنصر في الخطاب يجذب الانتباه الى ذاته بدلا من كونه مجرد وسيلة ناقلة للمعلومات و يستند التفصيل الى مهاد من المكونات المؤتمنة، اي اللغة المستعملة طرق اعتيادية و قابلة للتنبوء الى درجة لا تجذب الانتباه. لقد عرف موكاروفسكي التفعيل على انه ” تصحيف قصدي جماليا للمكونات اللغوية” و بذا لايختص الادب وحده بالتفعيل ، فاستعمال التورية مثلا في المحادثات اليومية هو تفعيل و لا يتبع التفعيل عرف لغويا واحدا وذلك لان ما يؤتمن في نوع من الخطاب قد يفعّل عند نقله الى خطاب من نوع اخر( استعمال الرطانة التقنية في محادثة يومية بين الاصدقاء) اذا فان ما يميز الخطاب الادبي ليس تكرار المكونات المفعّلة بل سمة التماسك و الانتظام في التفعيل فضلا عن ان المهاد و التفعيل و العلاقة بينهما تتعلق جماليا في حين ان الامر يختلف في الخطاب اللا أدبي ذلك ان المكونات المفعلة هي المتعلقة جماليا فقط. ويعد مهاد الخطاب الادبي ازدواجيا لكونه يتكون من اللغة الاعتيادية و المروث الادبي، و يمكن اضافة نوع آخر من المهاد وهو الاعراف اللغوية التي يؤسسها العمل الادبي لنفسه.
يعد التفعيل معيارا كفوءا و مناسبا لأدبية النص، بيد ان رقية حسن تعتقد ان التفعيل الادبي يتطلب نوعا من التحفيز على التفسير وهو امر موجود في وحدة النصوص الادبية، وحدة الموضوع او الثيمة التي تنظم نمو الخطاب دون حضورهما فعليا فيه. هناك مستويان من الترميز: الاول هو باستعمال الشفرة اللغوية لترميز مواقف و سيرورات ، و الثاني هو استعمال هذه المواقف و السيرورات لترميز مجموعة ثيمية؛ ثيمة العمل هي تعليم و تجريد و مجموعة المواقف هي تمظهر لمبدأ اساس. هذا الموقف يقترب كثيرا من تعريف ارسطو للشعرية بوصفها التبير عن العام بالخاص حيث يعادل ارسطو االادب بالتخييل و يستثني التاريخ و الفلسفة وهذا ما تنطوي عليه ضمنيا نظرية رقية حسن.
من سمات القراءة الادبية تساؤلنا حول هدف النص و ما يتحدث عنه، و نحن نعرف ضمنا ان الاجابة ليست بسيطة’ اننا لا نفك شفرة الرسالة الادبية بل نؤولها و قد نحصل منها على معلومات اكبر مما كان المرسل على وعي به – ان الخطاب منفتح على نوع التأويل نفسه. و كتاب بارت اساطير خير مثال على كيفية اكتشاف المستوى الثاني من الترميز بحسب مفهوم رقية حسن.
ان مبدأ التنظيمي الذي تبحث عنه رقية حسن في الثيمة هو ما يطلق عليه منظروا براغ ”المهيمن”: المكون الذي يحرك و يوجه علاقات جميع المكونات الاخرى وطالما ان الادب ليس عن العالم الواقعي فلا يمكن ان يكون عن نفسه (الوظيفة الشعرية عند ياكوبسن).
و عند النظر ثانية في تعريف ياكوبسن و موكاروفسكي للأدبية نجد ان التعريف هذا ينحاز الى انواع الادب المنزاحة و لا يشمل انواع الادب التي يتمركز فيها العنصر التواصلي و التأشيري ( القص الواقعي او السيرة الذاتية، مثلا). يرفض ستانلي فيش تعريف ياكوبسن (ناقص الرسالة) لكنه في عين الوقت لا يؤيد تعريف الادب(زائد الرسالة) الذي ينص على ان الادب هو ((حامل اكثر تأثيرا للرسائل التي تنقلها اللغة الاعتيادية)) و ذلك لان مؤيدي وجهة النظر هذه يهتمون بالاعمال الهابطة التي لا تعكس عناصر الاسلوب و لا تقدم اي محتوى قضوي .
يرى كل من فيش و تودوروف ان التعريفات المتوفرة للادب تفشل لكونها تستبعد النصوص التي يمكن تعريفها براغماتيا بوصفها ادباز ان الخطأ بحسب ما يرى تودوروف هو بناء او تثبيت ارتباط بين الادب و اللاادب ((من وجهة لنظر البنيوية، كل نوع من الخطاب يشار اليه عادة بالادبية يمتلك قرابات لا ادبية …)) يمكن القول هنا ان (( الشعر الغنائي مثلا يرتبط بالترانيم الدينية بقدر اكبر من ارتباطه بالاعمال الروائية التاريخية، لذا يمكننا اتبدال التعارض بين الادب و اللاادب بتصنيف لخطابات الى انواع))، و مع ذلك لم يقدم فيش طريقة خاصة للتمييز بين النماذج الادبية و النماذج اللاادبية ضمن نوع من الخطابات و اوضح بان (( الادب .. صنف مفتوح.. لما نقرر ان نضع فيه)).
و فضلا عن ذلك، ثمة اضطراب في التمييز بين الشكل اللغوي للعمل الادبي و وظيفة لغته في مجال توصيل المعنى. لقد ميّز هـ . جي ويديسون بين الاثنين مستعملا مصطلحي النص و الخطاب حيث يعتقد ان الادب لا يتطلب ان يكون انزياحا لكونه نصا بيد انه يجب ان يكون انزياحا بوصفه خطابا و من المصطلحات المهمة للتعبير عن الانزياح مصطلح التخييل fictionality الذي ذكرناه انفا. يرى ديفيد لوج ان الخطاب الادبي اما ان يكون تخييليا على نحو جلي او ان يقرأ لكونه كذلك و ما يسمح بهذه القراءة هو التنظيم البنائي لاجزاءه المكونة و لتفعيله المنتظم و يؤكد ويديسون في السياق نفسه على ان :
ما يميز فهمنا للخطاب الادبي هو استناده الى ادراكنا لقوالب من التنظيم اللغوي مفروضة عليه، كما هو الحال بالنسبة للقوالب التي تتطلبها الشفرة. و الى استدلالنا على القيم الخاصة التي تعقدها العناصر اللغوية في هذه القوالب المشكلة.
يقترح كولر في الشعرية البنيوية ان النصوص الادبية هي تخييل و مكن ان نضع هذا كعرف للتأويل الادبي و نقول ن قراءة نص ما بوصفه ادبا هي قراءته بوصفه تخييلا. و كولر في هذا التوجه مثله مثل تودوروف و فيش ( رغم الاختلاف في الاساس النظري بينهم) يرى ان الادب يمكن ان ينظر فيه بواسطة عملية القراءة- انه صنف من اجراءات القراءة و ليس خصيصة من خصائص النصوص. لكن هذا التوكيد على اعتماد الادب على انماط خاصة من القراءة هو نصف الحقيقة اما النصف الثاني هو اعتماد تلك الانماط على وجود الادب و هذه عملية جدلية بحتة. و النقطة الجوهرية ان الادب ليس مجموعة نصوص و جدت مصادفة و قررنا تلقائيا قراءتها بطريقة معينة. ان معظم الخطاب الذي نقرأه بوصفه ادبا هو على احد المستويات تعبير عن قصدية كتابة الادب و من هذا الخطاب نستقي اعراف و قوانين التأويل التي يطلق عليها كولر الكفاءة الادبية. لذا فأن المقاربة البنيوية تقدم طروحات تؤكد على ان الكتابة تتطلب القراءة لاكتمالها بيد انها في عين الوقت تعلّم نوع القراءة التي تتطلبها الكتابة.
من هنا يمكن القول ان الادب صنف مفتوح بمعنى ان المرء يستطيع نظريا ان يضع اي نوع من الخطاب فيه بشرط ان خطابا من هذا النوع يشترك بشئ ما مع الصنف لا يستطيع المرء اخراجه منه.
- عيسى بلخباطعضو جديد
- البلد :
الجنس :
عدد المساهمات : 9
نقاط تميز العضو : 95690
تاريخ التسجيل : 22/10/2011
العمر : 44
رد: أدبية الادب
22/10/11, 02:23 pm
من تحولات القرن العشرين الطلائعية:
مدرسة الشكلانية الروسية ..
بقلم الباحثة البولندية: ستيفانيا سكفارجينسكا
ترجمة : عدنان المبارك
تحتل الشكلانية الروسية في تأريخ علم الأدب مكانا متميزا . فهي قد حققت الكثير ، رغم عمرها القصير البالغ 15 سنة، أي منذ الحرب العالمية الأولى لغاية مطلع الثلاثينات ، وقد إكتسبت إنجازاتها أهمية متزايدة طيلة العقود التالية . وكانت مبادراتها الفكرية رغم أحوال المقاومة تنداح في دوائر أوسع فأوسع ، إذ لا يقتصر الأمر على المعرفة الأدبية المشبعة بأفكار هذه المدرسة والتي تطور عدد من مفاهيما على أساس البنوية الألسنية لما يسمى بحلقة براغ الألسنية والتي لقيت الإزدهار بعد الحرب العالمية الثانية فيما يخص البنيوية الألسنية في أوربا والعالم ، بل هناك الأبحاث السيميائية الحديثة التي تدين للشكلانية الروسية بالفضل في إمتلاكها لمثل هذا النطاق الكبير من المواد والقضايا حتى أنه في الغرب شاع حينها رأي بالغ الحماس مفاده أن هذه المدرسة قد عملت بصورة جوهرية على بناء الأسس المعاصرة للعلوم الإنسية.
كان نعت الشكلانية قد ألصقه بالمدرسة خصومها، وبعدها أخذ به الشكلانيون أنفسهم. و إذا خص الأمر الخلفيات الفكرية للمدرسة علينا الرجوع الى مجموعة كبيرة من التيارات والمواقف في الفلسفة والأستيتيكا والبحوث الأدبية منذ نهاية القرن الثامن عشر لغاية القرن العشرين. وهناك من يربطها بالكانطية والكانطية الجديدة وكل النزعات الشكلية في الفلسفة والأستيتيكا ونظريات الفن بمختلف تياراتها اي من الشكلانية الراديكالية عبر المعتدلة ولغاية صيغتها الخاصة بمورفولوجيا العمل الأدبي ، وهذا قرّب المدرسة الروسية من ( النقدية الجديدة ). كذلك كانت هناك تأثيرات من مدرسة بادن الإيديوغرافية "1" وظاهراتية هوسيرل التي تمثلت بمؤلفه ( الفحص المنطقي ) من عام 1902 ونزعته المعارضة ل(السايكولوجية ) وفرضيته عن النتاجات ( المثالية ) التي تملك وجودا مستقلا . كما لايمكن تجاهل تأثيرات علوم اللغة المتكرسة للنص وإهتماماتها بالجانب الشكلي لنتاجات اللغة في مدار الذرائعية ، أو تأثيرات الألسنية الوظائفية الفرنسية ( غرامون مثلا ) وبنيوية دي سوسير والشبه القائم بين المدرسة الروسية في مراحل تطورها الأولى وبين ما يسمى بالمثالية الجديدة في الأبحاث اللغوية - الأسلوبية لدي فوسلير مما أدى فيما بعد الى نشوء أفكار كروتشه والمفاهيم الرومانسية حول أبحاث همبولدت المكرسة للغة .
إلا أن الأرضية الحقيقية للشكلانية كان الواقع الروسي وتياراته الفنية ومواقفه العلمية في المعرفة الأدبية والألسنية على السواء. وكان الشكلانيون الشباب قد بلورا آراءهم في المعركة ضد الرمزية ونظريتها وضد القمّية "2" والنقد الإنطباعي ، ومن ناحية أخرى تقبلوا مفاهيم المستقبلية الروسية. وكان الشكلانيون قد تجاهلوا العلم التقليدي للأدب بسبب إفتقاده الى الوعي النظري. وتمثل سندهم الفعلي بالمعرفة الألسنية الروسية التي إمتلكت آنذاك مستويات عالية وخاصة في مراكزها الثلاثة أي جامعة موسكو حيث إنتقلت المعرفة الألسنية الى الأخذ بمراتب البنيوية وخاصة فيما يتعلق بقضايا المورفولوجيا ، ومن هذا المركز إنطلق رومان ياكوبسن ونيقولاي تروبييسكوي. كما تشكلت في موسكو ( حلقة موسكو الألسنية ) في شتاء عام 1914 . وكان المركز الآخر ينشط في جامعة كازان وإعتبر المركز الثاني للآلسنيات الحديثة بعد سوسير ، ومن هناك جاء التأثير على شعرية المستقبليين ومفاهيم علماء الأدب الشباب المنتمين الى جماعة ( أبوياز ) التي فرّقت بين أسلوب الكلام الشفوي والآخر الكتابي ، ومهدت الطريق للأبحاث حول الأشكال الطروحية ( الشفوي ينزع الى الحوار ، والكتابي صوب المونولوغ). وتحت تأثير مفهوم فقه اللغة السمعية الألماني إعتبرت النتاجات الشعرية مخصصة للسمع ، ولغرض الحصول على مادة صالحة للبحث أعدّت نظرية ( ترجمة ) لنصوص اللغة الكتابية الى نصوص اللغة الأخرى المنطوقة . وكان الجديد هنا محاولة التفسير الألسني لشعر بوشكين وليرمنتوف ، وبعدها طوّرت هذه الإشكاليات وبصورة خاصة إشكاليات المونولوغ والحوار على الضوء السيميائي والبنيوي والبسيكولوجي.
ويعود الفضل الى الشكلانية الروسية في صيرورة نظرية الأدب علما مستقلا عن علمه ، كما قامت بإرساء هذا العلم على أسس الألسنيات ، وإعتبرت أول من أخذ بمراتب البنيوية وعلم الدلالة في التفكير البحثي.
بمبادرة من أوسيب بريك نشر عدد من علماء اللغة والأدب الشباب مجموعة من الدراسات المكرسة للغة الشعرية ، في بطرسبورغ في عام 1916 ، وكانت بداية سلسلة من الإصدارات الكثيرة صارت فيما بعد لسان جماعة ( أبوياز) التي كانت قد تشكلت في مطلع عام 1917 . وكان أبرز ممثلي المدرسة هم فكتور شكلوفسكي وبوريس أيخنباوم ويوري تينيانوف من جهة ، ورومان ياكوبسن وفكتور فينوغرادوف من جهة أخرى.
وخلال عمرها القصير مرت الشكلانية بفترتين متباينتين في قضايا البحث وشكل الطرح. في الأولى كانت السائدة في نشاط المدرسة المقالات ذات الطابع الصحفي ( مقالات بريك مثلا ) وفي الثانية غلبت الكتابات العلمية البحت. وكان عام 1925 يفصل بين الفترتين إذ تميز بعملية إجمال وتركيب لما أنجزته المدرسة . وكان ذلك العام عام صدور البحث المعروف الذي كتبه أيخنباوم ( نظرية المنهج الشكلاني ) والذي شمل تخطيطا تأريخيا لهذه القضية. كذلك كان عام صدور كتاب توماشيفسكي ( نظريةالأدب ) والذي يعدّ أول تخطيط لهذه النظرية يعتمد على مفهوم وحصيلة المدرسة الشكلانية. وكان الإهتمام الرئيسي لدى الشكلانيين الشباب يتركز على موضوع اللغة الشعرية التي تناولها ياكوبنسكي حيث أقام مجابهة بين اللغتين الشعرية والجارية مدللا على أن الثانية ، وعلى العكس من الأولى ، لاتملك المشكلات الألسنية كالصوت والعناصر المورفولوجية وغيرها، قيمة مستقلة بل هي تخدم أغراص الإتصال العملية في حين أن اللغة الشعرية تخدم ( أغراضا جانبية ).
وكان لمفهوم الشكلانيين حول اللغة الشعرية كنظام لغوي ، علاقة ملموسة ببعض مفاهيم المستقبليين الروس والخاصة باللغة ومحاولاتهم التجريبية في الشعر. والقصد هنا هو مفهوم اللغة ( خارج العقلية ) أي" زاؤمنوي" بالروسية ، والشعر ( خارج العقلي ) الذي هو مشدود بظواهر كلغط الطفل أو الكلمات - التعاويذ السحرية أو الأخرى ( غير المنطقية ) في الفولكلور ، كذلك سعى الشكلانيين والمستقبليين الى مهاجمة نظرية الرمزيين الذين لم يتخطوا في آرائهم حول صوتية اللغة في الشعر مقولة إتفاقها مع المعنى الخارجي للشعر وعلى ضوء العلاقة مع اللغة ( مثلا التنظيم التسموي لصوتية اللغة في الشعر ). وفي الموقف المؤيد للمستقبليين منح شكلوفسكي وياكوبنسكي صوتية اللغة الشعرية إستقلالا كاملا. مثلا وجد شكلوفسكي في دراسته حول الشعر واللغة خارج العقلية من عام 1916 ، في العمل الشعري معنى خاصا به لايعتمد على المعنى المدلولي للكلمات. كذلك نجده يتساءل : ألا يقضي والحالة هذه معنى الكلمات عند تلقي العمل الشعري على المعنى المستقل لصوتية اللغة وبذلك يزيف هذا العمل ؟. وبدافع الإنسحار بالبعد الصوتي للغة الشعرية وسيميائيتها الخاصة هوجمت ، بعنف ، النظرية التقليدية للصورية كمقرّر للشعر والتي آخذ بها الرمزيون.
وقاد التركيز على اللغة الشعرية وبعدها الصوتي بشكل خاص ، الشكلانيين الى البحوث المكرسة لأسس علم النظم الشعري . وكانت حلقة الوصل بين هاتين المنطقتين من الإشكالية قد تمثلت بدراسة بريك المكرسة لأحوال التكرار الصوتي ( سلسلة الأصوات ) في العمل الشعري. وهنا يجتاز المؤلف منطقة علم الدلالة مبيّنا أن كل تكرار صوتي يأتي بمعنى جديد. كذلك كانت هناك التأملات في موضوع العلاقة بين اللغتين الشعرية والإنفعالية التي تكون أكثر قربا من الأولى بالنسبة للغة العملية ، كما كرست التأملات لموضوع ( الدستور ) الصوتي للبيت الشعري ( دراستا ياكوبنسكي وياكوبسن حول الشعر الروسي المعاصر مثلا ). وقد برزت في فحوصات الشكلانيين قضية التنغيم كمبدأ هيكلي للبيت الشعري ، فهناك دراسة أيخنباوم ( ميلوديا الشعر الغنائي الروسي ) والعروض والإيقاع في الشعر والنثر ( دراسة توما شيفسكي عن البيت الشعري) والعلاقة بين الإيقاع وعلم الدلالة في الشعر( فحوصات تينيانوف في اللغة الشعرية ). ويعدّ تغيير بناء علم النظم الشعري من الإنجازات التي تميزت بها مدرسة الشكلانية ولقيت الإعتراف عامة. وفي الوقت نفسه تفرغ هؤلاء لبحث نوعية الأدب والتنظيم الداخلي للعمل الأدبي ومن موقع مناهض للفحوص الأدبية التقليدية التي تسترشد بمعايير بسيكولوجية وسوسويولوجية وفلسفية وأخلاقية وبيوغرافية. وقد أعلنوا أن موضوع الأدب هو نوعية الأدب و( أدبيته) وفق صياغة ياكوبسن. وبعد حالات تردد رسمت حدود منطقة الأدب لكن في البدء قال بعض الشكلانيين إن ( الأدب النقي ) هو الشعر فقط ، فخامته هي تلك ( اللغة الشعرية ) المؤسطرة ، أما النثر فهو منطقة اللغة الجارية ، وفي أحسن الأحوال اللغة الإنفعالية مما قرّب بعض أنواع النثر من الشعر. وفي المحصلة إنتصر موقف أيخنباوم وشكلوفسكي والذي يفيد بأنه ينتمي الى الأدب كل من الشعر والنثر الفني أي كل عمل فني. فما يجمع الأثنين حقيقة أن جميع عناصر العمل الفني ، من الفكرة الى الإيقاع ، هي عوامل فنية ، وإذا كان العمل يحويها فالسبب يرجع الى صفتها هذه لاغيرها. ونلقى ذلك بشكل خاص في دراسة شكلوفسكي المعروفة ( الفن كمسكة ) من عام 1917 والتي تتشكل فيها نظرية العمل اللغوي المتميزة بطابعها التقنوي. وما يقرر النوعية الأدبية للعمل سبل تنظيم الخامة اللغوية كالمسكات ومعدلات مجرى العمل إلخ. أما ميدان هذه المسكات فهو جميع أبعاد العمل الأدبي وبضمنها الموضوع ونظام البواعث ، وفي النتيجة يكف الموضوع عن أن يكون ( كتلة معدومة الشكل ) بل يصبح نسيجا فنيا منظما بواسطة المسكات وبأسلوب يراعي كامل العمل الفني. وفي بحوثه المكرسة للنثر يسعى شكلوفسكي الى تحديد القوانين الداخلية المتحكمة ببنية العمل الأدبي مع الإنتباه الى كليته وليس عناصره وحدها ، وبذلك يقترب من مفهوم الوظيفة البنيوية. وقاد هذا الطريق الشكلانيين إلى تناول نظرية الأصناف الأدبية ، ونقصد شكلوفسكي ونظريته حول النثر ، وسكافتينوف ودراسته للشعرية وأصل الحكايات البطولية الشعبية الروسية، وبروب ومؤلفه عن مورفولوجيا الحكاية. بالرغم من أن شكلوفسكي لم يحدد بدقة ، تلك المسكات فهو قد وفر الأساس لتكامل طرائقية معيّنة في وصف الأعمال الأدبية وتفسيرها.
أما فترة التطور الثانية للمدرسة الشكلانية والتي لم تفقد روحها الطلائعية وإنتقلت الى مواقع علمية أكثر وضوحا وبعدها صارت الأساس وليس فقط لبعض أفكار ( حلقة براغ الألسنية ) بل للمدرسة الألسنية المعاصرة والأخرى السيميائية ، فهي تسمى ، عادة ، بفترة التغلب على الأخطاء والسعي الى التركيب وتوسيع آفاق علم الأدب ، وتناول مسائل كانت قد أهملت في الأبحاث الأدبية . وكان الممثل الرئيسي لتلك الفترة هو تينيانوف الذي إعتمد على ما حققه شكلوفسكي وايخنباوم في مجال تثبيت النزعة الألسنية والسيميائية وريادتهما فيما يخص الإقتراب من مفهوم الوظيفة وعدد من المفاهيم اللصيقة بأسس نظرية الإعلام ، ومن ثم قام بطرح نظرية الواقع التركيبية وليس الواقع الأدبي وحده بل الآخر الموضوعي الذي كان مهما للأدب من خلال تحديد مكانه فيه. ونشر هذا الشكلاني معظم ابحاثه الأكثر أهمية في مجموعة ( قدامى ومجددون) من عام 1929. وكان أمرا مهما تفريق تينيانوف بين شكل العنصر الأدبي ووظيفته وبذلك الإشارة الأدبية ، كذلك مقولته بأن في الأدب ( في النظام الدال من الدرجة الثانية ) تكون هاتان الفكرتان غير منفصلتين بل هما مصهورتان معا، فإلى شكل الإشارة الادبية لاتعود فقط دلالتها اللفظية ( والسبب هو أن الإشارات الأدبية هي إشارات لغوية ) بل جميع الدلالات التي كسبتها الإشارة الأدبية من خلال شتى الوظائف التي أداها قوامها في العمل الأدبي والأدب على شتى مستوياته أيضا. وتكون فكرة الدلالة الوظائفية مهمة بشكل خاص في الأدب إذ انها تطرح على مستو واحد عناصر مادته غير المتجانسة كالإيقاع والبنية الصوتية والأخرى الفينولوجية " 3 " ووسائط التكوين، والمفردات البلاغية والعناصر الحكائية. ويجد تزفيتان تودوروف أن مفهوم تينيانوف حول الوظيفة ذو أهمية كبيرة . ويقول إنها تتكشف على عدة مستويات . مثلا يكون المستوى الأول ( الدخول في علاقة ) هو مستوى ( الوظيفة الإنشائية ) مما يعني إمكانية إدخال الإشارات في العمل الأدبي. والثاني هو مستوى ( الوظيفة الأدبية ) أي إدخال المؤلفات في الأدب ، والثالث هو مستوى ( الوظيفة الشفاهية ) التي يتكامل الأدب بفضلها مع كامل الحقائق الإجتماعية . ويعادل هذا المفهوم للوظيفة قضية تحديد نظام الوصف والذي هو مهم بشكل خاص إذ يحول دون إختلاط المستويات مما قد يؤدي الى تغيرات زائفة للمعاني. ولدى الشكلانيين يملك مبدأ المراتبية هذا أهمية جوهرية . وينتبه تودوروف الى أن في داخل كل طبقة مرتبية تنتظم الأشكال والوظائف في منهج وليس في مجموعات بسيطة. وكل منهج منها يعكس أحد أبعاد الواقع المتجانسة والتي يسميها تينيانوف ب(المسلسلات )، وهكذا الى جانب المسلسل الأدبي في عصر معيّن توجد وليس فقط المسلسلات الموسيقية والمسرحية إلخ بل مسلسلات الحقائق الإقتصادية والإجتماعية والسياسية إلخ. وعندما نبذ تينيانوف النظام المنطقي للعلاقات أصبح موقع رؤيته يشمل الواقع الأدبي والآخر خارج الأدبي بل أنه ربط بحوثه البنيوية بالبعد التأريخي. وهو أمر آخر إذا كانت هذه الصورة المنضدة للواقع و(النقية) منطقيا ، توائم طبيعته الجوهرية وحالات الشيء السائدة فيه أم لا.
ولم يكن هناك فقط طريق تينيانوف والذي قاد في الفترة التالية أي الثانية من تطور الشكلانية ، الى التركيب المتميز لأبعاد الأدب هذه ، والتي كانت موضع الدرس في الفترة الأولى ، بل هناك الطريق الآخر الذي تمثلت نهايته ، كما نعتقد ، بمؤلف ميخائيل باختين ( قضايا شعرية دوستويفسكي ) من عام 1929 أي عام صدور دراسة تينيانوف ( قدامى ومجددون ) . فالتركيب الجديد ألحق بالتحليل أو بالأحرى التفكير المبتكر لفن كاتب واحد. وتكمن عند أسس هذا التركيب مقوّمات نظرية الإعلام: قضية طارح البيان - الرواية - المؤلف وفي عالم مقدّم ، عالم الرواة - الشخصيات ، كذلك مسألة المتلقي وفي أطر عالم مختلق. وفي تركيبيته يوّظف باختين نظرية الأسلوب ( وخاصة الأسلبة والمحاكاة الساخرة ) ونظرية أشكال الطرح وخاصة الحوار والمونولوغ ونظرية الأصناف الأدبية وفي الأخير المشغل الفني . وعند تناوله نتاج دوستويفسكي بنيويا بلغ باختين مفهوما متميزا للرواية ( المتعددة الأصوات ) أي المشيّدة بالشكل الذي تحررت فيه الشخصيات من العبء التقليدي : عرض آراء المؤلف. ومن خلال تفسيره لعمل دوستويفسكي حقق باختين بعدا تأريخيا معيّنا لأبحاثه البنيوية خصّ تاريخ المشغل الفني في كتابة الرواية .
وفي مطلع الثلاثينات كانت الشكلانية الروسية في حالة دفاع أمام الإتجاه الماركسي الذي إعتبر في حقل المعرفة الأدبية الأساس الأيدولوجي في الإتحاد السوفيتي وحقق الإنتصار النهائي بمعونة عوامل معروفة كانت خارج بحثية. وكان الهجوم قد تركز على طرائقية الشكلانيين وليس كما يذكر المؤرخون الماركسيون على إنجازاتهم التحليلية التي صارت موضع الإعتراف مع مرور الزمن وبعد محو نعت اللاتأريخية عنها والإبراز النسبي لبعدها التاريخي ومن ثم تخصيص مكان لها وخاصة لأعمال شكلوفسكي وباختين في منجزات العلم آنذاك. وفي النهاية كفت الشكلانية كمدرسة ، عن النشاط في مطلع الثلاثينات إلا أن أسسها وعددا من مفاهيمها كانت ، كما تبين ، حيوية في المدار الأوربي. و الأكيد أن أسباب ذلك تعود الى الشبه القائم بين بعض إتجاهاتها البحثية والإتجاهات الأخرى مثل الوجهة السيميائية ل( النقدية الجديدة) والأخرى الألسنية للأستيتيكية العقلانية الفرنسية ( فاليري ) أو البحوث والأنشطة البولندية ، إلا أن الصلة الأوثق بالشكلانية الروسية إمتلكتها ( حلقة براغ الألسنية ) من الثلاثينات. ومنها تطور الإتجاه بصورة دينامية أثناء الحرب وبعدها في الولايات المتحدو وأوربا على يد خالقه وزعيمه رومان ياكوبسن. ومعلوم أن هذه الشكلانية لعبت دورا بارزا في بلورة مفاهيم الشكلانية الجديدة في فرنسا ( " تل كيل " ، تودوروف ، كريستيفا ) وإنجلترا.
~~~~~~~~~~~~~~~~~
هوامش المترجم :
"1" - الإيديوغرافيا منهج يخص منح الشيء فكرة بمساعدة الإشارة أو الرمز ، أو كونها نظاما كتابيا تحل فيه الإشارة محل الحرف.
"2" - القمّية إتجاه في الشعر الروسي نشأ حوالي عام 1910 ، وكان جوهره يتمثل في الكلاسية المحدّثة والعداء للرمزية ، والعودة الى اللغة الجارية ( العملية ).
" 3 " - تعني الفينولوجيا بالضبط العلم المتفرغ لفحص الظواهر الوقتية في الحياة العضوية .
مدرسة الشكلانية الروسية ..
بقلم الباحثة البولندية: ستيفانيا سكفارجينسكا
ترجمة : عدنان المبارك
تحتل الشكلانية الروسية في تأريخ علم الأدب مكانا متميزا . فهي قد حققت الكثير ، رغم عمرها القصير البالغ 15 سنة، أي منذ الحرب العالمية الأولى لغاية مطلع الثلاثينات ، وقد إكتسبت إنجازاتها أهمية متزايدة طيلة العقود التالية . وكانت مبادراتها الفكرية رغم أحوال المقاومة تنداح في دوائر أوسع فأوسع ، إذ لا يقتصر الأمر على المعرفة الأدبية المشبعة بأفكار هذه المدرسة والتي تطور عدد من مفاهيما على أساس البنوية الألسنية لما يسمى بحلقة براغ الألسنية والتي لقيت الإزدهار بعد الحرب العالمية الثانية فيما يخص البنيوية الألسنية في أوربا والعالم ، بل هناك الأبحاث السيميائية الحديثة التي تدين للشكلانية الروسية بالفضل في إمتلاكها لمثل هذا النطاق الكبير من المواد والقضايا حتى أنه في الغرب شاع حينها رأي بالغ الحماس مفاده أن هذه المدرسة قد عملت بصورة جوهرية على بناء الأسس المعاصرة للعلوم الإنسية.
كان نعت الشكلانية قد ألصقه بالمدرسة خصومها، وبعدها أخذ به الشكلانيون أنفسهم. و إذا خص الأمر الخلفيات الفكرية للمدرسة علينا الرجوع الى مجموعة كبيرة من التيارات والمواقف في الفلسفة والأستيتيكا والبحوث الأدبية منذ نهاية القرن الثامن عشر لغاية القرن العشرين. وهناك من يربطها بالكانطية والكانطية الجديدة وكل النزعات الشكلية في الفلسفة والأستيتيكا ونظريات الفن بمختلف تياراتها اي من الشكلانية الراديكالية عبر المعتدلة ولغاية صيغتها الخاصة بمورفولوجيا العمل الأدبي ، وهذا قرّب المدرسة الروسية من ( النقدية الجديدة ). كذلك كانت هناك تأثيرات من مدرسة بادن الإيديوغرافية "1" وظاهراتية هوسيرل التي تمثلت بمؤلفه ( الفحص المنطقي ) من عام 1902 ونزعته المعارضة ل(السايكولوجية ) وفرضيته عن النتاجات ( المثالية ) التي تملك وجودا مستقلا . كما لايمكن تجاهل تأثيرات علوم اللغة المتكرسة للنص وإهتماماتها بالجانب الشكلي لنتاجات اللغة في مدار الذرائعية ، أو تأثيرات الألسنية الوظائفية الفرنسية ( غرامون مثلا ) وبنيوية دي سوسير والشبه القائم بين المدرسة الروسية في مراحل تطورها الأولى وبين ما يسمى بالمثالية الجديدة في الأبحاث اللغوية - الأسلوبية لدي فوسلير مما أدى فيما بعد الى نشوء أفكار كروتشه والمفاهيم الرومانسية حول أبحاث همبولدت المكرسة للغة .
إلا أن الأرضية الحقيقية للشكلانية كان الواقع الروسي وتياراته الفنية ومواقفه العلمية في المعرفة الأدبية والألسنية على السواء. وكان الشكلانيون الشباب قد بلورا آراءهم في المعركة ضد الرمزية ونظريتها وضد القمّية "2" والنقد الإنطباعي ، ومن ناحية أخرى تقبلوا مفاهيم المستقبلية الروسية. وكان الشكلانيون قد تجاهلوا العلم التقليدي للأدب بسبب إفتقاده الى الوعي النظري. وتمثل سندهم الفعلي بالمعرفة الألسنية الروسية التي إمتلكت آنذاك مستويات عالية وخاصة في مراكزها الثلاثة أي جامعة موسكو حيث إنتقلت المعرفة الألسنية الى الأخذ بمراتب البنيوية وخاصة فيما يتعلق بقضايا المورفولوجيا ، ومن هذا المركز إنطلق رومان ياكوبسن ونيقولاي تروبييسكوي. كما تشكلت في موسكو ( حلقة موسكو الألسنية ) في شتاء عام 1914 . وكان المركز الآخر ينشط في جامعة كازان وإعتبر المركز الثاني للآلسنيات الحديثة بعد سوسير ، ومن هناك جاء التأثير على شعرية المستقبليين ومفاهيم علماء الأدب الشباب المنتمين الى جماعة ( أبوياز ) التي فرّقت بين أسلوب الكلام الشفوي والآخر الكتابي ، ومهدت الطريق للأبحاث حول الأشكال الطروحية ( الشفوي ينزع الى الحوار ، والكتابي صوب المونولوغ). وتحت تأثير مفهوم فقه اللغة السمعية الألماني إعتبرت النتاجات الشعرية مخصصة للسمع ، ولغرض الحصول على مادة صالحة للبحث أعدّت نظرية ( ترجمة ) لنصوص اللغة الكتابية الى نصوص اللغة الأخرى المنطوقة . وكان الجديد هنا محاولة التفسير الألسني لشعر بوشكين وليرمنتوف ، وبعدها طوّرت هذه الإشكاليات وبصورة خاصة إشكاليات المونولوغ والحوار على الضوء السيميائي والبنيوي والبسيكولوجي.
ويعود الفضل الى الشكلانية الروسية في صيرورة نظرية الأدب علما مستقلا عن علمه ، كما قامت بإرساء هذا العلم على أسس الألسنيات ، وإعتبرت أول من أخذ بمراتب البنيوية وعلم الدلالة في التفكير البحثي.
بمبادرة من أوسيب بريك نشر عدد من علماء اللغة والأدب الشباب مجموعة من الدراسات المكرسة للغة الشعرية ، في بطرسبورغ في عام 1916 ، وكانت بداية سلسلة من الإصدارات الكثيرة صارت فيما بعد لسان جماعة ( أبوياز) التي كانت قد تشكلت في مطلع عام 1917 . وكان أبرز ممثلي المدرسة هم فكتور شكلوفسكي وبوريس أيخنباوم ويوري تينيانوف من جهة ، ورومان ياكوبسن وفكتور فينوغرادوف من جهة أخرى.
وخلال عمرها القصير مرت الشكلانية بفترتين متباينتين في قضايا البحث وشكل الطرح. في الأولى كانت السائدة في نشاط المدرسة المقالات ذات الطابع الصحفي ( مقالات بريك مثلا ) وفي الثانية غلبت الكتابات العلمية البحت. وكان عام 1925 يفصل بين الفترتين إذ تميز بعملية إجمال وتركيب لما أنجزته المدرسة . وكان ذلك العام عام صدور البحث المعروف الذي كتبه أيخنباوم ( نظرية المنهج الشكلاني ) والذي شمل تخطيطا تأريخيا لهذه القضية. كذلك كان عام صدور كتاب توماشيفسكي ( نظريةالأدب ) والذي يعدّ أول تخطيط لهذه النظرية يعتمد على مفهوم وحصيلة المدرسة الشكلانية. وكان الإهتمام الرئيسي لدى الشكلانيين الشباب يتركز على موضوع اللغة الشعرية التي تناولها ياكوبنسكي حيث أقام مجابهة بين اللغتين الشعرية والجارية مدللا على أن الثانية ، وعلى العكس من الأولى ، لاتملك المشكلات الألسنية كالصوت والعناصر المورفولوجية وغيرها، قيمة مستقلة بل هي تخدم أغراص الإتصال العملية في حين أن اللغة الشعرية تخدم ( أغراضا جانبية ).
وكان لمفهوم الشكلانيين حول اللغة الشعرية كنظام لغوي ، علاقة ملموسة ببعض مفاهيم المستقبليين الروس والخاصة باللغة ومحاولاتهم التجريبية في الشعر. والقصد هنا هو مفهوم اللغة ( خارج العقلية ) أي" زاؤمنوي" بالروسية ، والشعر ( خارج العقلي ) الذي هو مشدود بظواهر كلغط الطفل أو الكلمات - التعاويذ السحرية أو الأخرى ( غير المنطقية ) في الفولكلور ، كذلك سعى الشكلانيين والمستقبليين الى مهاجمة نظرية الرمزيين الذين لم يتخطوا في آرائهم حول صوتية اللغة في الشعر مقولة إتفاقها مع المعنى الخارجي للشعر وعلى ضوء العلاقة مع اللغة ( مثلا التنظيم التسموي لصوتية اللغة في الشعر ). وفي الموقف المؤيد للمستقبليين منح شكلوفسكي وياكوبنسكي صوتية اللغة الشعرية إستقلالا كاملا. مثلا وجد شكلوفسكي في دراسته حول الشعر واللغة خارج العقلية من عام 1916 ، في العمل الشعري معنى خاصا به لايعتمد على المعنى المدلولي للكلمات. كذلك نجده يتساءل : ألا يقضي والحالة هذه معنى الكلمات عند تلقي العمل الشعري على المعنى المستقل لصوتية اللغة وبذلك يزيف هذا العمل ؟. وبدافع الإنسحار بالبعد الصوتي للغة الشعرية وسيميائيتها الخاصة هوجمت ، بعنف ، النظرية التقليدية للصورية كمقرّر للشعر والتي آخذ بها الرمزيون.
وقاد التركيز على اللغة الشعرية وبعدها الصوتي بشكل خاص ، الشكلانيين الى البحوث المكرسة لأسس علم النظم الشعري . وكانت حلقة الوصل بين هاتين المنطقتين من الإشكالية قد تمثلت بدراسة بريك المكرسة لأحوال التكرار الصوتي ( سلسلة الأصوات ) في العمل الشعري. وهنا يجتاز المؤلف منطقة علم الدلالة مبيّنا أن كل تكرار صوتي يأتي بمعنى جديد. كذلك كانت هناك التأملات في موضوع العلاقة بين اللغتين الشعرية والإنفعالية التي تكون أكثر قربا من الأولى بالنسبة للغة العملية ، كما كرست التأملات لموضوع ( الدستور ) الصوتي للبيت الشعري ( دراستا ياكوبنسكي وياكوبسن حول الشعر الروسي المعاصر مثلا ). وقد برزت في فحوصات الشكلانيين قضية التنغيم كمبدأ هيكلي للبيت الشعري ، فهناك دراسة أيخنباوم ( ميلوديا الشعر الغنائي الروسي ) والعروض والإيقاع في الشعر والنثر ( دراسة توما شيفسكي عن البيت الشعري) والعلاقة بين الإيقاع وعلم الدلالة في الشعر( فحوصات تينيانوف في اللغة الشعرية ). ويعدّ تغيير بناء علم النظم الشعري من الإنجازات التي تميزت بها مدرسة الشكلانية ولقيت الإعتراف عامة. وفي الوقت نفسه تفرغ هؤلاء لبحث نوعية الأدب والتنظيم الداخلي للعمل الأدبي ومن موقع مناهض للفحوص الأدبية التقليدية التي تسترشد بمعايير بسيكولوجية وسوسويولوجية وفلسفية وأخلاقية وبيوغرافية. وقد أعلنوا أن موضوع الأدب هو نوعية الأدب و( أدبيته) وفق صياغة ياكوبسن. وبعد حالات تردد رسمت حدود منطقة الأدب لكن في البدء قال بعض الشكلانيين إن ( الأدب النقي ) هو الشعر فقط ، فخامته هي تلك ( اللغة الشعرية ) المؤسطرة ، أما النثر فهو منطقة اللغة الجارية ، وفي أحسن الأحوال اللغة الإنفعالية مما قرّب بعض أنواع النثر من الشعر. وفي المحصلة إنتصر موقف أيخنباوم وشكلوفسكي والذي يفيد بأنه ينتمي الى الأدب كل من الشعر والنثر الفني أي كل عمل فني. فما يجمع الأثنين حقيقة أن جميع عناصر العمل الفني ، من الفكرة الى الإيقاع ، هي عوامل فنية ، وإذا كان العمل يحويها فالسبب يرجع الى صفتها هذه لاغيرها. ونلقى ذلك بشكل خاص في دراسة شكلوفسكي المعروفة ( الفن كمسكة ) من عام 1917 والتي تتشكل فيها نظرية العمل اللغوي المتميزة بطابعها التقنوي. وما يقرر النوعية الأدبية للعمل سبل تنظيم الخامة اللغوية كالمسكات ومعدلات مجرى العمل إلخ. أما ميدان هذه المسكات فهو جميع أبعاد العمل الأدبي وبضمنها الموضوع ونظام البواعث ، وفي النتيجة يكف الموضوع عن أن يكون ( كتلة معدومة الشكل ) بل يصبح نسيجا فنيا منظما بواسطة المسكات وبأسلوب يراعي كامل العمل الفني. وفي بحوثه المكرسة للنثر يسعى شكلوفسكي الى تحديد القوانين الداخلية المتحكمة ببنية العمل الأدبي مع الإنتباه الى كليته وليس عناصره وحدها ، وبذلك يقترب من مفهوم الوظيفة البنيوية. وقاد هذا الطريق الشكلانيين إلى تناول نظرية الأصناف الأدبية ، ونقصد شكلوفسكي ونظريته حول النثر ، وسكافتينوف ودراسته للشعرية وأصل الحكايات البطولية الشعبية الروسية، وبروب ومؤلفه عن مورفولوجيا الحكاية. بالرغم من أن شكلوفسكي لم يحدد بدقة ، تلك المسكات فهو قد وفر الأساس لتكامل طرائقية معيّنة في وصف الأعمال الأدبية وتفسيرها.
أما فترة التطور الثانية للمدرسة الشكلانية والتي لم تفقد روحها الطلائعية وإنتقلت الى مواقع علمية أكثر وضوحا وبعدها صارت الأساس وليس فقط لبعض أفكار ( حلقة براغ الألسنية ) بل للمدرسة الألسنية المعاصرة والأخرى السيميائية ، فهي تسمى ، عادة ، بفترة التغلب على الأخطاء والسعي الى التركيب وتوسيع آفاق علم الأدب ، وتناول مسائل كانت قد أهملت في الأبحاث الأدبية . وكان الممثل الرئيسي لتلك الفترة هو تينيانوف الذي إعتمد على ما حققه شكلوفسكي وايخنباوم في مجال تثبيت النزعة الألسنية والسيميائية وريادتهما فيما يخص الإقتراب من مفهوم الوظيفة وعدد من المفاهيم اللصيقة بأسس نظرية الإعلام ، ومن ثم قام بطرح نظرية الواقع التركيبية وليس الواقع الأدبي وحده بل الآخر الموضوعي الذي كان مهما للأدب من خلال تحديد مكانه فيه. ونشر هذا الشكلاني معظم ابحاثه الأكثر أهمية في مجموعة ( قدامى ومجددون) من عام 1929. وكان أمرا مهما تفريق تينيانوف بين شكل العنصر الأدبي ووظيفته وبذلك الإشارة الأدبية ، كذلك مقولته بأن في الأدب ( في النظام الدال من الدرجة الثانية ) تكون هاتان الفكرتان غير منفصلتين بل هما مصهورتان معا، فإلى شكل الإشارة الادبية لاتعود فقط دلالتها اللفظية ( والسبب هو أن الإشارات الأدبية هي إشارات لغوية ) بل جميع الدلالات التي كسبتها الإشارة الأدبية من خلال شتى الوظائف التي أداها قوامها في العمل الأدبي والأدب على شتى مستوياته أيضا. وتكون فكرة الدلالة الوظائفية مهمة بشكل خاص في الأدب إذ انها تطرح على مستو واحد عناصر مادته غير المتجانسة كالإيقاع والبنية الصوتية والأخرى الفينولوجية " 3 " ووسائط التكوين، والمفردات البلاغية والعناصر الحكائية. ويجد تزفيتان تودوروف أن مفهوم تينيانوف حول الوظيفة ذو أهمية كبيرة . ويقول إنها تتكشف على عدة مستويات . مثلا يكون المستوى الأول ( الدخول في علاقة ) هو مستوى ( الوظيفة الإنشائية ) مما يعني إمكانية إدخال الإشارات في العمل الأدبي. والثاني هو مستوى ( الوظيفة الأدبية ) أي إدخال المؤلفات في الأدب ، والثالث هو مستوى ( الوظيفة الشفاهية ) التي يتكامل الأدب بفضلها مع كامل الحقائق الإجتماعية . ويعادل هذا المفهوم للوظيفة قضية تحديد نظام الوصف والذي هو مهم بشكل خاص إذ يحول دون إختلاط المستويات مما قد يؤدي الى تغيرات زائفة للمعاني. ولدى الشكلانيين يملك مبدأ المراتبية هذا أهمية جوهرية . وينتبه تودوروف الى أن في داخل كل طبقة مرتبية تنتظم الأشكال والوظائف في منهج وليس في مجموعات بسيطة. وكل منهج منها يعكس أحد أبعاد الواقع المتجانسة والتي يسميها تينيانوف ب(المسلسلات )، وهكذا الى جانب المسلسل الأدبي في عصر معيّن توجد وليس فقط المسلسلات الموسيقية والمسرحية إلخ بل مسلسلات الحقائق الإقتصادية والإجتماعية والسياسية إلخ. وعندما نبذ تينيانوف النظام المنطقي للعلاقات أصبح موقع رؤيته يشمل الواقع الأدبي والآخر خارج الأدبي بل أنه ربط بحوثه البنيوية بالبعد التأريخي. وهو أمر آخر إذا كانت هذه الصورة المنضدة للواقع و(النقية) منطقيا ، توائم طبيعته الجوهرية وحالات الشيء السائدة فيه أم لا.
ولم يكن هناك فقط طريق تينيانوف والذي قاد في الفترة التالية أي الثانية من تطور الشكلانية ، الى التركيب المتميز لأبعاد الأدب هذه ، والتي كانت موضع الدرس في الفترة الأولى ، بل هناك الطريق الآخر الذي تمثلت نهايته ، كما نعتقد ، بمؤلف ميخائيل باختين ( قضايا شعرية دوستويفسكي ) من عام 1929 أي عام صدور دراسة تينيانوف ( قدامى ومجددون ) . فالتركيب الجديد ألحق بالتحليل أو بالأحرى التفكير المبتكر لفن كاتب واحد. وتكمن عند أسس هذا التركيب مقوّمات نظرية الإعلام: قضية طارح البيان - الرواية - المؤلف وفي عالم مقدّم ، عالم الرواة - الشخصيات ، كذلك مسألة المتلقي وفي أطر عالم مختلق. وفي تركيبيته يوّظف باختين نظرية الأسلوب ( وخاصة الأسلبة والمحاكاة الساخرة ) ونظرية أشكال الطرح وخاصة الحوار والمونولوغ ونظرية الأصناف الأدبية وفي الأخير المشغل الفني . وعند تناوله نتاج دوستويفسكي بنيويا بلغ باختين مفهوما متميزا للرواية ( المتعددة الأصوات ) أي المشيّدة بالشكل الذي تحررت فيه الشخصيات من العبء التقليدي : عرض آراء المؤلف. ومن خلال تفسيره لعمل دوستويفسكي حقق باختين بعدا تأريخيا معيّنا لأبحاثه البنيوية خصّ تاريخ المشغل الفني في كتابة الرواية .
وفي مطلع الثلاثينات كانت الشكلانية الروسية في حالة دفاع أمام الإتجاه الماركسي الذي إعتبر في حقل المعرفة الأدبية الأساس الأيدولوجي في الإتحاد السوفيتي وحقق الإنتصار النهائي بمعونة عوامل معروفة كانت خارج بحثية. وكان الهجوم قد تركز على طرائقية الشكلانيين وليس كما يذكر المؤرخون الماركسيون على إنجازاتهم التحليلية التي صارت موضع الإعتراف مع مرور الزمن وبعد محو نعت اللاتأريخية عنها والإبراز النسبي لبعدها التاريخي ومن ثم تخصيص مكان لها وخاصة لأعمال شكلوفسكي وباختين في منجزات العلم آنذاك. وفي النهاية كفت الشكلانية كمدرسة ، عن النشاط في مطلع الثلاثينات إلا أن أسسها وعددا من مفاهيمها كانت ، كما تبين ، حيوية في المدار الأوربي. و الأكيد أن أسباب ذلك تعود الى الشبه القائم بين بعض إتجاهاتها البحثية والإتجاهات الأخرى مثل الوجهة السيميائية ل( النقدية الجديدة) والأخرى الألسنية للأستيتيكية العقلانية الفرنسية ( فاليري ) أو البحوث والأنشطة البولندية ، إلا أن الصلة الأوثق بالشكلانية الروسية إمتلكتها ( حلقة براغ الألسنية ) من الثلاثينات. ومنها تطور الإتجاه بصورة دينامية أثناء الحرب وبعدها في الولايات المتحدو وأوربا على يد خالقه وزعيمه رومان ياكوبسن. ومعلوم أن هذه الشكلانية لعبت دورا بارزا في بلورة مفاهيم الشكلانية الجديدة في فرنسا ( " تل كيل " ، تودوروف ، كريستيفا ) وإنجلترا.
~~~~~~~~~~~~~~~~~
هوامش المترجم :
"1" - الإيديوغرافيا منهج يخص منح الشيء فكرة بمساعدة الإشارة أو الرمز ، أو كونها نظاما كتابيا تحل فيه الإشارة محل الحرف.
"2" - القمّية إتجاه في الشعر الروسي نشأ حوالي عام 1910 ، وكان جوهره يتمثل في الكلاسية المحدّثة والعداء للرمزية ، والعودة الى اللغة الجارية ( العملية ).
" 3 " - تعني الفينولوجيا بالضبط العلم المتفرغ لفحص الظواهر الوقتية في الحياة العضوية .
- عيسى بلخباطعضو جديد
- البلد :
الجنس :
عدد المساهمات : 9
نقاط تميز العضو : 95690
تاريخ التسجيل : 22/10/2011
العمر : 44
رد: أدبية الادب
22/10/11, 02:24 pm
التناص
التناص في أبسط تعريفاته هو «وجود علاقة بين ملفوظين»، وهو في مفهومه الكلي يتجاوز ذلك ليشمل النص الأدبي في جميع نواحيه فهو: «يحيل إلى مدلولات خطابية مغايرة بشكل يمكن معه قراءة خطابات عديدة داخل القول الشعري، هكذا يتم بعث فضاء نصي متعدد حول المدلول الشعري». وبصورة أوضح نستطيع أن نقول إن التناص هو: «أحد مميزات النص الأساسية التي تحيل على نصوص سابقة عليها أو معاصرة لها». وعلى هذا فإن النص «ليس انعكاسًا لخارجه أو مرآة لقائله، وإنما فاعلية المخزون التذكري لنصوص مختلفة هي التي تشكل حقل التناص ومن ثم فالنص بلا حدود».
ولقد برز هذا المصطلح على يد جوليا كرستيفا، غير أن الولادة الحقيقية كانت على أيدي الشكلانيين الروس ـ وإن لم تكن ولادة خالصة ـ إذ «يرد في ملمح المفارقة بين النص المعارض والنص المعارَض، فليس النص المعارَض إعادة إبداع، أو كتابة على كتابة مماثلة، فلكل نص خصائصه القارّة فيه». وعلى هذا فالشكلانيون يؤمنون بالتناص من خلال تداخل النصوص وظهور أثر بعضها على بعض، رغم احتفاظ كل نص بخصوصيته ومميزاته.
وإذا كان الشكلانيون قد تنبهوا إلى مفهوم هذا المصطلح بشكل مبسط، فإن كرستيفا استطاعت أن تستنبط هذا المصطلح «التناص» من خلال قراءتها لباختين في دراسته لأعمال دستويفيسكي الروائية حيث وضع مصطلحي تعددية الأصوات والحوارية دون أن يستخدم مصطلح التناص. وبذلك تكون الرواية أول الأجناس الأدبية معملاً إجرائيًا لهذا المصطلح دون تسمية، وتكون ـ أيضًا ـ جوليا كرستيفا عام 1966م أول من استخدم هذا المصطلح قاصدة به «أن كل نص هو عبارة عن فسيفساء من الاقتباسات، وكل نص هو تشرب وتحويل لنصوص أخرى». ولقد اعتمدت في ذلك على منهج التحليل النفسي جاعلة منه «خطاب الحياة الفكرية والعقلية ومعتبرة إياه نوعًا من الملازمة الجوهرية في ثقافتنا». ورغم ذلك فإن كرستيفا انصرفت عن مصطلح التناص فيما بعد، وآثرت عليه مصطلحًا آخر هو «التنقلية» ولقد تعددت المفاهيم التناصية وتشعبت المدلولات، غير أن مصطلح التناص ظل حاضرًا عبر جميع الاتجاهات الأدبية الحديثة، وإن تباينت الثيمات الدلالية للمفهوم داخل كل اتجاه مع الاتجاه الآخر محاولة من النقاد في تبين جزيئات هذا المصطلح.
ولا شك أن الأديب لا يمكن أن ينفصل في تكوينه المعرفي عن غيره، بل هو عبارة عن ت راكمية معرفية تنمو أغصانها في محيط التلاحم المعرفي المتشابك، ولذلك أصبح الأديب ومن بعده النص الأدبي بناء متعدد القيم والأصوات، تتوارى خلف كل نص ذوات أخرى غير ذات المبدع من دون حدود أو فواصل، ومن ثم فالنص الجديد هو إعادة لنصوص سابقة لا تعرف إلا بالخبرة والتدقيق. ورغم ذلك فإن النقاد يلحون على شريطة التجاوز للنصوص التي تناص معها النص الجديد وإلا أضحى كلامًا معادًا؛ ومن ثم يجب على النص «المتناص أن يتماهى في علاقات غير أحادية السمة مع نصوص أخرى، سواءً كانت علاقة تحويل أو علاقة تقاطع أو تبديل أو اختراق». وهذه العلاقة تنبثق من رغبة أكيدة في التجديد وتجاوز الآخر حتى لو كان الآخر المبدع نفسه؛ لأن المبدع قد يتناص مع نفسه من خلال نصوصه هو، كما يستطيع أن يتناص مع نص واحد فقط لمبدع آخر، أو نصوص أخرى لأدباء آخرين، وقد تكون عملية التناص بين جنسين أدبيين لا على مستوى جنس أدبي واحد. ولا شك ـ كذلك ـ أن التناص يرتكز على مبدأي الشكل والمضمون ولا يقف عند حدود أحدهما، ولكن يؤخذ بعين الاعتبار أن التناص قد يكون شكليًا لا مضمونيًا والعكس صحيح دون تلازم بينهما، ولكنه في النهاية يحدث في الاثنين.
التناص في أبسط تعريفاته هو «وجود علاقة بين ملفوظين»، وهو في مفهومه الكلي يتجاوز ذلك ليشمل النص الأدبي في جميع نواحيه فهو: «يحيل إلى مدلولات خطابية مغايرة بشكل يمكن معه قراءة خطابات عديدة داخل القول الشعري، هكذا يتم بعث فضاء نصي متعدد حول المدلول الشعري». وبصورة أوضح نستطيع أن نقول إن التناص هو: «أحد مميزات النص الأساسية التي تحيل على نصوص سابقة عليها أو معاصرة لها». وعلى هذا فإن النص «ليس انعكاسًا لخارجه أو مرآة لقائله، وإنما فاعلية المخزون التذكري لنصوص مختلفة هي التي تشكل حقل التناص ومن ثم فالنص بلا حدود».
ولقد برز هذا المصطلح على يد جوليا كرستيفا، غير أن الولادة الحقيقية كانت على أيدي الشكلانيين الروس ـ وإن لم تكن ولادة خالصة ـ إذ «يرد في ملمح المفارقة بين النص المعارض والنص المعارَض، فليس النص المعارَض إعادة إبداع، أو كتابة على كتابة مماثلة، فلكل نص خصائصه القارّة فيه». وعلى هذا فالشكلانيون يؤمنون بالتناص من خلال تداخل النصوص وظهور أثر بعضها على بعض، رغم احتفاظ كل نص بخصوصيته ومميزاته.
وإذا كان الشكلانيون قد تنبهوا إلى مفهوم هذا المصطلح بشكل مبسط، فإن كرستيفا استطاعت أن تستنبط هذا المصطلح «التناص» من خلال قراءتها لباختين في دراسته لأعمال دستويفيسكي الروائية حيث وضع مصطلحي تعددية الأصوات والحوارية دون أن يستخدم مصطلح التناص. وبذلك تكون الرواية أول الأجناس الأدبية معملاً إجرائيًا لهذا المصطلح دون تسمية، وتكون ـ أيضًا ـ جوليا كرستيفا عام 1966م أول من استخدم هذا المصطلح قاصدة به «أن كل نص هو عبارة عن فسيفساء من الاقتباسات، وكل نص هو تشرب وتحويل لنصوص أخرى». ولقد اعتمدت في ذلك على منهج التحليل النفسي جاعلة منه «خطاب الحياة الفكرية والعقلية ومعتبرة إياه نوعًا من الملازمة الجوهرية في ثقافتنا». ورغم ذلك فإن كرستيفا انصرفت عن مصطلح التناص فيما بعد، وآثرت عليه مصطلحًا آخر هو «التنقلية» ولقد تعددت المفاهيم التناصية وتشعبت المدلولات، غير أن مصطلح التناص ظل حاضرًا عبر جميع الاتجاهات الأدبية الحديثة، وإن تباينت الثيمات الدلالية للمفهوم داخل كل اتجاه مع الاتجاه الآخر محاولة من النقاد في تبين جزيئات هذا المصطلح.
ولا شك أن الأديب لا يمكن أن ينفصل في تكوينه المعرفي عن غيره، بل هو عبارة عن ت راكمية معرفية تنمو أغصانها في محيط التلاحم المعرفي المتشابك، ولذلك أصبح الأديب ومن بعده النص الأدبي بناء متعدد القيم والأصوات، تتوارى خلف كل نص ذوات أخرى غير ذات المبدع من دون حدود أو فواصل، ومن ثم فالنص الجديد هو إعادة لنصوص سابقة لا تعرف إلا بالخبرة والتدقيق. ورغم ذلك فإن النقاد يلحون على شريطة التجاوز للنصوص التي تناص معها النص الجديد وإلا أضحى كلامًا معادًا؛ ومن ثم يجب على النص «المتناص أن يتماهى في علاقات غير أحادية السمة مع نصوص أخرى، سواءً كانت علاقة تحويل أو علاقة تقاطع أو تبديل أو اختراق». وهذه العلاقة تنبثق من رغبة أكيدة في التجديد وتجاوز الآخر حتى لو كان الآخر المبدع نفسه؛ لأن المبدع قد يتناص مع نفسه من خلال نصوصه هو، كما يستطيع أن يتناص مع نص واحد فقط لمبدع آخر، أو نصوص أخرى لأدباء آخرين، وقد تكون عملية التناص بين جنسين أدبيين لا على مستوى جنس أدبي واحد. ولا شك ـ كذلك ـ أن التناص يرتكز على مبدأي الشكل والمضمون ولا يقف عند حدود أحدهما، ولكن يؤخذ بعين الاعتبار أن التناص قد يكون شكليًا لا مضمونيًا والعكس صحيح دون تلازم بينهما، ولكنه في النهاية يحدث في الاثنين.
- عيسى بلخباطعضو جديد
- البلد :
الجنس :
عدد المساهمات : 9
نقاط تميز العضو : 95690
تاريخ التسجيل : 22/10/2011
العمر : 44
رد: أدبية الادب
22/10/11, 02:26 pm
قول الناقد البارز تيري إيغلتون Terry Eagleton:"…إذا ما أراد المرء التأريخ لبدايات التحول الذي طرأ على النظرية الأدبية في القرن العشرين، فإنه يبلي حسناً إذا ما استقر على العام 1917، وهو العام الذي نشر فيه الشكلاني الروسي الشاب فيكتور شكلوفسكي Viktor Shklovsky مقالته الرائدة "الفن بوصفة تقنية"
Art as Technique 1983.
ورغم أن العمل الشكلاني تقدم زمانياً على الثورة النظرية الأخيرة بحوالي أربعين سنة، فإن تركيزه على الدراسة المنهجية للأدب يقيم الصلة بينه وبين العمل الذي انبثق أساساً مع العقيدة النقدية التقليدية التي سادت في ستينيات القرن العشرين. وقد أصبح العمل الشكلاني، في الحقيقة، متاحاً بشكل أكبر وأبعد تأثيراً في الفترة التي أعقبت حقبة الستينيات.
"الشكلانية الروسية" هو الاسم الذي يطلق الآن على ذلك الطراز من النقد الذي انبثق من مجموعتين: دائرة موسكو اللغوية (1915) وجماعة أوبوياز Opoyaz، أي "دائرة موسكو اللغوية للغة الشعرية" (1916). وقد تمثلت الرموز الرئيسة للشكلانية الروسية في كل من رومان جاكوبسونRoman Jakobson، وفيكتور شكلوفسكي وبوريس آيخنباوم Boris Eichenbaum، وبوريس توماشيفسكي Boris Tomashevsky، ويوري تينيانوف Yori Tynyanov.
وانخرط جاكوبسون بعد ذلك في دائرة براغ اللغوية (1926-39) التي طورت بعض القضايا الشكلانية. وبسبب من تأثرهم بالمستقبلية والشعر المستقبلي، وفي ردة فعلهم على غموض الرمزية وإرباكها، رغم أنهم لم يكونوا ضد تركيزها على الشكل، سعى هؤلاء إلى وضع الأسس لدراسة الأدب على أسس علمية، وركز بحثهم على اللغة والأدوات الشكلية في الأعمال الأدبية.
على الرغم من ربط الشكلانية الروسية بحركة "النقد الجديد" New Criticism الأميركية التي ظهرت في الخمسينيات من القرن الماضي بسبب تركيز تلك الحركة أيضاً على توجيه الانتباه النقدي إلى النص، كان الشكلانيون الروس أكثر اهتماماً بالأسلوب، وبالمقاربة العلمية للموضوع الفني.
وكرست الشكلانية الروسية تعريفاً تفاضلياً للأدب في شكل يتعارض مع فصل اتجاه "النقد الجديد" للنص وجعله حاضراً موضوعياً في ذاته، كما كان رفض الشكلانيين الروس لوظيفة الأدب المحاكاتية/ التعبيرية أكثر قوة. لقد بقي "النقد الجديد" بينما يتحدى بعض وجهات نظر التزمت التقليدي في إطار الإشكالي إنسانياً (بيليسي Belesy 1980). لكن الشكلانية الروسية تبتعد عن منظور النص بوصفه يعكس وحدة أساسية، وهو ما يمثل إلى حد كبير مغزى أخلاقياً أو إنسانياً.
وكان مركز اهتمام هذه الحركة ليس الأدب من حيث هو "بذاته"، وإنما "أدبيته" literariness، أي الشيء الذي يجعل من العمل المخصوص عملاً "أدبياً". وبهذا الفهم، حاول الشكلانيون كشف النقاب عن نظام الخطاب الأدبي، ذلك النظام الذي جعل من وجود الأدب ممكناً من حيث الأساس. وقد تركز اهتمامهم بالنص على تفعيل الأدوات الأدبية أكثر من اهتمامهم بالمحتوى. أي أن "الأدبية" كانت تتعلق بالاستخدام المعين المخصوص للغة.
تشكل مقالة شكلوفسكي "الفن بوصفه تقنية" واحدة من أولى المساهمات المهمة في الحركة الشكلانية الروسية. وفيها يطور مفهوم "التغريب" (defamilarization 1) الأساسي. إن الذي تفعله اللغة الأدبية هو "تغريب" الإدراك المروَّض واللغة العادية أو "نزع صفة الألفة" عنهما. والمفتاح إلى التغريب هو الأداة الأدبية، لأن "الأداة" تعيق سرعة الإدراك، وتجلب الانتباه إلى دهاء النص، وتخلص الإدراك المؤتمت من حالة التدجين التي اعتادها. (ينزع الشكلانيون إلى الاهتمام أكثر بالنصوص التي "تركز على الأداة" والتي تتحاشى تحريض الانتباه الواقعي والعملي، وهذا هو سبب تقديرهم وإعلائهم من شأن الأعمال الصعبة أو الحداثية). أحد المضامين بالغ الأهمية لهذا الطرح هو أنه يفضي منطقياً إلى النظر إلى الأدب بوصفه نظاماً نظاماً علائقياً relational أكثر من كونه نظاماً مطلقاً، وبوصفه نظاماً محكوماً بالتغير عبر التاريخ، لأن الأدوات الأدبية لا يمكن أن تظل "غريبة" طوال الوقت، ما دامت تصبح مؤتمتة بدورها، حيث يتوجب على الأدب الجديد أن ينتج أدوات "تغريب" جديدة لتجنب التعامل مع إدراك داجن وآلي. هذه النظرة لا ترى التراث الأدبي على أنه استمرارية غير منقطعة، وإنما على أنه "لااستمرارية"، فيها وقفات وتصحيحات في الشكل والأدوات الشكلية، والتي تفضي إلى تجدد النظام.
قدم عمل الشكلانيين الروس أرضاً خصبة للتحولات اللاحقة في الممارسة النقدية، فبتعريفهم للموضوع الذي يتوجه نحوه الانتباه على أنه تلك "الأدبية" المخصوصة، قدموا تصوراً منهجياً لدراسة الأدب، وهو منهج ذهب إلى ما وراء الدراسة الباطنية للنص المخصوص.
فيكتور شكلوفسكي: الفن بوصفه تقنية (2)
إذا ما شرعنا في تفحص القوانين العامة للإدراك، فإننا نرى أن الإدراك حينما يصبح اعتيادياً، إنما يصبح أوتوماتيكياً. وهكذا، على سبيل المثال، نجد كل عاداتنا تنسحب إلى منطقة الأوتوماتيكي من الإدراك من دون وعي. إذا ما تذكر المرء الأحاسيس التي ترافق إمساكه بالقلم أو التحدث بلغة أجنبية للمرة الأولى، وقارن ذلك بما يشعر به لدى أدائه الفعل نفسه في المرة العشرة آلاف، فإنه سيتفق مع أطروحتنا هذه.
ويمكن أن يفسر مثل هذا التعوّد تلك المبادئ التي يصبح معها كلامنا العادي عبارات غير مكتملة وكلمات نصف منطوقة. في هذا الإجراء، والذي يمكن تمييزه بشكل مثالي في علم الجبر، يتم استبدال الأشياء بالرموز. إننا لا نستخدم الكلمات الكاملة في الحديث السريع، بل ويمكن بالكاد إدراك حروفها الأولى. ويعرض ألكسندر بوغودين مثال غلام يعرض عبارة "الجبال السويسرية جميلة" في شكل سلسلة من الحروف "أ، س، ج".
إن خصيصة التفكير هذه لا تستدعي منهج علم الجبر فقط، ولكنها أيضاً تذكر باختصار الرموز (أي استخدام الحروف بدل الكلمات، خاصة الحروف البدئية). وبهذا المنهج "الجبري" في التفكير، نقوم بفهم الموضوعات فقط بوصفها أشكالاً ذات امتدادات غامضة. إننا لا نراها في كليتها بقدر ما نميزها من خصائصها الرئيسة.
إننا لا نعرف ماهياتها عن طريق أشكالها، وإنما نرى صورتها الظلية. وهكذا، نجد أن الموضوع الذي نعيه بهذا الشكل، على النحو الذي ندرك به الكلام العادي، يتلاشى ولا يخلف حتى انطباعاً أولياً. وبالنتيجة ننسى حتى جوهر ماهيته التي كان عليها. مثل هذا النوع من الإدراك يفسر لماذا نفشل في سماع كلمات النثر العادي بكليتها، وهكذا، ندرك السبب في فشلنا في نطقها (كما هو شأن زلقات اللسان الأخرى).
إن عملية الجبرنة algebralization، أي المبالغة في أتمتة الموضوع، تسمح بأقصى حد من الاقتصاد في الجهد الإدراكي. فإما أن يخصص للموضوعات خصيصة واحدة مناسبة -مثل رقم على سبيل المثال - أو هي تعمل وكأنما بمعادلة حتى أنها لا تظهر في الإدراك. لنتأمل النص التالي من مذكرات ليو تولستوي: كنت أنظف الغرفة، متحركاً بغير انتظام. اقتربت من الأريكة ولم أستطع أن أتذكر ما إذا كنت قد أزلت الغبار عنها أم لا. وبما أن حركاتي كانت كلها معتادة وغير واعية، لم أستطع أن أتذكر، وشعرت بأن من المستحيل أن أتذكر. وهكذا، فإنني لا أتذكر إذا كنت قد نظفتها أم لا. إذا كنت قد نظفتها دون أن أعي، فإن ذلك يعني بالضبط وكأنني لم أفعل. لو كان هناك شخص واع يراقب لأمكنت معرفة الحقيقة. وإذا لم يكن ثمة من يراقب، أو كان ثمة من يراقب من دون أن يعي، فإن مثل تلك الحيوات تكون وكأنها لم تكن أبداً. (3)
بهذا الفهم، يمكن مساواة الحياة بالعدم. إن التدجين (جعل الشيء اعتيادياً) يبلي الأعمال والملابس والأثاث وزوجة المرء والخوف من الحرب. "لو كانت كامل الحيوات المعقدة التي يعيشها الكثيرون من الناس تسير بلا وعي، فإن مثل تلك الحيوات تكون كأنها لم تكن أبداً". لكن الفن الذي يحتفظ بتلك الحياة يمكن له أن يعيد لنا الإحساس بالحياة، إنه يوجد ليجعل المرء يحس بالأشياء، ولكي يجعل الحجر "حجرياً". إن هدف الفن هو أن يمنح الإحساس بالأشياء كما تدرك، وليس على النحو الذي تكون عليه. والغاية من تقنية الفن هي أن تجعل الأشياء "غير مألوفة"، أن تجعل الأشكال صعبة، أن تزيد من صعوبة وطول فترة الإدراك لأن عملية الإدراك هي غاية جمالية في ذاتها وينبغي أن تتمدد. إن الفن هو وسيلة للإحساس بفنية الموضوع المدرك. أما الموضوع في ذاته، فلا يهم.
إن مدى العمل الشعري (الفني) يتسع من الحسي إلى الإدراكي، من الشعر إلى النثر، من المحسوس إلى المجرد: من دون كيخوته سيرفانتيس، - ذلك النبيل المسكين والفيلسوف المدرسي، الذي يسمع بنصف وعي إهانته في بلاط الدوق - إلى دون كيخوته تيرغينيف العريض، والفارغ مع ذلك. من شارلمان إلى اسم "ملك" ( في الروسية تشتق كلمتا "تشارلز" و"ملك" من الجذر نفسه korol). إن معنى العمل يتسع إلى حد يتضاءل عنده الدهاء والصنعة الفنية: وبهذا، تكون الخرافة أكثر رمزية من القصيدة، والمثل الشائع أكثر رمزية من الخرافة. وإذن، فإن الجزء الأخير والمتناقض مع نفسه من نظرية بوتبنيا (Potebnya 4) هو معالجته للخرافة، والتي حقق فيها بإسهاب، حسب رأيه. لكن، بما أن نظريته لم تذكر أعمالاً فنية "معبرة"، لم يستطع أن يتم كتابه. وكما نعلم، فإن "ملاحظات على نظرية الأدب" نشر العام 1905، بعد موت بوتبنيا بثلاثة عشر عاماً. وكان بوتبنيا نفسه قد أتم فقط ذلك الجزء عن الخرافة.
بعد أن نرى الموضوع نفسه لعدة مرات، نبدأ بتمييزه. إن الموضوع أمامنا ونحن نعرف عنه، لكننا لا نراه، وبهذا لا نستطيع أن نقول أي شيء ذي مغزى عنه. أما الفن، فإنه يبعد الموضوع عن أتمتة الإدراك بطرق عديدة. وأريد أن أوضح هنا طريقة كان ليو تولستوي قد استخدمها لأكثر من مرة، ذلك الكاتب الذي يبدو، كما يرى ميريزوفسكي على الأقل، وكأنه يعرض الأشياء وكأنها رآها بنفسه، رآها بكليتها، ولم يحرفها أو يتلاعب بها.
إن تولستوي يجعل المألوف يبدو غريباً بعدم تسميته للموضوع المألوف. وهو يصف الموضوع وكأنما هو يراه للمرة الأولى، والحادثة كما لو كانت تحدث للمرة الأولى. وعند وصفه لشيء ما، يتجنب استخدام الأسماء المقبولة لأجزاء ذلك الشيء، وبدلاً من ذلك يقوم بتسمية أجزاء نظيرة في الموضوعات الأخرى. وعلى سبيل المثال، في قصة "العار" يقوم تولستوي "بتغريب" فكرة الجَلد على النحو التالي:"تعرية الناس الذين خرقوا القانون، وطرحهم على الأرض، وخفق مؤخراتهم بالسياط"، وبعد عدة سطور: "أن يجلد الناس بالسوط فجأة وبعنف على مؤخراتهم".
وفيما يلي الكيفية التي ينظر بها الحصان إلى مؤسسة الملكية الخاصة. يقول الحصان في القصة: لقد وعيت جيداً ما كانوا يقولونه عن الجلد بالسوط والمسيحية. لكنني كنت آنئذ غارقاً كلية في الجهل. ما معنى "خاصته" و"مُهره"؟ من تلك التعبيرات، عرفت أن الناس يعتقدون بأن ثمة نوعاً من الصلة بيني وبين الإسطبل. في ذلك الوقت، لم أكن أدرك الصلة ببساطة. بعد ذلك بوقت طويل فقط، عندما فصلوني عن بقية الخيول، بدأت أدرك المقصود. ولكنني، حتى حينذاك، لم أكن أفهم ما قصدوه حين دعوني "من أملاك إنسان". كانت كلمة "حصاني" تشير إليّ. أنا الحصان الحي، وبدت لي غريبة تماماً مثل كلمات "أرضي" و"هوائي" و"مائي".
لكن وقع الكلمات كان قوياً عليّ. وفكرت بها بلا توقف، وليس إلا بعد أكثر التجارب تنوعاً مع الناس حين أدركت، أخيراً، ما كانوا يقصدون. كانوا يقصدون الآتي: في الحياة ينقاد الناس بالكلمات، وليس بالأفعال. لا يتعلق الأمر كثيراً بأنهم يحبون إمكانية فعل الشيء أو عدم فعله بقدر ما يتعلق إمكانية التحدث بالكلمات، التي تواضعوا عليها بين أنفسهم، والتي يطبقونها على الأشياء المختلفة، والمخلوقات، والموضوعات، بل وحتى على الأرض والناس والخيول. إنهم يتفقون على أن شخصاً واحداً فقط يمكن له أن يقول "هذا لي" عن هذا الشيء أو ذاك. والشخص الذي يقول "هذا لي" عن أكثر عدد من الأشياء يعتبرونه الأكثر سعادة. إنني لا أعرف الفكرة من وراء ذلك كله، لكنه صحيح. لوقت طويل حاولت أن أفسره لنفسي من حيث النفع الحقيقي، لكنني اضطررت إلى نبذ ذلك التفسير في كل مرة لأنه لم يكن صحيحاً.
الكثيرون من أولئك الذين قالوا إنني لهم، على سبيل المثال، لم يركبوا ظهري ولو مرة واحدة، رغم أن آخرين قد فعلوا. وهو حال الذين كانوا يطعمونني. وهكذا، ومرة أخرى، كان سائق العربة، والأطباء البيطريون والغرباء بشكل عام يعاملونني بشكل جيد، ومع ذلك لم يعاملني الذين يقولون بأني لهم كذلك. وعندما حان الوقت، وبعد أن وسعت مدى مشاهداتي، أقنعت نفسي بأن مفهوم "لي"، ليس ذلك الذي يتعلق فقط بنا نحن الخيول، ليس له أساس آخر سوى غريزة إنسانية ضيقة تدعى الإحساس بالملكية الخاصة أو الحق فيها. يقول الإنسان:"هذا البيت لي" ولا يعيش فيه أبداً، ولكنه يظل قلقاً طوال الوقت على هيكله والعناية به. ويقول التاجر:"هذا دكاني"، "دكان أقمشتي" على سبيل المثال، ولا يرتدي ملابس مصنوعة حتى من القماش الذي يحتفظ به في دكانه الخاص.
ثمة أناس يصفون قطعة من الأرض بأنها لهم، لكنهم لا يشاهدونها أبداً ولا يخطون بأقدامهم عليها. وهناك أناس يصفون الآخرين بأنهم لهم، ولا يرونهم أبداً. وكل العلاقة بينهم هي أن من يدعون "مالكين" يعاملون الآخرين بلا عدالة.
ثمة أناس يقولون إن النساء لهم. أو "زوجاتهم"، لكن نساءهم يعشن مع رجال آخرين. والناس لا يناضلون من أجل الحصول على الأفضل في الحياة، وإنما من أجل سلع يصفونها بأنها "لهم".
لقد أصبحت الآن مقتنعاً بأن هذا هو الفارق الرئيسي بين الناس وبيننا (نحن الحيوانات). ولذلك، ومن دون أن أفكر أدنى تفكير بأننا نحن الأرقى، ولكن باحتساب هذه الفضيلة فقط، يمكن لنا أن نزعم بشجاعة بأننا نقف على درجة أعلى من البشر في سلم الكائنات الحية. ذلك أن أفعال البشر، على الأقل أولئك الذين اضطررت إلى التعامل معهم، تقودها الكلمات، بينما أفعالنا، تقودها الأعمال.
قبل نهاية القصة يقتل الحصان، لكن طريقة القص، وتكنيكه لا يتغيران: بعد ذلك بوقت طويل، يضعون جسد سيرباكوفسكي الذي خبر العالم. الذي أكل وشرب، في التراب. إنهم لم يستطيعوا أن يبيعوا، على نحو مربح، جلده ولا لحمه ولا عظامه.
ولكن، بما أن جسده الذي جال في العالم عشرين عاماً، كان عبئاً ثقيلاً على الجميع، فإن دفنه كان مجرد إحراج غير ضروري للناس. منذ وقت طويل لم يحتج إليه أحد، ومنذ وقت طويل كان عبئاً على الجميع. ولكن مع ذلك، وجد الميت الذي دفن الميت أن من الضروري أن يدرج جسده المنتفخ الذي بدأ بالتعفن سراعاً، في زي جيد وأحذية جيدة، وأن يسجيه في كفن جيد جديد مع أربع شرابات على الزوايا الأربعة. ثم أن يضع هذا الكفن الجيد في كفن آخر من نفس الطراز، وأن يشحنه إلى موسكو، هناك، لنبش العظام القديمة. وفقط تلك البقعة، لإخفاء ذلك الجسد المتفسخ، والذي تندفع منه أسراب اليرقات، في زيه الجديد وأحذيته النظيفة، ولتغطيته تماماً وكلية بالتراب.
إن تقنية "نزع الألفة عن الشيء" لا تخص تولستوي وحده. لكنني اقتبست تولستوي لأن أعماله معروفة بشكل عام.
الآن، وبعد أن قمت بتفسير طبيعة هذه التقنية، دعونا نحاول تحديد الحدود التقريبية لتطبيقها. إنني أشعر شخصياً بأن نزع الألفة موجود في كل مكان يمكن للشكل أن يوجد فيه. بمعنى أن الفرق بين وجهة نظر بوتينبيا ووجهة نظرنا هي أن الصورة ليست مرجعاً دائماً لتلك التشابكات غير المستقرة للحياة، والتي تفصح عنها الحياة. إن الهدف منها ليس أن تجعلنا نفهم المعنى، وإنما أن نخلق إدراكاً خاصاً للموضوع - إنها تخلق "رؤيا" للموضوع بدلاً من أن تعمل كوسيلة لمعرفته.
هوامش وملاحظات المترجم
1. هذه الترجمة استخدمت كلمة "تغريب" بمعنى جعل الشيء غير معتاد بالنسبة للإدراك، وهي الترجمة الأقرب لكلمة defamiliarization الإنجليزية، وهي تعرف في موسوعة ويكيبيديا بأنها التكنيك الفني الذي يجبر المتلقي على رؤية الأشياء الاعتيادية بطريقة غير معتادة أو غريبة، من أجل رفع سوية عملية إدراك العادي. وباعتبارها تكتيكاً هجائياً أساسياً، أصبحت هذه الفكرة مفهوماً مركزياً في فن القرن العشرين، والذي يمتد مداه من حركات مثل الدادائية، وما بعد الحداثة والمسرح الملحمي، وحتى القصة العلمية.
2. هذه الترجمة مجتزأة ولا تبدأ من بداية مقالة شكلوفسكي بسبب ضيق المساحة، لكنها تضم الجزء الأكثر أهمية منها.
3. من مفكرة ليو تولستوي. المادة المؤرخة في 1 آذار (مارس) 1897.
4. ألكسندر بوتيبنيا Potebnya Alexander، كبير منظري المدرسة الرمزية الروسية في تلك الحقبة التي أسسها على القول بأنه "من دون التصويرية، فإنه ليس هناك فن، وليس هناك شعر بشكل خاص... إن الشعر، وكذلك النثر، هما أولاً وقبل كل شيء طريقة مخصوصة في التفكير والمعرفة".
Art as Technique 1983.
ورغم أن العمل الشكلاني تقدم زمانياً على الثورة النظرية الأخيرة بحوالي أربعين سنة، فإن تركيزه على الدراسة المنهجية للأدب يقيم الصلة بينه وبين العمل الذي انبثق أساساً مع العقيدة النقدية التقليدية التي سادت في ستينيات القرن العشرين. وقد أصبح العمل الشكلاني، في الحقيقة، متاحاً بشكل أكبر وأبعد تأثيراً في الفترة التي أعقبت حقبة الستينيات.
"الشكلانية الروسية" هو الاسم الذي يطلق الآن على ذلك الطراز من النقد الذي انبثق من مجموعتين: دائرة موسكو اللغوية (1915) وجماعة أوبوياز Opoyaz، أي "دائرة موسكو اللغوية للغة الشعرية" (1916). وقد تمثلت الرموز الرئيسة للشكلانية الروسية في كل من رومان جاكوبسونRoman Jakobson، وفيكتور شكلوفسكي وبوريس آيخنباوم Boris Eichenbaum، وبوريس توماشيفسكي Boris Tomashevsky، ويوري تينيانوف Yori Tynyanov.
وانخرط جاكوبسون بعد ذلك في دائرة براغ اللغوية (1926-39) التي طورت بعض القضايا الشكلانية. وبسبب من تأثرهم بالمستقبلية والشعر المستقبلي، وفي ردة فعلهم على غموض الرمزية وإرباكها، رغم أنهم لم يكونوا ضد تركيزها على الشكل، سعى هؤلاء إلى وضع الأسس لدراسة الأدب على أسس علمية، وركز بحثهم على اللغة والأدوات الشكلية في الأعمال الأدبية.
على الرغم من ربط الشكلانية الروسية بحركة "النقد الجديد" New Criticism الأميركية التي ظهرت في الخمسينيات من القرن الماضي بسبب تركيز تلك الحركة أيضاً على توجيه الانتباه النقدي إلى النص، كان الشكلانيون الروس أكثر اهتماماً بالأسلوب، وبالمقاربة العلمية للموضوع الفني.
وكرست الشكلانية الروسية تعريفاً تفاضلياً للأدب في شكل يتعارض مع فصل اتجاه "النقد الجديد" للنص وجعله حاضراً موضوعياً في ذاته، كما كان رفض الشكلانيين الروس لوظيفة الأدب المحاكاتية/ التعبيرية أكثر قوة. لقد بقي "النقد الجديد" بينما يتحدى بعض وجهات نظر التزمت التقليدي في إطار الإشكالي إنسانياً (بيليسي Belesy 1980). لكن الشكلانية الروسية تبتعد عن منظور النص بوصفه يعكس وحدة أساسية، وهو ما يمثل إلى حد كبير مغزى أخلاقياً أو إنسانياً.
وكان مركز اهتمام هذه الحركة ليس الأدب من حيث هو "بذاته"، وإنما "أدبيته" literariness، أي الشيء الذي يجعل من العمل المخصوص عملاً "أدبياً". وبهذا الفهم، حاول الشكلانيون كشف النقاب عن نظام الخطاب الأدبي، ذلك النظام الذي جعل من وجود الأدب ممكناً من حيث الأساس. وقد تركز اهتمامهم بالنص على تفعيل الأدوات الأدبية أكثر من اهتمامهم بالمحتوى. أي أن "الأدبية" كانت تتعلق بالاستخدام المعين المخصوص للغة.
تشكل مقالة شكلوفسكي "الفن بوصفه تقنية" واحدة من أولى المساهمات المهمة في الحركة الشكلانية الروسية. وفيها يطور مفهوم "التغريب" (defamilarization 1) الأساسي. إن الذي تفعله اللغة الأدبية هو "تغريب" الإدراك المروَّض واللغة العادية أو "نزع صفة الألفة" عنهما. والمفتاح إلى التغريب هو الأداة الأدبية، لأن "الأداة" تعيق سرعة الإدراك، وتجلب الانتباه إلى دهاء النص، وتخلص الإدراك المؤتمت من حالة التدجين التي اعتادها. (ينزع الشكلانيون إلى الاهتمام أكثر بالنصوص التي "تركز على الأداة" والتي تتحاشى تحريض الانتباه الواقعي والعملي، وهذا هو سبب تقديرهم وإعلائهم من شأن الأعمال الصعبة أو الحداثية). أحد المضامين بالغ الأهمية لهذا الطرح هو أنه يفضي منطقياً إلى النظر إلى الأدب بوصفه نظاماً نظاماً علائقياً relational أكثر من كونه نظاماً مطلقاً، وبوصفه نظاماً محكوماً بالتغير عبر التاريخ، لأن الأدوات الأدبية لا يمكن أن تظل "غريبة" طوال الوقت، ما دامت تصبح مؤتمتة بدورها، حيث يتوجب على الأدب الجديد أن ينتج أدوات "تغريب" جديدة لتجنب التعامل مع إدراك داجن وآلي. هذه النظرة لا ترى التراث الأدبي على أنه استمرارية غير منقطعة، وإنما على أنه "لااستمرارية"، فيها وقفات وتصحيحات في الشكل والأدوات الشكلية، والتي تفضي إلى تجدد النظام.
قدم عمل الشكلانيين الروس أرضاً خصبة للتحولات اللاحقة في الممارسة النقدية، فبتعريفهم للموضوع الذي يتوجه نحوه الانتباه على أنه تلك "الأدبية" المخصوصة، قدموا تصوراً منهجياً لدراسة الأدب، وهو منهج ذهب إلى ما وراء الدراسة الباطنية للنص المخصوص.
فيكتور شكلوفسكي: الفن بوصفه تقنية (2)
إذا ما شرعنا في تفحص القوانين العامة للإدراك، فإننا نرى أن الإدراك حينما يصبح اعتيادياً، إنما يصبح أوتوماتيكياً. وهكذا، على سبيل المثال، نجد كل عاداتنا تنسحب إلى منطقة الأوتوماتيكي من الإدراك من دون وعي. إذا ما تذكر المرء الأحاسيس التي ترافق إمساكه بالقلم أو التحدث بلغة أجنبية للمرة الأولى، وقارن ذلك بما يشعر به لدى أدائه الفعل نفسه في المرة العشرة آلاف، فإنه سيتفق مع أطروحتنا هذه.
ويمكن أن يفسر مثل هذا التعوّد تلك المبادئ التي يصبح معها كلامنا العادي عبارات غير مكتملة وكلمات نصف منطوقة. في هذا الإجراء، والذي يمكن تمييزه بشكل مثالي في علم الجبر، يتم استبدال الأشياء بالرموز. إننا لا نستخدم الكلمات الكاملة في الحديث السريع، بل ويمكن بالكاد إدراك حروفها الأولى. ويعرض ألكسندر بوغودين مثال غلام يعرض عبارة "الجبال السويسرية جميلة" في شكل سلسلة من الحروف "أ، س، ج".
إن خصيصة التفكير هذه لا تستدعي منهج علم الجبر فقط، ولكنها أيضاً تذكر باختصار الرموز (أي استخدام الحروف بدل الكلمات، خاصة الحروف البدئية). وبهذا المنهج "الجبري" في التفكير، نقوم بفهم الموضوعات فقط بوصفها أشكالاً ذات امتدادات غامضة. إننا لا نراها في كليتها بقدر ما نميزها من خصائصها الرئيسة.
إننا لا نعرف ماهياتها عن طريق أشكالها، وإنما نرى صورتها الظلية. وهكذا، نجد أن الموضوع الذي نعيه بهذا الشكل، على النحو الذي ندرك به الكلام العادي، يتلاشى ولا يخلف حتى انطباعاً أولياً. وبالنتيجة ننسى حتى جوهر ماهيته التي كان عليها. مثل هذا النوع من الإدراك يفسر لماذا نفشل في سماع كلمات النثر العادي بكليتها، وهكذا، ندرك السبب في فشلنا في نطقها (كما هو شأن زلقات اللسان الأخرى).
إن عملية الجبرنة algebralization، أي المبالغة في أتمتة الموضوع، تسمح بأقصى حد من الاقتصاد في الجهد الإدراكي. فإما أن يخصص للموضوعات خصيصة واحدة مناسبة -مثل رقم على سبيل المثال - أو هي تعمل وكأنما بمعادلة حتى أنها لا تظهر في الإدراك. لنتأمل النص التالي من مذكرات ليو تولستوي: كنت أنظف الغرفة، متحركاً بغير انتظام. اقتربت من الأريكة ولم أستطع أن أتذكر ما إذا كنت قد أزلت الغبار عنها أم لا. وبما أن حركاتي كانت كلها معتادة وغير واعية، لم أستطع أن أتذكر، وشعرت بأن من المستحيل أن أتذكر. وهكذا، فإنني لا أتذكر إذا كنت قد نظفتها أم لا. إذا كنت قد نظفتها دون أن أعي، فإن ذلك يعني بالضبط وكأنني لم أفعل. لو كان هناك شخص واع يراقب لأمكنت معرفة الحقيقة. وإذا لم يكن ثمة من يراقب، أو كان ثمة من يراقب من دون أن يعي، فإن مثل تلك الحيوات تكون وكأنها لم تكن أبداً. (3)
بهذا الفهم، يمكن مساواة الحياة بالعدم. إن التدجين (جعل الشيء اعتيادياً) يبلي الأعمال والملابس والأثاث وزوجة المرء والخوف من الحرب. "لو كانت كامل الحيوات المعقدة التي يعيشها الكثيرون من الناس تسير بلا وعي، فإن مثل تلك الحيوات تكون كأنها لم تكن أبداً". لكن الفن الذي يحتفظ بتلك الحياة يمكن له أن يعيد لنا الإحساس بالحياة، إنه يوجد ليجعل المرء يحس بالأشياء، ولكي يجعل الحجر "حجرياً". إن هدف الفن هو أن يمنح الإحساس بالأشياء كما تدرك، وليس على النحو الذي تكون عليه. والغاية من تقنية الفن هي أن تجعل الأشياء "غير مألوفة"، أن تجعل الأشكال صعبة، أن تزيد من صعوبة وطول فترة الإدراك لأن عملية الإدراك هي غاية جمالية في ذاتها وينبغي أن تتمدد. إن الفن هو وسيلة للإحساس بفنية الموضوع المدرك. أما الموضوع في ذاته، فلا يهم.
إن مدى العمل الشعري (الفني) يتسع من الحسي إلى الإدراكي، من الشعر إلى النثر، من المحسوس إلى المجرد: من دون كيخوته سيرفانتيس، - ذلك النبيل المسكين والفيلسوف المدرسي، الذي يسمع بنصف وعي إهانته في بلاط الدوق - إلى دون كيخوته تيرغينيف العريض، والفارغ مع ذلك. من شارلمان إلى اسم "ملك" ( في الروسية تشتق كلمتا "تشارلز" و"ملك" من الجذر نفسه korol). إن معنى العمل يتسع إلى حد يتضاءل عنده الدهاء والصنعة الفنية: وبهذا، تكون الخرافة أكثر رمزية من القصيدة، والمثل الشائع أكثر رمزية من الخرافة. وإذن، فإن الجزء الأخير والمتناقض مع نفسه من نظرية بوتبنيا (Potebnya 4) هو معالجته للخرافة، والتي حقق فيها بإسهاب، حسب رأيه. لكن، بما أن نظريته لم تذكر أعمالاً فنية "معبرة"، لم يستطع أن يتم كتابه. وكما نعلم، فإن "ملاحظات على نظرية الأدب" نشر العام 1905، بعد موت بوتبنيا بثلاثة عشر عاماً. وكان بوتبنيا نفسه قد أتم فقط ذلك الجزء عن الخرافة.
بعد أن نرى الموضوع نفسه لعدة مرات، نبدأ بتمييزه. إن الموضوع أمامنا ونحن نعرف عنه، لكننا لا نراه، وبهذا لا نستطيع أن نقول أي شيء ذي مغزى عنه. أما الفن، فإنه يبعد الموضوع عن أتمتة الإدراك بطرق عديدة. وأريد أن أوضح هنا طريقة كان ليو تولستوي قد استخدمها لأكثر من مرة، ذلك الكاتب الذي يبدو، كما يرى ميريزوفسكي على الأقل، وكأنه يعرض الأشياء وكأنها رآها بنفسه، رآها بكليتها، ولم يحرفها أو يتلاعب بها.
إن تولستوي يجعل المألوف يبدو غريباً بعدم تسميته للموضوع المألوف. وهو يصف الموضوع وكأنما هو يراه للمرة الأولى، والحادثة كما لو كانت تحدث للمرة الأولى. وعند وصفه لشيء ما، يتجنب استخدام الأسماء المقبولة لأجزاء ذلك الشيء، وبدلاً من ذلك يقوم بتسمية أجزاء نظيرة في الموضوعات الأخرى. وعلى سبيل المثال، في قصة "العار" يقوم تولستوي "بتغريب" فكرة الجَلد على النحو التالي:"تعرية الناس الذين خرقوا القانون، وطرحهم على الأرض، وخفق مؤخراتهم بالسياط"، وبعد عدة سطور: "أن يجلد الناس بالسوط فجأة وبعنف على مؤخراتهم".
وفيما يلي الكيفية التي ينظر بها الحصان إلى مؤسسة الملكية الخاصة. يقول الحصان في القصة: لقد وعيت جيداً ما كانوا يقولونه عن الجلد بالسوط والمسيحية. لكنني كنت آنئذ غارقاً كلية في الجهل. ما معنى "خاصته" و"مُهره"؟ من تلك التعبيرات، عرفت أن الناس يعتقدون بأن ثمة نوعاً من الصلة بيني وبين الإسطبل. في ذلك الوقت، لم أكن أدرك الصلة ببساطة. بعد ذلك بوقت طويل فقط، عندما فصلوني عن بقية الخيول، بدأت أدرك المقصود. ولكنني، حتى حينذاك، لم أكن أفهم ما قصدوه حين دعوني "من أملاك إنسان". كانت كلمة "حصاني" تشير إليّ. أنا الحصان الحي، وبدت لي غريبة تماماً مثل كلمات "أرضي" و"هوائي" و"مائي".
لكن وقع الكلمات كان قوياً عليّ. وفكرت بها بلا توقف، وليس إلا بعد أكثر التجارب تنوعاً مع الناس حين أدركت، أخيراً، ما كانوا يقصدون. كانوا يقصدون الآتي: في الحياة ينقاد الناس بالكلمات، وليس بالأفعال. لا يتعلق الأمر كثيراً بأنهم يحبون إمكانية فعل الشيء أو عدم فعله بقدر ما يتعلق إمكانية التحدث بالكلمات، التي تواضعوا عليها بين أنفسهم، والتي يطبقونها على الأشياء المختلفة، والمخلوقات، والموضوعات، بل وحتى على الأرض والناس والخيول. إنهم يتفقون على أن شخصاً واحداً فقط يمكن له أن يقول "هذا لي" عن هذا الشيء أو ذاك. والشخص الذي يقول "هذا لي" عن أكثر عدد من الأشياء يعتبرونه الأكثر سعادة. إنني لا أعرف الفكرة من وراء ذلك كله، لكنه صحيح. لوقت طويل حاولت أن أفسره لنفسي من حيث النفع الحقيقي، لكنني اضطررت إلى نبذ ذلك التفسير في كل مرة لأنه لم يكن صحيحاً.
الكثيرون من أولئك الذين قالوا إنني لهم، على سبيل المثال، لم يركبوا ظهري ولو مرة واحدة، رغم أن آخرين قد فعلوا. وهو حال الذين كانوا يطعمونني. وهكذا، ومرة أخرى، كان سائق العربة، والأطباء البيطريون والغرباء بشكل عام يعاملونني بشكل جيد، ومع ذلك لم يعاملني الذين يقولون بأني لهم كذلك. وعندما حان الوقت، وبعد أن وسعت مدى مشاهداتي، أقنعت نفسي بأن مفهوم "لي"، ليس ذلك الذي يتعلق فقط بنا نحن الخيول، ليس له أساس آخر سوى غريزة إنسانية ضيقة تدعى الإحساس بالملكية الخاصة أو الحق فيها. يقول الإنسان:"هذا البيت لي" ولا يعيش فيه أبداً، ولكنه يظل قلقاً طوال الوقت على هيكله والعناية به. ويقول التاجر:"هذا دكاني"، "دكان أقمشتي" على سبيل المثال، ولا يرتدي ملابس مصنوعة حتى من القماش الذي يحتفظ به في دكانه الخاص.
ثمة أناس يصفون قطعة من الأرض بأنها لهم، لكنهم لا يشاهدونها أبداً ولا يخطون بأقدامهم عليها. وهناك أناس يصفون الآخرين بأنهم لهم، ولا يرونهم أبداً. وكل العلاقة بينهم هي أن من يدعون "مالكين" يعاملون الآخرين بلا عدالة.
ثمة أناس يقولون إن النساء لهم. أو "زوجاتهم"، لكن نساءهم يعشن مع رجال آخرين. والناس لا يناضلون من أجل الحصول على الأفضل في الحياة، وإنما من أجل سلع يصفونها بأنها "لهم".
لقد أصبحت الآن مقتنعاً بأن هذا هو الفارق الرئيسي بين الناس وبيننا (نحن الحيوانات). ولذلك، ومن دون أن أفكر أدنى تفكير بأننا نحن الأرقى، ولكن باحتساب هذه الفضيلة فقط، يمكن لنا أن نزعم بشجاعة بأننا نقف على درجة أعلى من البشر في سلم الكائنات الحية. ذلك أن أفعال البشر، على الأقل أولئك الذين اضطررت إلى التعامل معهم، تقودها الكلمات، بينما أفعالنا، تقودها الأعمال.
قبل نهاية القصة يقتل الحصان، لكن طريقة القص، وتكنيكه لا يتغيران: بعد ذلك بوقت طويل، يضعون جسد سيرباكوفسكي الذي خبر العالم. الذي أكل وشرب، في التراب. إنهم لم يستطيعوا أن يبيعوا، على نحو مربح، جلده ولا لحمه ولا عظامه.
ولكن، بما أن جسده الذي جال في العالم عشرين عاماً، كان عبئاً ثقيلاً على الجميع، فإن دفنه كان مجرد إحراج غير ضروري للناس. منذ وقت طويل لم يحتج إليه أحد، ومنذ وقت طويل كان عبئاً على الجميع. ولكن مع ذلك، وجد الميت الذي دفن الميت أن من الضروري أن يدرج جسده المنتفخ الذي بدأ بالتعفن سراعاً، في زي جيد وأحذية جيدة، وأن يسجيه في كفن جيد جديد مع أربع شرابات على الزوايا الأربعة. ثم أن يضع هذا الكفن الجيد في كفن آخر من نفس الطراز، وأن يشحنه إلى موسكو، هناك، لنبش العظام القديمة. وفقط تلك البقعة، لإخفاء ذلك الجسد المتفسخ، والذي تندفع منه أسراب اليرقات، في زيه الجديد وأحذيته النظيفة، ولتغطيته تماماً وكلية بالتراب.
إن تقنية "نزع الألفة عن الشيء" لا تخص تولستوي وحده. لكنني اقتبست تولستوي لأن أعماله معروفة بشكل عام.
الآن، وبعد أن قمت بتفسير طبيعة هذه التقنية، دعونا نحاول تحديد الحدود التقريبية لتطبيقها. إنني أشعر شخصياً بأن نزع الألفة موجود في كل مكان يمكن للشكل أن يوجد فيه. بمعنى أن الفرق بين وجهة نظر بوتينبيا ووجهة نظرنا هي أن الصورة ليست مرجعاً دائماً لتلك التشابكات غير المستقرة للحياة، والتي تفصح عنها الحياة. إن الهدف منها ليس أن تجعلنا نفهم المعنى، وإنما أن نخلق إدراكاً خاصاً للموضوع - إنها تخلق "رؤيا" للموضوع بدلاً من أن تعمل كوسيلة لمعرفته.
هوامش وملاحظات المترجم
1. هذه الترجمة استخدمت كلمة "تغريب" بمعنى جعل الشيء غير معتاد بالنسبة للإدراك، وهي الترجمة الأقرب لكلمة defamiliarization الإنجليزية، وهي تعرف في موسوعة ويكيبيديا بأنها التكنيك الفني الذي يجبر المتلقي على رؤية الأشياء الاعتيادية بطريقة غير معتادة أو غريبة، من أجل رفع سوية عملية إدراك العادي. وباعتبارها تكتيكاً هجائياً أساسياً، أصبحت هذه الفكرة مفهوماً مركزياً في فن القرن العشرين، والذي يمتد مداه من حركات مثل الدادائية، وما بعد الحداثة والمسرح الملحمي، وحتى القصة العلمية.
2. هذه الترجمة مجتزأة ولا تبدأ من بداية مقالة شكلوفسكي بسبب ضيق المساحة، لكنها تضم الجزء الأكثر أهمية منها.
3. من مفكرة ليو تولستوي. المادة المؤرخة في 1 آذار (مارس) 1897.
4. ألكسندر بوتيبنيا Potebnya Alexander، كبير منظري المدرسة الرمزية الروسية في تلك الحقبة التي أسسها على القول بأنه "من دون التصويرية، فإنه ليس هناك فن، وليس هناك شعر بشكل خاص... إن الشعر، وكذلك النثر، هما أولاً وقبل كل شيء طريقة مخصوصة في التفكير والمعرفة".
- عيسى بلخباطعضو جديد
- البلد :
الجنس :
عدد المساهمات : 9
نقاط تميز العضو : 95690
تاريخ التسجيل : 22/10/2011
العمر : 44
رد: أدبية الادب
22/10/11, 02:27 pm
المنهج البنيوي أسسه ومفاهيمه
الأسس الجمالية والفلسفية للمنهج البنيوي :
توطئة :
حاولت في الباب الأول والثاني أن أبحث في طبيعة كل من منهج تاريخ الأدب والمنهج النفسي وتطبيقاتهما على المتنبي، وأبرزت بان السمة المشتركة بين هذين المنهجين ، هي أنهما منهجان خارجيان، يدرسان الظاهرة الأدبية من خارجها ويفسران العمل الأدبي، أما برده إلى الشروط التاريخية أو إلى العوامل الباطنية للمؤلف، وذلك أن السياق الفكري الذي ترعرعت فيه هذه المناهج سادت فيه النزعة التاريخية ، حيث كانت تفسر كل الظواهر من خلال التاريخ، فالسابق يتحكم دائما في اللاحق، وحول هذه النقطة اتفق مفكرون كانوا يختلفون فيما بينهم في مسائل أساسية ، فقد قدم " داروين تفسيرا لتطور الأحياء من منظور تاريخي ونقل " سبنسر " نظرية داروين من المجال البيولوجي إلى جميع المجالات الاجتماعية والروحية والعلمية والمادية، واتخذ نتيشه من فكرة التاريخ أساسا لفلسفة كاملة تؤمن بان للأخلاق والمعرفة والقيم تاريخا، وبان حاضر هذه المعاني لا يفهم إلا من خلال ماضيها، وبان الإنسان كائن تاريخي في صميمه، وطبق كارل ماركس فكرة التاريخ على العلاقات الإنتاجية بين البشر في مراحلها المختلفة ... بل يمكن القول من وجهة نظر معينة، أن العلوم الطبيعية ذاتها كانت تضفي على الفكرة الرئيسية فيها، وهي فكرة السببية طابعا تاريخيا أو زمنيا ، وأصبح النقاد الفنيون والأدبيون يفسرون عمل الكاتب من خلال تاريخ حياته ويبنون نظرتهم إلى الفنان على وقائع نفسية أو اجتماعية أو سياسية لها كلها موقع محدد في التاريخ. أي أن التاريخ أصبح متغلغلا في كل شيء .
بالإضافة إلى هيمنة التاريخ، كانت هذه المرحلة خاضعة لأطر الفلسفة الوضعية التي وضع صيغتها الأولية الفيلسوف الفرنسي " اوعست كونت " الذي أصدر بين 1830-1846 دراسته " بحث في الفلسفة الوضعية "، والى النزعة التجريبية، حيث أكد " فرانسيس بيكون " على أهمية الملاحظة والرصد الدقيق للوقائع.
لقد كانت غاية الفلسفة الوضعية هي نقل مناهج ومبادئ العلوم الطبيعية إلى مواضيع الفن فكان " الفيلسوف الوضعي أكثر اهتماما بالحقائق المدركة حسيا منه بالأفكار، وبالكيفية التي تنشأ بها هذه الأفكار منه بأسبابها، ونبذت كل معرفة لا ترتكز على دلائل حسية باعتبارها تأملا تافها، وكان لهذا النوع من الوضعية، في أواخر القرن 19 تأثير كبير في الفكر الأوربي بوجه عام وفي دراسة الأدب بوجه خاص.
وبموجب هذا التصور أصبح هدف الدراسة الأدبية هو تفسير النصوص سببيا، من خلال علاقاتها بالمحيط الخارجي، و الغاية من ذلك هي محاكاة مناهج العلوم الطبيعية من اجل أحداث تاريخ علمي للظواهر الأدبية.
إن هذه الطريقة في الدراسة الأدبية اقتصرت على البحث في الأسباب الوقائعية والتكوينية كحياة المؤلف والبيئة الاجتماعية والسياسية والثقافية، حيث لم ترق إلى ملامسة الجوهري في النصوص، فالتجأت إلى فقه اللغة وفروع التاريخ بهدف تفسير معاني الكلمات المفردة وشرح الإحالات والتلميحات مغيبة قيمة الأدب وخصائصه النوعية، حيث عاملت النصوص باعتبارها آثارا ووثائق تاريخية.
لقد هيمن هذا المنظور الوضعي للأدب ردحا من الزمن في أوربا، ولدى العرب المحدثين، وتجلى ذلك من خلال الكم الهائل للمؤلفات التي تدرس المؤلف وأعماله ، وقد أسفرت هذه الدراسات على مجموعة من القضايا تتمثل في الاهتمام المتزايد بتوثيق النصوص وشرحها، وتحقيقها، وبأخبار الكتاب والشعراء والاهتمام بالمؤلفين البارزين بدل المغمورين، وقد نجم ذلك عن غياب لتحديد موضوع الأدب ومفهوم النص. فالأدب كان أرضا بلا مالك ، لذلك كان عرضة للعديد من المناهج والاختصاصات بعيدة كل البعد عن طبيعة الموضوع المدروس، لذلك أصبح لزاما أن يستقل الأدب بموضوعه وبمنهجه. فما هو المنهج الذي تقلد على عاتقه تخليص الأدب من تطاول مناهج العلوم على أرضه :
إنه المنهج البنيوي ، الذي يعتبر تجليا للتحول الجذري الذي عرفته العلوم الإنسانية في القرن العشرين، ورؤية جديدة لمراجعة التصورات السائدة والتقاليد التي رسختها الأفكار السابقة للقرن 19.
ولكي نستجلي الأسباب المفضية لبروز هذا المنهج لا بد من معرفة الأسس الفلسفية التي تمده والتطورات الحاصلة في الدراسة اللغوية والتحول المنهجي الذي أحدثه حركة الشكلاسنين الروس.
أ- المهاد النظري لظهور البنوية :
حركة الشكلاسنين الروس و التثوير المنهجي :
يكاد يجمع مؤرخو الحركة الشكلانية أن البدايات الأولى للشكلانية الروسية بدأت حينما نشر " فكتور شكلوفسكي " مقالته عن الشعر المستقبلي عام 1914 تحت عنوان " انبعاث الكلمة ". أما الانبثاق الفعلي لهذه الحركة فقد جاء نتيجة للاجتماعات والنقاشات ومنشورات جماعتين من الطلاب، الجماعة الأولى أطلق عليها " حلقة موسكو اللغوية "، تأسست عام 1915، وكانت اهتماماتها بالأساس لغوية ، حيث وسعت نطاق اللسانيات لتشمل اللغة الشعرية، ويعد رومان جاكبسون أبرز منظري هذه الحلقة.
أما الجماعة الثانية فقد أطلقت على نفسها اسم " جمعية دراسة اللغة الشعرية " عام 1916 ببطرسبورغ، كانت تتكون من طلبة يهتمون بالأدب، وما كان يوحدهم هو ضجرهم من إشكال الدراسة الأدبية السائدة، بالإضافة إلى اهتمامهم بحركة الشعراء المستقبليين، ويعد فيكور شكلوفسكي وبوريس ايخنباو أهم منظري هذه الحلقة.
لقد اعتبر الشعر المستقبلي كخلفية جمالية انطلقت منها آراء الشكلانيين الروس في تحديدهم لمفهوم الأدب والشعر، حيث أن " المستقبليين كانوا لا يختلفون عن الرمزيين في موفقهم العدائي من الواقعية، فشعار " الكلمة المكتفية بنفسها " الذي تبناه المستقبليون كان يعني التركيز على التنظيم الصوتي المستقل للكلمات، بوصفه شيئا يتميز بذاته عن قدرة الكلمات على الإشارة إلى الأشياء.
لقد الهم هذا التصور المستقبلي مفكري حركة الشكلانين الروس ليهتموا بالصوغ التقني للكاتب ومهارته الحرفية. مما أضفى على نظريتهم طابعا راهنيا، وذلك لارتباطهم بمدرسة ظهرت في مطلع القرن العشرين، كحركة في الرسم ثم انتقلت إلى الإبداع الفني والأدبي واعتبرت كتمرد ضد الفن المتحذلق الذي تطغى فيه الكلمات الفضفاضة والسطحية والابتذال ، مركزين اهتمامهم على الملموس من الحياة اليومية المعاصرة ، وتفجير الشكل الفني والبحث عن لغة فنية جديدة.
كان هم الشكلانين هو إرساء دعائم الدراسة الأدبية على قاعدة مستقلة. حيث حولت مركز الاهتمام من الشخص إلى النص. فكان السؤال الأول بالنسبة لهم ليس " كيفية دراسة الأدب، وإنما الماهية الفعلية لموضوع بحث الدراسة الأدبية .
فأولى خطوات المنهج الشكلي هو تحديد الموضوع، لان هذه العملية هي التي ستتحكم في تحديد النظرية. لقد انطلقت الشكلانية من استبعاد كل التعريفات التي تحدد الأدب باعتباره محاكاة وتعبـــــيرا أو تفكيرا بالصور. لان هذه التعريفات تغفل خصوصية السمات الأدبية. لذا، فان التعريف المقترح للأدب سيركز على أسس فارقية، فالأدب يتكون " ببساطة، من الفرق بينه وبين نظم الواقع الأخرى. ويتبين في الحقيقة أن موضوع علم الأدب ليس موضوعا على الإطلاق وإنما مجموعة من الفروق . ويصبح مفهوم التغريب هو الأداة الإجرائية لتحديد الطابع الفارقي، بحيث يصير الأدب مضادا لكل معتاد. يزيل أقنعة الألفة عن الأشياء فتصبح غريبة تثير فينا الإحساس بالحياة. فالأمر شبيه بالمشي والرقص، حيث أن الأول لا نحس به، لأنه مألوف بالعادة ، أما الثاني فيجدد إحساسنا بحركات المشي.
إن مهمه النظرية الشكلية هي تحليل الفروق المتعارضة بين اللغة العملية - لغة التواصل اليومي - واللغة الشعرية. إذ يستحيل تعريف الشعر من الداخل فليس هناك مواضيع شعرية أصيلة، ففي العصر الحديث تراجعت المواضيع الشعرية للشعر الرومانتيكي (مثل ضوء القمر - البحيرات - العنادل - القلاع ... ) أمام أكثر المواضيع ابتذالا، وبالمثل فلا يمكننا رسم معالم الشعر كمجال محدد للتحليل إلا من خلال مقارنته بما ليس شعرا.
فما هو الأساس الذي سيبنى عليه تحديد الموضوع ؟
يطرح جاكسبون السؤال الماهوي التقليدي ما الشعر ؟ فيجيب إنه " ينبغي لنا إذا أردنا تحديد هذا المفهوم أن نعارضه بما ليس شعرا، إلا أن تعيين ما ليس شعرا ليس اليوم، بالأمر السهل . إن هذا الإشكال المطروح من طرف جاكسبون يستضمر تاريخيا طويلا ساهم في تشييد نظرية حول استقلالية الأدب بموضوعه، فقد كان الأدب منذ القديم جزءا من موضع خطابات نظرية مختلفة، كالخطابة التي تضمنت بطريقة ما بعض مظاهر الأدب الموجودة فيها، ونظرية التأويل التي اهتمت بالنصوص المقدسة وكانت تناقش البنيات اللفظية الموجودة في الأدب كالرمز والمجازات الشعرية والتأمل حول الأجناس الأدبية ثم أخيرا ظهور فكرة وحدة الفن التي سيبلورها علم الجمال.
إن هذه التطورات لم تسفر عن تأسيس مفهوم للأدب إلا أنها مهدت الطريق لظهور هذا المفهوم، فمفهوم الأدب لم يأخذ استقلالية إلا " مع حلول النزعة الرومانسية (الألمانية)، وسيكون ذلك بداية نظرية الأدب بالمعنى الدقيق. (وبدون تحفظ هذه المرة). لقد توقفت مفاهيم التمثيل والتقليد عن دورها المهيمن لتعوض في قمة الهرم بالجميل، وكل ما ارتبط به من غياب الغائبة الخارجية والانسجام المتناغم بين أجزاء الكل وعدم قابلية العمل للترجمة، كل هذه المفاهيم اتجهت نحو استقلالية الأدب، وأفضت إلى تساؤل حول مميزاته الخاصة.
إن حركة الشعراء المستقبلين في روسيا، وكتابات الرومانسيين الألمان ستوجه اهتمام النظرية الأدبية نحو التركيز على جانب الانسجام الداخلي للنصوص الأدبية، وستفسح المجال للإعلان عن ميلاد علم للأدب، منذ أن طلق جاكبسون عام 1919 قولته التي أصبحت فيما بعد كبيان يختزل عمل الشكلانين والشعرين والبنيويين حيث قال " ليس موضوع علم الأدب هو الأدب وإنما الأدبية أي ما يجعل من عمل ما عملا أدبيا . فما المقصود بالأدبية ؟ يجيب تودوروف في كتابه الشعرية عن تحديد هذا المفهوم المركزي بقوله " ليس العمل الأدبي في حد ذاته هو موضوع الشعرية، فما تستنطقه هو خصائص هذا الخطاب النوعي الذي هو الخطاب الأدبي، وكل عمل عندئذ لا يعتبر إلا تجليا لبنية محددة وعامة، ليس العمل إلا إنجازاتها الممكنة ولكل ذلك فان هذا العلم لا يعنى بالأدب الحقيقي بل بالأدب الممكن، وبعبارة أخرى يعنى بتلك الخصائص المجردة التي تصنع فرادة الحدث الأدبي، أي الأدبية .
إذن، فاستراتيجية علم الأدب أو الشعرية ستتقدم نحو المقاربة المجردة والباطنية للأدب الممكن وليس الإنجازات الكائنة بحثا عن القوانين المنظمة للأدب من الداخل.
سيضفي مفهوم الأدبية على النظرية الشكلانية طابع العلمية والنسقية، والاهتمام بالخصائص الشكلية للأدب فيسهم في إيجاد أجوبة حول القضايا التي تخص الأدب من الخارج.
2/ قضية المؤلف والفكر والواقع الخارجي من المنظور الشكلاني :
لقد طرح على الشكلانيين كيفية التعامل مع المؤلف والأفكار والواقع باعتبارها مكونات أساسية في العملية الأدبية. فكيف أجابت عن هذه الإشكالية ؟
ستحاول الشكلانية إعادة صياغة هذه العناصر لتخضعها إلى تحول جذري نتيجة للتصورات الجديدة حول مفهوم الأدب باعتباره تقنية، وباعتباره تطورا في الإشكال.
لم يعد للمؤلف نفس الدور الذي كان يلعبه في النقد السيري، لان ما يشكل موضوع الدراسة الأدبية ليس الأعمال الأدبية المفردة وإنما الأدبية، بحيث أن العمل الأدبي يرتبط بالنسق الأدبي بصورة عامة وليس بشخصية مؤلفة، فالشاعر في النظرية الشكلانية لم يعد ينظر إليه كصاحب رؤى أو عبقرية وإنما نظر إليه " كعامل ماهر يرتب، أو بالأحرى يعيد ترتيب المادة التي يصادق وجودها في متناوله، إن وظيفة المؤلف هي أن يكون على معرفة بالأدب، أما ما يعرفه عن الحياة أو ما لا يعرفه، فأمر غير ذي أهمية لوظيفته تلك ، إن هذا التصور يذكرنا بالمنجز النقدي العربي القديم خصوصا عند نقادنا الذين قالوا بأن الشعر صناعة وأن الشاعر يقوم بوظيفة السبك والصوغ ولا اعتبار بالمادة التي يصوغ فيها.
فتطور الأدب لا يتوقف على ظروف المؤلف أو تكوينه النفسي، وإنما على الإشكال الأدبية السابقة، بتجديد الأدوات عن طريق التغريب.
أما قضية الواقع التي اعتبرت حجر الزاوية في نظرية المحاكاة، فان الشكلانيين تعاملوا معها تعاملا مختلفا، وذلك انطلاقا من مفهومهم لعملية الإنتاج الأدبي الذي ينبني على قاعدة أساسية وهي أن الأدب ينشأ من الأدب، حيث يتوارى الواقع ويصبح غير ذي جدوى، فالتغيير الأدبي " لا يقرره تبدل الواقع وإنما الحاجة لإنعاش الإشكال الأدبية. ويمثل الإدراك المتجدد للأدوات الشكلية جانبا جوهريا من جوانب الأدبية، أما مقياس مشابهة الواقع فهو في نظر المشروع الشكلاني مقياس يجانب الموضوع، ويقوم الشكلانيون الشكل الأدبي من خلال امتلاكه قابلية الإدراك الحسي وليس من خلال قدرته على المحاكاة .
إن الأديب لا يحاكي الواقع وإنما يغربه وينزع عنه طابع الألفة. ففهم النصوص لا يعود إلى ربطها بمرجعها الواقعي، وإنما بربطها بنصوص أخرى، فقد أبرز " تينيانوف " في دراسة حول ( نظرية المحاكاة الساخرة ) " استحالة الفهم العميق لنص من نصوص دوستوفسكي دون العودة إلى هذا النص أو ذاك من نصوص غوغول ، فالواقع يلعب دورا ثانويا في بناء الأدب ، مثله مثل باقي المعطيات التي يبدأ بها الكاتب. فالشكلانيون ينظرون إلى أفكار القصيدة وموضوعاتها وإشاراتها على أنها مجرد ذريعة خارجية يلجأ إليها الكاتب لتبرير استخدامه الوسائل الشكلية ، وهم يطلقون على هذا الاعتماد على العناصر الخارجية غير الأدبية اسم " التحفيز " "motivation" .
أما بالنسبة للأفكار ، فإن الشكلانية لم تعرها اهتماما لأنها تندرج ضمن مواد البناء. فقد أعطت الشكلانية الأولوية للشكل على حساب المضمون ، حيث أعيد النظر في هذه الثنائية القديمة التي كانت تعتبر الشكل وعاء للمضمون ، وبذلك " يصبح المضمون متوقفا على الشكل دون أن يكون له وجود مستقل ضمن الأدب ، فليس بوسع التحليل الأدبي استقراء المضمون من الشكل إذ أن الشكل لا يتقرر بفعل المضمون وإنما بفعل الأشكال الأخرى . فالفن لا يعبر عن نفسه في العناصر المشكلة للعمل الأدبي وإنما من الاستعمال المتميز لتلك العناصر ، وبذلك اكتسى مفهوم الشكل معنى جديدا " إنه لم يعد غشاء ولا غطاء " ، وإنما وحدة دينامية وملموسة ، لها معنى في ذاتها خارج كل عنصر إضافي ، وها هنا يبرز الفرق بين المذهب الشكلاني والمبادئ الرمزية التي ترى أنه يجب أن يستشف ، عبر الشكل شيء من المضمون، كذلك تم تذليل عقبة النزعة الجمالية ، وهي الإعجاب ببعض عناصر الشكل بعد عزلها عن المضمون ".
سيبلور هذا التحول الجذري من مواطن الاهتمام لدى الشكلانيين مجموعة من المفاهيم والأدوات الإجرائية لدراسة الأدب دراسة عملية، فبعد أن حددت الشكلانية موضوعها و - هو الأدبية- ستبحث عن منهج يتلاءم مع الموضوع ، ومادامت مواد البناء من الأدب تستقي من اللغة. فإن الاهتمام سينصب على الجانب التقني فيها، لذلك نجد أن الشكلانيين الروس قد استهلوا أعمالهم بدراسة الأصوات لأن هذه المسألة كانت في عصرهم من أعقد المسائل المتعلقة بدراسة البناء الصوتي للشعر. وقد ظهر هذا الاهتمام بالأصوات من دراسة ( تروبيتزكوى ) ومن النظرية التي قدمها جاكسون حول الفونيم phoneme فالمحاضرات التي ألقاها حول " الصوت والمعنى " اعتبرت مدخلا نقديا للأفكار الشائعة حول الصوات وأثرها من المعاني ، حيث أن هذه المحاضرة شكلت أساسا لعلم اللغة البنيوي.
الأسس الجمالية والفلسفية للمنهج البنيوي :
توطئة :
حاولت في الباب الأول والثاني أن أبحث في طبيعة كل من منهج تاريخ الأدب والمنهج النفسي وتطبيقاتهما على المتنبي، وأبرزت بان السمة المشتركة بين هذين المنهجين ، هي أنهما منهجان خارجيان، يدرسان الظاهرة الأدبية من خارجها ويفسران العمل الأدبي، أما برده إلى الشروط التاريخية أو إلى العوامل الباطنية للمؤلف، وذلك أن السياق الفكري الذي ترعرعت فيه هذه المناهج سادت فيه النزعة التاريخية ، حيث كانت تفسر كل الظواهر من خلال التاريخ، فالسابق يتحكم دائما في اللاحق، وحول هذه النقطة اتفق مفكرون كانوا يختلفون فيما بينهم في مسائل أساسية ، فقد قدم " داروين تفسيرا لتطور الأحياء من منظور تاريخي ونقل " سبنسر " نظرية داروين من المجال البيولوجي إلى جميع المجالات الاجتماعية والروحية والعلمية والمادية، واتخذ نتيشه من فكرة التاريخ أساسا لفلسفة كاملة تؤمن بان للأخلاق والمعرفة والقيم تاريخا، وبان حاضر هذه المعاني لا يفهم إلا من خلال ماضيها، وبان الإنسان كائن تاريخي في صميمه، وطبق كارل ماركس فكرة التاريخ على العلاقات الإنتاجية بين البشر في مراحلها المختلفة ... بل يمكن القول من وجهة نظر معينة، أن العلوم الطبيعية ذاتها كانت تضفي على الفكرة الرئيسية فيها، وهي فكرة السببية طابعا تاريخيا أو زمنيا ، وأصبح النقاد الفنيون والأدبيون يفسرون عمل الكاتب من خلال تاريخ حياته ويبنون نظرتهم إلى الفنان على وقائع نفسية أو اجتماعية أو سياسية لها كلها موقع محدد في التاريخ. أي أن التاريخ أصبح متغلغلا في كل شيء .
بالإضافة إلى هيمنة التاريخ، كانت هذه المرحلة خاضعة لأطر الفلسفة الوضعية التي وضع صيغتها الأولية الفيلسوف الفرنسي " اوعست كونت " الذي أصدر بين 1830-1846 دراسته " بحث في الفلسفة الوضعية "، والى النزعة التجريبية، حيث أكد " فرانسيس بيكون " على أهمية الملاحظة والرصد الدقيق للوقائع.
لقد كانت غاية الفلسفة الوضعية هي نقل مناهج ومبادئ العلوم الطبيعية إلى مواضيع الفن فكان " الفيلسوف الوضعي أكثر اهتماما بالحقائق المدركة حسيا منه بالأفكار، وبالكيفية التي تنشأ بها هذه الأفكار منه بأسبابها، ونبذت كل معرفة لا ترتكز على دلائل حسية باعتبارها تأملا تافها، وكان لهذا النوع من الوضعية، في أواخر القرن 19 تأثير كبير في الفكر الأوربي بوجه عام وفي دراسة الأدب بوجه خاص.
وبموجب هذا التصور أصبح هدف الدراسة الأدبية هو تفسير النصوص سببيا، من خلال علاقاتها بالمحيط الخارجي، و الغاية من ذلك هي محاكاة مناهج العلوم الطبيعية من اجل أحداث تاريخ علمي للظواهر الأدبية.
إن هذه الطريقة في الدراسة الأدبية اقتصرت على البحث في الأسباب الوقائعية والتكوينية كحياة المؤلف والبيئة الاجتماعية والسياسية والثقافية، حيث لم ترق إلى ملامسة الجوهري في النصوص، فالتجأت إلى فقه اللغة وفروع التاريخ بهدف تفسير معاني الكلمات المفردة وشرح الإحالات والتلميحات مغيبة قيمة الأدب وخصائصه النوعية، حيث عاملت النصوص باعتبارها آثارا ووثائق تاريخية.
لقد هيمن هذا المنظور الوضعي للأدب ردحا من الزمن في أوربا، ولدى العرب المحدثين، وتجلى ذلك من خلال الكم الهائل للمؤلفات التي تدرس المؤلف وأعماله ، وقد أسفرت هذه الدراسات على مجموعة من القضايا تتمثل في الاهتمام المتزايد بتوثيق النصوص وشرحها، وتحقيقها، وبأخبار الكتاب والشعراء والاهتمام بالمؤلفين البارزين بدل المغمورين، وقد نجم ذلك عن غياب لتحديد موضوع الأدب ومفهوم النص. فالأدب كان أرضا بلا مالك ، لذلك كان عرضة للعديد من المناهج والاختصاصات بعيدة كل البعد عن طبيعة الموضوع المدروس، لذلك أصبح لزاما أن يستقل الأدب بموضوعه وبمنهجه. فما هو المنهج الذي تقلد على عاتقه تخليص الأدب من تطاول مناهج العلوم على أرضه :
إنه المنهج البنيوي ، الذي يعتبر تجليا للتحول الجذري الذي عرفته العلوم الإنسانية في القرن العشرين، ورؤية جديدة لمراجعة التصورات السائدة والتقاليد التي رسختها الأفكار السابقة للقرن 19.
ولكي نستجلي الأسباب المفضية لبروز هذا المنهج لا بد من معرفة الأسس الفلسفية التي تمده والتطورات الحاصلة في الدراسة اللغوية والتحول المنهجي الذي أحدثه حركة الشكلاسنين الروس.
أ- المهاد النظري لظهور البنوية :
حركة الشكلاسنين الروس و التثوير المنهجي :
يكاد يجمع مؤرخو الحركة الشكلانية أن البدايات الأولى للشكلانية الروسية بدأت حينما نشر " فكتور شكلوفسكي " مقالته عن الشعر المستقبلي عام 1914 تحت عنوان " انبعاث الكلمة ". أما الانبثاق الفعلي لهذه الحركة فقد جاء نتيجة للاجتماعات والنقاشات ومنشورات جماعتين من الطلاب، الجماعة الأولى أطلق عليها " حلقة موسكو اللغوية "، تأسست عام 1915، وكانت اهتماماتها بالأساس لغوية ، حيث وسعت نطاق اللسانيات لتشمل اللغة الشعرية، ويعد رومان جاكبسون أبرز منظري هذه الحلقة.
أما الجماعة الثانية فقد أطلقت على نفسها اسم " جمعية دراسة اللغة الشعرية " عام 1916 ببطرسبورغ، كانت تتكون من طلبة يهتمون بالأدب، وما كان يوحدهم هو ضجرهم من إشكال الدراسة الأدبية السائدة، بالإضافة إلى اهتمامهم بحركة الشعراء المستقبليين، ويعد فيكور شكلوفسكي وبوريس ايخنباو أهم منظري هذه الحلقة.
لقد اعتبر الشعر المستقبلي كخلفية جمالية انطلقت منها آراء الشكلانيين الروس في تحديدهم لمفهوم الأدب والشعر، حيث أن " المستقبليين كانوا لا يختلفون عن الرمزيين في موفقهم العدائي من الواقعية، فشعار " الكلمة المكتفية بنفسها " الذي تبناه المستقبليون كان يعني التركيز على التنظيم الصوتي المستقل للكلمات، بوصفه شيئا يتميز بذاته عن قدرة الكلمات على الإشارة إلى الأشياء.
لقد الهم هذا التصور المستقبلي مفكري حركة الشكلانين الروس ليهتموا بالصوغ التقني للكاتب ومهارته الحرفية. مما أضفى على نظريتهم طابعا راهنيا، وذلك لارتباطهم بمدرسة ظهرت في مطلع القرن العشرين، كحركة في الرسم ثم انتقلت إلى الإبداع الفني والأدبي واعتبرت كتمرد ضد الفن المتحذلق الذي تطغى فيه الكلمات الفضفاضة والسطحية والابتذال ، مركزين اهتمامهم على الملموس من الحياة اليومية المعاصرة ، وتفجير الشكل الفني والبحث عن لغة فنية جديدة.
كان هم الشكلانين هو إرساء دعائم الدراسة الأدبية على قاعدة مستقلة. حيث حولت مركز الاهتمام من الشخص إلى النص. فكان السؤال الأول بالنسبة لهم ليس " كيفية دراسة الأدب، وإنما الماهية الفعلية لموضوع بحث الدراسة الأدبية .
فأولى خطوات المنهج الشكلي هو تحديد الموضوع، لان هذه العملية هي التي ستتحكم في تحديد النظرية. لقد انطلقت الشكلانية من استبعاد كل التعريفات التي تحدد الأدب باعتباره محاكاة وتعبـــــيرا أو تفكيرا بالصور. لان هذه التعريفات تغفل خصوصية السمات الأدبية. لذا، فان التعريف المقترح للأدب سيركز على أسس فارقية، فالأدب يتكون " ببساطة، من الفرق بينه وبين نظم الواقع الأخرى. ويتبين في الحقيقة أن موضوع علم الأدب ليس موضوعا على الإطلاق وإنما مجموعة من الفروق . ويصبح مفهوم التغريب هو الأداة الإجرائية لتحديد الطابع الفارقي، بحيث يصير الأدب مضادا لكل معتاد. يزيل أقنعة الألفة عن الأشياء فتصبح غريبة تثير فينا الإحساس بالحياة. فالأمر شبيه بالمشي والرقص، حيث أن الأول لا نحس به، لأنه مألوف بالعادة ، أما الثاني فيجدد إحساسنا بحركات المشي.
إن مهمه النظرية الشكلية هي تحليل الفروق المتعارضة بين اللغة العملية - لغة التواصل اليومي - واللغة الشعرية. إذ يستحيل تعريف الشعر من الداخل فليس هناك مواضيع شعرية أصيلة، ففي العصر الحديث تراجعت المواضيع الشعرية للشعر الرومانتيكي (مثل ضوء القمر - البحيرات - العنادل - القلاع ... ) أمام أكثر المواضيع ابتذالا، وبالمثل فلا يمكننا رسم معالم الشعر كمجال محدد للتحليل إلا من خلال مقارنته بما ليس شعرا.
فما هو الأساس الذي سيبنى عليه تحديد الموضوع ؟
يطرح جاكسبون السؤال الماهوي التقليدي ما الشعر ؟ فيجيب إنه " ينبغي لنا إذا أردنا تحديد هذا المفهوم أن نعارضه بما ليس شعرا، إلا أن تعيين ما ليس شعرا ليس اليوم، بالأمر السهل . إن هذا الإشكال المطروح من طرف جاكسبون يستضمر تاريخيا طويلا ساهم في تشييد نظرية حول استقلالية الأدب بموضوعه، فقد كان الأدب منذ القديم جزءا من موضع خطابات نظرية مختلفة، كالخطابة التي تضمنت بطريقة ما بعض مظاهر الأدب الموجودة فيها، ونظرية التأويل التي اهتمت بالنصوص المقدسة وكانت تناقش البنيات اللفظية الموجودة في الأدب كالرمز والمجازات الشعرية والتأمل حول الأجناس الأدبية ثم أخيرا ظهور فكرة وحدة الفن التي سيبلورها علم الجمال.
إن هذه التطورات لم تسفر عن تأسيس مفهوم للأدب إلا أنها مهدت الطريق لظهور هذا المفهوم، فمفهوم الأدب لم يأخذ استقلالية إلا " مع حلول النزعة الرومانسية (الألمانية)، وسيكون ذلك بداية نظرية الأدب بالمعنى الدقيق. (وبدون تحفظ هذه المرة). لقد توقفت مفاهيم التمثيل والتقليد عن دورها المهيمن لتعوض في قمة الهرم بالجميل، وكل ما ارتبط به من غياب الغائبة الخارجية والانسجام المتناغم بين أجزاء الكل وعدم قابلية العمل للترجمة، كل هذه المفاهيم اتجهت نحو استقلالية الأدب، وأفضت إلى تساؤل حول مميزاته الخاصة.
إن حركة الشعراء المستقبلين في روسيا، وكتابات الرومانسيين الألمان ستوجه اهتمام النظرية الأدبية نحو التركيز على جانب الانسجام الداخلي للنصوص الأدبية، وستفسح المجال للإعلان عن ميلاد علم للأدب، منذ أن طلق جاكبسون عام 1919 قولته التي أصبحت فيما بعد كبيان يختزل عمل الشكلانين والشعرين والبنيويين حيث قال " ليس موضوع علم الأدب هو الأدب وإنما الأدبية أي ما يجعل من عمل ما عملا أدبيا . فما المقصود بالأدبية ؟ يجيب تودوروف في كتابه الشعرية عن تحديد هذا المفهوم المركزي بقوله " ليس العمل الأدبي في حد ذاته هو موضوع الشعرية، فما تستنطقه هو خصائص هذا الخطاب النوعي الذي هو الخطاب الأدبي، وكل عمل عندئذ لا يعتبر إلا تجليا لبنية محددة وعامة، ليس العمل إلا إنجازاتها الممكنة ولكل ذلك فان هذا العلم لا يعنى بالأدب الحقيقي بل بالأدب الممكن، وبعبارة أخرى يعنى بتلك الخصائص المجردة التي تصنع فرادة الحدث الأدبي، أي الأدبية .
إذن، فاستراتيجية علم الأدب أو الشعرية ستتقدم نحو المقاربة المجردة والباطنية للأدب الممكن وليس الإنجازات الكائنة بحثا عن القوانين المنظمة للأدب من الداخل.
سيضفي مفهوم الأدبية على النظرية الشكلانية طابع العلمية والنسقية، والاهتمام بالخصائص الشكلية للأدب فيسهم في إيجاد أجوبة حول القضايا التي تخص الأدب من الخارج.
2/ قضية المؤلف والفكر والواقع الخارجي من المنظور الشكلاني :
لقد طرح على الشكلانيين كيفية التعامل مع المؤلف والأفكار والواقع باعتبارها مكونات أساسية في العملية الأدبية. فكيف أجابت عن هذه الإشكالية ؟
ستحاول الشكلانية إعادة صياغة هذه العناصر لتخضعها إلى تحول جذري نتيجة للتصورات الجديدة حول مفهوم الأدب باعتباره تقنية، وباعتباره تطورا في الإشكال.
لم يعد للمؤلف نفس الدور الذي كان يلعبه في النقد السيري، لان ما يشكل موضوع الدراسة الأدبية ليس الأعمال الأدبية المفردة وإنما الأدبية، بحيث أن العمل الأدبي يرتبط بالنسق الأدبي بصورة عامة وليس بشخصية مؤلفة، فالشاعر في النظرية الشكلانية لم يعد ينظر إليه كصاحب رؤى أو عبقرية وإنما نظر إليه " كعامل ماهر يرتب، أو بالأحرى يعيد ترتيب المادة التي يصادق وجودها في متناوله، إن وظيفة المؤلف هي أن يكون على معرفة بالأدب، أما ما يعرفه عن الحياة أو ما لا يعرفه، فأمر غير ذي أهمية لوظيفته تلك ، إن هذا التصور يذكرنا بالمنجز النقدي العربي القديم خصوصا عند نقادنا الذين قالوا بأن الشعر صناعة وأن الشاعر يقوم بوظيفة السبك والصوغ ولا اعتبار بالمادة التي يصوغ فيها.
فتطور الأدب لا يتوقف على ظروف المؤلف أو تكوينه النفسي، وإنما على الإشكال الأدبية السابقة، بتجديد الأدوات عن طريق التغريب.
أما قضية الواقع التي اعتبرت حجر الزاوية في نظرية المحاكاة، فان الشكلانيين تعاملوا معها تعاملا مختلفا، وذلك انطلاقا من مفهومهم لعملية الإنتاج الأدبي الذي ينبني على قاعدة أساسية وهي أن الأدب ينشأ من الأدب، حيث يتوارى الواقع ويصبح غير ذي جدوى، فالتغيير الأدبي " لا يقرره تبدل الواقع وإنما الحاجة لإنعاش الإشكال الأدبية. ويمثل الإدراك المتجدد للأدوات الشكلية جانبا جوهريا من جوانب الأدبية، أما مقياس مشابهة الواقع فهو في نظر المشروع الشكلاني مقياس يجانب الموضوع، ويقوم الشكلانيون الشكل الأدبي من خلال امتلاكه قابلية الإدراك الحسي وليس من خلال قدرته على المحاكاة .
إن الأديب لا يحاكي الواقع وإنما يغربه وينزع عنه طابع الألفة. ففهم النصوص لا يعود إلى ربطها بمرجعها الواقعي، وإنما بربطها بنصوص أخرى، فقد أبرز " تينيانوف " في دراسة حول ( نظرية المحاكاة الساخرة ) " استحالة الفهم العميق لنص من نصوص دوستوفسكي دون العودة إلى هذا النص أو ذاك من نصوص غوغول ، فالواقع يلعب دورا ثانويا في بناء الأدب ، مثله مثل باقي المعطيات التي يبدأ بها الكاتب. فالشكلانيون ينظرون إلى أفكار القصيدة وموضوعاتها وإشاراتها على أنها مجرد ذريعة خارجية يلجأ إليها الكاتب لتبرير استخدامه الوسائل الشكلية ، وهم يطلقون على هذا الاعتماد على العناصر الخارجية غير الأدبية اسم " التحفيز " "motivation" .
أما بالنسبة للأفكار ، فإن الشكلانية لم تعرها اهتماما لأنها تندرج ضمن مواد البناء. فقد أعطت الشكلانية الأولوية للشكل على حساب المضمون ، حيث أعيد النظر في هذه الثنائية القديمة التي كانت تعتبر الشكل وعاء للمضمون ، وبذلك " يصبح المضمون متوقفا على الشكل دون أن يكون له وجود مستقل ضمن الأدب ، فليس بوسع التحليل الأدبي استقراء المضمون من الشكل إذ أن الشكل لا يتقرر بفعل المضمون وإنما بفعل الأشكال الأخرى . فالفن لا يعبر عن نفسه في العناصر المشكلة للعمل الأدبي وإنما من الاستعمال المتميز لتلك العناصر ، وبذلك اكتسى مفهوم الشكل معنى جديدا " إنه لم يعد غشاء ولا غطاء " ، وإنما وحدة دينامية وملموسة ، لها معنى في ذاتها خارج كل عنصر إضافي ، وها هنا يبرز الفرق بين المذهب الشكلاني والمبادئ الرمزية التي ترى أنه يجب أن يستشف ، عبر الشكل شيء من المضمون، كذلك تم تذليل عقبة النزعة الجمالية ، وهي الإعجاب ببعض عناصر الشكل بعد عزلها عن المضمون ".
سيبلور هذا التحول الجذري من مواطن الاهتمام لدى الشكلانيين مجموعة من المفاهيم والأدوات الإجرائية لدراسة الأدب دراسة عملية، فبعد أن حددت الشكلانية موضوعها و - هو الأدبية- ستبحث عن منهج يتلاءم مع الموضوع ، ومادامت مواد البناء من الأدب تستقي من اللغة. فإن الاهتمام سينصب على الجانب التقني فيها، لذلك نجد أن الشكلانيين الروس قد استهلوا أعمالهم بدراسة الأصوات لأن هذه المسألة كانت في عصرهم من أعقد المسائل المتعلقة بدراسة البناء الصوتي للشعر. وقد ظهر هذا الاهتمام بالأصوات من دراسة ( تروبيتزكوى ) ومن النظرية التي قدمها جاكسون حول الفونيم phoneme فالمحاضرات التي ألقاها حول " الصوت والمعنى " اعتبرت مدخلا نقديا للأفكار الشائعة حول الصوات وأثرها من المعاني ، حيث أن هذه المحاضرة شكلت أساسا لعلم اللغة البنيوي.
- عيسى بلخباطعضو جديد
- البلد :
الجنس :
عدد المساهمات : 9
نقاط تميز العضو : 95690
تاريخ التسجيل : 22/10/2011
العمر : 44
رد: أدبية الادب
22/10/11, 02:29 pm
الأدب ظاهرة انسانية بالغة التعقيد، وهو مرتبط في مفهومه بجوانب مختلفة تتكامل فيما بينها لتصل إلى مفهوم أكثر عمقا وتماسك .
وكلمة أدب لفظة تطلق على جميع المعارف سواء كانت دينيه أم دنيوية والأدب بحد ذاته لا موضوع له في اثبات عوارضه أو نفيها ويقصد به عند أهل اللسان ثمرته أي الاجادة في فني المنظوم والمنثور فالأدب هو الأخذ من كل علم بطرف
والأدب الحديث نشأ نتيجة التفاعل الثقافي الذي عاشه الوطن العربي في القرنين الأخيرين وتدل كلمته على التبحر في الثقافة الأدبية .
ومن خلال الأدب نستطيع أن نميز بين الجميل والجيد والحقيقي والمفيد فمفهوم الأدب موازيا لمفهوم الفنون التشكيلية والموسيقى وغيرها من الفنون الجميلة وأصبح له مكانة بارزة لاحتوائه على الامتياز الفكري في كل حقل معرفي ماأدى إلى تطور الأجناس الأدبية والأدب حيث يتخذ الأدب من اللغة أداة له ويُظهر ذلك في هيئة انشاء .
ماهي أداة الأدب أو الأديب؟ أداة الأدب هي اللغة .
• هي أداة إنسانية ابتدعها الانسان لتكون أداة لتفكيره وتعبيره وتواصله مع أفراد المجتمع
• هي أداة ثقافية موروثة فالانسان اذا استوعب لغته الأم فإنه يستوعب نظامها ويستوعب ثقافته المدونة فيها لأنه يكتسب لغته بالممارسة ويواجهها نصوصا أدبية وغير أدبية من مختلف العصور من خلال مراحل تكوينها اللغوي والفكري والثقافي
• اللغة أداة مليئة بالتراث الثقافي الذي تنتمي اليه بما فيها من ثقافات لغوية
تعريف المدرسة الشكلية الروسية؟ وما اشتملت عليه؟
هي إحدى المذاهب المؤثرة في ميدان النقد الأدبي في روسيا في الفترة بين العام 1910 و 1930, واشتملت على أعمال العديد من المفكرين الروس ذوي التأثير الكبير على الساحة الأدبية .
أبرز شخصيات المدرسة الشكلية .
فيكتور شيكلوفسكي ورومان جاكوبسون وجريكوري فينكور, هم من أحدث ثورة في ميدان النقد الأدبي بين العام 1914 حتى الثلاثينيات و بذل هؤلاء جهودا للتأكيد على خصوصية لغة الشعر والأدب واستقلاليتها .
تأثير المدرسة الشكلية أو الشكلانية على المفكرين
أثرت المدرسة الشكلية الروسية أثرا ً كبيرا ً على العديد من المفكرين مثل مايكل باختين ويوري لوتمان .
بالإضافة إلى تأثيرها على المدرسة البنيوية بأكملها .
وكان لأعضاء هذه الحركة الأدبية وأعمالهم انعكاسات على صعيد النقد الأدبي الحديث أثناء تطور المدرسة البنيوية وما بعد البنيوية .
وتعد الشكلانية الروسية حركة متشعبة لا يجمع مناصريها فكرة موحدة ولا أهداف واضحة لجهودهم وأعمالهم, وهي تجمع في واقع الأمر بين مؤسستين أدبيتين هما :
1- جمعية دراسة اللغة الشعرية في سانت بطرسبرغ
2- الدائرة اللغوية في موسكو
فالشكليين الروس مصطلح أطلق على الشكلية و يشير إلى معان يرفضها الشكليون أنفسهم .
هدف الشكلانية الروسية: الوصول إلى تحديد منهج موضوعي .ومن خلال هذا المنهج سيمكن دراسة الأدب، وسماته التي تميزه عن غيره فهو أقرب إلى الأسلوب العلمي .
ما الذي رفضته الشكلانية الروسية؟
رفضت الشكلانية أن يعامل الأدب على أنه صورة مرآتية عن سيرة المؤلف وخلفيته أو توثيقاً تاريخياً أو اجتماعياً, بل أن الأدب "مُنتج" له استقلاليته وخصوصيته .
بماذا اهتمت الشكلانية الروسية؟
اهتمت بوظيفة الأدوات الأدبية المستخدمة ، وتتبع نشأتها في التاريخ الأدبي .
ما الطريقة التي وضعها الشكليون الروس لدراسة الشعر؟
اتبعوا الطريقة العلمية لدراسة لغة الشعر، واستبعدوا المناهج النفسية، والثقافية التاريخية في دراسة الشعر والتي كانت سائدة حينها .
مباديء الشكلية الروسية في الأدب .
وكان للمدرسة الشكلية الروسية مبدءان في دراسة الأدب هما :
1- الأدب نفسه. أوالسمات الأدبية التي تميز الأدب عما سواه من الأنشطة البشرية, والتي يجب أن تشكل الأساس التي تتوجه لدارسته النظرية الأدبية ,
2- أما المبدأ الثاني فهو "الحقائق الأدبية" والتي يجب أن تعطى الأولوية فوق المسلمات الميتافيزيقية في النقد الأدبي سواء كانت فلسفية أو جمالية أو نفسية .
وتم تطوير العديد من النماذج لتحقيق هذه الأهداف. وقد كان هنالك توافق بين الشكليين على الطبيعة المستقلة للغة الشعر وخصوصيتها كموضوع يخضع للدارسة في النقد الأدبي .
لقد سعى الشكليون بشكل خاص إلى تحديد السمات الخاصة باللغة الشعرية, سواء كان ذلك في الشعر أو في النثر, من خلال تحديد البعد الفني فيها والعمل على تحليلها .
وكان هنالك اتفاق على رفض الصورة النمطية التي تقول بأن الشعر فكرة مصورة مجازياً .
وانتقل الشكليون إلى دراسة أدبية الأدب بدل دراسة الأدب, والتركيز على الأدب من ناحية أنه أدب بدل من اعتباره وسيطاً ينتقل من خلاله أمر آخر .
خصائص المدرسة الشكلانية :
1- اهمال شخصية الكاتب والقارئ عند جاكوبسون و ليف جاكوبينسكي. والاهتمام باللغة الشعرية كأساس لدراستهم وبحثهم .
2- رفض جاكوبسون العاطفة كأساس للأدب, واعتبرها ثانوية في وجهة نظره واعتمد بشكل أساسي على الحقائق اللغوية الصرفة .
3- فرق الشكلانيين بين اللغة الشعرية ، واللغة العملية .فاللغة العملية تستعمل في التواصل اليومي بين الناس لإيصال المعلومات. أما اللغة الشعرية فتكون للارتباطات اللغوية في الخطاب قيمة ذاتية فيها .
4- العمل الأدبي عند الشكلانيين يتجاوز نفسية الكاتب والقارئ ويصبح له وجوداً مستقلاً بمجرد وضعه وإنشاءه .
5- لا يمكن للقارئ أن يقرأ الأدب قراءة تصفحية سريعة لأن اللغة الشعرية لم تكتب ليتم تصفحها والمرور عليها مروراً عابراً .
6- الأدب عند الشكليين يساعد على إحياء الوعي اللغوي لدى القارئ لأن الخطاب اليومي العملي يجعل تفاعلنا مع اللغة مع مرور الوقت خاملاً متبلداً .
7- الأدب عند الشكلانيين يساعد على بعث الوعي من جديد وينشيط الاستجابات العفوية ويجعل الأمور أكثر وضوحاً .
8- ساعدت المدرسة الشكلانية الروسية على ظهور مدرسة براغ البنيوية في منتصف العشرينيات ,
وكانت مدرسة براغ أنموذجاً للجناح الأدبي في المدرسة البنيوية الفرنسية في الستينيات والسبعينيات في القرن العشرين .
ما هي البنيوية معناها ومتى برزت؟
البنيوية: برزت البنيوية في الستينيات من القرن الماضي، واختلفت آراء البنيويين في البنيوية وهي علم يؤمن بأن اللغة عبارة عن نظام يتكون من عدة نظم .
وهي مجموعة من العلامات أو الرموز إلا أن هذه العلامات و تلك الرموز تتكون أولا من أصوات تحدثها أعضاء النطق الانساني و تدركها الأذن .
و هذه الأصوات تتركب بطريقة اصطلاحية في وحدات ذات دلالات نسميها الكلمات و الجمل
والعلامات والرموز يكونون مجموعة النظم في اللغة و هي النظام الصوتي
و النظام الفنولوجي
و النظام المورفولوجي
و النظام النحوي
و النظام الدلالي و جميعها ذات وجود مستقل و لكنها تصب في النهاية في نظام واحد متكامل و متناسق (هو ما يسمى بالنطام اللغوي ).
ا ما قام به سوسير في البنيوية
1- سوسير أول واضع للأصول الأولى للنظرية البنيوية بهذا المعنى العام
2- أرسى المبادئ في التحليل اللغوي و دراسة اللغة .
3- فرق بين الدراسة الوصفية و الدراسة التاريخية .
4- وجه اهتمامه و اهتمام علماء اللغة من بعده إلى الدراسة الوصفية .
فيم ينحصر المذهب البنيوي بالمعنى الضيق؟
ينحصر في أعمال مدرسة براج التي تزعمها العالم اللغوي تربتسكواى في الفترة من 1923 - 1928 م و كان اهتمام هذه المدرسة و زعيمها منصبا على الفنولوجيا بما لها من صلة بمستويات التحليل الأخرى للغة .
ولذلك قالوا: أن تحليل أي عنصر لغوي تحليلا علميا لا يمكن أن يتم في عزلة عن بقية العناصر اللغوية الأخرى .
كيف تنظرمدرسة براج إلى ما يسمى بالفونيم؟
تنظر إليه على أنه وحدة معقدة ذات صلة بالوحدات اللغوية الأخرى وأنه عبارة عن مجموعة ملامح منفصلة متميزة في ذاتها و لكنها بحكم اتصالها العضوي تكوّن في النهاية الفونيم .
فالجهر و المهس و الانفجار و غير ذلك من الصفات الصوتية كلها من الملامح التي تميز فونيما عن فونيم آخر داخل اللغة الواحدة
ما الذي قدمه سوسير للبنيوية اللغوية؟
1- جرد اللغة من دلالاتها الإشارية المألوفة .
2- شخص اللغة بأنها نظاماً من الرموز يقوم على علاقات ثنائية .
3- أظهرت فكرة " البنية ".
4- ومن أبرز ما قرره سوسير بقوة مبدأ "اعتباطية الرمز اللغوي" أي أن أشكال التواصل الإنساني ما هي إلا أنظمة تتكون من مجموعة من العلاقات ترتبط ارتباطاً طبيعياً أو منطقياً أو وظيفياً بمدلولات العالم الطبيعي ".
ماهي الفونولوجيا؟
الفونولوجيا علم يبحث عن الاختلافات الصوتية التي ترتبط في لغة ما باختلاف الدلالات، وعن توظيف عناصرالا ختلاف والقواعد التي تحكم هذه العناصروتمكنها من ان تاتلف فيما بينها لتشكيل كلمات او جمل .
ما رأي علماء اللغة بالفونولوجيا؟ ومن أشهر المهتمين فيها؟
1- ياكبسون قال بعدم الاكتفاء بدراسة التغيرات الصوتية الطارئة بمعزل عن البيئة اللغوية .
2- تروبتسكوي- قام بتاسيس علمين للاصوات اللغوية على أن يكون لكل منهما موضوعا منفصلا عن الآخر وهما .
الاول: علم اصوات الكلام phonetique وهو ينصب على تحليل الظواهر الفيزيائيةويستعمل العلوم الطبيعية .
والثاني:علم اصوات اللغة . phonologie وهو يستعمل مناهج بحث لغوية صرفة. بان تجيب الصوتيات عن سؤال..كيف ينطق هذا الصوت او ذاك؟
• ما الأمور الواجب على الفونولوجيا أن تدرسها؟
1- عليها ان تدرس الخصائص الفزيولوجية والفيزيائية للصوت
2- تتميز باقصائهاللعلاقةالقائمة بين المتوالية الصوتية ودلالتها اللغوية لذلك فهي تدرس فقط الوجه المادي للاصوات ..
ما المقصود بالعلامة اللغوية في اللغة؟
3- العلامة هي الدليل والرمز و ايضا الايقون . فاللغة لا تضم الرموز و الايقونات فقط وانما تضم العلامات و الدلائل اللغوية .
مم تتكون العلامة؟
تتكون العلامات من اصوات , و الاصوات تتركب من وحدات دلالية , ( كالكلمات و الجمل و كل ذلك يشكل مجموعة من النظم داخل اللغة ...
وكلمة أدب لفظة تطلق على جميع المعارف سواء كانت دينيه أم دنيوية والأدب بحد ذاته لا موضوع له في اثبات عوارضه أو نفيها ويقصد به عند أهل اللسان ثمرته أي الاجادة في فني المنظوم والمنثور فالأدب هو الأخذ من كل علم بطرف
والأدب الحديث نشأ نتيجة التفاعل الثقافي الذي عاشه الوطن العربي في القرنين الأخيرين وتدل كلمته على التبحر في الثقافة الأدبية .
ومن خلال الأدب نستطيع أن نميز بين الجميل والجيد والحقيقي والمفيد فمفهوم الأدب موازيا لمفهوم الفنون التشكيلية والموسيقى وغيرها من الفنون الجميلة وأصبح له مكانة بارزة لاحتوائه على الامتياز الفكري في كل حقل معرفي ماأدى إلى تطور الأجناس الأدبية والأدب حيث يتخذ الأدب من اللغة أداة له ويُظهر ذلك في هيئة انشاء .
ماهي أداة الأدب أو الأديب؟ أداة الأدب هي اللغة .
• هي أداة إنسانية ابتدعها الانسان لتكون أداة لتفكيره وتعبيره وتواصله مع أفراد المجتمع
• هي أداة ثقافية موروثة فالانسان اذا استوعب لغته الأم فإنه يستوعب نظامها ويستوعب ثقافته المدونة فيها لأنه يكتسب لغته بالممارسة ويواجهها نصوصا أدبية وغير أدبية من مختلف العصور من خلال مراحل تكوينها اللغوي والفكري والثقافي
• اللغة أداة مليئة بالتراث الثقافي الذي تنتمي اليه بما فيها من ثقافات لغوية
تعريف المدرسة الشكلية الروسية؟ وما اشتملت عليه؟
هي إحدى المذاهب المؤثرة في ميدان النقد الأدبي في روسيا في الفترة بين العام 1910 و 1930, واشتملت على أعمال العديد من المفكرين الروس ذوي التأثير الكبير على الساحة الأدبية .
أبرز شخصيات المدرسة الشكلية .
فيكتور شيكلوفسكي ورومان جاكوبسون وجريكوري فينكور, هم من أحدث ثورة في ميدان النقد الأدبي بين العام 1914 حتى الثلاثينيات و بذل هؤلاء جهودا للتأكيد على خصوصية لغة الشعر والأدب واستقلاليتها .
تأثير المدرسة الشكلية أو الشكلانية على المفكرين
أثرت المدرسة الشكلية الروسية أثرا ً كبيرا ً على العديد من المفكرين مثل مايكل باختين ويوري لوتمان .
بالإضافة إلى تأثيرها على المدرسة البنيوية بأكملها .
وكان لأعضاء هذه الحركة الأدبية وأعمالهم انعكاسات على صعيد النقد الأدبي الحديث أثناء تطور المدرسة البنيوية وما بعد البنيوية .
وتعد الشكلانية الروسية حركة متشعبة لا يجمع مناصريها فكرة موحدة ولا أهداف واضحة لجهودهم وأعمالهم, وهي تجمع في واقع الأمر بين مؤسستين أدبيتين هما :
1- جمعية دراسة اللغة الشعرية في سانت بطرسبرغ
2- الدائرة اللغوية في موسكو
فالشكليين الروس مصطلح أطلق على الشكلية و يشير إلى معان يرفضها الشكليون أنفسهم .
هدف الشكلانية الروسية: الوصول إلى تحديد منهج موضوعي .ومن خلال هذا المنهج سيمكن دراسة الأدب، وسماته التي تميزه عن غيره فهو أقرب إلى الأسلوب العلمي .
ما الذي رفضته الشكلانية الروسية؟
رفضت الشكلانية أن يعامل الأدب على أنه صورة مرآتية عن سيرة المؤلف وخلفيته أو توثيقاً تاريخياً أو اجتماعياً, بل أن الأدب "مُنتج" له استقلاليته وخصوصيته .
بماذا اهتمت الشكلانية الروسية؟
اهتمت بوظيفة الأدوات الأدبية المستخدمة ، وتتبع نشأتها في التاريخ الأدبي .
ما الطريقة التي وضعها الشكليون الروس لدراسة الشعر؟
اتبعوا الطريقة العلمية لدراسة لغة الشعر، واستبعدوا المناهج النفسية، والثقافية التاريخية في دراسة الشعر والتي كانت سائدة حينها .
مباديء الشكلية الروسية في الأدب .
وكان للمدرسة الشكلية الروسية مبدءان في دراسة الأدب هما :
1- الأدب نفسه. أوالسمات الأدبية التي تميز الأدب عما سواه من الأنشطة البشرية, والتي يجب أن تشكل الأساس التي تتوجه لدارسته النظرية الأدبية ,
2- أما المبدأ الثاني فهو "الحقائق الأدبية" والتي يجب أن تعطى الأولوية فوق المسلمات الميتافيزيقية في النقد الأدبي سواء كانت فلسفية أو جمالية أو نفسية .
وتم تطوير العديد من النماذج لتحقيق هذه الأهداف. وقد كان هنالك توافق بين الشكليين على الطبيعة المستقلة للغة الشعر وخصوصيتها كموضوع يخضع للدارسة في النقد الأدبي .
لقد سعى الشكليون بشكل خاص إلى تحديد السمات الخاصة باللغة الشعرية, سواء كان ذلك في الشعر أو في النثر, من خلال تحديد البعد الفني فيها والعمل على تحليلها .
وكان هنالك اتفاق على رفض الصورة النمطية التي تقول بأن الشعر فكرة مصورة مجازياً .
وانتقل الشكليون إلى دراسة أدبية الأدب بدل دراسة الأدب, والتركيز على الأدب من ناحية أنه أدب بدل من اعتباره وسيطاً ينتقل من خلاله أمر آخر .
خصائص المدرسة الشكلانية :
1- اهمال شخصية الكاتب والقارئ عند جاكوبسون و ليف جاكوبينسكي. والاهتمام باللغة الشعرية كأساس لدراستهم وبحثهم .
2- رفض جاكوبسون العاطفة كأساس للأدب, واعتبرها ثانوية في وجهة نظره واعتمد بشكل أساسي على الحقائق اللغوية الصرفة .
3- فرق الشكلانيين بين اللغة الشعرية ، واللغة العملية .فاللغة العملية تستعمل في التواصل اليومي بين الناس لإيصال المعلومات. أما اللغة الشعرية فتكون للارتباطات اللغوية في الخطاب قيمة ذاتية فيها .
4- العمل الأدبي عند الشكلانيين يتجاوز نفسية الكاتب والقارئ ويصبح له وجوداً مستقلاً بمجرد وضعه وإنشاءه .
5- لا يمكن للقارئ أن يقرأ الأدب قراءة تصفحية سريعة لأن اللغة الشعرية لم تكتب ليتم تصفحها والمرور عليها مروراً عابراً .
6- الأدب عند الشكليين يساعد على إحياء الوعي اللغوي لدى القارئ لأن الخطاب اليومي العملي يجعل تفاعلنا مع اللغة مع مرور الوقت خاملاً متبلداً .
7- الأدب عند الشكلانيين يساعد على بعث الوعي من جديد وينشيط الاستجابات العفوية ويجعل الأمور أكثر وضوحاً .
8- ساعدت المدرسة الشكلانية الروسية على ظهور مدرسة براغ البنيوية في منتصف العشرينيات ,
وكانت مدرسة براغ أنموذجاً للجناح الأدبي في المدرسة البنيوية الفرنسية في الستينيات والسبعينيات في القرن العشرين .
ما هي البنيوية معناها ومتى برزت؟
البنيوية: برزت البنيوية في الستينيات من القرن الماضي، واختلفت آراء البنيويين في البنيوية وهي علم يؤمن بأن اللغة عبارة عن نظام يتكون من عدة نظم .
وهي مجموعة من العلامات أو الرموز إلا أن هذه العلامات و تلك الرموز تتكون أولا من أصوات تحدثها أعضاء النطق الانساني و تدركها الأذن .
و هذه الأصوات تتركب بطريقة اصطلاحية في وحدات ذات دلالات نسميها الكلمات و الجمل
والعلامات والرموز يكونون مجموعة النظم في اللغة و هي النظام الصوتي
و النظام الفنولوجي
و النظام المورفولوجي
و النظام النحوي
و النظام الدلالي و جميعها ذات وجود مستقل و لكنها تصب في النهاية في نظام واحد متكامل و متناسق (هو ما يسمى بالنطام اللغوي ).
ا ما قام به سوسير في البنيوية
1- سوسير أول واضع للأصول الأولى للنظرية البنيوية بهذا المعنى العام
2- أرسى المبادئ في التحليل اللغوي و دراسة اللغة .
3- فرق بين الدراسة الوصفية و الدراسة التاريخية .
4- وجه اهتمامه و اهتمام علماء اللغة من بعده إلى الدراسة الوصفية .
فيم ينحصر المذهب البنيوي بالمعنى الضيق؟
ينحصر في أعمال مدرسة براج التي تزعمها العالم اللغوي تربتسكواى في الفترة من 1923 - 1928 م و كان اهتمام هذه المدرسة و زعيمها منصبا على الفنولوجيا بما لها من صلة بمستويات التحليل الأخرى للغة .
ولذلك قالوا: أن تحليل أي عنصر لغوي تحليلا علميا لا يمكن أن يتم في عزلة عن بقية العناصر اللغوية الأخرى .
كيف تنظرمدرسة براج إلى ما يسمى بالفونيم؟
تنظر إليه على أنه وحدة معقدة ذات صلة بالوحدات اللغوية الأخرى وأنه عبارة عن مجموعة ملامح منفصلة متميزة في ذاتها و لكنها بحكم اتصالها العضوي تكوّن في النهاية الفونيم .
فالجهر و المهس و الانفجار و غير ذلك من الصفات الصوتية كلها من الملامح التي تميز فونيما عن فونيم آخر داخل اللغة الواحدة
ما الذي قدمه سوسير للبنيوية اللغوية؟
1- جرد اللغة من دلالاتها الإشارية المألوفة .
2- شخص اللغة بأنها نظاماً من الرموز يقوم على علاقات ثنائية .
3- أظهرت فكرة " البنية ".
4- ومن أبرز ما قرره سوسير بقوة مبدأ "اعتباطية الرمز اللغوي" أي أن أشكال التواصل الإنساني ما هي إلا أنظمة تتكون من مجموعة من العلاقات ترتبط ارتباطاً طبيعياً أو منطقياً أو وظيفياً بمدلولات العالم الطبيعي ".
ماهي الفونولوجيا؟
الفونولوجيا علم يبحث عن الاختلافات الصوتية التي ترتبط في لغة ما باختلاف الدلالات، وعن توظيف عناصرالا ختلاف والقواعد التي تحكم هذه العناصروتمكنها من ان تاتلف فيما بينها لتشكيل كلمات او جمل .
ما رأي علماء اللغة بالفونولوجيا؟ ومن أشهر المهتمين فيها؟
1- ياكبسون قال بعدم الاكتفاء بدراسة التغيرات الصوتية الطارئة بمعزل عن البيئة اللغوية .
2- تروبتسكوي- قام بتاسيس علمين للاصوات اللغوية على أن يكون لكل منهما موضوعا منفصلا عن الآخر وهما .
الاول: علم اصوات الكلام phonetique وهو ينصب على تحليل الظواهر الفيزيائيةويستعمل العلوم الطبيعية .
والثاني:علم اصوات اللغة . phonologie وهو يستعمل مناهج بحث لغوية صرفة. بان تجيب الصوتيات عن سؤال..كيف ينطق هذا الصوت او ذاك؟
• ما الأمور الواجب على الفونولوجيا أن تدرسها؟
1- عليها ان تدرس الخصائص الفزيولوجية والفيزيائية للصوت
2- تتميز باقصائهاللعلاقةالقائمة بين المتوالية الصوتية ودلالتها اللغوية لذلك فهي تدرس فقط الوجه المادي للاصوات ..
ما المقصود بالعلامة اللغوية في اللغة؟
3- العلامة هي الدليل والرمز و ايضا الايقون . فاللغة لا تضم الرموز و الايقونات فقط وانما تضم العلامات و الدلائل اللغوية .
مم تتكون العلامة؟
تتكون العلامات من اصوات , و الاصوات تتركب من وحدات دلالية , ( كالكلمات و الجمل و كل ذلك يشكل مجموعة من النظم داخل اللغة ...
- عيسى بلخباطعضو جديد
- البلد :
الجنس :
عدد المساهمات : 9
نقاط تميز العضو : 95690
تاريخ التسجيل : 22/10/2011
العمر : 44
رد: أدبية الادب
22/10/11, 02:31 pm
الأثر اللساني في الدراسات الأدبية
استهلال :
لا أحد يمكنه أن يتجاهل تلك العلاقة الجدلية التي تصل الأديب بمحيطه الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي العام الذي ينتمي إليه " فالأدب مؤسسة اجتماعية ، أداته اللغة وهي من خلود المجتمع .. أضف إلى ذلك أن الأدب يمثل الحياة في أوسع مقاييسها حقيقة اجتماعية واقعة . فالشاعر نفسه عضو في مجتمع منغمس في وضع اجتماعي معين ويتلقى نوعا من الاعتراف الاجتماعي والمكافأة كما أنه يخاطب جمهورا مهما كان افتراضيا " 1، غير أن الإشكال يطرح حين نود رسم الحدود الفاصلة بين المجالين معا ، مجال المنتج ( الأديب ) ، ومجال المحيط أو ( المناخ ) الذي ساهم في إبراز هذا الأديب .
لقد تعددت الإجابات وتنوعت زوايا النظر إلى هذه العلاقة . إلا أن اللافت للنظر هو تلك الهيمنة الملحوظة لمناهج وأساليب تحليل الظاهرة الأدبية من منظور خارجي ، امتدت ملامحها إلى فترات غير بعيدة نسبيا مقارنة بما يعرف الآن بالمناهج ( الحديثة) 2.
إلا أنه – وأمام هذا التمادي في إسقاط عوامل خارجية على الأدب وتفسيره انطلاقا من البنيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية – ظهرت مناهج أخرى ، حاولت أن تعيد الاعتبار لمكانة الظاهرة الأدبية ، وذلك بالـــتـخــلي عـــن دراستها وتحليلها من منطلقات الواقــع وإفـرازاته ، لتنطلق مـع تـــعامل خاص مع الأدب ، أساسه ( النص ) وهـذا ما يعــرف بالمناهج ( الداخلية ) .
وقد كان لظهور اللسانيات ( linguistique) بوصفها الدراسة العلمية للغة الأثر الأكبر في شيوع هذا النوع من المناهج التي تتناول الأثر الأدبي من داخله أو كما يقول المنظر الأكبر للسانيات ( دوسوسير ) : " اللسانيات هي دراسة اللسان في ذاته ولذاته " 3 ذلك أن ( اللغة ) هي الموضوع الأساس الذي ينطلق منه المحلل لكشف ماهية وطبيعة ووظيفة النص ، انطلاقة من هذا الرؤية الخاصة للغة ، في حين نجد أن تشومسكي يركز على المنحى العقلاني حيث اللغة ملكة فطرية منظمة ومتميزة أي أنها استعداد فطري يولد مع الإنسان ويتطور تبعا لنوع الظروف ، لتخرج في الأخير من حال الكمون إلى حال التحقق من هنا نجد شومسكي يتحدث عن مفاهيم خاصة مثل : ( القدرة – الكفاءة – الإنجاز – الإرادة ) إلى غيرها من
المفاهيم المرتبطة بإنجاز اللغة 1 .
وتظهر أهمية هذا العلم الجديد الذي ظهر في مطلع القرن العشرين حينما ننظر في المبادئ التي قام عليها وهي مبادئ ( علمية ) هي : الاقتصاد – الانسجام – الشمول – الوضوح المنهجي – البساطة في عرض القواعد واستخلاص النتائج – طرح الفرضيات التي يتم التدليل على صحتها من خلال التجارب – الوحدة والتماسك – الموضوعية2 .
إن أبرز انطلاقة شكلت تحولا في مسار تحليل الأدب هي تلك الفكرة الصادرة عن دوسوسير والقائلة بضرورة التمييز بين الكلام ( parole ) واللغة ( langage ) : فاللغة هي مجموعة القواعد الموجودة عند كل الناس فهي ( جماعية ) أما الكلام فهو فردي ، لأنه يشكل التجسيد أو الإنجاز أو التحقق ( الفردي ) لتلك القواعد إن شفاهيا أو كتابة ، غير أن الارتباط بينهما وثيق إلى درجة كبيرة ، ذلك أن " وجود كل واحد منهما يفترض وجود الآخر ويقـتضيه : فاللسان ضروري لكي يعقـل الكلام ولكي يحدث آثاره ، ولكن الكلام أيضا ضروري لكي يستقيم اللسان ويستقر ... يوجد إذن بين الكلام واللسان نوع من التعلق فاللسان هو في ذات الوقت أداة للكلام ونتاج له . ولكن هذا لا يمنع من كونهما أمرين متمايزين أشد التمايز : فاللسان موجود في الجماعة في صورة انطباعات وآثار موضوعية في دماغ كل فرد " 3 أما الكلام فهو تحقيق صورة من صور اللسان حسب تعدد وتنوع واختلاف الأفراد . وهذا ما يفسر لنا داخل مجال الإبداع حيث التنوع والتمايز والاختلاف ، خاصة إذا ما ربطنا هذه العناصر بالمفاهيم المشار إليها سابقا ، سواء عند شومسكي 4. أو سوسير .
إن عمل اللساني يكمن في وصف وتفسير اللغة وفق هذا المعطى أي تحديد ووصف وتفسير البنى اللغوية انطلاقا من مستوياتها : الصوتية والمعجمية والتركيبية والدلالية . من هنا كان هــذا الخروج من البحث في المحيط والعوامل الخارجية إلى البحث في بنيات النص ضروريا ، سواء تعلق ذلك بالشعر أم القصة أم الرواية .
وقد ساهمت هذه الرؤية ( الجديدة ) في التعامل مع الظاهرة الأدبية في إغناء العمل الأدبي عموما والتحليل والنقد بخاصة ، مما انعكس إيجابا على مختلف النتاجات سواء تعلق الأمر بالتنظيرات أو التطبيقات 1 ، حيث بدأ الاهتمام بعناصر هامة مثل : ( الوظائف والحكي والسرد والوحدات الفرعية والأساسية والعوامل من ذات وموضع ومساعد ومعارض وشخوص دلالية أخرى وعلاقات هذه الأخيرة بالأمكنة والأزمنة والتشاكلات وغيرها من المستويات والعلاقات التي تكفل للنص السردي انسجامه ووحدته في حين انصب الاهتمام في مجال الشعر على التكرارات والتنويعات في مجال الأصوات والموضوعات والصفات والمفردات وأصنافها والمركبات الكلامية وأنماطها وأنواع الجمل وسماتها والحقول الدلالية والعلاقات بينها والصور وأبعادها الجمالية والبلاغية والأبنية التي تضمن ذلك الانسجام والترابط والوحدة التي يسعى إليها الأديب دون تجاهل علاقات هذه المقومات وتجلياتها بالمتلقي الذي لم يعد مستـقبلا فحسب ، بل منتجا أو مساهما في عملية إنتاج النص .
هكذا إذن نمت الدراسات المرتبطة بعالم النص في مفهومه الواسع 2 والجديد بتواز مع التطور الهائل الذي شهده الدرس اللساني بجميع فروعه . ومما ساعـد على هذا الارتباط بين البحث الأدبي واللساني هو أن " استراتيجية التعامل هي نفسها استراتيجية لسانيات ، بنيوية أساسا ، تعتمد مقولات كبرى كالبنية / العلاقات / النموذج . التمييز بين الآني والدياكروني . إلا أن تعامل البحث الأدبي مع اللسانيات لم يتوقـف عند حدود طروحات نظرية لسانية ، بل إن بعض الباحثين أنفسهم طوروا أجهزتهم المفاهيمية بتطور البحث اللساني(كما نجد عند كريماس نفسه) ، فمفاهيم النحو التوليدي وظفت وإن غير فحواها من ذلك مفاهيم : التحويل / البنية العميقة / البنية السطحية " . 1
1- الاتجاه " الشعري ":
الشعرية فرع من فروع اللسانيات " تعالج الوظيفة الشعرية في علاقتها مع الوظائف الأخرى للغة ، وتهتم الشعرية بالمعنى الواسع للكلمة بالوظيفة الشعرية لا في الشعر فحسب ، حيث تهيمن هذه الوظيفة على الوظائف الأخرى للغة ، وإنما تهتم بها أيضا خارج الشعر حيث تـعطي الأولوية لـهــذه الوظيفــة أو تـلك تبعا للوظــيـفة الشـعــرية " 2 . بــهــذا الـتـحـديــد حاول ( ياكبسون ) أن يزيل اللبس الذي قد ينشا عن هذه التسمية ، التي اقترنت في ذهن المتلقي بالشعــر، مركزا على خاصية ( المهيمن ) منها في كل النصوص أو الخطابات أو الأجناس الأدبية ، مشددا من جهة أخرى على العلاقة بين الشعرية واللسانيات ، انطلاقا من تحديد الموضوع والطريقة التي يعالج بها ضمن هذا المجال القائم على إجابة واضحة ومحددة عن سؤال محوري هو : " ما الذي يجعل من رسالة لفـظية أثرا فنيا؟ [ وبالتالي ] بما أن هذا الموضوع يتعلق بالاختلاف النوعي الذي يفصل فن اللغة عن الفنون الأخرى وعن الأنواع الأخرى للسلوكات اللفـظية، فإن للشعرية الحق في أن تحتل الموقع الأول بين الدراسات الأدبية ، [ذلك] أن الشعرية تهتم بقضايا البنية اللسانية تماما مثل ما يهتم الرسم بالبنيات الرسمية. وبما أن اللسانيات هي العلم الشامل للبنيات اللسانية ، فإنه يمكن اعتبار الشعرية جزء لا يتجزء من اللسانيات "3 .
إن المتتبع لمقوم ( الوظائف ) ( Fonctions ) الذي استند إليه يا كبسون ، يدرك انه وجه الدارس المحلل والمتلقي المشارك إلى موضوع غالبا ما لم يأخذ نصيبه من الاهتمام ، رغم دوره الهام في إبراز جمالية العمل الأدبي ، وتحديد درجة ومستوى ( أدبيته ) مقارنة بأعمال أخرى . ذلك أن هذه الجمالية التي هي المطلب الأول في مثل هذه النتاجات ، تتقوى كلما كانت الهيمنة الكبرى للوظيفة الشعرية مقارنة بالوظائف الأخرى : ( إفهامية أو انفعالية أو مرجعية أو ميتالغوية ) ، خاصة وأنها تجد حضورها اللافت في جنس الشعر إذا ما قورنت بجنس القصة أو الرواية .
هكذا نجد تودوروف يركز ضمن هذه اللسانيات الشعرية على ما يسمى القوانين الشعرية ( les lois poétiques ) التي ليست هي النص المقدم بل النص المفترض ، الذي يساهم في إنتاجه المتلقي أيضا بفضل تقديمه لقراءات محتملة ، وافتراضات تملأ البياضات والفراغات النصية ، حيث جاءت " الشعرية فوضعـت حدا للتوازي القائم على هذا النحو بين التأويل والعلم في حقل الدراسات الأدبية ، وهي بخلاف تأويل الأعمال النوعية لا تسعى إلى تسمية المعنى ، بل إلى معرفة القوانين العامة التي تنظم ولادة كل عمل ، ولكنها بخلاف هذه العلوم التي هي علم النفـس وعلم الاجتماع .. تبحث عن هذه القوانين داخل الأدب ذاته " 1، على أن الأدب يشمل المنتج والمتلقي معا في عمليات متنامية ، وغير منتهية بل مفتوحة .
II- الاتجاه الأسلوبـــي :
إذا كان دوسوسير قـد ميــز بـــيـن الـكلام ( parole ) واللـغــة ( langage ) واللــسان ( langue) ، فإن شارل بالي قد استثمر هذا التمييز لينتج أســلــوبية خاصة : أســلوبية وصفــية ( Stylistique descriptive ) تركز على العلاقة التي تصل من جهة الكلام الذي هو خاص باللغة التي هي عامة ومشاع عـند كافة الناس . هذا بالإضافة إلى ظاهرة (الاختيار) عند المؤلف والتي توجه المحلل نحو مراعـاتها فـي دراسة الأدب . وقــد اعتمدت هذه الأسلوبية عــلى مقــوم ( الخرق أو الانزياح ) كأساس لكشف شعرية الأدب ، وتمييز المبدعين ومستوى نتاجاتهم في درجات متفاوتة تبعا للغة المستعملة وكيفيات ( تمظهرها ) في الخطاب 1 . وقد أكد ميكائيل ريفاتير على هذه العلامة والطرائق الكفيلة بتحقيق وصف منتج بالقـول :" وبحكم القرابة بين اللغة والأسلوب ، فإنه من المؤمل استخدام المناهج اللسانية في الوصف الدقـيق الموضوعي لمسألة الاستعمال الأدبي للغة . ولا يمكن لهذا الاستعمال ، باعتباره الوظيفة اللسانية الأكثر تخصصا وتعقيدا ، أن يهمل من قبل اللسانيين ". 2
غير أنه لابد من التمييز بين أسلوبيات : منها ما يؤكد على المؤلف من خلال أسلوبه الفردي الخاص ، ومنها ما يمزج بين أسلوب المؤلف والسياق ، دون إهمال دور المتلقي وهي التي يقول بها ( ريفاتير ) وإن كان هذا الأخير يعتبر أن " الخلاف بين الأسلوبيات اللسانية والأسلوبيات الأدبية هو خلاف ظاهري اكثر منه خلافا واقعيا ، ذلك لأن الأسلوبيات اللسانية عندها تمثل للإطار النظري ، وإن الأسلوبيات الأدبية تمثل المادة التطبيقية في نقد الأسلوب . وعلى هذا فإن الأسلوبيات اللسانية لابد أن تعتمد على النصوص الأدبية من أجل استنباط الخصائص الأسلوبية للغة التي تعد الموضوع الرئيس للسانيات الحديثة ، وإن الأسلوبيات الأدبية لابد أن تعتمد في تعريفاتها ومقولاتها ومبادئها على اللسانيات لكي تكون أكثر منهجية وموضوعية " 3 ، غير أن هذا التصور ينبغي أن لا يحجب عنا كثيرا من الاختلافات ، وبخاصة تلك التي تهم الجوانب التقنية في التطبيقات على النتائج اللغوية ، وذلك مثل الأسلوبية البنائية التي تركز على الإحصاء والجدولة كأسس محورية في عملية التحليل واستخلاص النتائج كما هو الحال عند ( بيير كيرو) 1 . كما نجد نمطا آخر من الأسلوبية قد استفاد أصحابه من اللسانيات التوليدية لتشومسكي حيث تم توظيف النحو التوليدي في تحليل الأدب ، وقد ظهر جليا في أعمال ( كريماس ) من خلال توظيفه لمفاهيم لسانية مثل : البنية العميقة والبنية السطحية والعلاقات والتحويل بالإضافة إلى المفاهيم السابقة في اللسانيات الوصفية مثل البنية والدراسة التزامنية والتعاقبية .
أما الأسلوبية التكوينية ( Génétique) فتحاول أن تستفيد من الجوانب النفـسية والاجتماعية والتاريخية لفهم وتحليل الأدب متجاوزة بذلك أسلوبية (رولان بارث) التي تؤكـد على الجانب الفردي في الأسلوب ، لا سيما في تمييزه بين ( الكتابة ) التي هي جماعية ، ودرجتها ( صفر ) والأسلوب الذي هو خاص من إنتاج مبدع متميز بلغته وأسلوبه وعالمه الجمالي الفردي الذي لم تتحكم فيه قضايا وهموم الجماعة ، مادام الأهم عند بارث هو : كيف وبأي أداة يعبر المؤلف وليس عن أي مضمون يعبر 2 .
وإذا ما حاولنا تتبع بعض الاختلافات المنتجة بين هذه التصورات الخاصة بهؤلاء المحللين والباحثين ، فإننا نجد أنها لم تقف عند مستوى الآليات فحسب ، بل شملت أيضا التصورات التي كانت تمس مفهوم النص كذلك . فإذا كان ( تودوروف ) و( ياكبسون )3 يعتبران ( النص ) وحدة مغلقة ، فإن ( جيرار جينيت ) 4 يعتبره نصا ( مفتوحا )، لأنه مزيج من (نصوص ) متنوعة من حيث الجنس والشكل والمحتوى وهو ما يسميه ( جامع النص ) ، استنادا إلى ما كانت تطلق عـليه ( جوليا كريستيفا ) ( التناص ) 5 ، إذ النص : ثمرة لتداخلات نصية ، كل نص يستمد وجوده وحياته من نصوص أخرى .
وهذا ما حاولت دراسات تحليلية أخرى أن تستثمره في محاولة إنتاج مقاربات خصبة للنص ، مستفيدة مما انتهت إليه اللسانيات التداولية واللـســانـيات السياقــية ولسانيات الــتـلقي مع ( إيزر وياوس وريفاتير) وغيـرهم ممن اعـتبروا أن ( النص) نتاج مشترك بـيـن المؤلف والقارئ ، لذلك دعوا ، من جهة إلى تجاوز التحديد الضيق للأثر الأدبي ، ومن جهة أخرى إلى الاستناد لتحليل لساني تداولي وسياقي يتجاوز دلالة ( الجملة ) إلى دلالة ( الخطاب ) بكل مكوناته من لغة ومقاصد مؤلف وسياق وشروط مقام وتداول وتلقي ، وذلك بالتركيز على مقولات أساسية مثل : المقصدية والبؤرة والمحاور والعوامل والعلاقات والبرامج السردية إلى غير ذلك من المقومات المحورية في تحليل الخطاب .
ويمكن القول إن دراسات : كريماس وديكرو وبورس وإيكو من أهم ما أنتج في هذا الفرع من اللسانيات التي أثمرت بدورها نمطا آخر من التحليل يهتم أساسا ( بشكل المعني ) وكافة الأشكال الرمزية والعلاماتية ، سواء كانت لغوية أم سمعية أم بصرية أم إشارية أم ذوقية1 . أضف إلى ذلك أن من مميزاتها الأساسية أنها لا تبحث في المرجع ( Le réfèrent) ولكنها تفسر ( المدلول ) ( le signifié ) والعلاقات ( les rapports ).
لقد نجحت دعــوى كل من ( ديكرو وبورس وكريماس وجينيت وتودوروف وكريستيفا وإيكـــو ) القائلة بضرورة تحليل أشـكـال أخرى غير لغوية مثـل : الشكل البصري1 والإشاري والذوقي والبحث في دلالات هذه الأشكال فاتـسـع بـذلك مـجال البحث والتـحليل من اللغـة التي كانت مهــيـمـنة إلى العلامات على اخــتلافـها أي فـي كـل رسالة ( Message ) تحدث تواصلا ( Communication ) ممتدا .
لقد أفاد كريماس المحللين فيما يعرف ( بعلم دلالة المعنى ) ، خاصة في مجال السرد ، حيث يرى انه من الضروري الاستناد إلى ما أسماه بالعوامل ( Les actants) وهي : الفاعل والموضوع والمساعد والمعارض والتي اتضحت فيما عرف بالبرامج السردية 2 . كما أكد أمبيرتو إيكـو إلى ما اسماه ( العمل المفتوح ) ، بحيث اعتبر كل عمل منسجم ومحكم عملا مفتوحا على قراءات عديدة منتجة ، لأنه قائم على عناصر فنية ، رمزية ، تتيح إمكانية تنوع القراءات والمقاربات . وإن المؤلف حسب إيكو يقدم نصا ناقصا على المتلقي أن ( يتممه ) ويسد ( فراغاته ) 1.
III - النموذج اللساني في الدراسات العـربية :
لقد تنبه الدارسون العرب إلى ضرورة الإفادة من منجزات الدرس اللساني الذي بلغ دروته في البلاد الغربية . فنادوا بدورهم للتخلي عن الأساليب ( القديمة ) في تحليل الأثر الأدبي استنادا إلى السياق الاجتماعي والاقتصادي والسياسي ، أو مفاهيم الابتكار أو السحر أو الخوارق التي يصعب تحديد بنياتها وأسرارها .
كان طبيعيا أن ينخرط هؤلاء الدارسون والباحثون والمحللون في هذا السياق من التحول إلى مناهج تدرس الأدب من داخل بنياته ومكوناته الصوتية والمعجمية والتركيبية والدلالية ، وكذا مستوى الوظائف والسرد والعوامل والمعنى والبرامج السردية إلى غير ذلك من المستويات والوحدات التي تشكل عالم الشعر أو السرد، والتي انبنت بدورها على ركائز لسانية في الأساس .
إن إفادة الباحثين من هذه المناهج ( الحديثة ) 1 قد أفرز أساليب وطرق تحليل مختـلفـة،ومتنوعة ، لكنها كلها تحاول أن تعيد الاعـتبار للنص من حيث هو لغـة ، تـتـميـز بخـصائصها النوعـية التي ( تفارق ) السياسي والاقتصادي والاجتماعي والنفسي ، لتشكل عالمها المتفرد ، الذي يلزم تعاملا ( علميا ) وتحليلا ( خاصا ) لا خلط فيه بين المبادئ ، ولا مزج فيه بين النظريات المتباعدة من حيث المبدأ والتصور .
ولقد كان هذا المنظور المنطلق الذي سارت منه ( السكلانية ) بوصفها أول نموذج يعكس هذا التحول الهام . فبدأ تركيزها منصبا على تلافي الوضعيات التي كانت عليها المناهج السابقة " حيث كان الأدب لا يزال حسب عبارة ( فيسيلوفسكي ) " أرضا لا مالك لها " وهذا هو السبب الذي كان يجعل من المستحيل التوفيق بين موقف الشكلانيين والمناهج الأخرى ، كما كان يجعل قبول موقفهم من طرف الانتقائيين أمرا مستحيلا . إن الشكلانيين في اعتراضهم على المناهج الأخرى أنكروا ولا يزالون ينكرون ، ليس تلك المناهج في ذاتها ، وإنما الخلط اللامسؤول فيها بين علوم مختلفة ، وقضايا علمية مختلفة .
لقد اعتبرنا ولا نزال نعـتبر كشرط أساسي ، أن موضوع العلم الأدبي يجب أن يكون دراسة الخصيصات النوعية للموضوعات (objets) الأدبية التي تميزها عن كل مادة أخرى "2 . معنى هذا أن الهم الأول الذي أصبح يشغل الدارسين هو ( النص) أو ( داخله ) ، بدل البحث فيما هو خارجه ، متوسلين في بلوغ هذا المسعى بآليات ومفاهيم لسانية ، أكدت نجاعتها وإجرائيتها في اكـتناه كثير من القضايا اللغوية والأدبية التي كانت من قبل مستثرة أو خارج الدراسة والتحليل ، مثل : البنية السطحية والعميقة ، والمحور الاختياري والتوزيعي والعلاقات والأنموذج والمحور التزامني والتعاقبي والتحويل والعوامل والبرامج إلى غيرها من المفاهيم الأساسية في تحليل ودراسة الأدب سواء كان شعرا أم سردا ، بل إن من الباحثين العرب من اتخذ من الدرس اللساني طريقا لإعادة قراءة التراث ، كما هو الحال في مشروع د. عبد السلام المسدي ( المقاييس الأسلوبية في النقد الأدبي من خلال البيان والتبيين ) ( 1976 ) و ( الفكر اللساني في الحضارة العربية ) : (1981) و ( التفكير البلاغي عند العرب أسسه وتطوره إلى القرن السادس ) د . حمادي صمود ( 1978) و ( مظاهر التـفـكير في الأسلوب عند العرب ) د. الهــادي الطرابـلسي ( 1978) . و ( نحو قراءة جديدة لنظرية النظم عند الجرجاني ) : د . أحمد المتوكل ( 1977) . و ( الاتجاه الوظيفي في تحليل اللغة ) : د . يحي أحمد يحيى ( 1989) . و ( اللسانيات واللغة العربية ) : د . عبد القادر الفاسي الفهري ( 1985) .
غير أن اللافت للانتباه هو تلك الدراسات التي حاولت أن تستلهم النموذج اللساني ، لتطبقه على أعمال شعرية وسردية مختلفة .
فإذا كنا نقر بأهميتها في تعـريف القارئ بالنظريات اللسانية الحديثة ، فإننا نتساءل عــن ( الكيفية ) التي تم بها نقـل هذه النظريات ، وكذا عن مبررات ( الاختيار ) و ( النتائج ) التي تم تحقيقها في هذا المجال ، خاصة في مثل أعمال : د . حسين الواد ( البنية القصصية في رسالة الغفران ) ( 1976) . ود. حمادي صمود ( النور في شعر مصطفى خريف ) ( 1976) . ودة. خالدة سعيد ( النهر والموت للسياب : دراسة نصية ) ( 1978) ، حيث نلمس بوضوح حضور النموذج اللساني البنيوي الوصفي بخاصة في أصوله الأولى ، دون الالتفات إلى النماذج اللسانية الأخرى ، وبخاصة النموذج التوليدي ( شومسكي ) ( 1957 ) ، هذا الأخير الذي حضر بشكل لافت للانتباه في أعمال د . كمال أبو ديب ، بخاصة في كتابه ( الرؤى المقنعة ) ( 1986) 1 الذي خصه لدراسة بعض عيون الشعر الجاهلي ، معتمدا الوصف التشجيري حيث نجده يفرع جمل البيت الواحد إلى قائمة طويلة من الوحدات الجميلة المتصلة فيما بينها بعلاقات وروابط متنوعة ، الهدف منها محاولة إغناء الدلالة بوصف هذه الجمل أنساقا لوحدات متنوعة ، لكنها مرتبطة بعلاقات خاصة 1 .
غير أن من يتأمل مليا هذا التحليل ن يجد عنتا كبيرا في متابعته واكتناه نتائجه . فرغم ما يبدو عليه من ( جدة ) ، إلا أنه كثيرا ما كان يجنح نحو المبالغة والتهويل ، والغلو في عرض القضايا ، ومتابعة التحليل ، وهكذا فإن نظرة متفحصة في هذا المؤلف توضح هذا المنحى من الغلو ، حيث هذا الركام من الترسيمات والجداول والتشجيرات والأرقام غير المفهومة ، يحاول بها كما يقول الكشف عن بنيات النص الشعري الجاهلي ، 2 من خلال بعض النماذج . إلا أن القارئ يجد صعوبة في فك هذه الجداول المعقدة ، التي كان من المفترض أن تساهم في توضيح النص ، بدل إغراقه في الغموض . حيث يصبح القارئ مرغما على أن " يجهد نفسه كثيرا في متابعة الجداول الإحصائية التي تعد تكرار وحدات لغوية ، وتلك التي تقدم تحليلا نحويا للقصيدة . لكن ذلك الاجتهاد لا يقارن بالحيرة الكاملة والمحاولات المستميتة التي يجب عليه أن يبذلها عند ما يواجه بالرسوم التي يفترض أنها توضحية لبنية النص الشعري ، وهي رسوم ( دوائر ومتوازيات وأشياء أخرى كثيرة لا تحددها المعلومات الهندسية ) تدخل القارئ في متاهة إثر متاهة ليخرج منها في نهاية الأمر مجهدا مرهق الفكر ، وقد فقد توازنه تماما ، بعد أن ابتعد أميالا عن النص الشعري ، بدلا من الاقتراب منه " 3 بهذه الطريقة تضيع السبل أمام المتلقي ، وتتلاشى تلك العلاقة التي كان من المفترض أن تقوم بين المحلل والقارئ ، فيضيع معها ( النص ) ، الذي يتوارى خلف عالم من التجريد والترقيم .
فيصبح السؤال : أين النص من كل هذا ؟ . كما يدفعنا ذلك إلى طرح تساؤلات موازية عـن الدرجة التي بلغتها التجارب العربية ذات المنحى البنيوي : هـل استطاعـت فعلا أن تحـقـق خصوصيتها أم أنها بقيت مجرد تجارب ( ممسوخة) ، لا هي عـربية ولا غربية ؟ !
نعـم ، لا يمكن أن نتجاهل ذلك التراكم الهام الذي حققته هذه التجارب ذات المنحى البنيوي ، خاصة في توجيه المتلقي والمحلل معا نحو النظريات والمناهج الحديثة والمتفرعة – أساسا – عن الدرس اللساني ، لا سيما تلك التي أنتجت أعمالا تحليلية أفادت في تعميق الوعي بالآثار الأدبية ، غير أن كثيرا من العوائق وقـفـت ولا زالت تحول دون استثمار منتج وفعال للإمكانات الهائلة التي يتيحها الدرس اللساني بمختلف فروعه واتجاهاته ، والتي من بينها :
- الخلط في المفاهيم .
- تغييب أو تجاهل الخلفيات المعرفية والمرجعيات الخاصة بكل نظرية أو تصور .
- عدم ضبط وتحديد اللغة الواصفة .
- التجريب المفرط لكل النظريات المستعارة ، دون استحضار الحس النقدي المطلوب .
- عدم مراعاة خصوصية النص العربي عند التطبيق أو التحليل اللساني .
- الإغراق في التجريد، والمبالغة في استعمال الإحصاء والترسيمات الخارجة عن - - - - -الحاجة، مما يزيد في التشويش على النص ، بدل إيضاحه .
الاعـتماد المطـلـق عــلى ( نــمـوذج ) واحـد من اللسانـيات ، بخاصة النمـوذج البنـيـوي ( الوصفي ) ، دون الالتفات إلى الاتجاهات اللسانية الأخرى مثل توليدية ( شومسكي ) أو تداولية ( أوستين ) او سيميولوجية ( ستينيانوف ) إلى غيرها من النماذج التي أثبتت حضورها في عالم اللسانيات بشتى فروعها . وذلك للإفادة مما يمكن أن تقدمه للمحلل والباحث في هذا المجال . إذ اللافت للانتباه هو هذا التجاهل المثير للاختلاف بين الاتجاهات اللسانية ، وعدم استثماره في إنتاج تحاليلي خصبة ، متنوعة ومنتجة . يضاف إلى ذلك عدم إقامة حدود فاصلة بين الدرس اللساني كما هو في ( أصوله ونظرياته ) ، وبين ( طرائق ) توظيفه في تحليل الظواهر اللغوية والأدبية في مختلف تجلياتها ، بحيث يجب أن تستثمر نتاجات اللسانيات لكي تخدم التحليل وتكشف بنيات النص ، بدل إغراقه وتعتيمه بأدوات ، وترسيمات مبهمة ، بدعوى ( العلمية ) ، لأنه إذا كانت اللسانيات تصف القوانين المتحكمة في اللغة ، فإن التحليل في الأدب يستثمر نتائجها لإضاءة النص وكشف القوانين المتحكمة فيه . فلا تخدعنك كثرة المصطلحات ، بخاصة إذا لم تثبت إجرائيتها في التحليل ، لأنها تتحول في هذه الحالة إلى علامات جوفاء ، تعيق أكثر مما تساعد ، بل إنها تتجاوز ذلك لتعطل ( الدلالة ) التي هي أس اللغة والمفتاح الرئيس لولوج عالـم مبــدعــيـهــا . وهـنـا لابــد من الإقـرار بان نــقـطة ضعـف اللسانيــات تكـمـن في ( الدلالة ) بحيث لا يكفي إحصاء ووصف المفردات والجمل والحقول والعوامل والبرامج السردية ، أو إنجاز جداول وتشجيرات متعددة ، لنضمن كفاءة التحليل ، بل لابد من ربط مقومات النص كلها بالسياق والخلفيات المعرفية ومقاصد المنتج ودور المتلقي في استخلاص الدلالات الثاوية خلف الأثر الأدبي .
فلو أخذنا مثلا قول الشاعر :
كان الضياء وكان النور نتبعه بعد الإله وكان السمع والبصرا
فليتنا يــوم واروه بـملحـده وغيـبوه وألقوا فوقه الـمدرا
لم يترك الله منا بعده أحـــدا ولم يعــش بعـده أنثى ولا ذكرا
لا يكـفي تحليل مستوياته الأربعة المتعلقة بالإيقاع والمعجم والتركـيب والدلالة ، بل لابد من تمثل السياق والمـقام وخصوصية الذات المعـنـيــة بالخــطاب ، والذات التي هـي موضوع 2 ( الرسالة ) بحيث تصبح كل هذه المعطيات سندا لتقوية التحليل والبرهنة على النتائج التي يتم التوصل إليها تفاديا لسوء التأويل .
واعتقد أن الذين وقفوا عند النموذج البنيوي الوصفي ، لن يتجاوزوا كشف بعض العلامات النصية ، التي لا نبرز الأبعاد الدلالية الثاوية في هذا النموذج الشعري والتي هي الأهم في مقصدية المنتج ، حتى ولو ادعى التحليل البنيوي ( الصرامة العلمية ) التي تستند على ما تسميه موت المؤلف ، و ( انغلاق النص ) من حيث بنياته ! إذ " لا شرعية لأي نظرية جمالية في الأدب ما لم تتخذ من مضمون الرسالة الأدبية أسا لها ، بل أهم قواعدها التأسيسية ، كما انه لا يمكن الإقرار بأية قيمة جمالية للأثر الأدبي ما لم تشرح مادته اللغوية على أساس اتحاد منطوق مدلولاتها بملفوظ دوالها "3. من هنا فإن جماع هذه الآليات ، والقرائن والمقومات على اختلافها ، هو الذي من شأنه أن يكـفـل للتحليل فعاليته في الكشف عن البنيات الخفية، الثاوية خلف الملفوظ .
قــائــــمة المراجــع :
I – المراجع العــــربية
- الأسلوب والأسلوبية: د. عبد السلام المسدي : عالم الفكر – الكويت : عدد يونيو 1994 .
- جذور السعودية– ع 13 السنة 7 ربيع الآخر 1424 هـ – 2003 م .
- ديوان حسان بن ثابت : دار الكتاب العربي : بيروت : 1981 .
- الرؤى المقنعة : نحو منهج بنيوي في دراسة الشعر الجاهلي : د. كمال أبو ديب : الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة : 1986.
- الشعرية : تودوروف : ترجمة : شكري المبخوت - رجاء بن سلامة : ط :2 دار توبقال : المغرب 1990 .
- فكر ونقد : عدد 37 – السنة الرابعة ، مارس 2001 – المغرب .
- قضايا الشعرية : رومان يالكبسون : ترجمة : محمد الولي ومبارك حنون : ط 1 دار توبقال المغرب 1988 .
- محاضرات في علم اللسان العام : دي سوسير : ترجمة عبد القادر قنيني : ط دار إفريقيا الشرق: المغرب 1987 .
- المرايا المحدبة : من البنوية إلى التفكيكية : د . عبد العزيز حمودة : عالم المعرفة عدد أبريل – الكويت : 1988 .
- معايير تحليل الأسلوب : ميكائيل رفاتير : ترجمة / تقديم وتعليقات : د. حميد لحميداني :
ط 1 – دراسات سال – المغرب : 1993 .
- المفاهيم معالم : د . محمد مفتاح : ط 1 – المركز الثقافي العربي بالمغرب 1999 .
- مكونات النص الأدبي : مجلة كلية آداب عين الشق – البيضاء – عدد فبراير 1988 .
- ما هي السيميولوجيا : بيرنار توسان : ترجمة : محمد نظيف ط 1 دار إفريقيا الشرق – المغرب: 1994 .
نظرية الأدب : رينيه ويليك وأستن وارين : ترجمة د . محي الدين صبحي ط 3 – المؤسسة - العربية للدراسات والنشر – بيروت : 1987 .
- نظرية المنهج الشكلي ( نصوص الشكلانيين الروس ) : ترجمة إبراهيم الخطيب – ط 1 – الشركة المغربية للناشرين المتحدين : المغرب : 1982 .
II – المـراجـع الغــــربــــيـة :
- Les acquis et les projets : in introduction à la sémiotique narrative et discursive : A.J Greimas :Ed .Hachettes :Paris :1976.
- Aspects de la théorie syntaxique : N.chomsky : Ed :Seuil : Paris : 1971.
- Les constantes du poème :Kibédi Varga :Ed :Picard :Paris :1977.
- Critique et vérité :Roland Barthes :Ed :Seuil .paris :1966.
- Cours de linguistique générale :F/Saussure :Ed :Payot :1972.
-Le degré zéro de l’écriture :Roland Barthes coll :point :paris :1972.
- Eléments de linguistique générale : André Martiné :Ed colin .paris :1970.
- Figures (I-II-III) : G-GENETTE : Ed :Seuil : Paris : (1966-1969-1972).
- Introduction à l’analyse linguistique de la poésie : J-molino et – j- Tamine :Ed: puf:Paris : 1983 .
- introduction à l’analyse linguistique de la poésie : J – molino et –
J-Tamine :Ed : puf :Paris :1983.
- introduction à l’architexte : G-Genette :Ed:Seuil Paris :1979.
-introduction à la sémiotique narrative et discursive :J-
Courtes :Ed :Hachette : Paris 1976.
-Linguistique et poétique Very Happy-Delas et J- Filliolet : Ed : Larousse :
Paris : 1973.
- l’œuvre ouverte : Umberto Eco :Ed :Seuil :1965.
- Palimpsestes :G-Genette :Ed : Seuil :Paris 1982.
- Le plaisir du teste :Roland Barthes :Ed :Seuil Paris :1973.
- Recherches pour une sémanalyse : Julia Kristeva :Ed :Seuil Paris 1969.
- Rhétorique et littérature : Kibédi Varga Ed : Didier : Paris 1970.
- Sémantiques Structurale :A-J :Greimas :Ed : Larousse .Paris : 1966.
- Sémiotique de la poésie : M-Riffaterre :Ed :Seuil :Paris :1978.
- La structure absente : Emberto eco :Ed :Mercure de France : Paris : 1972.
- La Structures syntaxique : N . chomsky :Ed :Seuil :Paris 1962.
- La Stylistique :Pierre Guiraud :Ed : puf Paris : 1963.
- S/Z : Roland Barthes :Ed : Seuil : 1970.
--------------------------------------------------------------------------------
1 – نظرية الأدب : رينيه ويليك – أوستن وارين : ترجمة : د محمد صبحي،ص : 97 .
2 – لقـد شهدت بداية القـرن العشرين تحولا هاما في مسار الدراسات المهتمة بتحليل الأدب ونقـده ، تمثلت أساسا في ظهور الشكلانيين الروس (Formalistes russes ) الذين نادوا بدراسة الأدب من ( الداخل ) والبحث فيما أسموه ( أدبية ) الأدب أي فيما يميز النص الأدبي عن غيره من خصائص . وقـد سار في هذا المنحى الشكلانيون الألمان كذلك ، حيث اهتموا بالحكاية والسرد القديمين وامتد هذا الاتجاه إلى البلدان الأنكلوسا كسونية ، حيث انصب الاهتمام على الشعر بخاصة وكذلك الشأن في البلدان الفـرنكوفـونية خاصة فرنسا مع الأنتربولوجي ( ستراوس ) وعالم المعنى ( كريماس ) وغريهما .
3 – انظر 317 Cours de linguistique générale :F - Saussure : p
1 – انظر لمزيد من التفـصيل :: Noam chomsky
Aspects de la theorie syntaxique. Et Structure Syntaxique
2 – لمزيد من التوضيح انظر : - Elements de linguistique générale : Andre Maritiné :(1970)
problème de linguistique générale : N . chomsky (1969). Et
- Cours de linguistique générale : F . Saussure : ( 1972)
3 – محاضرات في علم اللسان العام : دي سوسير : ترجمة عبد القادر قـنيني : ص 29 .
4 – قليلا ما يشار إلى دور شومسكي في توجيه التحاليل اللسانية ، خاصة عند الباحثين العرب الذين غلبوا الاتجاه السوسيري في دراساتهم مقارنة بالدراسات التداولية ، يمكن الإشارة هنا مثلا إلى :
- Aspects de la théorie syntaxique : Chomsky ( 1971).
1 – يمكن الإشارة هنا إلى الأعمال الآتية :
- Introduction à l'analyse linguistique de la poésie : J. Molino et J.Tamine ( 1983)
- Essais de Stylistique Structurale :M. Riffaterre : (1971) Sémiotique de la poésie : M . Riffaterre : ( 1978)-
Sémantique Structurale : A-J. Greimas : (1966).
Figures : I-II-III : G.Genette : (1976)
Introduction à la Sémiotique narrative et discursive : J:courtes (1976)
Le plaisir du texte :R :Barthes : (1972)
Linguistique et poétique Very Happy.Delas et J.Filliolet : ( 1973).
2 – انظر : المفاهيم معالم . محمد مفتـاح (1999) ص 44-45 .
1 – انظر "د. مصطفى غلفان : " مكونات النص الأدبي " ص : 223 : كلية آداب عين الشق : فبراير 1988 المغرب.
2 – قضايا الشعرية : رومان يا كبسون : ترجمة محمد الولي ومبارك حنون : ص 35 .
3 – المرجع نفسه : ص 24
1 – الشعرية : تودوروف : ترجمة / شكري المبخوت ورجاء بن سلامة : ص 23 .
1 – من أهم الدراسات في هذا المجال نذكر :
La stylistique : Pierre Guiraud (1963)
Rhétorique et littérature : Kibédi Varga (1970)
Les constantes du poème :Kibédi Varga (1977)
2 – معايير تحليل الأسلوب : ميكائيل ريفاتير : ترجمة د. حميد لحميداني : ص 16 .
3 – الاتجاهات اللسانية المعاصرة ودورها في الدراسات الأسلوبية : د. مازن الوعر : عالم الفكر : ص 145 ، يونيو 1994 .
1 – من أهم المؤلفات في هذا المجال : - La stylistique ( Pierre Guiraud) ( 1963)
2 – انظر لمزيد من الإيضاح مؤلفات رولان بارث الآتية :
Critique et vérité (1966).
S/Z (1970)
Le plaisir du texte (1973)
Le degré zero de l’écriture (1979)
3 – انظر الشعرية : تزفيطان طودوروف : ترجمة شكري المبخوت ورجاء بن سلامة – ص 35 .
وقضايا الشعرية : رومان ياكبسون : ترجمة محمد الولي ومبارك حنون : ص 19-78 .
4 – يمكن العودة إلى عملين هامين في هذا المجال لجيرار جينيت : هما .
Introduction à l’architexte : G Genette (seinl)(1979)
Et Palimpsestes (seiul) ( 1982)
5 –- Recherche pour une semnalyse : Julia Kristéva : P :92-93
1 – لقد بدأت إرهاصات الاتجاه السيميولوجي تبرز منذ أن نبه سوسير إلى أنه بالإمكان أن نتصور علما يدرس حياة العلامات في الحياة الاجتماعية : انظر لمزيد من التفصيل :
Cours de linguistique générale :F Saussure (1974).
- ما هي السميولوجيا : بييرنار توسان : ترجمة محمد نظيف (1994 ) .
1 – لقـد حاولنا الكشف عن هذا البعد في دراستنا : الشكل البصري في الشعر الحديث : مجلة : فكر ونقد المغربية ، ع 37 ، السنة الرابعة ، مارس 2001 .
2 – انظر : مؤلفات كريماس الآتية :
Sémantique structurale (1966)
Les Acquis et les projets : introduction à la sémiotique narrative et discursive : (1976)
1 – انظر لمزيد من الإيضاح مؤلفي : إيكو :
L’œuvre ouverte ( seuil ) ( 1965).
Et la structure absente ( Mercure de France) ( 1972).
1 – نقصد بالمناهج ) الحديثة ) هنا تلك المناهج التي انتقـدت التصور القديم للأدب باعتباره ( انعكاسا ) للواقع السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو النفسي ، وقال ( باستقلالية ) الأدب ، ودعت إلى البحث عن ( أدبية ) ( littérarité) وقد كانت نقطة انطلاق هذا التصور مع الشكلانيين الروس أساسا ( 1915-1930) .
2 - نظرية المنهج الشكلي : ( نصوص الشكلانيين الروس 9 : ترجمة إبراهيم الخطيب : ص 35 .
1 – الرؤى المقنعة : نحو منهج بنيوي في دراسة الشعر الجاهلي . د . كمال أبو ديب الهيئة المصرية العامة للكتاب– القاهرة ( 1986) ، كما نلمس هذا المنحى في التحليل في معظم الدراسات التي قام بها د. كمال أبو ديب لأعمال أدونيس الشعرية .
1 – انظر كتابه : الرؤى المقنعة : ص 166 وما بعدها .
2 – انظر تصورنا لهذا الخطاب ضمن مجلة جذور السعودية : ع 13 – السنة 7 – 2003 م .
3 – جاء ذلك في سياق التقييم الذي أنجزه د . عبد العزيز حمودة لأعمال تحليلية قدمها مجموعة باحثين عربا تبنوا الاتجاه البنيوي ، من بينهم د. كمال ابو ديب. انظر لمزيد من الإيضاح : المرايا المحدبة . من البنيوية إلى التفكيكية . ذ عبد العزيز حمودة: عالم المعرفة : ص 44- أبريل 1998 – الكويت .
وانظر للمقارنة : الرؤى المقنعة : د . كمال أبو ديب : ص 29 وما بعدها .
2 – الموضوع هنا شخص الرسول محمد عليه السلام : نموذج الهدى وقدوة المؤمنين ، وحامل الرسالة الهادية للعالمين . من هنا فالشخصية غير عادية ، تتطلب استحضار كل الأبعاد المحيطة بها بغية تمثلها أحسن تمثل .
3 – الأسلوب والأسلوبية : د . عبد السلام المسدي : ص 118 .
استهلال :
لا أحد يمكنه أن يتجاهل تلك العلاقة الجدلية التي تصل الأديب بمحيطه الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي العام الذي ينتمي إليه " فالأدب مؤسسة اجتماعية ، أداته اللغة وهي من خلود المجتمع .. أضف إلى ذلك أن الأدب يمثل الحياة في أوسع مقاييسها حقيقة اجتماعية واقعة . فالشاعر نفسه عضو في مجتمع منغمس في وضع اجتماعي معين ويتلقى نوعا من الاعتراف الاجتماعي والمكافأة كما أنه يخاطب جمهورا مهما كان افتراضيا " 1، غير أن الإشكال يطرح حين نود رسم الحدود الفاصلة بين المجالين معا ، مجال المنتج ( الأديب ) ، ومجال المحيط أو ( المناخ ) الذي ساهم في إبراز هذا الأديب .
لقد تعددت الإجابات وتنوعت زوايا النظر إلى هذه العلاقة . إلا أن اللافت للنظر هو تلك الهيمنة الملحوظة لمناهج وأساليب تحليل الظاهرة الأدبية من منظور خارجي ، امتدت ملامحها إلى فترات غير بعيدة نسبيا مقارنة بما يعرف الآن بالمناهج ( الحديثة) 2.
إلا أنه – وأمام هذا التمادي في إسقاط عوامل خارجية على الأدب وتفسيره انطلاقا من البنيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية – ظهرت مناهج أخرى ، حاولت أن تعيد الاعتبار لمكانة الظاهرة الأدبية ، وذلك بالـــتـخــلي عـــن دراستها وتحليلها من منطلقات الواقــع وإفـرازاته ، لتنطلق مـع تـــعامل خاص مع الأدب ، أساسه ( النص ) وهـذا ما يعــرف بالمناهج ( الداخلية ) .
وقد كان لظهور اللسانيات ( linguistique) بوصفها الدراسة العلمية للغة الأثر الأكبر في شيوع هذا النوع من المناهج التي تتناول الأثر الأدبي من داخله أو كما يقول المنظر الأكبر للسانيات ( دوسوسير ) : " اللسانيات هي دراسة اللسان في ذاته ولذاته " 3 ذلك أن ( اللغة ) هي الموضوع الأساس الذي ينطلق منه المحلل لكشف ماهية وطبيعة ووظيفة النص ، انطلاقة من هذا الرؤية الخاصة للغة ، في حين نجد أن تشومسكي يركز على المنحى العقلاني حيث اللغة ملكة فطرية منظمة ومتميزة أي أنها استعداد فطري يولد مع الإنسان ويتطور تبعا لنوع الظروف ، لتخرج في الأخير من حال الكمون إلى حال التحقق من هنا نجد شومسكي يتحدث عن مفاهيم خاصة مثل : ( القدرة – الكفاءة – الإنجاز – الإرادة ) إلى غيرها من
المفاهيم المرتبطة بإنجاز اللغة 1 .
وتظهر أهمية هذا العلم الجديد الذي ظهر في مطلع القرن العشرين حينما ننظر في المبادئ التي قام عليها وهي مبادئ ( علمية ) هي : الاقتصاد – الانسجام – الشمول – الوضوح المنهجي – البساطة في عرض القواعد واستخلاص النتائج – طرح الفرضيات التي يتم التدليل على صحتها من خلال التجارب – الوحدة والتماسك – الموضوعية2 .
إن أبرز انطلاقة شكلت تحولا في مسار تحليل الأدب هي تلك الفكرة الصادرة عن دوسوسير والقائلة بضرورة التمييز بين الكلام ( parole ) واللغة ( langage ) : فاللغة هي مجموعة القواعد الموجودة عند كل الناس فهي ( جماعية ) أما الكلام فهو فردي ، لأنه يشكل التجسيد أو الإنجاز أو التحقق ( الفردي ) لتلك القواعد إن شفاهيا أو كتابة ، غير أن الارتباط بينهما وثيق إلى درجة كبيرة ، ذلك أن " وجود كل واحد منهما يفترض وجود الآخر ويقـتضيه : فاللسان ضروري لكي يعقـل الكلام ولكي يحدث آثاره ، ولكن الكلام أيضا ضروري لكي يستقيم اللسان ويستقر ... يوجد إذن بين الكلام واللسان نوع من التعلق فاللسان هو في ذات الوقت أداة للكلام ونتاج له . ولكن هذا لا يمنع من كونهما أمرين متمايزين أشد التمايز : فاللسان موجود في الجماعة في صورة انطباعات وآثار موضوعية في دماغ كل فرد " 3 أما الكلام فهو تحقيق صورة من صور اللسان حسب تعدد وتنوع واختلاف الأفراد . وهذا ما يفسر لنا داخل مجال الإبداع حيث التنوع والتمايز والاختلاف ، خاصة إذا ما ربطنا هذه العناصر بالمفاهيم المشار إليها سابقا ، سواء عند شومسكي 4. أو سوسير .
إن عمل اللساني يكمن في وصف وتفسير اللغة وفق هذا المعطى أي تحديد ووصف وتفسير البنى اللغوية انطلاقا من مستوياتها : الصوتية والمعجمية والتركيبية والدلالية . من هنا كان هــذا الخروج من البحث في المحيط والعوامل الخارجية إلى البحث في بنيات النص ضروريا ، سواء تعلق ذلك بالشعر أم القصة أم الرواية .
وقد ساهمت هذه الرؤية ( الجديدة ) في التعامل مع الظاهرة الأدبية في إغناء العمل الأدبي عموما والتحليل والنقد بخاصة ، مما انعكس إيجابا على مختلف النتاجات سواء تعلق الأمر بالتنظيرات أو التطبيقات 1 ، حيث بدأ الاهتمام بعناصر هامة مثل : ( الوظائف والحكي والسرد والوحدات الفرعية والأساسية والعوامل من ذات وموضع ومساعد ومعارض وشخوص دلالية أخرى وعلاقات هذه الأخيرة بالأمكنة والأزمنة والتشاكلات وغيرها من المستويات والعلاقات التي تكفل للنص السردي انسجامه ووحدته في حين انصب الاهتمام في مجال الشعر على التكرارات والتنويعات في مجال الأصوات والموضوعات والصفات والمفردات وأصنافها والمركبات الكلامية وأنماطها وأنواع الجمل وسماتها والحقول الدلالية والعلاقات بينها والصور وأبعادها الجمالية والبلاغية والأبنية التي تضمن ذلك الانسجام والترابط والوحدة التي يسعى إليها الأديب دون تجاهل علاقات هذه المقومات وتجلياتها بالمتلقي الذي لم يعد مستـقبلا فحسب ، بل منتجا أو مساهما في عملية إنتاج النص .
هكذا إذن نمت الدراسات المرتبطة بعالم النص في مفهومه الواسع 2 والجديد بتواز مع التطور الهائل الذي شهده الدرس اللساني بجميع فروعه . ومما ساعـد على هذا الارتباط بين البحث الأدبي واللساني هو أن " استراتيجية التعامل هي نفسها استراتيجية لسانيات ، بنيوية أساسا ، تعتمد مقولات كبرى كالبنية / العلاقات / النموذج . التمييز بين الآني والدياكروني . إلا أن تعامل البحث الأدبي مع اللسانيات لم يتوقـف عند حدود طروحات نظرية لسانية ، بل إن بعض الباحثين أنفسهم طوروا أجهزتهم المفاهيمية بتطور البحث اللساني(كما نجد عند كريماس نفسه) ، فمفاهيم النحو التوليدي وظفت وإن غير فحواها من ذلك مفاهيم : التحويل / البنية العميقة / البنية السطحية " . 1
1- الاتجاه " الشعري ":
الشعرية فرع من فروع اللسانيات " تعالج الوظيفة الشعرية في علاقتها مع الوظائف الأخرى للغة ، وتهتم الشعرية بالمعنى الواسع للكلمة بالوظيفة الشعرية لا في الشعر فحسب ، حيث تهيمن هذه الوظيفة على الوظائف الأخرى للغة ، وإنما تهتم بها أيضا خارج الشعر حيث تـعطي الأولوية لـهــذه الوظيفــة أو تـلك تبعا للوظــيـفة الشـعــرية " 2 . بــهــذا الـتـحـديــد حاول ( ياكبسون ) أن يزيل اللبس الذي قد ينشا عن هذه التسمية ، التي اقترنت في ذهن المتلقي بالشعــر، مركزا على خاصية ( المهيمن ) منها في كل النصوص أو الخطابات أو الأجناس الأدبية ، مشددا من جهة أخرى على العلاقة بين الشعرية واللسانيات ، انطلاقا من تحديد الموضوع والطريقة التي يعالج بها ضمن هذا المجال القائم على إجابة واضحة ومحددة عن سؤال محوري هو : " ما الذي يجعل من رسالة لفـظية أثرا فنيا؟ [ وبالتالي ] بما أن هذا الموضوع يتعلق بالاختلاف النوعي الذي يفصل فن اللغة عن الفنون الأخرى وعن الأنواع الأخرى للسلوكات اللفـظية، فإن للشعرية الحق في أن تحتل الموقع الأول بين الدراسات الأدبية ، [ذلك] أن الشعرية تهتم بقضايا البنية اللسانية تماما مثل ما يهتم الرسم بالبنيات الرسمية. وبما أن اللسانيات هي العلم الشامل للبنيات اللسانية ، فإنه يمكن اعتبار الشعرية جزء لا يتجزء من اللسانيات "3 .
إن المتتبع لمقوم ( الوظائف ) ( Fonctions ) الذي استند إليه يا كبسون ، يدرك انه وجه الدارس المحلل والمتلقي المشارك إلى موضوع غالبا ما لم يأخذ نصيبه من الاهتمام ، رغم دوره الهام في إبراز جمالية العمل الأدبي ، وتحديد درجة ومستوى ( أدبيته ) مقارنة بأعمال أخرى . ذلك أن هذه الجمالية التي هي المطلب الأول في مثل هذه النتاجات ، تتقوى كلما كانت الهيمنة الكبرى للوظيفة الشعرية مقارنة بالوظائف الأخرى : ( إفهامية أو انفعالية أو مرجعية أو ميتالغوية ) ، خاصة وأنها تجد حضورها اللافت في جنس الشعر إذا ما قورنت بجنس القصة أو الرواية .
هكذا نجد تودوروف يركز ضمن هذه اللسانيات الشعرية على ما يسمى القوانين الشعرية ( les lois poétiques ) التي ليست هي النص المقدم بل النص المفترض ، الذي يساهم في إنتاجه المتلقي أيضا بفضل تقديمه لقراءات محتملة ، وافتراضات تملأ البياضات والفراغات النصية ، حيث جاءت " الشعرية فوضعـت حدا للتوازي القائم على هذا النحو بين التأويل والعلم في حقل الدراسات الأدبية ، وهي بخلاف تأويل الأعمال النوعية لا تسعى إلى تسمية المعنى ، بل إلى معرفة القوانين العامة التي تنظم ولادة كل عمل ، ولكنها بخلاف هذه العلوم التي هي علم النفـس وعلم الاجتماع .. تبحث عن هذه القوانين داخل الأدب ذاته " 1، على أن الأدب يشمل المنتج والمتلقي معا في عمليات متنامية ، وغير منتهية بل مفتوحة .
II- الاتجاه الأسلوبـــي :
إذا كان دوسوسير قـد ميــز بـــيـن الـكلام ( parole ) واللـغــة ( langage ) واللــسان ( langue) ، فإن شارل بالي قد استثمر هذا التمييز لينتج أســلــوبية خاصة : أســلوبية وصفــية ( Stylistique descriptive ) تركز على العلاقة التي تصل من جهة الكلام الذي هو خاص باللغة التي هي عامة ومشاع عـند كافة الناس . هذا بالإضافة إلى ظاهرة (الاختيار) عند المؤلف والتي توجه المحلل نحو مراعـاتها فـي دراسة الأدب . وقــد اعتمدت هذه الأسلوبية عــلى مقــوم ( الخرق أو الانزياح ) كأساس لكشف شعرية الأدب ، وتمييز المبدعين ومستوى نتاجاتهم في درجات متفاوتة تبعا للغة المستعملة وكيفيات ( تمظهرها ) في الخطاب 1 . وقد أكد ميكائيل ريفاتير على هذه العلامة والطرائق الكفيلة بتحقيق وصف منتج بالقـول :" وبحكم القرابة بين اللغة والأسلوب ، فإنه من المؤمل استخدام المناهج اللسانية في الوصف الدقـيق الموضوعي لمسألة الاستعمال الأدبي للغة . ولا يمكن لهذا الاستعمال ، باعتباره الوظيفة اللسانية الأكثر تخصصا وتعقيدا ، أن يهمل من قبل اللسانيين ". 2
غير أنه لابد من التمييز بين أسلوبيات : منها ما يؤكد على المؤلف من خلال أسلوبه الفردي الخاص ، ومنها ما يمزج بين أسلوب المؤلف والسياق ، دون إهمال دور المتلقي وهي التي يقول بها ( ريفاتير ) وإن كان هذا الأخير يعتبر أن " الخلاف بين الأسلوبيات اللسانية والأسلوبيات الأدبية هو خلاف ظاهري اكثر منه خلافا واقعيا ، ذلك لأن الأسلوبيات اللسانية عندها تمثل للإطار النظري ، وإن الأسلوبيات الأدبية تمثل المادة التطبيقية في نقد الأسلوب . وعلى هذا فإن الأسلوبيات اللسانية لابد أن تعتمد على النصوص الأدبية من أجل استنباط الخصائص الأسلوبية للغة التي تعد الموضوع الرئيس للسانيات الحديثة ، وإن الأسلوبيات الأدبية لابد أن تعتمد في تعريفاتها ومقولاتها ومبادئها على اللسانيات لكي تكون أكثر منهجية وموضوعية " 3 ، غير أن هذا التصور ينبغي أن لا يحجب عنا كثيرا من الاختلافات ، وبخاصة تلك التي تهم الجوانب التقنية في التطبيقات على النتائج اللغوية ، وذلك مثل الأسلوبية البنائية التي تركز على الإحصاء والجدولة كأسس محورية في عملية التحليل واستخلاص النتائج كما هو الحال عند ( بيير كيرو) 1 . كما نجد نمطا آخر من الأسلوبية قد استفاد أصحابه من اللسانيات التوليدية لتشومسكي حيث تم توظيف النحو التوليدي في تحليل الأدب ، وقد ظهر جليا في أعمال ( كريماس ) من خلال توظيفه لمفاهيم لسانية مثل : البنية العميقة والبنية السطحية والعلاقات والتحويل بالإضافة إلى المفاهيم السابقة في اللسانيات الوصفية مثل البنية والدراسة التزامنية والتعاقبية .
أما الأسلوبية التكوينية ( Génétique) فتحاول أن تستفيد من الجوانب النفـسية والاجتماعية والتاريخية لفهم وتحليل الأدب متجاوزة بذلك أسلوبية (رولان بارث) التي تؤكـد على الجانب الفردي في الأسلوب ، لا سيما في تمييزه بين ( الكتابة ) التي هي جماعية ، ودرجتها ( صفر ) والأسلوب الذي هو خاص من إنتاج مبدع متميز بلغته وأسلوبه وعالمه الجمالي الفردي الذي لم تتحكم فيه قضايا وهموم الجماعة ، مادام الأهم عند بارث هو : كيف وبأي أداة يعبر المؤلف وليس عن أي مضمون يعبر 2 .
وإذا ما حاولنا تتبع بعض الاختلافات المنتجة بين هذه التصورات الخاصة بهؤلاء المحللين والباحثين ، فإننا نجد أنها لم تقف عند مستوى الآليات فحسب ، بل شملت أيضا التصورات التي كانت تمس مفهوم النص كذلك . فإذا كان ( تودوروف ) و( ياكبسون )3 يعتبران ( النص ) وحدة مغلقة ، فإن ( جيرار جينيت ) 4 يعتبره نصا ( مفتوحا )، لأنه مزيج من (نصوص ) متنوعة من حيث الجنس والشكل والمحتوى وهو ما يسميه ( جامع النص ) ، استنادا إلى ما كانت تطلق عـليه ( جوليا كريستيفا ) ( التناص ) 5 ، إذ النص : ثمرة لتداخلات نصية ، كل نص يستمد وجوده وحياته من نصوص أخرى .
وهذا ما حاولت دراسات تحليلية أخرى أن تستثمره في محاولة إنتاج مقاربات خصبة للنص ، مستفيدة مما انتهت إليه اللسانيات التداولية واللـســانـيات السياقــية ولسانيات الــتـلقي مع ( إيزر وياوس وريفاتير) وغيـرهم ممن اعـتبروا أن ( النص) نتاج مشترك بـيـن المؤلف والقارئ ، لذلك دعوا ، من جهة إلى تجاوز التحديد الضيق للأثر الأدبي ، ومن جهة أخرى إلى الاستناد لتحليل لساني تداولي وسياقي يتجاوز دلالة ( الجملة ) إلى دلالة ( الخطاب ) بكل مكوناته من لغة ومقاصد مؤلف وسياق وشروط مقام وتداول وتلقي ، وذلك بالتركيز على مقولات أساسية مثل : المقصدية والبؤرة والمحاور والعوامل والعلاقات والبرامج السردية إلى غير ذلك من المقومات المحورية في تحليل الخطاب .
ويمكن القول إن دراسات : كريماس وديكرو وبورس وإيكو من أهم ما أنتج في هذا الفرع من اللسانيات التي أثمرت بدورها نمطا آخر من التحليل يهتم أساسا ( بشكل المعني ) وكافة الأشكال الرمزية والعلاماتية ، سواء كانت لغوية أم سمعية أم بصرية أم إشارية أم ذوقية1 . أضف إلى ذلك أن من مميزاتها الأساسية أنها لا تبحث في المرجع ( Le réfèrent) ولكنها تفسر ( المدلول ) ( le signifié ) والعلاقات ( les rapports ).
لقد نجحت دعــوى كل من ( ديكرو وبورس وكريماس وجينيت وتودوروف وكريستيفا وإيكـــو ) القائلة بضرورة تحليل أشـكـال أخرى غير لغوية مثـل : الشكل البصري1 والإشاري والذوقي والبحث في دلالات هذه الأشكال فاتـسـع بـذلك مـجال البحث والتـحليل من اللغـة التي كانت مهــيـمـنة إلى العلامات على اخــتلافـها أي فـي كـل رسالة ( Message ) تحدث تواصلا ( Communication ) ممتدا .
لقد أفاد كريماس المحللين فيما يعرف ( بعلم دلالة المعنى ) ، خاصة في مجال السرد ، حيث يرى انه من الضروري الاستناد إلى ما أسماه بالعوامل ( Les actants) وهي : الفاعل والموضوع والمساعد والمعارض والتي اتضحت فيما عرف بالبرامج السردية 2 . كما أكد أمبيرتو إيكـو إلى ما اسماه ( العمل المفتوح ) ، بحيث اعتبر كل عمل منسجم ومحكم عملا مفتوحا على قراءات عديدة منتجة ، لأنه قائم على عناصر فنية ، رمزية ، تتيح إمكانية تنوع القراءات والمقاربات . وإن المؤلف حسب إيكو يقدم نصا ناقصا على المتلقي أن ( يتممه ) ويسد ( فراغاته ) 1.
III - النموذج اللساني في الدراسات العـربية :
لقد تنبه الدارسون العرب إلى ضرورة الإفادة من منجزات الدرس اللساني الذي بلغ دروته في البلاد الغربية . فنادوا بدورهم للتخلي عن الأساليب ( القديمة ) في تحليل الأثر الأدبي استنادا إلى السياق الاجتماعي والاقتصادي والسياسي ، أو مفاهيم الابتكار أو السحر أو الخوارق التي يصعب تحديد بنياتها وأسرارها .
كان طبيعيا أن ينخرط هؤلاء الدارسون والباحثون والمحللون في هذا السياق من التحول إلى مناهج تدرس الأدب من داخل بنياته ومكوناته الصوتية والمعجمية والتركيبية والدلالية ، وكذا مستوى الوظائف والسرد والعوامل والمعنى والبرامج السردية إلى غير ذلك من المستويات والوحدات التي تشكل عالم الشعر أو السرد، والتي انبنت بدورها على ركائز لسانية في الأساس .
إن إفادة الباحثين من هذه المناهج ( الحديثة ) 1 قد أفرز أساليب وطرق تحليل مختـلفـة،ومتنوعة ، لكنها كلها تحاول أن تعيد الاعـتبار للنص من حيث هو لغـة ، تـتـميـز بخـصائصها النوعـية التي ( تفارق ) السياسي والاقتصادي والاجتماعي والنفسي ، لتشكل عالمها المتفرد ، الذي يلزم تعاملا ( علميا ) وتحليلا ( خاصا ) لا خلط فيه بين المبادئ ، ولا مزج فيه بين النظريات المتباعدة من حيث المبدأ والتصور .
ولقد كان هذا المنظور المنطلق الذي سارت منه ( السكلانية ) بوصفها أول نموذج يعكس هذا التحول الهام . فبدأ تركيزها منصبا على تلافي الوضعيات التي كانت عليها المناهج السابقة " حيث كان الأدب لا يزال حسب عبارة ( فيسيلوفسكي ) " أرضا لا مالك لها " وهذا هو السبب الذي كان يجعل من المستحيل التوفيق بين موقف الشكلانيين والمناهج الأخرى ، كما كان يجعل قبول موقفهم من طرف الانتقائيين أمرا مستحيلا . إن الشكلانيين في اعتراضهم على المناهج الأخرى أنكروا ولا يزالون ينكرون ، ليس تلك المناهج في ذاتها ، وإنما الخلط اللامسؤول فيها بين علوم مختلفة ، وقضايا علمية مختلفة .
لقد اعتبرنا ولا نزال نعـتبر كشرط أساسي ، أن موضوع العلم الأدبي يجب أن يكون دراسة الخصيصات النوعية للموضوعات (objets) الأدبية التي تميزها عن كل مادة أخرى "2 . معنى هذا أن الهم الأول الذي أصبح يشغل الدارسين هو ( النص) أو ( داخله ) ، بدل البحث فيما هو خارجه ، متوسلين في بلوغ هذا المسعى بآليات ومفاهيم لسانية ، أكدت نجاعتها وإجرائيتها في اكـتناه كثير من القضايا اللغوية والأدبية التي كانت من قبل مستثرة أو خارج الدراسة والتحليل ، مثل : البنية السطحية والعميقة ، والمحور الاختياري والتوزيعي والعلاقات والأنموذج والمحور التزامني والتعاقبي والتحويل والعوامل والبرامج إلى غيرها من المفاهيم الأساسية في تحليل ودراسة الأدب سواء كان شعرا أم سردا ، بل إن من الباحثين العرب من اتخذ من الدرس اللساني طريقا لإعادة قراءة التراث ، كما هو الحال في مشروع د. عبد السلام المسدي ( المقاييس الأسلوبية في النقد الأدبي من خلال البيان والتبيين ) ( 1976 ) و ( الفكر اللساني في الحضارة العربية ) : (1981) و ( التفكير البلاغي عند العرب أسسه وتطوره إلى القرن السادس ) د . حمادي صمود ( 1978) و ( مظاهر التـفـكير في الأسلوب عند العرب ) د. الهــادي الطرابـلسي ( 1978) . و ( نحو قراءة جديدة لنظرية النظم عند الجرجاني ) : د . أحمد المتوكل ( 1977) . و ( الاتجاه الوظيفي في تحليل اللغة ) : د . يحي أحمد يحيى ( 1989) . و ( اللسانيات واللغة العربية ) : د . عبد القادر الفاسي الفهري ( 1985) .
غير أن اللافت للانتباه هو تلك الدراسات التي حاولت أن تستلهم النموذج اللساني ، لتطبقه على أعمال شعرية وسردية مختلفة .
فإذا كنا نقر بأهميتها في تعـريف القارئ بالنظريات اللسانية الحديثة ، فإننا نتساءل عــن ( الكيفية ) التي تم بها نقـل هذه النظريات ، وكذا عن مبررات ( الاختيار ) و ( النتائج ) التي تم تحقيقها في هذا المجال ، خاصة في مثل أعمال : د . حسين الواد ( البنية القصصية في رسالة الغفران ) ( 1976) . ود. حمادي صمود ( النور في شعر مصطفى خريف ) ( 1976) . ودة. خالدة سعيد ( النهر والموت للسياب : دراسة نصية ) ( 1978) ، حيث نلمس بوضوح حضور النموذج اللساني البنيوي الوصفي بخاصة في أصوله الأولى ، دون الالتفات إلى النماذج اللسانية الأخرى ، وبخاصة النموذج التوليدي ( شومسكي ) ( 1957 ) ، هذا الأخير الذي حضر بشكل لافت للانتباه في أعمال د . كمال أبو ديب ، بخاصة في كتابه ( الرؤى المقنعة ) ( 1986) 1 الذي خصه لدراسة بعض عيون الشعر الجاهلي ، معتمدا الوصف التشجيري حيث نجده يفرع جمل البيت الواحد إلى قائمة طويلة من الوحدات الجميلة المتصلة فيما بينها بعلاقات وروابط متنوعة ، الهدف منها محاولة إغناء الدلالة بوصف هذه الجمل أنساقا لوحدات متنوعة ، لكنها مرتبطة بعلاقات خاصة 1 .
غير أن من يتأمل مليا هذا التحليل ن يجد عنتا كبيرا في متابعته واكتناه نتائجه . فرغم ما يبدو عليه من ( جدة ) ، إلا أنه كثيرا ما كان يجنح نحو المبالغة والتهويل ، والغلو في عرض القضايا ، ومتابعة التحليل ، وهكذا فإن نظرة متفحصة في هذا المؤلف توضح هذا المنحى من الغلو ، حيث هذا الركام من الترسيمات والجداول والتشجيرات والأرقام غير المفهومة ، يحاول بها كما يقول الكشف عن بنيات النص الشعري الجاهلي ، 2 من خلال بعض النماذج . إلا أن القارئ يجد صعوبة في فك هذه الجداول المعقدة ، التي كان من المفترض أن تساهم في توضيح النص ، بدل إغراقه في الغموض . حيث يصبح القارئ مرغما على أن " يجهد نفسه كثيرا في متابعة الجداول الإحصائية التي تعد تكرار وحدات لغوية ، وتلك التي تقدم تحليلا نحويا للقصيدة . لكن ذلك الاجتهاد لا يقارن بالحيرة الكاملة والمحاولات المستميتة التي يجب عليه أن يبذلها عند ما يواجه بالرسوم التي يفترض أنها توضحية لبنية النص الشعري ، وهي رسوم ( دوائر ومتوازيات وأشياء أخرى كثيرة لا تحددها المعلومات الهندسية ) تدخل القارئ في متاهة إثر متاهة ليخرج منها في نهاية الأمر مجهدا مرهق الفكر ، وقد فقد توازنه تماما ، بعد أن ابتعد أميالا عن النص الشعري ، بدلا من الاقتراب منه " 3 بهذه الطريقة تضيع السبل أمام المتلقي ، وتتلاشى تلك العلاقة التي كان من المفترض أن تقوم بين المحلل والقارئ ، فيضيع معها ( النص ) ، الذي يتوارى خلف عالم من التجريد والترقيم .
فيصبح السؤال : أين النص من كل هذا ؟ . كما يدفعنا ذلك إلى طرح تساؤلات موازية عـن الدرجة التي بلغتها التجارب العربية ذات المنحى البنيوي : هـل استطاعـت فعلا أن تحـقـق خصوصيتها أم أنها بقيت مجرد تجارب ( ممسوخة) ، لا هي عـربية ولا غربية ؟ !
نعـم ، لا يمكن أن نتجاهل ذلك التراكم الهام الذي حققته هذه التجارب ذات المنحى البنيوي ، خاصة في توجيه المتلقي والمحلل معا نحو النظريات والمناهج الحديثة والمتفرعة – أساسا – عن الدرس اللساني ، لا سيما تلك التي أنتجت أعمالا تحليلية أفادت في تعميق الوعي بالآثار الأدبية ، غير أن كثيرا من العوائق وقـفـت ولا زالت تحول دون استثمار منتج وفعال للإمكانات الهائلة التي يتيحها الدرس اللساني بمختلف فروعه واتجاهاته ، والتي من بينها :
- الخلط في المفاهيم .
- تغييب أو تجاهل الخلفيات المعرفية والمرجعيات الخاصة بكل نظرية أو تصور .
- عدم ضبط وتحديد اللغة الواصفة .
- التجريب المفرط لكل النظريات المستعارة ، دون استحضار الحس النقدي المطلوب .
- عدم مراعاة خصوصية النص العربي عند التطبيق أو التحليل اللساني .
- الإغراق في التجريد، والمبالغة في استعمال الإحصاء والترسيمات الخارجة عن - - - - -الحاجة، مما يزيد في التشويش على النص ، بدل إيضاحه .
الاعـتماد المطـلـق عــلى ( نــمـوذج ) واحـد من اللسانـيات ، بخاصة النمـوذج البنـيـوي ( الوصفي ) ، دون الالتفات إلى الاتجاهات اللسانية الأخرى مثل توليدية ( شومسكي ) أو تداولية ( أوستين ) او سيميولوجية ( ستينيانوف ) إلى غيرها من النماذج التي أثبتت حضورها في عالم اللسانيات بشتى فروعها . وذلك للإفادة مما يمكن أن تقدمه للمحلل والباحث في هذا المجال . إذ اللافت للانتباه هو هذا التجاهل المثير للاختلاف بين الاتجاهات اللسانية ، وعدم استثماره في إنتاج تحاليلي خصبة ، متنوعة ومنتجة . يضاف إلى ذلك عدم إقامة حدود فاصلة بين الدرس اللساني كما هو في ( أصوله ونظرياته ) ، وبين ( طرائق ) توظيفه في تحليل الظواهر اللغوية والأدبية في مختلف تجلياتها ، بحيث يجب أن تستثمر نتاجات اللسانيات لكي تخدم التحليل وتكشف بنيات النص ، بدل إغراقه وتعتيمه بأدوات ، وترسيمات مبهمة ، بدعوى ( العلمية ) ، لأنه إذا كانت اللسانيات تصف القوانين المتحكمة في اللغة ، فإن التحليل في الأدب يستثمر نتائجها لإضاءة النص وكشف القوانين المتحكمة فيه . فلا تخدعنك كثرة المصطلحات ، بخاصة إذا لم تثبت إجرائيتها في التحليل ، لأنها تتحول في هذه الحالة إلى علامات جوفاء ، تعيق أكثر مما تساعد ، بل إنها تتجاوز ذلك لتعطل ( الدلالة ) التي هي أس اللغة والمفتاح الرئيس لولوج عالـم مبــدعــيـهــا . وهـنـا لابــد من الإقـرار بان نــقـطة ضعـف اللسانيــات تكـمـن في ( الدلالة ) بحيث لا يكفي إحصاء ووصف المفردات والجمل والحقول والعوامل والبرامج السردية ، أو إنجاز جداول وتشجيرات متعددة ، لنضمن كفاءة التحليل ، بل لابد من ربط مقومات النص كلها بالسياق والخلفيات المعرفية ومقاصد المنتج ودور المتلقي في استخلاص الدلالات الثاوية خلف الأثر الأدبي .
فلو أخذنا مثلا قول الشاعر :
كان الضياء وكان النور نتبعه بعد الإله وكان السمع والبصرا
فليتنا يــوم واروه بـملحـده وغيـبوه وألقوا فوقه الـمدرا
لم يترك الله منا بعده أحـــدا ولم يعــش بعـده أنثى ولا ذكرا
لا يكـفي تحليل مستوياته الأربعة المتعلقة بالإيقاع والمعجم والتركـيب والدلالة ، بل لابد من تمثل السياق والمـقام وخصوصية الذات المعـنـيــة بالخــطاب ، والذات التي هـي موضوع 2 ( الرسالة ) بحيث تصبح كل هذه المعطيات سندا لتقوية التحليل والبرهنة على النتائج التي يتم التوصل إليها تفاديا لسوء التأويل .
واعتقد أن الذين وقفوا عند النموذج البنيوي الوصفي ، لن يتجاوزوا كشف بعض العلامات النصية ، التي لا نبرز الأبعاد الدلالية الثاوية في هذا النموذج الشعري والتي هي الأهم في مقصدية المنتج ، حتى ولو ادعى التحليل البنيوي ( الصرامة العلمية ) التي تستند على ما تسميه موت المؤلف ، و ( انغلاق النص ) من حيث بنياته ! إذ " لا شرعية لأي نظرية جمالية في الأدب ما لم تتخذ من مضمون الرسالة الأدبية أسا لها ، بل أهم قواعدها التأسيسية ، كما انه لا يمكن الإقرار بأية قيمة جمالية للأثر الأدبي ما لم تشرح مادته اللغوية على أساس اتحاد منطوق مدلولاتها بملفوظ دوالها "3. من هنا فإن جماع هذه الآليات ، والقرائن والمقومات على اختلافها ، هو الذي من شأنه أن يكـفـل للتحليل فعاليته في الكشف عن البنيات الخفية، الثاوية خلف الملفوظ .
قــائــــمة المراجــع :
I – المراجع العــــربية
- الأسلوب والأسلوبية: د. عبد السلام المسدي : عالم الفكر – الكويت : عدد يونيو 1994 .
- جذور السعودية– ع 13 السنة 7 ربيع الآخر 1424 هـ – 2003 م .
- ديوان حسان بن ثابت : دار الكتاب العربي : بيروت : 1981 .
- الرؤى المقنعة : نحو منهج بنيوي في دراسة الشعر الجاهلي : د. كمال أبو ديب : الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة : 1986.
- الشعرية : تودوروف : ترجمة : شكري المبخوت - رجاء بن سلامة : ط :2 دار توبقال : المغرب 1990 .
- فكر ونقد : عدد 37 – السنة الرابعة ، مارس 2001 – المغرب .
- قضايا الشعرية : رومان يالكبسون : ترجمة : محمد الولي ومبارك حنون : ط 1 دار توبقال المغرب 1988 .
- محاضرات في علم اللسان العام : دي سوسير : ترجمة عبد القادر قنيني : ط دار إفريقيا الشرق: المغرب 1987 .
- المرايا المحدبة : من البنوية إلى التفكيكية : د . عبد العزيز حمودة : عالم المعرفة عدد أبريل – الكويت : 1988 .
- معايير تحليل الأسلوب : ميكائيل رفاتير : ترجمة / تقديم وتعليقات : د. حميد لحميداني :
ط 1 – دراسات سال – المغرب : 1993 .
- المفاهيم معالم : د . محمد مفتاح : ط 1 – المركز الثقافي العربي بالمغرب 1999 .
- مكونات النص الأدبي : مجلة كلية آداب عين الشق – البيضاء – عدد فبراير 1988 .
- ما هي السيميولوجيا : بيرنار توسان : ترجمة : محمد نظيف ط 1 دار إفريقيا الشرق – المغرب: 1994 .
نظرية الأدب : رينيه ويليك وأستن وارين : ترجمة د . محي الدين صبحي ط 3 – المؤسسة - العربية للدراسات والنشر – بيروت : 1987 .
- نظرية المنهج الشكلي ( نصوص الشكلانيين الروس ) : ترجمة إبراهيم الخطيب – ط 1 – الشركة المغربية للناشرين المتحدين : المغرب : 1982 .
II – المـراجـع الغــــربــــيـة :
- Les acquis et les projets : in introduction à la sémiotique narrative et discursive : A.J Greimas :Ed .Hachettes :Paris :1976.
- Aspects de la théorie syntaxique : N.chomsky : Ed :Seuil : Paris : 1971.
- Les constantes du poème :Kibédi Varga :Ed :Picard :Paris :1977.
- Critique et vérité :Roland Barthes :Ed :Seuil .paris :1966.
- Cours de linguistique générale :F/Saussure :Ed :Payot :1972.
-Le degré zéro de l’écriture :Roland Barthes coll :point :paris :1972.
- Eléments de linguistique générale : André Martiné :Ed colin .paris :1970.
- Figures (I-II-III) : G-GENETTE : Ed :Seuil : Paris : (1966-1969-1972).
- Introduction à l’analyse linguistique de la poésie : J-molino et – j- Tamine :Ed: puf:Paris : 1983 .
- introduction à l’analyse linguistique de la poésie : J – molino et –
J-Tamine :Ed : puf :Paris :1983.
- introduction à l’architexte : G-Genette :Ed:Seuil Paris :1979.
-introduction à la sémiotique narrative et discursive :J-
Courtes :Ed :Hachette : Paris 1976.
-Linguistique et poétique Very Happy-Delas et J- Filliolet : Ed : Larousse :
Paris : 1973.
- l’œuvre ouverte : Umberto Eco :Ed :Seuil :1965.
- Palimpsestes :G-Genette :Ed : Seuil :Paris 1982.
- Le plaisir du teste :Roland Barthes :Ed :Seuil Paris :1973.
- Recherches pour une sémanalyse : Julia Kristeva :Ed :Seuil Paris 1969.
- Rhétorique et littérature : Kibédi Varga Ed : Didier : Paris 1970.
- Sémantiques Structurale :A-J :Greimas :Ed : Larousse .Paris : 1966.
- Sémiotique de la poésie : M-Riffaterre :Ed :Seuil :Paris :1978.
- La structure absente : Emberto eco :Ed :Mercure de France : Paris : 1972.
- La Structures syntaxique : N . chomsky :Ed :Seuil :Paris 1962.
- La Stylistique :Pierre Guiraud :Ed : puf Paris : 1963.
- S/Z : Roland Barthes :Ed : Seuil : 1970.
--------------------------------------------------------------------------------
1 – نظرية الأدب : رينيه ويليك – أوستن وارين : ترجمة : د محمد صبحي،ص : 97 .
2 – لقـد شهدت بداية القـرن العشرين تحولا هاما في مسار الدراسات المهتمة بتحليل الأدب ونقـده ، تمثلت أساسا في ظهور الشكلانيين الروس (Formalistes russes ) الذين نادوا بدراسة الأدب من ( الداخل ) والبحث فيما أسموه ( أدبية ) الأدب أي فيما يميز النص الأدبي عن غيره من خصائص . وقـد سار في هذا المنحى الشكلانيون الألمان كذلك ، حيث اهتموا بالحكاية والسرد القديمين وامتد هذا الاتجاه إلى البلدان الأنكلوسا كسونية ، حيث انصب الاهتمام على الشعر بخاصة وكذلك الشأن في البلدان الفـرنكوفـونية خاصة فرنسا مع الأنتربولوجي ( ستراوس ) وعالم المعنى ( كريماس ) وغريهما .
3 – انظر 317 Cours de linguistique générale :F - Saussure : p
1 – انظر لمزيد من التفـصيل :: Noam chomsky
Aspects de la theorie syntaxique. Et Structure Syntaxique
2 – لمزيد من التوضيح انظر : - Elements de linguistique générale : Andre Maritiné :(1970)
problème de linguistique générale : N . chomsky (1969). Et
- Cours de linguistique générale : F . Saussure : ( 1972)
3 – محاضرات في علم اللسان العام : دي سوسير : ترجمة عبد القادر قـنيني : ص 29 .
4 – قليلا ما يشار إلى دور شومسكي في توجيه التحاليل اللسانية ، خاصة عند الباحثين العرب الذين غلبوا الاتجاه السوسيري في دراساتهم مقارنة بالدراسات التداولية ، يمكن الإشارة هنا مثلا إلى :
- Aspects de la théorie syntaxique : Chomsky ( 1971).
1 – يمكن الإشارة هنا إلى الأعمال الآتية :
- Introduction à l'analyse linguistique de la poésie : J. Molino et J.Tamine ( 1983)
- Essais de Stylistique Structurale :M. Riffaterre : (1971) Sémiotique de la poésie : M . Riffaterre : ( 1978)-
Sémantique Structurale : A-J. Greimas : (1966).
Figures : I-II-III : G.Genette : (1976)
Introduction à la Sémiotique narrative et discursive : J:courtes (1976)
Le plaisir du texte :R :Barthes : (1972)
Linguistique et poétique Very Happy.Delas et J.Filliolet : ( 1973).
2 – انظر : المفاهيم معالم . محمد مفتـاح (1999) ص 44-45 .
1 – انظر "د. مصطفى غلفان : " مكونات النص الأدبي " ص : 223 : كلية آداب عين الشق : فبراير 1988 المغرب.
2 – قضايا الشعرية : رومان يا كبسون : ترجمة محمد الولي ومبارك حنون : ص 35 .
3 – المرجع نفسه : ص 24
1 – الشعرية : تودوروف : ترجمة / شكري المبخوت ورجاء بن سلامة : ص 23 .
1 – من أهم الدراسات في هذا المجال نذكر :
La stylistique : Pierre Guiraud (1963)
Rhétorique et littérature : Kibédi Varga (1970)
Les constantes du poème :Kibédi Varga (1977)
2 – معايير تحليل الأسلوب : ميكائيل ريفاتير : ترجمة د. حميد لحميداني : ص 16 .
3 – الاتجاهات اللسانية المعاصرة ودورها في الدراسات الأسلوبية : د. مازن الوعر : عالم الفكر : ص 145 ، يونيو 1994 .
1 – من أهم المؤلفات في هذا المجال : - La stylistique ( Pierre Guiraud) ( 1963)
2 – انظر لمزيد من الإيضاح مؤلفات رولان بارث الآتية :
Critique et vérité (1966).
S/Z (1970)
Le plaisir du texte (1973)
Le degré zero de l’écriture (1979)
3 – انظر الشعرية : تزفيطان طودوروف : ترجمة شكري المبخوت ورجاء بن سلامة – ص 35 .
وقضايا الشعرية : رومان ياكبسون : ترجمة محمد الولي ومبارك حنون : ص 19-78 .
4 – يمكن العودة إلى عملين هامين في هذا المجال لجيرار جينيت : هما .
Introduction à l’architexte : G Genette (seinl)(1979)
Et Palimpsestes (seiul) ( 1982)
5 –- Recherche pour une semnalyse : Julia Kristéva : P :92-93
1 – لقد بدأت إرهاصات الاتجاه السيميولوجي تبرز منذ أن نبه سوسير إلى أنه بالإمكان أن نتصور علما يدرس حياة العلامات في الحياة الاجتماعية : انظر لمزيد من التفصيل :
Cours de linguistique générale :F Saussure (1974).
- ما هي السميولوجيا : بييرنار توسان : ترجمة محمد نظيف (1994 ) .
1 – لقـد حاولنا الكشف عن هذا البعد في دراستنا : الشكل البصري في الشعر الحديث : مجلة : فكر ونقد المغربية ، ع 37 ، السنة الرابعة ، مارس 2001 .
2 – انظر : مؤلفات كريماس الآتية :
Sémantique structurale (1966)
Les Acquis et les projets : introduction à la sémiotique narrative et discursive : (1976)
1 – انظر لمزيد من الإيضاح مؤلفي : إيكو :
L’œuvre ouverte ( seuil ) ( 1965).
Et la structure absente ( Mercure de France) ( 1972).
1 – نقصد بالمناهج ) الحديثة ) هنا تلك المناهج التي انتقـدت التصور القديم للأدب باعتباره ( انعكاسا ) للواقع السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو النفسي ، وقال ( باستقلالية ) الأدب ، ودعت إلى البحث عن ( أدبية ) ( littérarité) وقد كانت نقطة انطلاق هذا التصور مع الشكلانيين الروس أساسا ( 1915-1930) .
2 - نظرية المنهج الشكلي : ( نصوص الشكلانيين الروس 9 : ترجمة إبراهيم الخطيب : ص 35 .
1 – الرؤى المقنعة : نحو منهج بنيوي في دراسة الشعر الجاهلي . د . كمال أبو ديب الهيئة المصرية العامة للكتاب– القاهرة ( 1986) ، كما نلمس هذا المنحى في التحليل في معظم الدراسات التي قام بها د. كمال أبو ديب لأعمال أدونيس الشعرية .
1 – انظر كتابه : الرؤى المقنعة : ص 166 وما بعدها .
2 – انظر تصورنا لهذا الخطاب ضمن مجلة جذور السعودية : ع 13 – السنة 7 – 2003 م .
3 – جاء ذلك في سياق التقييم الذي أنجزه د . عبد العزيز حمودة لأعمال تحليلية قدمها مجموعة باحثين عربا تبنوا الاتجاه البنيوي ، من بينهم د. كمال ابو ديب. انظر لمزيد من الإيضاح : المرايا المحدبة . من البنيوية إلى التفكيكية . ذ عبد العزيز حمودة: عالم المعرفة : ص 44- أبريل 1998 – الكويت .
وانظر للمقارنة : الرؤى المقنعة : د . كمال أبو ديب : ص 29 وما بعدها .
2 – الموضوع هنا شخص الرسول محمد عليه السلام : نموذج الهدى وقدوة المؤمنين ، وحامل الرسالة الهادية للعالمين . من هنا فالشخصية غير عادية ، تتطلب استحضار كل الأبعاد المحيطة بها بغية تمثلها أحسن تمثل .
3 – الأسلوب والأسلوبية : د . عبد السلام المسدي : ص 118 .
- عيسى بلخباطعضو جديد
- البلد :
الجنس :
عدد المساهمات : 9
نقاط تميز العضو : 95690
تاريخ التسجيل : 22/10/2011
العمر : 44
رد: أدبية الادب
22/10/11, 02:34 pm
مُساهمةموضوع: مستويات الدراسة البنيوية ، قراءة في كتاب : النظرية البنائية في النقد الأدبي .
مستويات الدراسة البنيوية عند صلاح فضل(1 / 2)
1 / تقديم :
لم تقف صيرورة المناهج النقدية عند حدود دراسة النص الأدبي وتفسيره اعتمادا على علاقته بالتاريخ أو المجتمع بل انتقلت مع المنهج البنيوي إلى التركيز على العالم الداخلي للنص الأدبي في بنياته اللغوية والفنية والرمزية، والبحث عن العلاقات والقوانين الباطنية التي تحكمه.
وتعود نشأة المنهج البنيوي إلى منتصف العقد الثاني من القرن العشرين، مع رائد اللسانيات (علم اللغة) فيرديناند دوسوسير الذي أسس للقطيعة مع المقاربات التقليدية للغة وقال:« بأن اللسانيات هي العلم الذي يدرس اللغة في ذاتها ولذاتها» ، بغضّ النظر عن نشأتها وصلاتها بظواهر اجتماعية أو تاريخية، كما تعود نشأة البنيوية إلى الشكلانيين الروس الذين أسسوا لمقولة البحث عن أدبية النص الأدبي، أي « ما يجعل من عمل أدبي أدبا» مثل العناصر النصية والعلاقات المتبادلة بينها والوظيفة التي تؤديها في مجمل النص.
والبنيوية منهج وصفي في قراءة النص الأدبي يستند إلى خطوتين أساسيتين وهما:التفكيك والتركيب ، كما أنه لا يهتم بالمضمون المباشر، بل يركز على شكل المضمون وعناصره وبناه التي تشكل نسقية النص في اختلافاته وتآلفاته.
ويعني هذا أنّ النص عبارة عن لعبة الاختلافات ونسق من العناصر البنيوية التي تتفاعل فيما بينها وظيفيا داخل نظام ثابت من العلاقات والظواهر التي تتطلب الرصد المحايث والتحليل السانكروني الواصف من خلال الهدم والبناء أو تفكيك النص الأدبي إلى تمفصلاته الشكلية وإعادة تركيبها من أجل معرفة ميكانيزمات النص ومولداته البنيوية العميقة قصد فهم طريقة بناء النص الأدبي.
ومن هنا، يمكن القول : إن البنيوية منهج ونشاط وقراءة وتصور فلسفي يقصي الخارج والتاريخ والإنسان وكل ماهو مرجعي وواقعي ، ويركز فقط على ماهو لغوي و يستقرئ الدّوال الداخلية للنص دون الانفتاح على الظروف السياقية الخارجية التي قد تكون قد أفرزت هذا النص من قريب أو من بعيد.
و يعني هذا أن المنهجية البنيوية تتعارض مع المناهج الخارجية كالمنهج النفسي والمنهج الاجتماعي والمنهج التاريخي والمنهج البنيوي التكويني الذي ينفتح على المرجع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتاريخي من خلال ثنائية الفهم والتفسير قصد تحديد البنية الدالّة والرؤية للعالم.
ومن النقاد العرب الذين أسسوا لهذا المنهج وأعملوه في قراءة كثير من نصوص الأدب العربي القديم والحديث : فؤاد أبو منصور، وحسين الواد، ومحمد سويرتي، وعبد السلام المسدي، وجمال الدين بن الشيخ، وعبد الفتاح كليطو، وعبد الكبير الخطيبي، ومحمد بنيس، ومحمد مفتاح، ومحمد الحناش، وموريس أبو ناضر، وجميل شاكر، وسمير المرزوقي، وفؤاد زكريا، وعبد الله الغذامي إضافة إلى الناقد المصري صلاح فصل، الذي تقلّد عدة مناصب ثقافية مهمة كعمادة المعهد العالي للنقد الفني بأكاديمية الفنون، ومستشار ثقافي لمصر بإسبانيا، وله عدة إنتاجات تجمع بين النقد الأدبي والنقد التطبيقي ونظرية الأدب.
والنصُّ موضوع الدراسة مأخوذ من كتاب « النظرية البنائية في النقد الأدبي» . فما القضية التي يطرحها الكاتب في النص؟ وما المقصدية من طرحها؟
2 / ملاحظة النص :
1. قراءة العنوان وفرضيات الموضوع :جاء عنوان النص خبرا لمبتدإ محذوف تقديره هذه، وهو مضاف و« الدراسة» مضاف إليه، و« البنيوية» نعت تابع لمنعوته في الجر. واحتلت فيه كلمة البنيوية موقع البؤرة، وتعني النسق أو الكيفية التي تنتظم بها عناصر مجموعة ما، في نطاق علاقات، بحيث يؤدي أي تغيير في أحد عناصرها إلى تغيير العناصر الأخرى. مما يدفعنا إلى افتراض اتصال موضوع النص ب:
§ التعريف بمنهج نقدي يعتبر النص الأدبي بنية من العناصر تتماثل والأشكال المادية المحسوسة.
§ استعراض مستويات الدراسة البنيوية للنص الأدبي.
3 / فهم النص :
1. المعنى:عرض مضامين النص.
v تعريف الكاتب لمصطلح البنية الأدبية بأنها ليست شيئا حسيا يمكن إدراكه، بل هي تصور ذهني تجريدي يعتمد على الرموز ، خلاف الاعتقاد الشائع الذي يربط البنية بالتصميم المادي الداخلي الأعمال الأدبية.
v تأكيد الكاتب أن فهم المبادئ المتحكمة في التوليد الشعري أو الإبداعي ينبغي التمييز بين مفاهيم البنية والشكل والموضوع:
§ البنية: نتاج لمبادئ ذات طابع شكلي موضوعي تتحكم في توليد وخلق العمل الأدبي، ويترتب عنها النظام الذي تتخده الوحدات المكونة.
§ الشكل: الهيكل الناجم عن قوانين الصياغة والقوالب التي توضع فيها عناصر معينة.
§ الأسلوب: ما تثيره المادة من تصورات ذهنية دلالية رمزية .
v تمييز الكاتب بين البنية والأسلوب، من حيث اتصال البنية بتركيب النص، في حين يتصل الأسلوب بالنسيج اللغوي الذي كتب به نص ما. فالبنية في القصة تتكون من مستويات الحكاية والزمن والشخصيات والأحداث..أما الأسلوب فيتكون من الخلايا اللغوية الكاشفة عن مستويات البنية.
v تحديد الكاتب لهدف التحليل البنيوي والمتمثل في اكتشاف تعدد معاني الآثار الأدبية، باعتبارها حصيلة لانفتاح النص الأدبي نفسه وقابليته لتعدد المعاني.
v اعتماد المنهج البنيوي على اعتبار العمل الأدبي كلا شاملا مكونا من عناصر مختلفة متكاملة فيما بينها، ودراستها في نفسها أولا وفي علاقاتها المتبادلة تحدد في نهاية الأمر البنية الأدبية المتكاملة.
v مستويات الدراسة البنيوية:
§ المستوى الصوتي: دراسة الحروف ورمزيتها وتكويناتها الموسيقية من نبر وتنغيم وإيقاع.
§ المستوى الصرفي: دراسة الوحدات الصرفية ووظيفتها في التركيب اللغوي.
§ المستوى المعجمي: يدرس الخصائص الحسية والتجريدية للكلمات .
§ المستوى النحوي: ويدرس تأليف وتراكيب الجمل وخصائصها الدلالية.
§ المستوى القولي: يدرس تراكيب الجمل الكبرى وخصائصها.
§ المستوى الدلالي: يحلل المعاني بالاستفادة من علم النفس وعلم الاجتماع.
§ المستوى الرمزي: الكشف عن الأبعاد الدلالية والرمزية للغة أو التأويل.
2. بناء المعنى :
النص مقالة نقدية يكشف من خلالها الناقد المصري صلاح فضل المفاهيم المؤسسة للمنهج البنيوي في نظرته للأعمال الأدبية، بدءا بمفهوم البنية، ومفهوم الشكل، ثم مفهوم الأسلوب، كما حدد مستويات الدراسة البنيوية من خلال اعتبار العمل الأدبي كلا مكونا من عناصر مختلفة متكاملة فيما بينها.
3 / تحليل النص :
1. 1. المفاهيم والمصطلحات النقدية:
يتوزع النصمعجم النص حقلان، حقل محددات البنية وحقل النظرية البنيوية
حقل محددات البنية
وحقل النظرية البنيوية
-تصور تجريدي يعتمد الرموز-وسيط يقوم وراء الواقع-جملة من المبادئ-ذات طابع شكلي موضوعي-نظام تتخده الوحدات المكونة – تتصل بتركيب النص-
-اكتشاف تعدد معاني الآثار الأدبية- انفتاح الأثر الأدبي –معاني متعددة- المستويات المتداخلة بنيويا- العمل الأدبي كل مكون من عناصر مختلفة متكاملة فيما بينها- مستويات متعددة- الكل الشامل-المستوى الصوتي- الصرفي-النحوي-القولي-الدلالي-الرمزي-البنية الأدبية
يشكل مفهوم البنية الأساس الذي يشد عليه البنيويون نظريتهم في تحليل النص الأدبي باعتباره بنية تجريدية ذهنية تصف الواقع اللغوي للنص الأدبي وتكشف عن أبعاده الدلالية والرمزية المتعددة، من خلال تتبع مستوياته البنائية المتكاملة فيما بينها.
1. 2. القضايا النقدية:
تتفرع عن إشكالية النص النقدية عدة قضايا فرعية، نورد أهمها في ما يلي:
1. مفهوم البنية: ككيان مستقل من العلاقات الداخلية المتكونة على أساس التدرج، وهي نتاج لمبادئ ذات طابع شكلي موضوعي تتحكم في توليد وخلق العمل الأدبي، ويترتب عنها النظام الذي تتخده الوحدات المكونة المتكاملة فيما بينها. وتتسم البنية بمجموعة من الخصائص ثلاث :
أ- الكلية/الشمولية totalité. الكلية في البنية الروائية تعنى العناصر التكوينية الأولى للجنس الروائي، وهي التي تعطي للمكونات الصغرى مثل الزمان والمكان والشخصيات وغيرها من العناصر، الاستقلالية التامة من جهة كونها موضوعات منفصلة يمكنها أن تشكل عالما منغلقا قائما بذاته، فالزمان على سبيل المثال يدرس من خلال تمثلاته اللغوية/الصرفية أو الذهنية، وفي نفس الوقت حينما يوضع بجانب العناصر الأخرى يصبح ذا معنى جديد يكتسبه من خلال وضعه في هذا النسق.
ب- التحولات transformations. فتنتج عن تبديل الأدوار بين هذه العناصر، لنتصور أن الزمان انحرف في النص الروائي بمقدار معين، من الحاضر إلى الماضي في حركة عكسية وبدون سابق إنذار، هنا يتدخل مبدأ التحول ليشتغل على باقي العناصر المكونة للعمل الروائي، فيتحول المكان والشخصيات أيضا بنفس المقدار ونفس الدرجة لانحراف الزمان، وهذا يجرنا إلى مفهوم آخر استعمل بكثرة في الدراسات الشعرية المعاصرة ولكننا لم نستفد منه في الدراسات السردية كثيرا وهو مفهوم التوازي، التوازي هنا يتعلق بمقادير الانحرافات كما بينتها في المثال المذكور.
ج- الضبط الذاتي auto-réglage. الحركة التصحيحية التي تضمن هذا النوع من التوازي، وتجعل النص الروائي نصا منسجما، مما يجعل البنية الروائية قادرة على إعادة تنظيم نفسها بنفسها مما يضمن انتظامها وتجددها باستمرار، ويجعلها خاضعة في نهاية الأمر للقانون الأول: قانون الكلية.
2. مفهوم الشكل: الهيكل الناجم عن قوانين الصياغة والقوالب التي توضع فيها عناصر معينة. ويمكن تقديم تعريف موسع للشكل من خلال سبعة نقاط:
أ- الشكل مجموع العلاقات التي تعرف نظام العلامات في تعارض مع الجوهر .
ب- اللغة عبارة عن نظام أشكال .
ج-« شكل المضمون » تقطيع للمفاهيم ،بواسطة العلامة ، أما « شكل التعبير » فهو تقطيع للفونيمات والحروف بواسطة العلامات .
د- لا أساس في السميولوجيا لتعارض الاستعمال الرائج بين « الشكل» و« المضمون/ لمعنى/العمق »
هـ-تعكس استعمالات « الشكل » تاريخ الفكر المستعمل وأسسه الابستمولوجية في نظرية من النظريات السيميائية .
و-« مفهوم الشكل » موروث أرسطي يعارض « المادة » ومن هذا التقسيم يقترب بـ « الشكل » من مفهوم « البنية »
ز-كما يسمح تأويل (يلمسليف ) للمفهوم (السوسيري ) لـ « الشكل » بتحديد لهذا الأخير من الوجهتين المنهجية والأبستمولوجية .
3. مفهوم الأسلوب: ما تثيره المادة من تصورات ذهنية دلالية رمزية، ويقفريفاتير الأسلوب على إبراز بعض عناصر سلسلة الكلام، وحمل القارئ على الانتباه إليهابحيث إذا غفل عنها تشوّه النّص، وإذا حلّلها وجد لها دلالات تمييزية خاصة. ويمكنالقول إن الكلام يعبّر، وإن الأسلوب يبرز.
1. 3. الإطار المرجعي:
يتكون الإطار المرجعي للمنهج البنيوي من المرجعيات التالية: الدراسات اللسانية، وحركة الشكلانيون الروس، وجمعية دراسات شعرية، والفلسفة الظاهراتية، والمناهج العقلية المنطقية.
1. 4. طرائق العرض :
استند الكاتب في النص إلى إطار مرجعي ينطلق من العام إلى الخاص من خلال انطلاقه من مسلمة اعتبار البنية هيكل عظمي أو تصميم داخلي للأعمال الأدبية تحديد مفهوم البنية وعلاقتها بمفاهيم موازية كالشكل والأسلوب، قبل أن ينتقل على تحديد مقومات النظرية البنيوية ومستويات التحليل البنيوي. كما اعتمد صلاح فضل على أسلوب التعريف والشرح في توضيخه لكثير من المفاهيم والمصطلحات، إضافة إلى تفسير لمستويات التحليل البنيوي.
5. البناء الحجاجي :
أما البناء الحجاجي للنص فيمكن أن نوضحه من خلال الجدول التالي:
الأطروحة.
البنية الأدبية بأنها ليست شيئا حسيا يمكن إدراكه، بل هي تصور ذهني تجريدي يعتمد على الرموز ، خلاف الإعتقاد الشائع الذي يربط البنية بالتصميم المادي الداخلي الأعمال الأدبية.
الدفاع عن الأطروحة/نقيض الأطروحة
الإعتراض على ما يثيره مصطلح البنية من انطباع مادي
تعريف مصطلح البنية من وجهة نظر بعض النقاد
التمييز بين البنية والشكل والموضوع
عرض مقومات النظرية البنيوية ومستويات دراسة العمل الأدبي
النتيجة/الخلاصة:
الانتهاء إلى أن دراسة جميع مستويات العمل الأدبي في علاقتها المتبادلة هو ما يحدد البنية الأدبية المتكاملة.
كما اعتمد الكاتب جملة من الموارد الحجاجية في الدفاع عن أطروحته منها:
- الاستدلال بحجة المثال:في قوله:« فالبنية في القصة مثلا...»
- الاستدلال بحجة الاستشهاد:في قوله:« قد حاول بعض النقاد...» وقوله:« ويقترح بعض النقاد...»
1. 6. اللغة والأسلوب:
اعتمد الكاتب لغة نقدية أدبية يغلب عليها الطابع التقريري التعريفي، وفي ذلك حرص الكاتب على تماسك جمل النص بواسطة الربط الدلالي والتركيبي، وبواسطة الإحالة سواء أكانت مقامية أو نصية، من خلال مقولات الضمائر والموصولات والإشارات.
كما اعتمد على أسلوب خبري تغلب عليه صيغ التوكيد(وقد حاول..-إن أهم..-إن دراسة)وصيغ الوجوب (-على أن ذلك يقتضي- ولابد..-) إضافة إلى صيغ الشرط(إذا كان مصطلح...فإنه ينبغي...-)وغايته من ذلك إلزام المتلقي بصحة الأطروحة المعبر عنها.
V. تركيب وتقويم :
قصد الكاتب صلاح فضل من خلال النص التعريف بالمنهج البنيوي من خلال ماهيته وخصائصه وأسسه ومستويات الدراسة البنيوية، ومن خلال ذلك نقف على أن المنهج البنيوي يتأسس على مفهومين أساسيين، هما البنية وموت المؤلف.
وتأسيسا على ذلك يمكن القول : إن البنيوية بوصفها منهجا نقديا حديثا له ملامحه الواضخة والمتكاملة في الفكر الحديث قد تبلورت في حوار مع مناهج سابقة أو معاصرة، ومع مجموعة من العلوم كاللسانيات والأنثروبولوجيا وعلم النفس، لكنها (البنيوية)ظلت أداة للنظر والتحليل ولم تتحول إلى علم أو نظرية قائمة الذات.
- عيسى بلخباطعضو جديد
- البلد :
الجنس :
عدد المساهمات : 9
نقاط تميز العضو : 95690
تاريخ التسجيل : 22/10/2011
العمر : 44
رد: أدبية الادب
22/10/11, 02:36 pm
تحولات الذائقة ومعنى القراءة... ما يصنعه عمل أدبي جديد
بقلم: فخري صالح
كيف يمكن العمل الأدبي الجديد، الذي ينتهك القواعد المستقرة المعروفة لدى القراء، أن يقدم نفسه؟ كيف يمكنه أن يغير الذائقة الأدبية ويقلب المعايير، التي استند إليها القراء على مدار عقود أو قرون أو عصور، في تقويمهم الأعمال الأدبية ووضعهم تلك الأعمال في تراتبيات تجعل الواحد منها في رأس القائمة بينما تقوّم أعمالاً أخرى بوصفها دون مستوى الذائقة؟
شغلت عملية تشكل الذائقة النقاد والباحثين ومنظّري الأدب على مدار العصور. لكن مدرسة التلقي الألمانية الشهيرة، التي تدعى مدرسة كونستانس، تيمناً باسم الجامعة التي ظهرت فيها هذه المدرسة، هي من ركز بصورة أساسية على تحليل العلاقة بين العمل الأدبي والقارئ. وما زالت أعمال منظري هذه المدرسة تثير الكثير من الجدل وردود الفعل في المؤسسات الأكاديمية في العالم، وفي دوائر النظرية الأدبية، وفي عمليات تحليل الخطاب، وكذلك في آفاق تطور الدراسات الثقافية.
الناقد والمؤرخ الأدبي الألماني هانز روبرت ياوس (1921 - 1997) يعد من أبرز أعلام مدرسة كونستانس التي عني أفرادها، بصورة عامة، بعلاقة دلالة النص الأدبي بالقارئ. وقد طور ياوس، مع زملائه في جامعة كونستانس الألمانية، وعلى رأسهم وولفغانغ آيسر، ما عرف في سنوات الستينات والسبعينات من القرن الماضي بـنظرية التلقي. وكان لأستاذه هانز جورج غادامر، الذي درس على يديه في جامعة هايديلبيرغ، أكبر الأثر في أفكاره التي دارت حول معنى التأويل وعلاقة ما يتوقعه القراء من العمل الأدبي، في زمن بعينه، بمعنى هذا العمل وتاريخيته. وينتمي عمل ياوس إلى التيار الذي يشدد على تأويل النص وتاريخيته، وتركز أعماله الأولى على تجديد معنى التاريخ الأدبي وجعله يحتل قلب الدراسة الأدبية. ومع أنه لا يدعو إلى العودة إلى التركيز على حياة المؤلف وبيئته التاريخية، كما يفعل النقد التقليدي، فإن جوهر دعوته النقدية يتمثل في محاولة التوفيق بين الجدل التاريخي الماركسي والشكلانية الروسية. لكنه في الوقت نفسه يرفض النظرية الماركسية في الانعكاس لأنها تختزل العمل الأدبي إلى عملية نسخ وظيفي للواقع. وهو، على رغم تأثره الواضح بالشكلانيين الروس وخصوصاً بمفهوم «نزع الألفة» الذي صكه الناقد الشكلاني الروسي فكتور شكلوفسكي، يشدد على أن عملهم غير كاف لأنه «لا يرى العمل الفني في التاريخ، أي في أفق إنتاجه التاريخي، ولا يعاين وظيفته الاجتماعية، وأثره التاريخي».
في اعتراض مواز لنقده عمل الشكلانيين الروس، يقول ياوس إن إصرار الناقد البنيوي الفرنسي رولان بارت على «لعبة التناص الحر، التي لا حدود لها» لا تنتج قراءات تاريخية، أو جمالية. وفي المقابل، فإن مدرسة التأويل الأدبي (الهيرمونيطيقا) «تقدم فرضية شديدة الأهمية، وهي أن تعيين معاني الأعمال الأدبية يتطور تاريخياً ويستند إلى منطق محدد مما يساعد في تشكل المعايير الأدبية، ويضيف على الدوام جديداً إلى سلسلة الأعمال الأدبية الكبرى، كما يساعد في عملية تحول هذه المعايير على مدار التاريخ. والأهم من ذلك أن هذه الفرضية تسمح بعملية التمييز بين «التأويلات الاعتباطية وتلك التأويلات التي حظيت بنوع من الإجماع» بين القراء والنقاد والدوائر الأدبية المختلفة».
في هذا السياق صاغ ياوس تعبير «أفق التوقعات» ليفسر أسس عملية الاستقبال الأدبي حيث تتحدد قيمة أي نص بالاستناد إلى المسافة التي تقوم بينه وبين «أفق التوقعات». ويذكرنا مصطلح «أفق التوقعات» بتعبير «اندماج الآفاق» الذي صاغه أستاذ ياوس، هانز جورج غادامر، وفسر استناداً إليه عمليات فهم الماضي والآخر، إذ بدلاً من الحديث عن الفهم كحقيقة موضوعية، يرى غادامر أن الفهم لا يتحقق إلا من خلال تكييف المعنى وتسوية الخلاف في وجهات النظر. إن عملية القراءة، بحسب غادامر، هي نوع من تجسير الفجوة بين الماضي والحاضر؛ ونحن إذ نمارس فعل القراءة في الحاضر لا نستطيع التخلص من الأفكار الجاهزة والتحيزات المستقرة في ثقافتنا. ولكننا مع ذلك نستطيع في هذا الأفق المحدود تاريخياً أن نتوصل إلى بعض الفهم الذي يمكننا من إلقاء بعض الضوء على النصوص القديمة. وفي أثناء عملية الفهم هذه قد يحصل نوع من الاندماج بين «أفق توقعاتنا» وآفاق كتابة الماضي وقراءته.
مع أن ياوس يحاول في فهمه علاقة العمل الأدبي بالمتلقي، أن يفسر الطبيعة المتغيرة لمعنى العمل الأدبي، إلا أن تأثيرات غادامر ومدرسته التأويلية، التي تشدد على أن المعنى لا يتحقق إلا عبر علاقة مجاورة أو من خلال المصادفة، واضحة في عمله. لكن الاختلاف بين غادامر وياوس يكمن في طبيعة مشروع ياوس. إنه لا يعنى بالتركيز على المؤلف، أو النص، أو التأثيرات الأدبية بل على عملية تلقي النص بدءاً من زمن كتابته وانتهاء بعملية تأويله من جانب القارئ أو مجموعة القراء في الوقت الحاضر. ليس النص، في هذه الحالة، وجوداً موضوعياً محاطاً بعدد غير محدود من التأويلات التي تشكل ظلالاً شبحية له، بل إن هوية هذا النص لا تتحقق إلا في أفق عملية استقباله، ومن خلال عملية التأويل الجماعي لأجيال متتالية من القراء. يقول ياوس في مقالته الشهيرة «التاريخ الأدبي بوصفه تحدياً للنظرية الأدبية» (1970): «لا تستند تاريخية الأدب إلى مؤسسة «الحقائق الأدبية»... بل إلى التجارب السابقة للقراء مع العمل الأدبي».
يثير العمل الأدبي، بهذا المعنى، أصداء مختلفة لدى القراء، ومن ثمّ يحرر نفسه من مادية الكلام ويحقق وجوده في العالم المعاصر. ومن هنا، فإن تاريخ الأدب يتشكل من عملية التلقي والإنتاج الجمالي على صعيد القارئ والناقد والمؤلف، في سيرورة إنتاجه الأدبي. إن النص يقيم حواراً لا ينقطع بين الماضي والحاضر حيث يتم فهم الماضي واستقباله من خلال الأفق الثقافي للحاضر. ولكي يصبح فهم الماضي ممكناً يطالب ياوس بنوع من «اندماج الآفاق» لتوحيد الماضي والحاضر.
إن ياوس يموضع العمل الأدبي في «أفقه» التاريخي، وفي سياق المعاني الثقافية التي سبق إنتاجها، ثم يعمل على تفحص العلاقات المتغيرة بين هذه المعاني و «الآفاق» المتغيرة لقراء العمل التاريخيين. وهدف الناقد الألماني، من هذا الاختبار، أن يبدع نوعاً جديداً من التاريخ الأدبي الذي لا يركز على المؤلفين والتأثيرات والتيارات الأدبية، بل على تأويلات الأدب في لحظات «استقباله» التاريخية. وبحسب نظرية ياوس، فإن الأعمال الأدبية لا تبقى ثابتة، في وقت تتغير التأويلات، بل إن النصوص والتقاليد الأدبية ذاتها تتغير استناداً إلى «الآفاق» التاريخية التي تستقبل ضمنها. وهو يرى، من ثمّ، أن العمل الأدبي الجديد لا يقدم نفسه للقارئ بوصفه جديداً تماماً. إنه يعرض نفسه على القارئ من خلال الإشارات الصريحة والمقنّعة، والتلميحات الضمنية والخصائص المألوفة بالنسبة الى القارئ؛ موقظاً بذلك بعض الذكريات في نفسه، جاعلاً إياه يتوقع شكل بداية العمل ونهايته، حيث يعمل في هذه الحالة على مخالفة توقعات القارئ أو إعادة توجيهه، على مدار النص، أو إيقاظ حس المفارقة فيه، بحيث يكون باستطاعة الكاتب أن ينوّع على هذه التوقعات أو يقوم بتغييرها أو تصحيحها أو إعادة إنتاجها. كل ذلك يحدث استناداً إلى القواعد والقوانين الخاصة بالنوع أو بالشكل الأدبي للنص لكي يُحدِثَ، ما يسميه ياوس، «تغيراً في آفاق التوقعات». وهو يخالف بذلك جماعة سوسيولوجيا الأدب الذين يعتقدون بأن الكاتب موثق إلى جمهور قرائه، إلى الوسط الذي يوجد فيه، والى الآراء والأيديولوجيا السائدة في زمنه بحيث يتوجب عليه أن ينتج كتاباً يوافق «توقعات قرائه»، ويقدم لهم الصورة التي يحبون أن يروها لأنفسهم.
إن هذا النوع من الحتمية الوضعية مرفوض من جانب ياوس، وهو من خلال تفسيره كيفية دخول الأعمال الجديدة، التي تنتهك «توقعات» القراء وكيفية استقبالهم الأعمال الأدبية، في السلسلة الأدبية، يفسر عملية التطور الأدبي وتطور الأشكال وتغيرات النوع.
وأثارت مقالة هانز روبرت ياوس «التاريخ الأدبي بوصفه تحدياً للنظرية الأدبية» ردود فعل كثيرة في ألمانيا. وقد واصل الناقد الألماني الغربي، بتأثير ردود الفعل هذه، الدفاع عن تصوراته النظرية التي طرحها في مقالته الشهيرة. ولكنه في الوقت نفسه قام بتعديل هذه التصورات منذ سنوات السبعينات أكثر من مرة، في معاركه النقدية مع ممثلي مدرسة فرانكفورت، ونخص بالذكر هنا انتقاداته لعمل ثيودور أدورنو.
إن ثيودور أدورنو إذ يبحث في كتابه «نظرية علم الجمال» (وقد نشر بعد وفاته)، معنى الثيمات الأساسية في علم الجمال - استقلالية العمل الأدبي، والعمل الأدبي بوصفه ظاهرة اجتماعية - تاريخية، والجمال المشترك بين الطبيعة والفن - يشدد على دور علم الجمال الفلسفي في فهم طبيعة الفن الحداثي، الذي يصر على النفي السلبي للمجتمع كنوع من النقد الاجتماعي والكفاح ضد التكيف الاجتماعي والسلبية اللاعقلانية التي سادت في الغرب بعد الحرب العالمية الثانية. وهكذا، فإن الفن العظيم بالنسبة الى أدورنو هو بمثابة المزولة التاريخية - الفلسفية التي تضيء جوانب من الواقع الاجتماعي ولكنها تنكره وتوجه أشد الانتقاد له في الوقت نفسه. إنه، بهذا المعنى، ينكر أي دور تغييري مباشر للفن في المجتمع.
يعارض ياوس نظرية أدورنو قائلاً إن في إمكان الأدب والفن أن يلعبا دوراً تقدمياً في المجتمع، وينتقد النظرة النخبوية للفن ومفهوم استقلالية العمل الأدبي، والتجربة الجمالية نفسها، والمتعة المتضمنة في التواصل مع العمل الأدبي أو الفني. وهو يقوم من ثمّ باستبدال مصطلحه، الأثير على نفسه، «أفق التوقعات» بتعبير «التجربة الجمالية» بوصفها المتعة الذاتية التي يحصل عليها المرء من خلال التواصل مع متعة جمالية أخرى. وهو في تصوره النظري الأخير للعلاقة بين النص والقارئ يرى أن هناك خمسة أنماط من التفاعل بين العمل الأدبي وكيفية تلقيه: وهي علاقات التداعي، والإعجاب، والتعاطف، والتطهير، والإحساس بالمفارقة. ومن ثمّ فإنه يوفر نموذجاً شاملاً لفهم العلاقة بين علم الجمال وعملية استقبال الأعمال الأدبية، متوجاً بذلك نظريته في التلقي التي ركزت في البداية على بنية «توقعات» القراء وانتهت إلى التشديد على معنى التجربة الجمالية ووظائفها المتحققة من خلال عملية القراءة.
نقلاً عن "الحياة" - 28/11/06//
بقلم: فخري صالح
كيف يمكن العمل الأدبي الجديد، الذي ينتهك القواعد المستقرة المعروفة لدى القراء، أن يقدم نفسه؟ كيف يمكنه أن يغير الذائقة الأدبية ويقلب المعايير، التي استند إليها القراء على مدار عقود أو قرون أو عصور، في تقويمهم الأعمال الأدبية ووضعهم تلك الأعمال في تراتبيات تجعل الواحد منها في رأس القائمة بينما تقوّم أعمالاً أخرى بوصفها دون مستوى الذائقة؟
شغلت عملية تشكل الذائقة النقاد والباحثين ومنظّري الأدب على مدار العصور. لكن مدرسة التلقي الألمانية الشهيرة، التي تدعى مدرسة كونستانس، تيمناً باسم الجامعة التي ظهرت فيها هذه المدرسة، هي من ركز بصورة أساسية على تحليل العلاقة بين العمل الأدبي والقارئ. وما زالت أعمال منظري هذه المدرسة تثير الكثير من الجدل وردود الفعل في المؤسسات الأكاديمية في العالم، وفي دوائر النظرية الأدبية، وفي عمليات تحليل الخطاب، وكذلك في آفاق تطور الدراسات الثقافية.
الناقد والمؤرخ الأدبي الألماني هانز روبرت ياوس (1921 - 1997) يعد من أبرز أعلام مدرسة كونستانس التي عني أفرادها، بصورة عامة، بعلاقة دلالة النص الأدبي بالقارئ. وقد طور ياوس، مع زملائه في جامعة كونستانس الألمانية، وعلى رأسهم وولفغانغ آيسر، ما عرف في سنوات الستينات والسبعينات من القرن الماضي بـنظرية التلقي. وكان لأستاذه هانز جورج غادامر، الذي درس على يديه في جامعة هايديلبيرغ، أكبر الأثر في أفكاره التي دارت حول معنى التأويل وعلاقة ما يتوقعه القراء من العمل الأدبي، في زمن بعينه، بمعنى هذا العمل وتاريخيته. وينتمي عمل ياوس إلى التيار الذي يشدد على تأويل النص وتاريخيته، وتركز أعماله الأولى على تجديد معنى التاريخ الأدبي وجعله يحتل قلب الدراسة الأدبية. ومع أنه لا يدعو إلى العودة إلى التركيز على حياة المؤلف وبيئته التاريخية، كما يفعل النقد التقليدي، فإن جوهر دعوته النقدية يتمثل في محاولة التوفيق بين الجدل التاريخي الماركسي والشكلانية الروسية. لكنه في الوقت نفسه يرفض النظرية الماركسية في الانعكاس لأنها تختزل العمل الأدبي إلى عملية نسخ وظيفي للواقع. وهو، على رغم تأثره الواضح بالشكلانيين الروس وخصوصاً بمفهوم «نزع الألفة» الذي صكه الناقد الشكلاني الروسي فكتور شكلوفسكي، يشدد على أن عملهم غير كاف لأنه «لا يرى العمل الفني في التاريخ، أي في أفق إنتاجه التاريخي، ولا يعاين وظيفته الاجتماعية، وأثره التاريخي».
في اعتراض مواز لنقده عمل الشكلانيين الروس، يقول ياوس إن إصرار الناقد البنيوي الفرنسي رولان بارت على «لعبة التناص الحر، التي لا حدود لها» لا تنتج قراءات تاريخية، أو جمالية. وفي المقابل، فإن مدرسة التأويل الأدبي (الهيرمونيطيقا) «تقدم فرضية شديدة الأهمية، وهي أن تعيين معاني الأعمال الأدبية يتطور تاريخياً ويستند إلى منطق محدد مما يساعد في تشكل المعايير الأدبية، ويضيف على الدوام جديداً إلى سلسلة الأعمال الأدبية الكبرى، كما يساعد في عملية تحول هذه المعايير على مدار التاريخ. والأهم من ذلك أن هذه الفرضية تسمح بعملية التمييز بين «التأويلات الاعتباطية وتلك التأويلات التي حظيت بنوع من الإجماع» بين القراء والنقاد والدوائر الأدبية المختلفة».
في هذا السياق صاغ ياوس تعبير «أفق التوقعات» ليفسر أسس عملية الاستقبال الأدبي حيث تتحدد قيمة أي نص بالاستناد إلى المسافة التي تقوم بينه وبين «أفق التوقعات». ويذكرنا مصطلح «أفق التوقعات» بتعبير «اندماج الآفاق» الذي صاغه أستاذ ياوس، هانز جورج غادامر، وفسر استناداً إليه عمليات فهم الماضي والآخر، إذ بدلاً من الحديث عن الفهم كحقيقة موضوعية، يرى غادامر أن الفهم لا يتحقق إلا من خلال تكييف المعنى وتسوية الخلاف في وجهات النظر. إن عملية القراءة، بحسب غادامر، هي نوع من تجسير الفجوة بين الماضي والحاضر؛ ونحن إذ نمارس فعل القراءة في الحاضر لا نستطيع التخلص من الأفكار الجاهزة والتحيزات المستقرة في ثقافتنا. ولكننا مع ذلك نستطيع في هذا الأفق المحدود تاريخياً أن نتوصل إلى بعض الفهم الذي يمكننا من إلقاء بعض الضوء على النصوص القديمة. وفي أثناء عملية الفهم هذه قد يحصل نوع من الاندماج بين «أفق توقعاتنا» وآفاق كتابة الماضي وقراءته.
مع أن ياوس يحاول في فهمه علاقة العمل الأدبي بالمتلقي، أن يفسر الطبيعة المتغيرة لمعنى العمل الأدبي، إلا أن تأثيرات غادامر ومدرسته التأويلية، التي تشدد على أن المعنى لا يتحقق إلا عبر علاقة مجاورة أو من خلال المصادفة، واضحة في عمله. لكن الاختلاف بين غادامر وياوس يكمن في طبيعة مشروع ياوس. إنه لا يعنى بالتركيز على المؤلف، أو النص، أو التأثيرات الأدبية بل على عملية تلقي النص بدءاً من زمن كتابته وانتهاء بعملية تأويله من جانب القارئ أو مجموعة القراء في الوقت الحاضر. ليس النص، في هذه الحالة، وجوداً موضوعياً محاطاً بعدد غير محدود من التأويلات التي تشكل ظلالاً شبحية له، بل إن هوية هذا النص لا تتحقق إلا في أفق عملية استقباله، ومن خلال عملية التأويل الجماعي لأجيال متتالية من القراء. يقول ياوس في مقالته الشهيرة «التاريخ الأدبي بوصفه تحدياً للنظرية الأدبية» (1970): «لا تستند تاريخية الأدب إلى مؤسسة «الحقائق الأدبية»... بل إلى التجارب السابقة للقراء مع العمل الأدبي».
يثير العمل الأدبي، بهذا المعنى، أصداء مختلفة لدى القراء، ومن ثمّ يحرر نفسه من مادية الكلام ويحقق وجوده في العالم المعاصر. ومن هنا، فإن تاريخ الأدب يتشكل من عملية التلقي والإنتاج الجمالي على صعيد القارئ والناقد والمؤلف، في سيرورة إنتاجه الأدبي. إن النص يقيم حواراً لا ينقطع بين الماضي والحاضر حيث يتم فهم الماضي واستقباله من خلال الأفق الثقافي للحاضر. ولكي يصبح فهم الماضي ممكناً يطالب ياوس بنوع من «اندماج الآفاق» لتوحيد الماضي والحاضر.
إن ياوس يموضع العمل الأدبي في «أفقه» التاريخي، وفي سياق المعاني الثقافية التي سبق إنتاجها، ثم يعمل على تفحص العلاقات المتغيرة بين هذه المعاني و «الآفاق» المتغيرة لقراء العمل التاريخيين. وهدف الناقد الألماني، من هذا الاختبار، أن يبدع نوعاً جديداً من التاريخ الأدبي الذي لا يركز على المؤلفين والتأثيرات والتيارات الأدبية، بل على تأويلات الأدب في لحظات «استقباله» التاريخية. وبحسب نظرية ياوس، فإن الأعمال الأدبية لا تبقى ثابتة، في وقت تتغير التأويلات، بل إن النصوص والتقاليد الأدبية ذاتها تتغير استناداً إلى «الآفاق» التاريخية التي تستقبل ضمنها. وهو يرى، من ثمّ، أن العمل الأدبي الجديد لا يقدم نفسه للقارئ بوصفه جديداً تماماً. إنه يعرض نفسه على القارئ من خلال الإشارات الصريحة والمقنّعة، والتلميحات الضمنية والخصائص المألوفة بالنسبة الى القارئ؛ موقظاً بذلك بعض الذكريات في نفسه، جاعلاً إياه يتوقع شكل بداية العمل ونهايته، حيث يعمل في هذه الحالة على مخالفة توقعات القارئ أو إعادة توجيهه، على مدار النص، أو إيقاظ حس المفارقة فيه، بحيث يكون باستطاعة الكاتب أن ينوّع على هذه التوقعات أو يقوم بتغييرها أو تصحيحها أو إعادة إنتاجها. كل ذلك يحدث استناداً إلى القواعد والقوانين الخاصة بالنوع أو بالشكل الأدبي للنص لكي يُحدِثَ، ما يسميه ياوس، «تغيراً في آفاق التوقعات». وهو يخالف بذلك جماعة سوسيولوجيا الأدب الذين يعتقدون بأن الكاتب موثق إلى جمهور قرائه، إلى الوسط الذي يوجد فيه، والى الآراء والأيديولوجيا السائدة في زمنه بحيث يتوجب عليه أن ينتج كتاباً يوافق «توقعات قرائه»، ويقدم لهم الصورة التي يحبون أن يروها لأنفسهم.
إن هذا النوع من الحتمية الوضعية مرفوض من جانب ياوس، وهو من خلال تفسيره كيفية دخول الأعمال الجديدة، التي تنتهك «توقعات» القراء وكيفية استقبالهم الأعمال الأدبية، في السلسلة الأدبية، يفسر عملية التطور الأدبي وتطور الأشكال وتغيرات النوع.
وأثارت مقالة هانز روبرت ياوس «التاريخ الأدبي بوصفه تحدياً للنظرية الأدبية» ردود فعل كثيرة في ألمانيا. وقد واصل الناقد الألماني الغربي، بتأثير ردود الفعل هذه، الدفاع عن تصوراته النظرية التي طرحها في مقالته الشهيرة. ولكنه في الوقت نفسه قام بتعديل هذه التصورات منذ سنوات السبعينات أكثر من مرة، في معاركه النقدية مع ممثلي مدرسة فرانكفورت، ونخص بالذكر هنا انتقاداته لعمل ثيودور أدورنو.
إن ثيودور أدورنو إذ يبحث في كتابه «نظرية علم الجمال» (وقد نشر بعد وفاته)، معنى الثيمات الأساسية في علم الجمال - استقلالية العمل الأدبي، والعمل الأدبي بوصفه ظاهرة اجتماعية - تاريخية، والجمال المشترك بين الطبيعة والفن - يشدد على دور علم الجمال الفلسفي في فهم طبيعة الفن الحداثي، الذي يصر على النفي السلبي للمجتمع كنوع من النقد الاجتماعي والكفاح ضد التكيف الاجتماعي والسلبية اللاعقلانية التي سادت في الغرب بعد الحرب العالمية الثانية. وهكذا، فإن الفن العظيم بالنسبة الى أدورنو هو بمثابة المزولة التاريخية - الفلسفية التي تضيء جوانب من الواقع الاجتماعي ولكنها تنكره وتوجه أشد الانتقاد له في الوقت نفسه. إنه، بهذا المعنى، ينكر أي دور تغييري مباشر للفن في المجتمع.
يعارض ياوس نظرية أدورنو قائلاً إن في إمكان الأدب والفن أن يلعبا دوراً تقدمياً في المجتمع، وينتقد النظرة النخبوية للفن ومفهوم استقلالية العمل الأدبي، والتجربة الجمالية نفسها، والمتعة المتضمنة في التواصل مع العمل الأدبي أو الفني. وهو يقوم من ثمّ باستبدال مصطلحه، الأثير على نفسه، «أفق التوقعات» بتعبير «التجربة الجمالية» بوصفها المتعة الذاتية التي يحصل عليها المرء من خلال التواصل مع متعة جمالية أخرى. وهو في تصوره النظري الأخير للعلاقة بين النص والقارئ يرى أن هناك خمسة أنماط من التفاعل بين العمل الأدبي وكيفية تلقيه: وهي علاقات التداعي، والإعجاب، والتعاطف، والتطهير، والإحساس بالمفارقة. ومن ثمّ فإنه يوفر نموذجاً شاملاً لفهم العلاقة بين علم الجمال وعملية استقبال الأعمال الأدبية، متوجاً بذلك نظريته في التلقي التي ركزت في البداية على بنية «توقعات» القراء وانتهت إلى التشديد على معنى التجربة الجمالية ووظائفها المتحققة من خلال عملية القراءة.
نقلاً عن "الحياة" - 28/11/06//
- طالب علمعضو نشيط
- البلد :
الجنس :
عدد المساهمات : 101
نقاط تميز العضو : 113939
تاريخ التسجيل : 27/05/2009
رد: أدبية الادب
22/10/11, 09:07 pm
ما شاء الله ...إضافاتك قيّمة أخي عيسى جعل الله مجهودك في ميزان الحسنات
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى