- إسماعيل سعديمدير الموقع
- البلد :
الجنس :
عدد المساهمات : 3758
نقاط تميز العضو : 150754
تاريخ التسجيل : 03/04/2009
المنهج السيميائي
13/01/11, 12:00 pm
المنهج السيميائي
فريد أمعضشو
مقدمــــــة
تهدف هذه الورقات المعدودات إلى التعريف "بالمنهج السيميائي" باعتباره واحدا من المناهج التي استطاعت أن تفرض نفسها في الساحة النقدية الحديثة لسنوات طوال. وليكون هذا الوَكْد مطلبا هينا، ارتأينا أن نتبع خطة واضحة الصُّوى، متناسقة العناصر. وذلك على النحو الآتي:
المحور الأول: السيميائيات: المفهوم والموضوع والمصطلح
المبحث الأول : مفهوم السيميائيات
تُجْمع عدة كتابات ومعاجم لغوية وسيميائية على أن السيميائيات هي ذلك العلم الذي يُعْنَى بدراسة العلامات. وبهذا عرفها فرديناند دوسوسير[1]، وجورج مونان[2]، وكريستيان ميتز[3]، وتزفيتان تودوروف[4]، وجوليان غريماص[5]، وجون دوبوا[6]، ورولان بارث[7]، وآخرون. ويبدو أن تعريف مونان أوفى هذه التعريفات وأجودها، إذ يحدد السيميولوجيا بأنها "العلم العام الذي يدرس كل أنساق العلامات (أو الرموز) التي بفضلها يتحقق التواصل بين الناس"[8]. وانطلاقا من هذا التعريف، يمكن أن نستخلص أموراً ثلاثة كالتالي:
* إن السيميولوجيا علم من العلوم، يخضع لضوابط ونواميسَ معينة كما هو الشأن بالنسبة إلى العلوم الأخرى. وهذا ما تنص عليه الكثير من التعاريف (سوسير – تودوروف – بارث...). ولكن ثمة تعريفات وآراء أخرى تنظر إلى السيميولوجيا باعتبارها منهجا من المناهج، أو وسيلة من وسائل البحث. بحيث يشير مونان في موضع آخر إلى أن السيميولوجيا "وسيلة عمل" (Instrument de travail)[9]؛ أي منهج من مناهج البحث. ومن هنا، نقف على شيء من الخلط في كلام مونان؛ فهو تارة يذكر السيميولوجيا على أنها علم عام يدرس العلامات المختلفة، وتارة يذكرها بوصفها منهجا بحْثيا. ونجد هذا الخلط بارزا عند بعض الدارسين العرب الذين يعرّفون السيميولوجيا بأنها علم أو دراسة (أي منهج) في الآن نفسه. يقول صاحبا (دليل الناقد الأدبي) مثلا : "السيميولوجيا (السيميوطيقا)، لدى دارسيها، تعني علم أو دراسة العلامات (الإشارات) دراسة منظمة منتظمة"[10]. والسيميوطيقا عند شارلز ساندرس بيرس (Charles Sanders Peirce) "نظرية شبه ضرورية أو شكلية للعلامات"[11]. إذاً، فنحن أمام ثلاثة آراء؛ رأي يعتبر السيميائيات علما، وثان يجعلها منهاجا، وثالث يتخذها نظرية عامة.
ويبدو أن الدارسين العرب المعاصرين يتعاملون مع السيميائيات باعتبارها منهجا يساعد على فهم النصوص والأنساق العلامية وتأويلها. وهكذا، فإننا نقرأ بين الحين والآخر دراسات وأبحاثا يتوسل أصحابها بالسيميائيات – بصفتها منهجا في المقاربة والدراسة-، ومن ذلك بعض دراسات محمد مفتاح وعبد الملك مرتاض التي تعمد إلى تجريب المنهج السيميائي في تشريح نصوص أدبية قديمة وحديثة... ومن الدارسين الذين يعتبرون السيميائيات منهجا نجد الدكتور عبد الرحمن بوعلي الذي يقول في تقديمه لأحد كتب دولودال (G. Deledalle) التي ترجمها إلى العربية : "تحتل السيميوطيقا –أو السيميولوجيا- مكانة هامة ضمن المناهج النقدية. ولئن كان البعض يعتبرها مجرد موضة من الموضات، فإن هذا الوصف لم ينقص من قيمتها كمنهج علمي وإجرائي في الدراسات الأدبية وتحليل النصوص الأدبية بالدرجة الأولى، بل ولم يزد المشتغلين بها إلا مقاومة لكل نزعة تبسيطية. ولذلك فهي في الاعتبار الصحيح منهج لا يمكن التقليل من أهميته أو التقليص مما يمكن أن يفتحه من سبل وآفاق جديدة تنير مجاهل التعبير الأدبي والفني"[12]... الخ.
* إن السيميولوجيا تدرس العلامات وأنساقها، سواء كانت هذه العلامات لسانية أم غير لسانية. يقول لويس برييطو (Luis J. Prieto) إن السيميولوجيا هي "العلم الذي يبحث في أنظمة العلامات أيّاً كان مصدرها لغويا أم سَنَنيا أم مؤشريا"[13]. وسنقف في المبحث الموالي عند العلامة وأنماطها بإفاضة.
* إن للعلامات أهمية كبرى، تتجلى في كونها تحقق التواصل بين الناس في المجتمع. يقول كولن شيرّي (Colin Cherry) : "لا يوجد تواصل بدون نسق مكوَّن من دلائل"، ذلك بأن التواصل الإنساني –في جوهره- إنما هو "تبادل الدلائل (أو العلامات) بين بني البشر" كما يقول السيميائي الإيطالي روسّي-لاندي (F. Rossi-Landi) في كتابه (Linguistics and Economics). ونظرا إلى أهمية التواصل هذه، فقد نشأ في مجال السيميائيات اتجاه يعنى بالتواصل والإبلاغ. وسنقف عنده بتفصيل لاحقا.
المبحث الثاني : موضوع السيميائيات
يتضح من خلال قراءة التعاريف المعطاة لمفهوم السيميائيات أنها جميعها تتضمن مصطلح "العلامة" (Le signe). وهذا مؤشر واضح على أن العلامات وأنساقها هي الموضوع الرئيس للسيميائيات. وهذا ما أكده جون دوبوا حين قال : "السيميولوجيا ولدت انطلاقا من مشروع دي سوسير. وموضوعها هو دراسة حياة العلامات في كنف المجتمع".[14] وقد بينت جوليا كريستيفا (Julia Kristeva) موضوع السيميائيات حين قالت: "إن دراسة الأنظمة الشفوية وغير الشفوية –ومن ضمنها اللغات بما هي أنظمة أو علامات تتمفصل داخل تركيب الاختلافات- هي ما يشكل موضوع علم أخذ يتكون، ويتعلق الأمر بالسيميوطيقا"[15]. ومن هنا ندرك موضوع السيميائيات، إذ "تهتم بالعلامة من حيث كنْهُها وطبيعتها، وتسعى إلى الكشف عن القوانين المادية والنفسية التي تحكمها، وتتيح إمكانية تمفْصُلها داخل التركيب"[16]. تُرى ما العلامة ؟ وما أنواعها ؟
من الصعوبة بمكان إعطاء تعريف واحد نهائي للعلامة. ومرد ذلك إلى كونها "مفهوما قاعديا أو أساسا في جميع علوم اللغة"[17]، وإلى كونها "كِيانا (entité) واسعا جداً "[18] من جهة. ومن جهة ثانية، تُعْزى صعوبة تعريف العلامة تعريفا موحدا قارا إلى "الخلفيات الفكرية التي يُسْتَنَد إليها"[19] في التعريف؛ وهي خلفيات إبستمولوجية ونظرية تختلف من معرِّف إلى آخر. إن هذه الاعتبارات التي تجعل صياغة تعريف واحد للعلامة أمرا عسيرا، لم تمنع الباحثين والنقاد من الاجتهاد في تعريف العلامة. وسنحاول في هذا الصدد تقديم بعض التعريفات التي عُرِّف بها مفهوم العلامة عند الغربيين خاصة.
إن العلامة (أو الدليل) عند سوسير كيان سيكولوجي مجرد قوامُه عنصران متلازمان (دال ومدلول). يقول : "العلامة اللسانية وحدة نفسية ذات وجهين... وهذان العنصران مرتبطان ارتباطا وثيقا، ويتطلب أحدهما الآخر... ونطلق على التأليف بين التصور (Concept) والصورة السمعية (Image acoustique) العلامة. ونقترح الاحتفاظ بكلمة "علامة" (Signe) لتعيين المجموع، وتعويض التصور "بالمدلول" (Signifié) والصورة السمعية "بالدال" (Signifiant)"[20]. ويَقصد سوسير بالدال (أو الصورة السمعية) الانطباع النفسي للصوت، في حين يقصد بالمدلول (أو التصور) التمثيل الذهني للشيء. ويرى سوسير أن العلاقة بين وجهي العلامة لا تقوم على المشابهة والمناسبة، بل تقوم على الاعتباط. ومن هنا، فإن مفهوم العلامة عند سوسير مفهوم ضيق، لأنه يجعل علاقة الدال بالمدلول اعتباطية (Arbitraire)، مستثنيا من ذلك ما كان رمزا (Symbole) أو إشارة (Signal). ثم إن سوسير أهمل علاقة العلامة بالواقع، وأوضح أن قيمة العلامة إنما تكمن في علاقتها بما يجاورها من العلامات الأخرى.
وإذا كان تعريف سوسير للعلامة تعريفا تجريديا، فإن تعريف ميخائيل باختين (Mikhaïl Bakhtine) يرتبط أشد الارتباط بالفعل السيميائي، لغويا كان أم غير لغوي. إذ يرى أن العلامة تتناسب والإيديولوجيا، فحيث توجد العلامة توجد –بالضرورة- الإيديولوجيا. وليس كل علامة إيديولوجية ظلا للواقع فحسب، وإنما هي –كذلك- قطعة مادية من هذا الواقع. إن العلامات (أو الدلائل) لا يمكن أن تظهر –حسب باختين- إلا في ميدان تفاعل الأفراد؛ أي في إطار التواصل الاجتماعي. وبذلك، فوجود العلامات ليس أبدا غير التجسيد المادي لهذا التواصل. ومن هنا، يخلص باختين إلى ثلاث قواعد منهجية، هي :
* عدم فصل الإيديولوجيا عن الواقع المادي للعلامة.
* عدم عزل العلامة عن الأشكال المحسوسة للتواصل الاجتماعي.
* عدم عزل التواصل وأشكاله عن أساسهما المادي.
ويعرف أمبيرطو إيكو (Umberto Eco) العلامة بأنها "حركة (geste) تستهدف تحقيق التواصل، ونقل معنى خاص أو حالة شعورية لباثّ إلى مستقبِل[21]. ويميز إيكو في كتابه"نظرية السيميوطيقا" بين الدلائل الطبيعية والدلائل غير القصدية... الخ.
وتناول بيرس العلامة في سياق منطقي دقيق يعتمد كثرة التفريعات والتقسيمات. مما يجعل فهم مفهومه للعلامة أمرا صعبا. وإذا كانت العلامة عند سوسير ثنائية الطابع، فإنها من وجهة نظر بيرس "علاقة ثلاثية بين ثلاث علامات فرعية تنتمي على التوالي إلى الأبعاد الثلاثة للممثِّل والموضوع والمؤوِّل"[22]. ويرى تودوروف ودوكرو في هذا السياق أن "الرقم "ثلاثة" يلعب دورا أساسيا في سيميوطيقا بيرس، مثل الرقم "اثنان" في سيميولوجيا سوسير تماما"[23]. إن مفهوم العلامة في سيميوطيقا بيرس متسع، بحيث يشمل –إلى جانب العلامات اللسانية- العلامات غير اللسانية.
تهتم السيميائيات بدراسة الأنساق الدلالية؛ أي مجموع العلامات التي تنسج فيما بينها شبكة من العلاقات الاختلافية والتعارضية حتى تضطلع بتأدية وظائف دلالية متميزة بين مرسل ومتلق. ويقسم روسي –لاندي هذه الأنساق إلى قسمين كبيرين، هما :
أ) أنساق دلالية طبيعية: وهي تلك الأنساق التي توجد في الطبيعة. وتتسم بكونها غير مؤسسية، إلا أن الإنسان وظفها داخل مملكة العلامات؛ أي إنه أسند إليها دلالات مخصوصة.
ب) أنساق دلالية اجتماعية: وهي تلك التي تمتاز بكونها مؤسسية؛ أي قائمة على نوع من المواضعة الاجتماعية، لأنها من نَتاج عمل الإنسان. وقد قسمها روسي-لاندي إلى صنفين، هما :
* أنساق دلالية اجتماعية لفظية: ويعرفها الرجل بأنها "تلك الأنساق التي لها لغات ولها خصوصياتها المتنوعة وإعدادات مثل الأنواع السننية. وتقوم هذه الأنواع السننية على التمييزات التي يحدثها الإنسان في مادة الصوت".
* أنساق دلالية اجتماعية غير لفظية: ويعرفها بقوله: "تلك الأنساق التي لا تستعمل أنواعا سَننية قائمة على أصوات متلفَّظ بها، ولكنها تستعمل أنواعا سننية قائمة على أنماط أخرى من الأشياء".
وقد قسم إيكو الأنساق الدلالية إلى ثمانية عشر نوعا بالاستناد إلى معيار ثقافي محض. فالأنساق –في نظره- كلها ثقافية، ترتب انطلاقا من أقلها ثقافيا إلى الأشد تعقيدا. وأول هذه الأنساق التواصلية ما أسماه إيكو "سيميوطيقا الحيوان" (Zoosémiotique)؛ وهي تعنى بالسلوكات المتصلة بالتواصل داخل الجماعات غير الإنسانية. في حين تعد الخطابة (La rhétorique) آخر هذه الأنساق وأكثرها تعقيدا من الناحية الثقافية.
وإذا كان إيكو قد فصل القول في الأنساق الدلالية وأفاض في تفريعاتها، فإن مدرسة طارتو (Tartu) السوفياتية قد اقتصرت على تقسيم هذه الأنساق إلى قسمين كبيرين، هما :
* أنساق مُنَمْذِجة أولية (Systèmes modelants primaires): وهي الأنساق اللفظية.
* أنساق مُنَمْذِجة ثانوية (Systèmes modelants secondaires): وهي مبنية على الأنساق الأولى. وتُدْرَج ضمن هذه الأنساق الأساطير والدين والشعر والفنون بعامة.
ولعل أشهر التقسيمات وأجودها ذلك التقسيم الذي قدمه ميتز، حين قسم السيميوطيقا إلى لفظية (Transverbale) وغير لفظية (Non-verbale)[24]. ونجد الشيء نفسَه عند برنارد توسان (Bernard Toussaint) التي قسمت السيميولوجيا إلى لسانية وغير لسانية... وبصورة أجلى، فإن العلامات نوعان، هما :
أ- العلامات اللسانية (أو اللفظية): ويقصد بها الكلام المنطوق وعلامات الكتابة أو الحروف (Graphèmes) بأي لغة كانت.
ب- العلامات غير اللسانية (أو غير اللفظية): وهي التي تقوم على أنواع سننية أخرى غير الأصوات والحروف. ويمكن أن نقسمها إلى علامات عضوية مرتبطة بجسم الإنسان (مثل: حركات الجسم وأوضاع الجسد والعلامات الشمية والسمعية والذوقية...)، وعلامات أدََاتية (Instrumentales) تحيل على أشياء خارجة عن العضوية الإنسانية (مثل: الملابس والموسيقى وإشارات المرور...).
وعادة ما تُعْطَى الأولوية للعلامات اللسانية التي تقوم على اللغة (Langage) أو الكلام (Parole). يقول سوسير: "فاللسان (أي اللغة) عبارة عن نسق من العلامات التي تعبر عن الأفكار. ومن هنا، يمكن مقارنته بالكتابة وبالأحرف الأبجدية عند المصابين بالصمم والخرص، وكذلك مقارنته بالطقوس الرمزية، وبأشكال الآداب وسلوكها، وبالإشارات المتعارَف عليها عند الجنود، وغير ذلك. إلا أن اللسان هو أهم هذه الأنساق جميعا"[25]. ويعتبر يوري لوتمان (Iouri Lotman) نسق اللغة هو النسق الأولي، في حين يجعل كل الأنساق الدلالية غير اللغوية ثانوية. معنى هذا أن ثمة هرميةً في الأنساق الدلالية، بحيث تفضَّل الأنساق السيميوطيقية اللغوية / اللسانية على غيرها من الأنساق. وذلك لاعتبارات ثلاثة على الأقل؛ أولها أن اللغة هي النسق الدلالي الذي حظي بعناية كبرى، إذ احتفل به الدارسون احتفالا واسعا، وعالجوه من شتى زواياه (أصوات، صرف، تركيب، دلالة)؛ مما جعله مستوْعِباً –في دلالته- مختلِفَ الأغراض والحاجات الاجتماعية للإنسان. ويكمن الاعتبار الثاني في كون المادة الأولية التي تتشكل منها اللغة (وهي الأصوات) عبارة عن أشياء ينتجها جسم الإنسان. فهي –إذاً- داخل الجسم وخارجه. وعليه، فهي ذات طابع شمولي. ويرتبط الاعتبار الثالث بالسيطرة والتوجيه الإيديولوجيين. ذلك بأن اللغة –من بين كل الأنساق- أداة متميزة في يد السلطة. وبما أن العمل نوعان؛ فكري ويدوي، فقد تعارضت الأنساق اللسانية مع غير اللسانية؛ فمثلت الأولى الجانب الفكري ومثلت الثانية الجانب اليدوي. مؤدَّى هذا، أن من يمتلك اللغة هو من يمتلك الفكر وحق التوجيه والسيادة، ومن يمتلك الأنساق الأخرى هو من لا يمتلك غير واجب التنفيذ... ومهما كان الأمر، فإنه يمكن أن نلمس صلاتٍ بين اللغة وغيرها من الأنظمة السيميوطيقية. ومن المؤكَّد أن لكل من النسق اللفظي والنسق غير اللفظي أهميته التي لا سبيل إلى إنكارها.
المبحث الثالث : إشكالية المصطلح
إن كلمة "سيميولوجيا" (Sémiologie) أو "سيميوطيقا" (Sémiotique) مشتقة من الأصل اليوناني (Semeîon) كما يشير إلى ذلك سيوسير في محاضراته. ومن الناحية التركيبية، فهي منحوتة من مفردتين؛ أولاهما (Semeîon) التي تعني (علامة)، وثانيتهما (Logos) التي تفيد معنى (العلم) أو (المعرفة).
ولا ريب في أن قضية المصطلح من القضايا الشائكة التي تُطرح في ميدان السيميائيات، إذ ما زال هذا المصطلح يعاني الفوضى والاضطراب. ويعد المصطلح المُسَمِّي لمفهوم السيميائيات واحدا من النموذجات البارزة على هذا الاضطراب. إذ نُلْفي كثيرا من الدارسين[26] يستعملون مصطلحيِ "السيميوطيقا" و"السيميولوجيا" على سبيل الترادُف. كما أن أغلب الباحثين العرب يستخدمون مصطلحات "السيميوطيقا" و"السيميولوجيا" و"السيميائيات" على أنها أسامٍ دالةُ على معنى واحد.
ومع تنامي الوعي بأهمية المصطلح وتزايد الإحساس بضرورة ضبطه وتوحيده، وجدنا عددا من الباحثين ينتبهون إلى الفروق الموجودة بين المصطلحات التي كان يُظَنُّ أنها من قَبيل الترادف. وبناء على هذا الأمر، التفت بعض الدارسين إلى التمييز بين مصطلحي "السيميولوجيا" و"السيميوطيقا"؛ مثلما فعل جون دوبوا[27]. وعمد آخرون إلى التفريق بين "السيميوطيقا" و"السيميولوجيا" و"السيميائيات"، ومنهم غريماص الذي أفرد - في معجمه الشهير الذي ألفه رفقة جوزيف كورتيس – لكل مصطلح من هذه المصطلحات حيزا خاصا.[28] كما قدم معجم (Hachette) الموسوعي تعاريف وتفاريق واضحة بين هذه المصطلحات؛ بحيث عرف "السيميولوجيا" بأنها "علم يدرس العلامات وأنساقها داخل المجتمع"[29]، وحدد "السيميوطيقا" بأنها "النظرية العامة للعلامات والأنظمة الدلالية اللسانية وغير اللسانية"[30]، وحدد "السيميائيات" (Sémantique) بأنها "دراسة اللغة من زاوية الدلالة"[31]. ويعرِّف الأوكسفورد هذا المصطلح بأنه "دراسة معاني الكلمات"[32]. معنى هذا كله أن السيميولوجيا علم، والسيميوطيقا نظرية، والسيميائيات دراسة أو منهج نقدي.
إن الأوربيين يستعملون مصطلح "السيميولوجيا" بتأثيرٍ من دي سوسير الذي وضع هذا المصطلح، واستعمله في محاضراته. يقول: "يمكننا أن نتصور علما يدرس حياة العلامات داخل الحياة الاجتماعية، علما سيشكل فرعا من علم النفس الاجتماعي. ومن ثم, فرعا من علم النفس العام. وسوف نطلق على هذا العلم اسم "سيميولوجيا" (من اللفظة الإغريقية "Semeîon" التي تعني "علامة")"[33]. أما الأمريكيون، فقد استعملوا مصطلح "السيميوطيقا" بتأثير من بيرس الذي وظفه في مختلف كتاباته حول العلامة. إلا أن المصطلحين معا عرفا انتشارا متبادَلاً. ويكفي أن ندرك أن المنتمين إلى الثقافة الفرنسية لم يُقْصوا تماما من دائرة اهتمامهم وكتاباتهم مصطلح "السيميوطيقا"، نظرا إلى انتشاره الواسع في الثقافات الأخرى، وخاصة الأنجلوساكسونية والروسية. كما أن مصطلح "السيميولوجيا" ظل راسخا في فرنسا وفي غيرها من البلدان اللاتينية.[34] ويصر بارث وأتباعُه على استخدام مصطلح "السيميولوجيا"، وينحو نحوَهم أندريه مارتيني (André Martinet) وتلاميذه من الوظيفيين. في حين إن من أطلق عليهم كلود كوكي(J.C. Couquet) اسم "مدرسة باريس" يستعملون مصطلح "السيميوطيقا" لا غيرُ.
وقد حدد غريماص الفارق بين المصطلحين في اللغة الفرنسية، بأنْ جعل "السيميوطيقا" تحيل إلى الفروع؛ أي إلى الجانب العملي والأبحاث المنجَزة حول العلامات اللفظية وغير اللفظية. في حين استعمل "السيميولوجيا" للدلالة على الأصول؛ أي على الإطار النظري العام لعلم العلامات. وفرق آخرون بين المصطلحين على أساس أن "السيميولوجيا" تدرس العلامات غير اللسانية كقانون السير، في حين تدرس "السيميوطيقا" الأنظمة اللسانية كالنص الأدبي... إلخ.
ولكن التفرقة بين "السيميولوجيا" و"السيميوطيقا" لم تعد قائمة، خصوصا بعد أن قررت "الجمعية العالمية للسيميائيات" –التي تأسست عام 1974م- تبني مصطلح "Sémiotique".
ومن الواضح جداً أن الدارسين العرب مختلفون في شأن ترجمة هذا المصطلح إلى العربية. فمنهم من يستعمل مصطلح "السيميائيات"، وهو المصطلح الرائج بين صفوف المغاربيين[35]. ومنهم من يترجم ذلك المصطلح "بالسيميولوجيا"[36]. ومنهم من يترجمه ترجمة حرفية[37]؛ أي بلفظ "سيميوطيقا". ويستعمل بعضهم مصطلح "الرموزية"[38]. ويقترح آخرون –وهم قلة- مصطلح "الأعراضية" مقابلا للمصطلح الأجنبي (Sémiologie)، وذلك كما فعل الباحثان يوسف غازي ومجيد النصر في ترجمتهما لدروس سوسير. ويترجم الأستاذ عبد القادر قنيني مصطلح "Sémiologie" بـ"علم الدلالة"[39]. ويترجمه دارس آخرُ بـ"علم الإشارات".[40] وهناك من يستعمل مصطلح "سيمياء"[41] أو "علم السيمياء"[42]... وقد تطرق عبد السلام المسدّي في إحدى دراساته[43] إلى المصطلحات الموضوعة أو المقترَحة لمفهوم السيميائيات في النقد العربي الحديث، ودرَسها مبيناً الكيفية المتبعة في توليدها. ويُؤْثِر بعض الباحثين لفظ "السيمياء"[44] باعتباره مصطلحا عربيا أصيلا وشائعا في كتب التراث. يقول الدكتور عادل فاخوري : "فالعلم نفسه أي الـSemiotics يترجَم بـ: السيمياء، السيمية، السيميائية، السيميوطيقا، السيميولوجيا والرموزية. والأفضل "السيمياء" لأنها كلمة قديمة متعارَفة على وزن عربي خاص بالدلالة على العلم"[45]. وفي السياق نفسِه، تقول الدكتورة جميلة حيدة: "ولعل ترجمة مصطلح سيميولوجيا أو سيميوطيقا بالسيميائيات أو السيمياء هي الأقرب إلى الصواب لشيوعها في الاستعمالات العربية القديمة"[46]. وبناء على هذا كله، فقد فضلنا مصطلح "السيميائيات" على غيره من المصطلحات، واستعملناه –بشكل محوري- في هذا البحث المتواضع.
المحور الثاني : السيميائيات : المنابع والاتجاهات والتطبيقات.
المبحث الأول : منابع السيميائيات
تعد السيميائيات تخصصا معرفيا حديثا بالمقارنة مع غيره من التخصصات، "ولم تظهر ملامحها المنهجية إلا مع بداية القرن العشرين"[47]. وقد كانت "نشأتها مزدوجة؛ نشأة أوربية مع دي سوسير، ونشأة أمريكية مع بيرس".[48]
يرى بعض الدارسين أن السيميائيات قد انطلقت مع سوسير الذي تنبأ في محاضراته بولادة علم جديد يعنى بدراسة العلامات. يقول الدكتور محمد السرغيني: "لقد رأت السيميولوجيا النور على يد سوسير الذي اعتبرها علما أرحبَ دلالةً من علم الألسُنية..."[49]
وقد أشار دوسوسير –بالفعل- في أحد دروسه إلى إمكان قيام علم جديد يعالج حياة العلامات في كنف المجتمع. يقول : "يمكننا أن نتصور علما يدرس حياة العلامات داخل الحياة الاجتماعية، علما سيشكل فرعا من علم النفس الاجتماعي، ومن ثم فرعا من علم النفس العام. وسوف نطلق على هذا العلم اسم "سيميولوجيا" (من الكلمة الإغريقية "Semeîon" بمعنى "العلامة"). ومن شأن هذا العلم أن يُطْلِعَنا على وظيفة هذه العلامات، وعلى القوانين التي تحكمها. ومادام هذا العلم لم يوجد بعدُ، فلا نستطيع أن نتكهن بمستقبله. إلا أن له الحق في الوجود، وموقعه محدد سلفا".[50]
وفي الوقت الذي تنبأ فيه سوسير بأن علما للعلامات سيوجد مستقبلا، كان معاصرُه بيرس منشغلا بإبراز معالم هذا العلم وصُواه العامة دون أن تكون له معرفة مسبَّقة بما تنبأ به سوسير.
وهذا ما جعل باحثين عديدين يؤكدون سبْق سيميوطيقا بيرس على سيميولوجيا سوسير. يقول جيرار دولودال : "وباعتباره منقبا في مجالات عديدة، لم ينقطع بيرس طَوال حياته عن تكوين نظرية حول العلامات، حتى وهو يهتم بموضوعات أخرى. لقد وضع أولى صياغاتها في عـــامي 1867 و 1868، ثم طور المظهر "الذرائعي" في عامي 1877 و1878، ثم أعطى لهذا المظهر قاعدة منطقية ما بين عامي 1880 و1885، ثم أعاد النظر بعد ذلك في تلك الصياغة بناء على هذه القاعدة من عام 1894 إلى آخر حياته. أما سيوسير، فلم يشر إلى هذا الموضوع؛ موضوع العلامة إلا في الدرس الثاني من دروس علم اللغة العام عامي 1908 و1909. ورغم أن الفكرة كانت سابقة على ذلك التاريخ، ويمكن القول قبل عام 1901، إذا أخذنا برأي أدريان نافيل (Adrien Naville). ومن ثم، فإن سبق سيميوطيقا بيرس على سيميولوجيا سيوسير شيء لا يُنَاقَش"[51]. ويقول في موضع آخر مشيرا إلى احتمال تأثر سوسير ببيرس: "من الممكن جدا، بل ومن السهل أيضا، أن نجد في سيميولوجيا سوسير بعض المفاهيم الأساسية المرتبطة بسيميولوطيقا بيرس، هذا بالرغم من اختلاف سياقي السيميولوجيا السوسيرية والسيميوطيقا البيرسية".[52]
والحق أن رصد تاريخ السيميائيات ليس بالأمر الهين. ذلك بأنها تضرب بجذورها في أغوار الماضي السحيق. وعليه، فإنها لم تنشأ مع بيرس ولا مع سيوسير. بل تعود بواكيرها إلى الفكر اليوناني القديم مع كل من أفلاطون وأرسطو والرواقيين. إلا أن هذه البداية كانت عبارة عن أفكار متناثرة هنا وهناك، تفتقر إلى إطار نظري تنتظم داخله. ومنذ تلك الفترة، لم يَخْلُ الفكر الإنساني المنطقي والبلاغي من عطاءات واجتهادات في المجال السيميائي.
ولا يمكن أن ننْكر إسهام العرب الأُوَّل في هذا المجال. ذلك بأن المتصفح للكتب التراثية والآثار العلمية يلمس –من كثبٍ- عطاءَ المسلمين ومشاركتهم البناءة في السيميائيات. وهكذا، فقد عَرَفها متصوفة الإسلام باسم "السيمياء" أو "علم أسرار الحروف". وفي الإطار عَيْنِه، عالج اللغويون والمَناطِقة القدامى قضية الدلالة باعتبارها النسبة الرابطةَ بين اللفظ والمعنى، أو بين الدال والمدلول بالِاصطلاحات الحديثة. وإذا كان أرسطو قد قسم هذه النسبة إلى نوعين؛ طبيعية (Physei) ووضعية (Thesei)، فإن المناطقة العرب ميزوا بين ثلاثة أنواع من النسب: طبيعية وعقلية ووضعية. فأما الدلالة الطبيعية، فهي "دلالة يجد العقل بين الدال والمدلول علاقة طبيعية ينتقل لأجلها منه إليه".[53] وأما الدلالة العقلية، فهي "دلالة يجد العقل بين الدال والمدلول علاقة ذاتية ينتقل لأجلها منه إليه"[54]. وأما الدلالة الوضعية، فهي "دلالة يجد العقل بين الدال والمدلول علاقة الوضع ينتقل لأجلها منه إليه"؛[55] أي إنها دلالة اصطلاحية قائمة على المواضعة والاتفاق.
ومما ذُكر، يتوضح لنا أن العلماء القدامى –عربا وعجما- قد خاضوا في السيميائيات، وتناولوا قضاياها، ودرسوا الكثير من مباحثها. ومن هنا، فقد أصبح من الضروري –بغية تطوير النظرية السيميائية وتأصيلها- العودة إلى هذه الاجتهادات بحثا عن الحلول المناسبة للإشكالات السيميائية القائمة. وذلك رغم سذاجة تلك الاجتهادات، وتوزعها بين المظانّ المتعددة، وافتقارها إلى خلفية نظرية واضحة.
غير أن السيميائيات لم تعرف انطلاقتها الفعلية القوية إلا مع بيرس وسوسير. وإذا كان الثاني قد تكهن بميلاد علم السيميولوجيا، وطرح المبادئ العامة والنواميس الضابطة له، فإن الأول قد قدم نظرية متكاملة دقيقة لعلم العلامات، وخصه بكتابات ومقالات عدة.
وعلاوة على هذين المنبعين الرئيسين اللذين أشار إليهما كل من درس تاريخ السيميائيات، يذكر تودوروف منابع أخرى[56] غذّت السيميائيات المعاصرة وأسهمت في بلورتها. وتتجلى هذه المنابع (Sources) في مجهودات الفيلسوف الألماني إرنست كاسّيرر (E. Cassirer)، وخاصة في عمله الرائد (La philosophie des formes symboliques) الذي طرح فيه –بجلاءٍ- مبدأين رئيسين. أولهما أن اللغة أوسع من كونها مجرد أداة تواصلية. وثانيهما أن اللغة ليست هي الوحيدة التي تَنْعَمُ بامتياز التواصل، وإنما تتقاسمه مع سلسلة أخرى من الأنساق التي تشكل –في مجموعها- عالم الإنسان. وهذه الأنساق هي: الأسطورة (Le mythe) والدين والفن والعلم والتاريخ. وليس العالم سوى تشكيل من هذه "الأشكال الرمزية" (Les formes symboliques)... إلا أن مشروع كاسّيرر لم يتطور في اتجاه النضج والتماسك، لأنه كان –بالأساس- مشروعا فلسفيا أكثر منه إسهاما علميا.
وهناك منبعٌ آخر للسيميائيات المعاصرة أشار إليه تودوروف في معجمه، ويتمثل في "المنطق" (Logique). وقد ارتأى أن بيرس بالرغم من أنه كان منطقيا، إلا أن فِكَره في هذا المجال لم تمارس تأثيرا قويا على المرحلة التي عاش فيها. لذلك كان لا مناص من اتباع مسارٍ آخرَ؛ ينطلق من فريجه (Frege)، ويمر براسل (Russel) وكارناب (Carnap). وقد أسهم بويسنس (Buyssens) في هذا المضمار بكتابه (Les langages et le discours) الصادر عام 1943.
ويضيف تودوروف إلى هذه المنابع، كتابات رواد "اللسانيات البنيوية" (Linguistique structurale) أمثال: سابير (Sapir) وتروبتسكوي (Troubetzkoy) وياكبسون (Jakobson) وهلمسليف (Hjelmslev) وبنفنيست (Benveniste). وقد اهتم هؤلاء بالمنظور السيميولوجي، وعملوا على تحديد موقع اللغة داخل الأنساق السيميوطيقية الأخرى.
هذه، باختصارٍ، لمحة إلى تاريخ السيميائيات وأبرز المنابع (أو الأصول) التي احتفلت بموضوع العلامة. وقد كان لها –بلا ريب- أثر بالغ ووقْع بارزٌ في تأسيس السيميائيات المعاصرة ورسم معالمها.
المبحث الثاني : اتجاهات السيميائيات
أدى تطور السيميائيات وتعدد منابعها إلى ظهور عدد من التيارات أو الاتجاهات السيميائية. ويقصد "بالاتجاه" –في المستوى الاصطلاحي- أن ثمة تنظيما أو جماعة بشرية مكونة من أفراد تجمع بينهم أمور وخصائص معينة. وقد تحدث غيرُ واحد من الدارسين عن اتجاهات السيميولوجيا. ومن الواضح أن هؤلاء قد اختلفوا في تحديد هذه الاتجاهات، وذلك تبعا لاختلاف المرتكَزات المعرفية والخلفيات النظرية التي ينطلقون منها.
لقد تحدث جورج مونان في كتابه (مدخل إلى السيميولوجيا) عن اتجاهين سيميائيين بارزين؛ أولهما "سيميولوجيا التواصل" (Sémiologie de communication)، وثانيهما سماه "سيميولوجيات الدلالة" (Sémiologies de la signification). وقد وقف الرجل عند كل منهما على حدة، معرفا به، وذاكرا أعلامَه البارزين..[57] ويقسم محمد السرغيني الاتجاهات السيميولوجية إلى ثلاثة أنواع رئيسة، هي : الاتجاه الأمريكي؛ ويمثله بيرس بامتياز، والاتجاه الروسي ممَثَّلا في الشكلانية الروسية ومدرسة طارتو، والاتجاه الفرنسي الذي عرف اختلافات جمة وزعته إلى مدارسَ عدةٍ.[58] وخصص الدكتور حنون مبارك الفصل الرابع من كتابه "دروس في السيميائيات" بالحديث عن الاتجاهات السيميوطيقية الحديثة، حيث قسمها إلى سبعة اتجاهات بارزة كالتالي: سيميولوجيا سوسير، وسيميولوجيا التواصل، وسيميولوجيا الدلالة، وسيميوطيقا بيرس، ورمزية كاسّيرر، وسيميوطيقا الثقافة، والسيميوطيقا ومسألة المرجع. وسنكتفي في هذا المقام بالحديث عن اتجاهاتٍ أربعةٍ يبدو أنها أبرزُ الاتجاهات السيميائية وأشهرُها:
أ) سيميوطيقا بيرس:
كان بيرس فلكيا وعالِم مساحة الأرض (Géodesiste)، بحيث شارك في الندوة العالمية الأولى لعلماء الأرض التي انعقدت في باريس عام 1876. وقام في العام نفسِه بأبحاث في المرصد حول حساب الجاذبية. وكان –كذلك- منطقيا وفيلسوفا ذرائعيَ التوجه. وقد تحكمت طبيعة ثقافته في صياغة نظريته حول العلامة.
ولفهم سيميوطيقا بيرس الفهم السليمَ، لا مناص من ربطها –حسب دولودال- بفلسفته التي تتسم بكونها استمرارية وواقعية وذرائعية. فهي استمرارية، لأنها تتعارض مع النزعة الواحدية (Monisme) والنزعة الثنـائية (Dualisme)؛ إذ تأخذ على الواحدية جمودَها ويقينيتها، وتذهــب –خلافا للثنائية- إلى أن الفكر ليس مَلَكة عارفة خارج الشيء المراد معرفتُه، وإنما هو سيرورة في الأشياء واستمرارية خلاقة معها. وهي فلسفة واقعية في معارضتها للنزعة الاسمية (Nominalisme) التي تذهب إلى أن الوقائع التي ينبغي الاهتمام بها هي تلك الكامنة وراء الإدراك، وأكد بيرس –في المقابل- أهمية الواقع الذي من شأنه أن يزودنا بمعرفة حقيقية. ومن هنا الطابع الاجتماعي والجدَلي لفلسفة بيرس. وهي أخيرا فلسفة ذرائعية (أوتداولية) ، لأن منهجها يُفْضي إلى وقائعَ عمليةٍ.
وتقوم سيميوطيقا بيرس على المنطق والظاهِراتية (Phénoménologie) والرياضيات. والمنطقُ –بمعناه الدقيق- هو علم الشروط الضرورية المُوصِلة إلى الصدق، أما بمعناه العام فهو علم القوانين الضرورية للفكر؛ وبأسلوب آخر، هو علم الفكر الذي تجسده العلامات. إنه "السيميوطيقا العامة" كما يقول بيرس. والمنطق البيرسي هو منطق العلاقات الذي يعد الأساسَ والضامن للتصور الثلاثي للمَقُولات والعلامات. أما الظاهراتية، فهي الدراسة التي تصف خاصيات الظواهر في مقولاتها الثلاث. وقد استندت السيميوطيقا البيرسية إلى ظاهراتية متميزة. يقول دولودال: "إن ظاهرية بيرس لها كأصل ظاهرية كانط وليس ظاهرية هوسرل. ولكي يعطيها بيرس تمييزا عن ظاهرية كانط (وهيجل) فقد أعطاها اسم (الفانيروسكوب) -Phanéroscopie-، وفهمها وعرفها في حدود واقعيته، بدون استتْباع سيكولوجي، وذلك في خطابٍ وجهه إلى ويليام جيمس، باعتبارها "وصفا لما هو أمام الفكر أو في الوعي مثلما هو ظاهر في مختلف أنواع الوعي"، التي هي ثلاثة لا أقل ولا أكثر".[59] كما تتأسس سيميوطيقا بيرس على فرضية مسماة "بالبروتوكول الرياضي" والتي تكون العلامة وَفْقَها ثلاثية. وقد سبق لبيرس أن بَرْهن على الطابع الضروري للثلاثية (Trichotomie)، ذلك بأنه لا يمكننا أن نفكر في العدد (1) دون أن نتصور في الوقت نفسه حده، ولْنُسَمِّه (2). لكن تصور (1) و(2) بوصفهما كيانين منعزلين يستلزم ثالثا من طبيعة أخرى. يقول بيرس : "يستحيل تكوين ثالث أصيل بتغيير الزوج ودون إدخال أي عنصر تختلف طبيعته عن طبيعة الواحد أو الزوج"، وهذا العنصر هو العنصر الثالث. فالثلاثية –إذاً- ضرورية وكافية في آن واحد؛ ضرورية منطقيا، وكافية تداوليا. ضرورية لبناء علاقات متناهية بيد أنها كافية؛ بمعنى أنها تسد حاجات الاقتصاد بواسطة الاختزال الممكن لأي عدد يتجاوز 3 إلى توليفات من 3.
ويرى بيرس أن العلامات –كيفما كانت طبيعتها- يجب أن تعالَج في إطارها المنطقي. ويذهب إلى أن أي تحليل لابد أن يتم عن طريق العلامات؛ لأنها –من جهة- تمكننا من التفكير والتواصل مع الآخرين، ومن جهة أخرى تمكننا من إعطاء معنىً لما يقترحه علينا الكون. والعلامات – في نظر بيرس- متساوية من حيث الأهميةُ، لذا عُنِيَ باللسانية منها وبغير اللسانية.
تركز سيميوطيقا بيرس على ثلاثة أبعاد رئيسة، هي : البعد النحوي، ويسميه تشارلز موريس (Ch. Morris) "البعد التركيبي" أو "النظْمي"، والبعد الدلالي أو الوجودي، والبعد التداولي أو المنطقي. وكل واحد منها يتضمن ثلاثَ علاماتٍ. وفيما يأتي بيانُ ذلك:
-أ- البعد الأول (التركيبي) : وهو بعد الممثل (Représentamen) منظوراً إليه في علاقته مع ذاته. والممثل –باعتباره علامة رئيسة- يتفرع إلى ثلاث علامات فرعية (Sous-signes) تبعا لعلاقته بالمقولات الفانيروسكوبية الثلاث (الأولية / Priméité والثانوية / Secondéité والثالثية / Tiercéité). وذلك على النحو التالي :
* العلامة الوصفية (Qualisigne) : وهي الصفة التي تشكل علامة. ولا يمكن أن تشتغل إلا وهي متجسدة –ماديا- في العلامة الفردية. ومثال العلامة الوصفية اللون الدال على شيء مّا.
* العلامة الفردية (Sinsigne) : ويعرفها بيرس بأنها "شيء أو حدث موجود وواقعي في شكل علامة"، كما أنها "موضوع أو حدث فردي"[60]. ويمكن أن نمثل لهذه العلامة بالنصْب التَذكاري أو بعَرَض (Symptôme) داء معين.
* العلامة العُرْفية (Légisigne) : هي قانون أو قاعدة أو مبدأ عام في شكل علامة. وتعد أنساق الكتابة الخاضعة لقواعد الصرف والنحو علامات عرفية.
-ب- البعد الثاني (الدلالي): وهو بعد الموضوع (Objet). ويتعلق الأمر هنا بالعلامة منظورا إليها في علاقتها بموضوعها الذي تحيل إليه. ويتكون هذا البعد من ثلاث علامات فرعية كالآتي :
* الأيقونة (Icône): وهي تشبه الموضوع الذي تمثله. يقول حنون مبارك: "إن الأيقونة صورة تَستنسخ نموذجا"[61]. والصورة الفوتوغرافية مثالٌ لهذا النوع من العلامات.
* القرينة (Indice): وهي تنسج علاقة مباشرة أو ملاصِقة مع موضوعها. ومثالها الدخان الذي هو أَمَارة على وجود النار.
* الرمز (Symbole) : وهو يحيل إلى موضوعه بفضل قانون أو أفكار عامة مشتركة. وتعد كل علامة تعاقُدية (أو اصطلاحية) رمزا. والرمز –باعتباره علامة فرعية ثالثة لبعد الموضوع- نوعان؛ أحدهما مجرد (Abstrait)، وهو "شكل منحلّ (Dégénéré) عن الرمز الذي ليس لموضوعه إلا طابع عام".[62] والآخر متميز[63] (Singulier)، وهو "شكل آخر منحل عن الرمز الذي يكون موضوعه فردا موجودا، بحيث لا يعني هذا الموضوع إلا الطبائع التي يملكها هذا الفرد".[64]
-جـ- البعد الثالث (التداولي) : وهو بُعْد المؤول (Interprétant)، ويخص الأمر هنا العلامة منظورا إليها في علاقتها بالمؤول. ويتفرع هذا البعد إلى مؤول أول ومؤول ثان ومؤول ثالث تبعا لنوعية العلاقة التي يعقدها مع المقولات الثلاث، وذلك كما يأتي :
* الفِدْليل (Rhème) : ويترجمه حنون مبارك "بالخبر"[65]، والسرغيني "بالمسنَد إليه"[66]، ويستعمل آخرون مصطلح "سمة" مقابلا للفظ الأجنبي (Rhème)، ويقتصر بعض الباحثين على ترجمة هذا المصطلح ترجمة حرفية "رِيم".. ويقصد بالفدليل في السيميوطيقا البيرسية علامة الإمكانية الكيفية (Possibiqualitative)؛ أي إنه مُدْرَك باعتباره يمثل هذا النوع أو ذاك من الموضوع الممكن. ويمكن للفدليل أن يمدنا بإخبار (أو معلومة)، إلا أنه لا يؤوَّل بوصفه شيئا يمدنا بإخبار ما.
* العلامة الإخبارية (Dicisigne): وهي تخبر وتعطي معلومة تتعلق بموضوع العلامة. ويعرفها دولودال بأنها "العلامة التي تكون بالنسبة لمؤولها علامة وجود واقعي: إنها تقدم إعلاما يتعلق بموضوعه"[67]. ويمكن أن نمثل لهذه العلامة بالجملة البيانية.
* البرهان (Argument) : وهو علامة تشكل بالنسبة إلى مؤولها علامة قانون. ولو لم يكن للاستدلال (Raisonnement) بعد سيكولوجي لسماه بيرس به. ولأن البرهان "ثالثي بسبب مبدإ "تراتبية المقولات"، فإنه التعبير المختَصَر للعلامة التامة : أي العلامة العرفية الرمزية البرهانية".[68]
ويمكن أن نلخص الأبعاد الثلاثة المذكورة، وتفريعاتها المترتبة عن علاقتها بالمقولات الثلاث في الجدول أسفله :
الأولية
الثانوية
الثالثية
1
العلامة الوصفية
العلامة الفردية
العلامة العرفية
2
الأيقونة
القرينة
الرمز
3
الفدليل
العلامة الإخبارية
البرهان
مما سبق، يتبدى لنا أن العلامة في سيميوطيقا بيرس علاقة ثلاثية بين ثلاثة عناصر أو علامات رئيسة (الممثل-الموضوع-المؤول)؛ أي:
الموضوع
المؤول الممثل
ولا يمكن أن تقوم العلامة إلا بوجود هذه العناصر الثلاثة مجتمعة. وهذا ما أسْماه بيرس "السيميوزيس" (Semiosis). وكل علامة من العلامات الثلاث المتقدمة ثلاثية الطابع. معنى هذا أن ثمة تسعَ علامات فرعية (انظر الجدول السابق). ومن الناحية النظرية، نحصل على 33؛ أي على 27 صنفا من العلامات الممكنة. إلا أن بيرس اختصرها في عشرة أصناف، هي: العلامة الوصفية الأيقونية الفدليلية (الشعور بالاحمرار مثلا)، والعلامة الفردية الأيقونية الفدليلية (رسم بياني معطى مثلا)، والعلامة الفردية القرينية الفدليلية (الصراخ التلقائي مثلا)، والعلامة الفردية القرينية الإخبارية (دوارة الهواء مثلا)، والعلامة العرفية الأيقونية الفدليلية (رسم بياني عام مثلا)، والعلامة العرفية القرينية الفدليلية (اسم الإشارة مثلا)، والعلامة العرفية القرينية الإخبارية (صراخ في الزقاق مثلا)، والعلامة العرفية الرمزية الفدليلية (اسم عام مشترك مثلا)، والعلامة العرفية الرمزية الإخبارية (التحليل القياسي مثلا)، والعلامة العرفية الرمزية البرهانية (العلاقة التضمينية مثلا). ويترتب عن ربط العلامات بعضها ببعض 66 نوعاً من العلامات السيميائية... ولكن الملاحَظ أن الاهتمام الأكبر قد انصب على الثلاثية الثانية المشكلة للبعد الدلالي؛ أي على العلامات الفرعية التالية : الأيقونة والقرينة والرمز.
خلاصة القول إن سيميوطيقا بيرس "ليست مجرد أدوات إجرائية يمكن استثمارها في قراءة ظواهر معينة، لكنها بالإضافة إلى ذلك تصور متكامل للكون، الذي هو سلسلة لا متناهية من الأنساق السيميائية. إذ يستحيل فصل العلامة عن الواقع، لأن هذا الأخير عبارة عن سلسلة من العلامات التي لا تنفك تحيل على علامات جديدة تدرج ضمن سلسلة أخرى من الإحالات. وهكذا دواليك".[69]
ب) سيميولوجيا سوسير :
يعد سوسير أبا اللسانيات الحديثة. ذلك بأنه أنفق جزءا غير يسير من حياته في دراسة اللغة، وخلف دروسا قيمة ورائدة في هذا الشأن. وقد طبع هذا التوجه اللساني نظرية سوسير العامة حول العلامة التي أطلق عليها اسم (Sémiologie).
لم يتناول سوسير السيميولوجيا إلا عَرَضًا في فترة لم يشق فيها البحث اللساني طريقه بَعْدُ. وعليه، لم يكن بوُسْع هذا العلم الجديد أن يتبلْور بعدُ باعتباره مجالا معرفيا مخصوصا، إذِ اقتصر على تقديم تصور عام لهذا العلم وموضوعه ووظيفته وعلاقته باللسانيات.
إن السيميولوجيا السوسيرية تعنى بعموم العلامات في نطاق المجتمع. وهي بذلك ظاهرة سوسيولوجية. كما أنها فرع من علم النفس العام. ويبدو التأثير السيكولوجي في نظرية سوسير واضحا في تعريفه للعلامة باعتبارها كيانا نفسيا قوامه عنصران يرتبطان –جدليا- وَفْقَ علاقة اعتباطية. وقد ركز سوسير –في المحل الأول- على اللسانيات في بناء نظريته حول العلامة، بحيث استمد العديد من مبادئه ومفاهيمه السيميولوجية من المجال اللساني.
إن العلامة اللغوية هي محور مشروع سوسير السيميولوجي. وقد عمل تلاميذه (مثل بويسنس) على المضي قُدُماً في هذا المشروع العام تَحْدوهم الرغبة في إنجاز نظرية سيميائية تَمْتََح أساسا من الطروحات اللسانية، خاصة وأن الدراسات اللغوية في تلك الفترة كانت في أوْج عطائها وذُروة تطورها. وقد ذهب أولئك التلاميذ بنظرية سوسير مذاهبَ شتى، من ذلك ما ذهب إليه بارث في حديثه عن علاقة السيميولوجيا باللسانيات.
وتقوم العلامة –حسب سوسير- على ركنين متضايفين، هما : التصور/المدلول والصورة السمعية/الدال. وتعتبر العلاقة بينهما علاقة اعتباط، ودليله في ذلك تعدد الأسامي المسمية للمسمى الواحد. ويَستثني من هذه العلاقة أمرين؛ المحاكيات (Les onomatopées) وبعض صيغ الندبة والتعجب. كما أن سوسير أهمل علاقة العلامة بالواقع/المرجع (Référent)، وحدد أهمية العلامات انطلاقا من العلاقات الاختلافية والتعارضية على مستوى تجاور الدالات والمدلولات.
وبالإضافة إلى العلامة الاعتباطية، تحدث سوسير عن العلامة الرمزية/العرفية المتسمة بخاصيات معينة. يقول: "ومن خاصية الرمز ألا يكون أبدا اعتباطيا في سائر وجوهه؛ فهو ليس خاليا ولا فارغا من كل محتوى مادي. إذ لا تزال فيه بقيةٌ من علاقة طبيعية بين داله ومدلوله. فالرمز الذي يشير إلى العدالة... لا يمكن أن نستبدله بأي رمز آخر كالعربة مثلا".[70]
وعلى الرغم من الطابع الثنائي للدليل، فإننا عندما نطلق العلامة ينصرف ذهننا مباشرة إلى جانب الدال فحسب. يقول سوسير: "فنحن نطلق لفظ "العلامة" على تركيب التصور والصورة السمعية. إلا أنه بوجه عام جرت عادة استخدام هذا المصطلح من حيث إنه يقصد به الصورة السمعية (أو الدال) وحْدَها، كما في لفظ شجرة ((ARBOR. وقد ننسى أنه إذا كان هذا اللفظ (ARBOR) يسمى علامة، فذلك راجع إلى كونه يحمل تصورا «للشجرة» حتى إن المعنى المحسوس أصبح يقتضي الفكرة الكلية".[71]
ومهما كان الأمر، فقد أسهم سوسير –بشكل كبير- في إرساء أسس السيميائيات الحديثة، ورسم صُواها البارزة. وكان لأفكاره واجتهاداته أثر كبيرٌ فيمن تلاه من السيميولوجيين واللسانيين.
جـ) سيميولوجيا التواصل :
بالنظر إلى أهمية التواصل (Communication) في الحياة الإنسانية، نشأ اتجاه في السيميائيات يعنى -أساسا- بالوظيفة الخاصة بالبنيات السيميوطيقية (أي التواصل). يقول ميتز : "تقترح سيميولوجيا التواصل –مبدئيا- دراسة اللغات التي أَسْميتها في موضع آخر "المتخصصة" (Spécialisés)؛ أي دراسة عدد من الحقول حيث اللغةُ والسنن/الشفرة (Code) يختلطان مؤقتا، قبل أن يتقلص العمل الاجتماعي للغة كلها –عمليا- إلى سَنَن واحد".[72] ومن رواد هذا الاتجاه إيريك بويسنس ولويس برييطو..
يرى بويسنس أن بالإمكان تعريف السيميولوجيا بوصفها دراسة طرق التواصل، أي دراسة الإواليات (Mécanismes) المستخدَمة لإحداث التأثير في الغير، والمعترَف بها -بتلك الصفة– من قبل الشخص الذي نتوخى التأثير فيه. إذاً، فعنصر التواصل هو الموضوع الرئيس في هذه السيميولوجيا، وخاصة "التواصل الإنساني".
ويرى برييطو أن استعمال العلامات هو –وحده- الذي يحدد التواصل؛ بحيث يمكن الحديث عن فعل تواصلي أو فعل سيمي في كل لحظة يحاول فيها مرسِل (Distinateur) –وهو في طور إنتاج علامة ما- إمداد مرسَل إليه (Distinataire) بأَمَارة أو إشارة معينة (Indication). ويميز برييطو بين أمارات ثلاثٍ كالآتي:
* الأمارات العفوية: مثل لون السماء الذي ينْبئ –بالنسبة إلى صياد السمك- بحالة البحر في اليوم الموالي.
* الأمارات العفوية المغلوطة: مثل اللُّكنة التي ينتحلها متكلم ما رغبة منه في إيهامنا بأنه أجنبي.
* الأمارات القصدية: مثل علامات المرور. وتدعى هذه الأمارات علامات (Signes).
وموضوع السيميولوجيا –في نظر برييطو- هو العلامات القائمة على القصدية التواصلية. ولهذا سميت هذه السيميولوجيا "بسيميولوجيا التواصل". وهي حلْقة مهمة في سلسلة تطور السيميائيات الحديثة، نظرا إلى أهمية موضوعها ومجالها.
د) سيميولوجيا الدلالة :
لما كانت الأشياء تحمل دلالات وكانت للدلالة أهمية خطيرة في الواقع، فقد نشأ في مجال السيميائيات تيار يبحث في هذا الأمر؛ وهو تيار يعزى إلى الفرنسي رولان بارث الذي أوضح أن جانبا هاما من البحث السيميولوجي المعاصر مرده –بدون انقطاع- إلى مسألة الدلالة.
تؤكد التجربة أن –بالإمكان- إنتاج الدلالة وتحقيق فعل التواصل بواسطة الأنساق السيميولوجية اللغوية وغير اللغوية. ولعل هذا ما حذا ببارث إلى أن يُسْنِد مهمة التواصل إلى أنساق اللغة وإلى الأشياء (Choses) على حد سواء. ويرى بارث أن اللغة هي مؤول كل الأنساق أيا كان نوعها.
وإذا كان سوسير يستخدم مصطلحات "العلامة" (Signe) و"الدال (Signifiant) و"المدلول" (Signifié)، فإن بارث قد استعمل –مكانَها- مصطلحات "الدلالة" (Signification) و"التعبير" (Expression) و"المحتوى" (Contenu). ويقسم بارث –في مقال "عناصر السيميولوجيا" الصادر عام 1964- الدلالة إلى دلالة حقيقية تعيينية (Dénotation) ودلالة مجازية إيحائية (Connotation). كما قلَب الرجل نفسُه المعادلة السوسيرية الشهيرة فيما يخص طبيعة علاقة السيميولوجيا باللسانيات.
ولم يفلت الطرح البارثي من سهام النقد، إذ وجهت إليه عدة انتقادات من قبل أنصار سيميولوجيا التواصل الذين عدوا ما أتى به بارث مجرد تجلٍّ بسيط. وهذا لا ينقص من قيمة جهود بار
فريد أمعضشو
مقدمــــــة
تهدف هذه الورقات المعدودات إلى التعريف "بالمنهج السيميائي" باعتباره واحدا من المناهج التي استطاعت أن تفرض نفسها في الساحة النقدية الحديثة لسنوات طوال. وليكون هذا الوَكْد مطلبا هينا، ارتأينا أن نتبع خطة واضحة الصُّوى، متناسقة العناصر. وذلك على النحو الآتي:
المحور الأول: السيميائيات: المفهوم والموضوع والمصطلح
المبحث الأول : مفهوم السيميائيات
تُجْمع عدة كتابات ومعاجم لغوية وسيميائية على أن السيميائيات هي ذلك العلم الذي يُعْنَى بدراسة العلامات. وبهذا عرفها فرديناند دوسوسير[1]، وجورج مونان[2]، وكريستيان ميتز[3]، وتزفيتان تودوروف[4]، وجوليان غريماص[5]، وجون دوبوا[6]، ورولان بارث[7]، وآخرون. ويبدو أن تعريف مونان أوفى هذه التعريفات وأجودها، إذ يحدد السيميولوجيا بأنها "العلم العام الذي يدرس كل أنساق العلامات (أو الرموز) التي بفضلها يتحقق التواصل بين الناس"[8]. وانطلاقا من هذا التعريف، يمكن أن نستخلص أموراً ثلاثة كالتالي:
* إن السيميولوجيا علم من العلوم، يخضع لضوابط ونواميسَ معينة كما هو الشأن بالنسبة إلى العلوم الأخرى. وهذا ما تنص عليه الكثير من التعاريف (سوسير – تودوروف – بارث...). ولكن ثمة تعريفات وآراء أخرى تنظر إلى السيميولوجيا باعتبارها منهجا من المناهج، أو وسيلة من وسائل البحث. بحيث يشير مونان في موضع آخر إلى أن السيميولوجيا "وسيلة عمل" (Instrument de travail)[9]؛ أي منهج من مناهج البحث. ومن هنا، نقف على شيء من الخلط في كلام مونان؛ فهو تارة يذكر السيميولوجيا على أنها علم عام يدرس العلامات المختلفة، وتارة يذكرها بوصفها منهجا بحْثيا. ونجد هذا الخلط بارزا عند بعض الدارسين العرب الذين يعرّفون السيميولوجيا بأنها علم أو دراسة (أي منهج) في الآن نفسه. يقول صاحبا (دليل الناقد الأدبي) مثلا : "السيميولوجيا (السيميوطيقا)، لدى دارسيها، تعني علم أو دراسة العلامات (الإشارات) دراسة منظمة منتظمة"[10]. والسيميوطيقا عند شارلز ساندرس بيرس (Charles Sanders Peirce) "نظرية شبه ضرورية أو شكلية للعلامات"[11]. إذاً، فنحن أمام ثلاثة آراء؛ رأي يعتبر السيميائيات علما، وثان يجعلها منهاجا، وثالث يتخذها نظرية عامة.
ويبدو أن الدارسين العرب المعاصرين يتعاملون مع السيميائيات باعتبارها منهجا يساعد على فهم النصوص والأنساق العلامية وتأويلها. وهكذا، فإننا نقرأ بين الحين والآخر دراسات وأبحاثا يتوسل أصحابها بالسيميائيات – بصفتها منهجا في المقاربة والدراسة-، ومن ذلك بعض دراسات محمد مفتاح وعبد الملك مرتاض التي تعمد إلى تجريب المنهج السيميائي في تشريح نصوص أدبية قديمة وحديثة... ومن الدارسين الذين يعتبرون السيميائيات منهجا نجد الدكتور عبد الرحمن بوعلي الذي يقول في تقديمه لأحد كتب دولودال (G. Deledalle) التي ترجمها إلى العربية : "تحتل السيميوطيقا –أو السيميولوجيا- مكانة هامة ضمن المناهج النقدية. ولئن كان البعض يعتبرها مجرد موضة من الموضات، فإن هذا الوصف لم ينقص من قيمتها كمنهج علمي وإجرائي في الدراسات الأدبية وتحليل النصوص الأدبية بالدرجة الأولى، بل ولم يزد المشتغلين بها إلا مقاومة لكل نزعة تبسيطية. ولذلك فهي في الاعتبار الصحيح منهج لا يمكن التقليل من أهميته أو التقليص مما يمكن أن يفتحه من سبل وآفاق جديدة تنير مجاهل التعبير الأدبي والفني"[12]... الخ.
* إن السيميولوجيا تدرس العلامات وأنساقها، سواء كانت هذه العلامات لسانية أم غير لسانية. يقول لويس برييطو (Luis J. Prieto) إن السيميولوجيا هي "العلم الذي يبحث في أنظمة العلامات أيّاً كان مصدرها لغويا أم سَنَنيا أم مؤشريا"[13]. وسنقف في المبحث الموالي عند العلامة وأنماطها بإفاضة.
* إن للعلامات أهمية كبرى، تتجلى في كونها تحقق التواصل بين الناس في المجتمع. يقول كولن شيرّي (Colin Cherry) : "لا يوجد تواصل بدون نسق مكوَّن من دلائل"، ذلك بأن التواصل الإنساني –في جوهره- إنما هو "تبادل الدلائل (أو العلامات) بين بني البشر" كما يقول السيميائي الإيطالي روسّي-لاندي (F. Rossi-Landi) في كتابه (Linguistics and Economics). ونظرا إلى أهمية التواصل هذه، فقد نشأ في مجال السيميائيات اتجاه يعنى بالتواصل والإبلاغ. وسنقف عنده بتفصيل لاحقا.
المبحث الثاني : موضوع السيميائيات
يتضح من خلال قراءة التعاريف المعطاة لمفهوم السيميائيات أنها جميعها تتضمن مصطلح "العلامة" (Le signe). وهذا مؤشر واضح على أن العلامات وأنساقها هي الموضوع الرئيس للسيميائيات. وهذا ما أكده جون دوبوا حين قال : "السيميولوجيا ولدت انطلاقا من مشروع دي سوسير. وموضوعها هو دراسة حياة العلامات في كنف المجتمع".[14] وقد بينت جوليا كريستيفا (Julia Kristeva) موضوع السيميائيات حين قالت: "إن دراسة الأنظمة الشفوية وغير الشفوية –ومن ضمنها اللغات بما هي أنظمة أو علامات تتمفصل داخل تركيب الاختلافات- هي ما يشكل موضوع علم أخذ يتكون، ويتعلق الأمر بالسيميوطيقا"[15]. ومن هنا ندرك موضوع السيميائيات، إذ "تهتم بالعلامة من حيث كنْهُها وطبيعتها، وتسعى إلى الكشف عن القوانين المادية والنفسية التي تحكمها، وتتيح إمكانية تمفْصُلها داخل التركيب"[16]. تُرى ما العلامة ؟ وما أنواعها ؟
من الصعوبة بمكان إعطاء تعريف واحد نهائي للعلامة. ومرد ذلك إلى كونها "مفهوما قاعديا أو أساسا في جميع علوم اللغة"[17]، وإلى كونها "كِيانا (entité) واسعا جداً "[18] من جهة. ومن جهة ثانية، تُعْزى صعوبة تعريف العلامة تعريفا موحدا قارا إلى "الخلفيات الفكرية التي يُسْتَنَد إليها"[19] في التعريف؛ وهي خلفيات إبستمولوجية ونظرية تختلف من معرِّف إلى آخر. إن هذه الاعتبارات التي تجعل صياغة تعريف واحد للعلامة أمرا عسيرا، لم تمنع الباحثين والنقاد من الاجتهاد في تعريف العلامة. وسنحاول في هذا الصدد تقديم بعض التعريفات التي عُرِّف بها مفهوم العلامة عند الغربيين خاصة.
إن العلامة (أو الدليل) عند سوسير كيان سيكولوجي مجرد قوامُه عنصران متلازمان (دال ومدلول). يقول : "العلامة اللسانية وحدة نفسية ذات وجهين... وهذان العنصران مرتبطان ارتباطا وثيقا، ويتطلب أحدهما الآخر... ونطلق على التأليف بين التصور (Concept) والصورة السمعية (Image acoustique) العلامة. ونقترح الاحتفاظ بكلمة "علامة" (Signe) لتعيين المجموع، وتعويض التصور "بالمدلول" (Signifié) والصورة السمعية "بالدال" (Signifiant)"[20]. ويَقصد سوسير بالدال (أو الصورة السمعية) الانطباع النفسي للصوت، في حين يقصد بالمدلول (أو التصور) التمثيل الذهني للشيء. ويرى سوسير أن العلاقة بين وجهي العلامة لا تقوم على المشابهة والمناسبة، بل تقوم على الاعتباط. ومن هنا، فإن مفهوم العلامة عند سوسير مفهوم ضيق، لأنه يجعل علاقة الدال بالمدلول اعتباطية (Arbitraire)، مستثنيا من ذلك ما كان رمزا (Symbole) أو إشارة (Signal). ثم إن سوسير أهمل علاقة العلامة بالواقع، وأوضح أن قيمة العلامة إنما تكمن في علاقتها بما يجاورها من العلامات الأخرى.
وإذا كان تعريف سوسير للعلامة تعريفا تجريديا، فإن تعريف ميخائيل باختين (Mikhaïl Bakhtine) يرتبط أشد الارتباط بالفعل السيميائي، لغويا كان أم غير لغوي. إذ يرى أن العلامة تتناسب والإيديولوجيا، فحيث توجد العلامة توجد –بالضرورة- الإيديولوجيا. وليس كل علامة إيديولوجية ظلا للواقع فحسب، وإنما هي –كذلك- قطعة مادية من هذا الواقع. إن العلامات (أو الدلائل) لا يمكن أن تظهر –حسب باختين- إلا في ميدان تفاعل الأفراد؛ أي في إطار التواصل الاجتماعي. وبذلك، فوجود العلامات ليس أبدا غير التجسيد المادي لهذا التواصل. ومن هنا، يخلص باختين إلى ثلاث قواعد منهجية، هي :
* عدم فصل الإيديولوجيا عن الواقع المادي للعلامة.
* عدم عزل العلامة عن الأشكال المحسوسة للتواصل الاجتماعي.
* عدم عزل التواصل وأشكاله عن أساسهما المادي.
ويعرف أمبيرطو إيكو (Umberto Eco) العلامة بأنها "حركة (geste) تستهدف تحقيق التواصل، ونقل معنى خاص أو حالة شعورية لباثّ إلى مستقبِل[21]. ويميز إيكو في كتابه"نظرية السيميوطيقا" بين الدلائل الطبيعية والدلائل غير القصدية... الخ.
وتناول بيرس العلامة في سياق منطقي دقيق يعتمد كثرة التفريعات والتقسيمات. مما يجعل فهم مفهومه للعلامة أمرا صعبا. وإذا كانت العلامة عند سوسير ثنائية الطابع، فإنها من وجهة نظر بيرس "علاقة ثلاثية بين ثلاث علامات فرعية تنتمي على التوالي إلى الأبعاد الثلاثة للممثِّل والموضوع والمؤوِّل"[22]. ويرى تودوروف ودوكرو في هذا السياق أن "الرقم "ثلاثة" يلعب دورا أساسيا في سيميوطيقا بيرس، مثل الرقم "اثنان" في سيميولوجيا سوسير تماما"[23]. إن مفهوم العلامة في سيميوطيقا بيرس متسع، بحيث يشمل –إلى جانب العلامات اللسانية- العلامات غير اللسانية.
تهتم السيميائيات بدراسة الأنساق الدلالية؛ أي مجموع العلامات التي تنسج فيما بينها شبكة من العلاقات الاختلافية والتعارضية حتى تضطلع بتأدية وظائف دلالية متميزة بين مرسل ومتلق. ويقسم روسي –لاندي هذه الأنساق إلى قسمين كبيرين، هما :
أ) أنساق دلالية طبيعية: وهي تلك الأنساق التي توجد في الطبيعة. وتتسم بكونها غير مؤسسية، إلا أن الإنسان وظفها داخل مملكة العلامات؛ أي إنه أسند إليها دلالات مخصوصة.
ب) أنساق دلالية اجتماعية: وهي تلك التي تمتاز بكونها مؤسسية؛ أي قائمة على نوع من المواضعة الاجتماعية، لأنها من نَتاج عمل الإنسان. وقد قسمها روسي-لاندي إلى صنفين، هما :
* أنساق دلالية اجتماعية لفظية: ويعرفها الرجل بأنها "تلك الأنساق التي لها لغات ولها خصوصياتها المتنوعة وإعدادات مثل الأنواع السننية. وتقوم هذه الأنواع السننية على التمييزات التي يحدثها الإنسان في مادة الصوت".
* أنساق دلالية اجتماعية غير لفظية: ويعرفها بقوله: "تلك الأنساق التي لا تستعمل أنواعا سَننية قائمة على أصوات متلفَّظ بها، ولكنها تستعمل أنواعا سننية قائمة على أنماط أخرى من الأشياء".
وقد قسم إيكو الأنساق الدلالية إلى ثمانية عشر نوعا بالاستناد إلى معيار ثقافي محض. فالأنساق –في نظره- كلها ثقافية، ترتب انطلاقا من أقلها ثقافيا إلى الأشد تعقيدا. وأول هذه الأنساق التواصلية ما أسماه إيكو "سيميوطيقا الحيوان" (Zoosémiotique)؛ وهي تعنى بالسلوكات المتصلة بالتواصل داخل الجماعات غير الإنسانية. في حين تعد الخطابة (La rhétorique) آخر هذه الأنساق وأكثرها تعقيدا من الناحية الثقافية.
وإذا كان إيكو قد فصل القول في الأنساق الدلالية وأفاض في تفريعاتها، فإن مدرسة طارتو (Tartu) السوفياتية قد اقتصرت على تقسيم هذه الأنساق إلى قسمين كبيرين، هما :
* أنساق مُنَمْذِجة أولية (Systèmes modelants primaires): وهي الأنساق اللفظية.
* أنساق مُنَمْذِجة ثانوية (Systèmes modelants secondaires): وهي مبنية على الأنساق الأولى. وتُدْرَج ضمن هذه الأنساق الأساطير والدين والشعر والفنون بعامة.
ولعل أشهر التقسيمات وأجودها ذلك التقسيم الذي قدمه ميتز، حين قسم السيميوطيقا إلى لفظية (Transverbale) وغير لفظية (Non-verbale)[24]. ونجد الشيء نفسَه عند برنارد توسان (Bernard Toussaint) التي قسمت السيميولوجيا إلى لسانية وغير لسانية... وبصورة أجلى، فإن العلامات نوعان، هما :
أ- العلامات اللسانية (أو اللفظية): ويقصد بها الكلام المنطوق وعلامات الكتابة أو الحروف (Graphèmes) بأي لغة كانت.
ب- العلامات غير اللسانية (أو غير اللفظية): وهي التي تقوم على أنواع سننية أخرى غير الأصوات والحروف. ويمكن أن نقسمها إلى علامات عضوية مرتبطة بجسم الإنسان (مثل: حركات الجسم وأوضاع الجسد والعلامات الشمية والسمعية والذوقية...)، وعلامات أدََاتية (Instrumentales) تحيل على أشياء خارجة عن العضوية الإنسانية (مثل: الملابس والموسيقى وإشارات المرور...).
وعادة ما تُعْطَى الأولوية للعلامات اللسانية التي تقوم على اللغة (Langage) أو الكلام (Parole). يقول سوسير: "فاللسان (أي اللغة) عبارة عن نسق من العلامات التي تعبر عن الأفكار. ومن هنا، يمكن مقارنته بالكتابة وبالأحرف الأبجدية عند المصابين بالصمم والخرص، وكذلك مقارنته بالطقوس الرمزية، وبأشكال الآداب وسلوكها، وبالإشارات المتعارَف عليها عند الجنود، وغير ذلك. إلا أن اللسان هو أهم هذه الأنساق جميعا"[25]. ويعتبر يوري لوتمان (Iouri Lotman) نسق اللغة هو النسق الأولي، في حين يجعل كل الأنساق الدلالية غير اللغوية ثانوية. معنى هذا أن ثمة هرميةً في الأنساق الدلالية، بحيث تفضَّل الأنساق السيميوطيقية اللغوية / اللسانية على غيرها من الأنساق. وذلك لاعتبارات ثلاثة على الأقل؛ أولها أن اللغة هي النسق الدلالي الذي حظي بعناية كبرى، إذ احتفل به الدارسون احتفالا واسعا، وعالجوه من شتى زواياه (أصوات، صرف، تركيب، دلالة)؛ مما جعله مستوْعِباً –في دلالته- مختلِفَ الأغراض والحاجات الاجتماعية للإنسان. ويكمن الاعتبار الثاني في كون المادة الأولية التي تتشكل منها اللغة (وهي الأصوات) عبارة عن أشياء ينتجها جسم الإنسان. فهي –إذاً- داخل الجسم وخارجه. وعليه، فهي ذات طابع شمولي. ويرتبط الاعتبار الثالث بالسيطرة والتوجيه الإيديولوجيين. ذلك بأن اللغة –من بين كل الأنساق- أداة متميزة في يد السلطة. وبما أن العمل نوعان؛ فكري ويدوي، فقد تعارضت الأنساق اللسانية مع غير اللسانية؛ فمثلت الأولى الجانب الفكري ومثلت الثانية الجانب اليدوي. مؤدَّى هذا، أن من يمتلك اللغة هو من يمتلك الفكر وحق التوجيه والسيادة، ومن يمتلك الأنساق الأخرى هو من لا يمتلك غير واجب التنفيذ... ومهما كان الأمر، فإنه يمكن أن نلمس صلاتٍ بين اللغة وغيرها من الأنظمة السيميوطيقية. ومن المؤكَّد أن لكل من النسق اللفظي والنسق غير اللفظي أهميته التي لا سبيل إلى إنكارها.
المبحث الثالث : إشكالية المصطلح
إن كلمة "سيميولوجيا" (Sémiologie) أو "سيميوطيقا" (Sémiotique) مشتقة من الأصل اليوناني (Semeîon) كما يشير إلى ذلك سيوسير في محاضراته. ومن الناحية التركيبية، فهي منحوتة من مفردتين؛ أولاهما (Semeîon) التي تعني (علامة)، وثانيتهما (Logos) التي تفيد معنى (العلم) أو (المعرفة).
ولا ريب في أن قضية المصطلح من القضايا الشائكة التي تُطرح في ميدان السيميائيات، إذ ما زال هذا المصطلح يعاني الفوضى والاضطراب. ويعد المصطلح المُسَمِّي لمفهوم السيميائيات واحدا من النموذجات البارزة على هذا الاضطراب. إذ نُلْفي كثيرا من الدارسين[26] يستعملون مصطلحيِ "السيميوطيقا" و"السيميولوجيا" على سبيل الترادُف. كما أن أغلب الباحثين العرب يستخدمون مصطلحات "السيميوطيقا" و"السيميولوجيا" و"السيميائيات" على أنها أسامٍ دالةُ على معنى واحد.
ومع تنامي الوعي بأهمية المصطلح وتزايد الإحساس بضرورة ضبطه وتوحيده، وجدنا عددا من الباحثين ينتبهون إلى الفروق الموجودة بين المصطلحات التي كان يُظَنُّ أنها من قَبيل الترادف. وبناء على هذا الأمر، التفت بعض الدارسين إلى التمييز بين مصطلحي "السيميولوجيا" و"السيميوطيقا"؛ مثلما فعل جون دوبوا[27]. وعمد آخرون إلى التفريق بين "السيميوطيقا" و"السيميولوجيا" و"السيميائيات"، ومنهم غريماص الذي أفرد - في معجمه الشهير الذي ألفه رفقة جوزيف كورتيس – لكل مصطلح من هذه المصطلحات حيزا خاصا.[28] كما قدم معجم (Hachette) الموسوعي تعاريف وتفاريق واضحة بين هذه المصطلحات؛ بحيث عرف "السيميولوجيا" بأنها "علم يدرس العلامات وأنساقها داخل المجتمع"[29]، وحدد "السيميوطيقا" بأنها "النظرية العامة للعلامات والأنظمة الدلالية اللسانية وغير اللسانية"[30]، وحدد "السيميائيات" (Sémantique) بأنها "دراسة اللغة من زاوية الدلالة"[31]. ويعرِّف الأوكسفورد هذا المصطلح بأنه "دراسة معاني الكلمات"[32]. معنى هذا كله أن السيميولوجيا علم، والسيميوطيقا نظرية، والسيميائيات دراسة أو منهج نقدي.
إن الأوربيين يستعملون مصطلح "السيميولوجيا" بتأثيرٍ من دي سوسير الذي وضع هذا المصطلح، واستعمله في محاضراته. يقول: "يمكننا أن نتصور علما يدرس حياة العلامات داخل الحياة الاجتماعية، علما سيشكل فرعا من علم النفس الاجتماعي. ومن ثم, فرعا من علم النفس العام. وسوف نطلق على هذا العلم اسم "سيميولوجيا" (من اللفظة الإغريقية "Semeîon" التي تعني "علامة")"[33]. أما الأمريكيون، فقد استعملوا مصطلح "السيميوطيقا" بتأثير من بيرس الذي وظفه في مختلف كتاباته حول العلامة. إلا أن المصطلحين معا عرفا انتشارا متبادَلاً. ويكفي أن ندرك أن المنتمين إلى الثقافة الفرنسية لم يُقْصوا تماما من دائرة اهتمامهم وكتاباتهم مصطلح "السيميوطيقا"، نظرا إلى انتشاره الواسع في الثقافات الأخرى، وخاصة الأنجلوساكسونية والروسية. كما أن مصطلح "السيميولوجيا" ظل راسخا في فرنسا وفي غيرها من البلدان اللاتينية.[34] ويصر بارث وأتباعُه على استخدام مصطلح "السيميولوجيا"، وينحو نحوَهم أندريه مارتيني (André Martinet) وتلاميذه من الوظيفيين. في حين إن من أطلق عليهم كلود كوكي(J.C. Couquet) اسم "مدرسة باريس" يستعملون مصطلح "السيميوطيقا" لا غيرُ.
وقد حدد غريماص الفارق بين المصطلحين في اللغة الفرنسية، بأنْ جعل "السيميوطيقا" تحيل إلى الفروع؛ أي إلى الجانب العملي والأبحاث المنجَزة حول العلامات اللفظية وغير اللفظية. في حين استعمل "السيميولوجيا" للدلالة على الأصول؛ أي على الإطار النظري العام لعلم العلامات. وفرق آخرون بين المصطلحين على أساس أن "السيميولوجيا" تدرس العلامات غير اللسانية كقانون السير، في حين تدرس "السيميوطيقا" الأنظمة اللسانية كالنص الأدبي... إلخ.
ولكن التفرقة بين "السيميولوجيا" و"السيميوطيقا" لم تعد قائمة، خصوصا بعد أن قررت "الجمعية العالمية للسيميائيات" –التي تأسست عام 1974م- تبني مصطلح "Sémiotique".
ومن الواضح جداً أن الدارسين العرب مختلفون في شأن ترجمة هذا المصطلح إلى العربية. فمنهم من يستعمل مصطلح "السيميائيات"، وهو المصطلح الرائج بين صفوف المغاربيين[35]. ومنهم من يترجم ذلك المصطلح "بالسيميولوجيا"[36]. ومنهم من يترجمه ترجمة حرفية[37]؛ أي بلفظ "سيميوطيقا". ويستعمل بعضهم مصطلح "الرموزية"[38]. ويقترح آخرون –وهم قلة- مصطلح "الأعراضية" مقابلا للمصطلح الأجنبي (Sémiologie)، وذلك كما فعل الباحثان يوسف غازي ومجيد النصر في ترجمتهما لدروس سوسير. ويترجم الأستاذ عبد القادر قنيني مصطلح "Sémiologie" بـ"علم الدلالة"[39]. ويترجمه دارس آخرُ بـ"علم الإشارات".[40] وهناك من يستعمل مصطلح "سيمياء"[41] أو "علم السيمياء"[42]... وقد تطرق عبد السلام المسدّي في إحدى دراساته[43] إلى المصطلحات الموضوعة أو المقترَحة لمفهوم السيميائيات في النقد العربي الحديث، ودرَسها مبيناً الكيفية المتبعة في توليدها. ويُؤْثِر بعض الباحثين لفظ "السيمياء"[44] باعتباره مصطلحا عربيا أصيلا وشائعا في كتب التراث. يقول الدكتور عادل فاخوري : "فالعلم نفسه أي الـSemiotics يترجَم بـ: السيمياء، السيمية، السيميائية، السيميوطيقا، السيميولوجيا والرموزية. والأفضل "السيمياء" لأنها كلمة قديمة متعارَفة على وزن عربي خاص بالدلالة على العلم"[45]. وفي السياق نفسِه، تقول الدكتورة جميلة حيدة: "ولعل ترجمة مصطلح سيميولوجيا أو سيميوطيقا بالسيميائيات أو السيمياء هي الأقرب إلى الصواب لشيوعها في الاستعمالات العربية القديمة"[46]. وبناء على هذا كله، فقد فضلنا مصطلح "السيميائيات" على غيره من المصطلحات، واستعملناه –بشكل محوري- في هذا البحث المتواضع.
المحور الثاني : السيميائيات : المنابع والاتجاهات والتطبيقات.
المبحث الأول : منابع السيميائيات
تعد السيميائيات تخصصا معرفيا حديثا بالمقارنة مع غيره من التخصصات، "ولم تظهر ملامحها المنهجية إلا مع بداية القرن العشرين"[47]. وقد كانت "نشأتها مزدوجة؛ نشأة أوربية مع دي سوسير، ونشأة أمريكية مع بيرس".[48]
يرى بعض الدارسين أن السيميائيات قد انطلقت مع سوسير الذي تنبأ في محاضراته بولادة علم جديد يعنى بدراسة العلامات. يقول الدكتور محمد السرغيني: "لقد رأت السيميولوجيا النور على يد سوسير الذي اعتبرها علما أرحبَ دلالةً من علم الألسُنية..."[49]
وقد أشار دوسوسير –بالفعل- في أحد دروسه إلى إمكان قيام علم جديد يعالج حياة العلامات في كنف المجتمع. يقول : "يمكننا أن نتصور علما يدرس حياة العلامات داخل الحياة الاجتماعية، علما سيشكل فرعا من علم النفس الاجتماعي، ومن ثم فرعا من علم النفس العام. وسوف نطلق على هذا العلم اسم "سيميولوجيا" (من الكلمة الإغريقية "Semeîon" بمعنى "العلامة"). ومن شأن هذا العلم أن يُطْلِعَنا على وظيفة هذه العلامات، وعلى القوانين التي تحكمها. ومادام هذا العلم لم يوجد بعدُ، فلا نستطيع أن نتكهن بمستقبله. إلا أن له الحق في الوجود، وموقعه محدد سلفا".[50]
وفي الوقت الذي تنبأ فيه سوسير بأن علما للعلامات سيوجد مستقبلا، كان معاصرُه بيرس منشغلا بإبراز معالم هذا العلم وصُواه العامة دون أن تكون له معرفة مسبَّقة بما تنبأ به سوسير.
وهذا ما جعل باحثين عديدين يؤكدون سبْق سيميوطيقا بيرس على سيميولوجيا سوسير. يقول جيرار دولودال : "وباعتباره منقبا في مجالات عديدة، لم ينقطع بيرس طَوال حياته عن تكوين نظرية حول العلامات، حتى وهو يهتم بموضوعات أخرى. لقد وضع أولى صياغاتها في عـــامي 1867 و 1868، ثم طور المظهر "الذرائعي" في عامي 1877 و1878، ثم أعطى لهذا المظهر قاعدة منطقية ما بين عامي 1880 و1885، ثم أعاد النظر بعد ذلك في تلك الصياغة بناء على هذه القاعدة من عام 1894 إلى آخر حياته. أما سيوسير، فلم يشر إلى هذا الموضوع؛ موضوع العلامة إلا في الدرس الثاني من دروس علم اللغة العام عامي 1908 و1909. ورغم أن الفكرة كانت سابقة على ذلك التاريخ، ويمكن القول قبل عام 1901، إذا أخذنا برأي أدريان نافيل (Adrien Naville). ومن ثم، فإن سبق سيميوطيقا بيرس على سيميولوجيا سيوسير شيء لا يُنَاقَش"[51]. ويقول في موضع آخر مشيرا إلى احتمال تأثر سوسير ببيرس: "من الممكن جدا، بل ومن السهل أيضا، أن نجد في سيميولوجيا سوسير بعض المفاهيم الأساسية المرتبطة بسيميولوطيقا بيرس، هذا بالرغم من اختلاف سياقي السيميولوجيا السوسيرية والسيميوطيقا البيرسية".[52]
والحق أن رصد تاريخ السيميائيات ليس بالأمر الهين. ذلك بأنها تضرب بجذورها في أغوار الماضي السحيق. وعليه، فإنها لم تنشأ مع بيرس ولا مع سيوسير. بل تعود بواكيرها إلى الفكر اليوناني القديم مع كل من أفلاطون وأرسطو والرواقيين. إلا أن هذه البداية كانت عبارة عن أفكار متناثرة هنا وهناك، تفتقر إلى إطار نظري تنتظم داخله. ومنذ تلك الفترة، لم يَخْلُ الفكر الإنساني المنطقي والبلاغي من عطاءات واجتهادات في المجال السيميائي.
ولا يمكن أن ننْكر إسهام العرب الأُوَّل في هذا المجال. ذلك بأن المتصفح للكتب التراثية والآثار العلمية يلمس –من كثبٍ- عطاءَ المسلمين ومشاركتهم البناءة في السيميائيات. وهكذا، فقد عَرَفها متصوفة الإسلام باسم "السيمياء" أو "علم أسرار الحروف". وفي الإطار عَيْنِه، عالج اللغويون والمَناطِقة القدامى قضية الدلالة باعتبارها النسبة الرابطةَ بين اللفظ والمعنى، أو بين الدال والمدلول بالِاصطلاحات الحديثة. وإذا كان أرسطو قد قسم هذه النسبة إلى نوعين؛ طبيعية (Physei) ووضعية (Thesei)، فإن المناطقة العرب ميزوا بين ثلاثة أنواع من النسب: طبيعية وعقلية ووضعية. فأما الدلالة الطبيعية، فهي "دلالة يجد العقل بين الدال والمدلول علاقة طبيعية ينتقل لأجلها منه إليه".[53] وأما الدلالة العقلية، فهي "دلالة يجد العقل بين الدال والمدلول علاقة ذاتية ينتقل لأجلها منه إليه"[54]. وأما الدلالة الوضعية، فهي "دلالة يجد العقل بين الدال والمدلول علاقة الوضع ينتقل لأجلها منه إليه"؛[55] أي إنها دلالة اصطلاحية قائمة على المواضعة والاتفاق.
ومما ذُكر، يتوضح لنا أن العلماء القدامى –عربا وعجما- قد خاضوا في السيميائيات، وتناولوا قضاياها، ودرسوا الكثير من مباحثها. ومن هنا، فقد أصبح من الضروري –بغية تطوير النظرية السيميائية وتأصيلها- العودة إلى هذه الاجتهادات بحثا عن الحلول المناسبة للإشكالات السيميائية القائمة. وذلك رغم سذاجة تلك الاجتهادات، وتوزعها بين المظانّ المتعددة، وافتقارها إلى خلفية نظرية واضحة.
غير أن السيميائيات لم تعرف انطلاقتها الفعلية القوية إلا مع بيرس وسوسير. وإذا كان الثاني قد تكهن بميلاد علم السيميولوجيا، وطرح المبادئ العامة والنواميس الضابطة له، فإن الأول قد قدم نظرية متكاملة دقيقة لعلم العلامات، وخصه بكتابات ومقالات عدة.
وعلاوة على هذين المنبعين الرئيسين اللذين أشار إليهما كل من درس تاريخ السيميائيات، يذكر تودوروف منابع أخرى[56] غذّت السيميائيات المعاصرة وأسهمت في بلورتها. وتتجلى هذه المنابع (Sources) في مجهودات الفيلسوف الألماني إرنست كاسّيرر (E. Cassirer)، وخاصة في عمله الرائد (La philosophie des formes symboliques) الذي طرح فيه –بجلاءٍ- مبدأين رئيسين. أولهما أن اللغة أوسع من كونها مجرد أداة تواصلية. وثانيهما أن اللغة ليست هي الوحيدة التي تَنْعَمُ بامتياز التواصل، وإنما تتقاسمه مع سلسلة أخرى من الأنساق التي تشكل –في مجموعها- عالم الإنسان. وهذه الأنساق هي: الأسطورة (Le mythe) والدين والفن والعلم والتاريخ. وليس العالم سوى تشكيل من هذه "الأشكال الرمزية" (Les formes symboliques)... إلا أن مشروع كاسّيرر لم يتطور في اتجاه النضج والتماسك، لأنه كان –بالأساس- مشروعا فلسفيا أكثر منه إسهاما علميا.
وهناك منبعٌ آخر للسيميائيات المعاصرة أشار إليه تودوروف في معجمه، ويتمثل في "المنطق" (Logique). وقد ارتأى أن بيرس بالرغم من أنه كان منطقيا، إلا أن فِكَره في هذا المجال لم تمارس تأثيرا قويا على المرحلة التي عاش فيها. لذلك كان لا مناص من اتباع مسارٍ آخرَ؛ ينطلق من فريجه (Frege)، ويمر براسل (Russel) وكارناب (Carnap). وقد أسهم بويسنس (Buyssens) في هذا المضمار بكتابه (Les langages et le discours) الصادر عام 1943.
ويضيف تودوروف إلى هذه المنابع، كتابات رواد "اللسانيات البنيوية" (Linguistique structurale) أمثال: سابير (Sapir) وتروبتسكوي (Troubetzkoy) وياكبسون (Jakobson) وهلمسليف (Hjelmslev) وبنفنيست (Benveniste). وقد اهتم هؤلاء بالمنظور السيميولوجي، وعملوا على تحديد موقع اللغة داخل الأنساق السيميوطيقية الأخرى.
هذه، باختصارٍ، لمحة إلى تاريخ السيميائيات وأبرز المنابع (أو الأصول) التي احتفلت بموضوع العلامة. وقد كان لها –بلا ريب- أثر بالغ ووقْع بارزٌ في تأسيس السيميائيات المعاصرة ورسم معالمها.
المبحث الثاني : اتجاهات السيميائيات
أدى تطور السيميائيات وتعدد منابعها إلى ظهور عدد من التيارات أو الاتجاهات السيميائية. ويقصد "بالاتجاه" –في المستوى الاصطلاحي- أن ثمة تنظيما أو جماعة بشرية مكونة من أفراد تجمع بينهم أمور وخصائص معينة. وقد تحدث غيرُ واحد من الدارسين عن اتجاهات السيميولوجيا. ومن الواضح أن هؤلاء قد اختلفوا في تحديد هذه الاتجاهات، وذلك تبعا لاختلاف المرتكَزات المعرفية والخلفيات النظرية التي ينطلقون منها.
لقد تحدث جورج مونان في كتابه (مدخل إلى السيميولوجيا) عن اتجاهين سيميائيين بارزين؛ أولهما "سيميولوجيا التواصل" (Sémiologie de communication)، وثانيهما سماه "سيميولوجيات الدلالة" (Sémiologies de la signification). وقد وقف الرجل عند كل منهما على حدة، معرفا به، وذاكرا أعلامَه البارزين..[57] ويقسم محمد السرغيني الاتجاهات السيميولوجية إلى ثلاثة أنواع رئيسة، هي : الاتجاه الأمريكي؛ ويمثله بيرس بامتياز، والاتجاه الروسي ممَثَّلا في الشكلانية الروسية ومدرسة طارتو، والاتجاه الفرنسي الذي عرف اختلافات جمة وزعته إلى مدارسَ عدةٍ.[58] وخصص الدكتور حنون مبارك الفصل الرابع من كتابه "دروس في السيميائيات" بالحديث عن الاتجاهات السيميوطيقية الحديثة، حيث قسمها إلى سبعة اتجاهات بارزة كالتالي: سيميولوجيا سوسير، وسيميولوجيا التواصل، وسيميولوجيا الدلالة، وسيميوطيقا بيرس، ورمزية كاسّيرر، وسيميوطيقا الثقافة، والسيميوطيقا ومسألة المرجع. وسنكتفي في هذا المقام بالحديث عن اتجاهاتٍ أربعةٍ يبدو أنها أبرزُ الاتجاهات السيميائية وأشهرُها:
أ) سيميوطيقا بيرس:
كان بيرس فلكيا وعالِم مساحة الأرض (Géodesiste)، بحيث شارك في الندوة العالمية الأولى لعلماء الأرض التي انعقدت في باريس عام 1876. وقام في العام نفسِه بأبحاث في المرصد حول حساب الجاذبية. وكان –كذلك- منطقيا وفيلسوفا ذرائعيَ التوجه. وقد تحكمت طبيعة ثقافته في صياغة نظريته حول العلامة.
ولفهم سيميوطيقا بيرس الفهم السليمَ، لا مناص من ربطها –حسب دولودال- بفلسفته التي تتسم بكونها استمرارية وواقعية وذرائعية. فهي استمرارية، لأنها تتعارض مع النزعة الواحدية (Monisme) والنزعة الثنـائية (Dualisme)؛ إذ تأخذ على الواحدية جمودَها ويقينيتها، وتذهــب –خلافا للثنائية- إلى أن الفكر ليس مَلَكة عارفة خارج الشيء المراد معرفتُه، وإنما هو سيرورة في الأشياء واستمرارية خلاقة معها. وهي فلسفة واقعية في معارضتها للنزعة الاسمية (Nominalisme) التي تذهب إلى أن الوقائع التي ينبغي الاهتمام بها هي تلك الكامنة وراء الإدراك، وأكد بيرس –في المقابل- أهمية الواقع الذي من شأنه أن يزودنا بمعرفة حقيقية. ومن هنا الطابع الاجتماعي والجدَلي لفلسفة بيرس. وهي أخيرا فلسفة ذرائعية (أوتداولية) ، لأن منهجها يُفْضي إلى وقائعَ عمليةٍ.
وتقوم سيميوطيقا بيرس على المنطق والظاهِراتية (Phénoménologie) والرياضيات. والمنطقُ –بمعناه الدقيق- هو علم الشروط الضرورية المُوصِلة إلى الصدق، أما بمعناه العام فهو علم القوانين الضرورية للفكر؛ وبأسلوب آخر، هو علم الفكر الذي تجسده العلامات. إنه "السيميوطيقا العامة" كما يقول بيرس. والمنطق البيرسي هو منطق العلاقات الذي يعد الأساسَ والضامن للتصور الثلاثي للمَقُولات والعلامات. أما الظاهراتية، فهي الدراسة التي تصف خاصيات الظواهر في مقولاتها الثلاث. وقد استندت السيميوطيقا البيرسية إلى ظاهراتية متميزة. يقول دولودال: "إن ظاهرية بيرس لها كأصل ظاهرية كانط وليس ظاهرية هوسرل. ولكي يعطيها بيرس تمييزا عن ظاهرية كانط (وهيجل) فقد أعطاها اسم (الفانيروسكوب) -Phanéroscopie-، وفهمها وعرفها في حدود واقعيته، بدون استتْباع سيكولوجي، وذلك في خطابٍ وجهه إلى ويليام جيمس، باعتبارها "وصفا لما هو أمام الفكر أو في الوعي مثلما هو ظاهر في مختلف أنواع الوعي"، التي هي ثلاثة لا أقل ولا أكثر".[59] كما تتأسس سيميوطيقا بيرس على فرضية مسماة "بالبروتوكول الرياضي" والتي تكون العلامة وَفْقَها ثلاثية. وقد سبق لبيرس أن بَرْهن على الطابع الضروري للثلاثية (Trichotomie)، ذلك بأنه لا يمكننا أن نفكر في العدد (1) دون أن نتصور في الوقت نفسه حده، ولْنُسَمِّه (2). لكن تصور (1) و(2) بوصفهما كيانين منعزلين يستلزم ثالثا من طبيعة أخرى. يقول بيرس : "يستحيل تكوين ثالث أصيل بتغيير الزوج ودون إدخال أي عنصر تختلف طبيعته عن طبيعة الواحد أو الزوج"، وهذا العنصر هو العنصر الثالث. فالثلاثية –إذاً- ضرورية وكافية في آن واحد؛ ضرورية منطقيا، وكافية تداوليا. ضرورية لبناء علاقات متناهية بيد أنها كافية؛ بمعنى أنها تسد حاجات الاقتصاد بواسطة الاختزال الممكن لأي عدد يتجاوز 3 إلى توليفات من 3.
ويرى بيرس أن العلامات –كيفما كانت طبيعتها- يجب أن تعالَج في إطارها المنطقي. ويذهب إلى أن أي تحليل لابد أن يتم عن طريق العلامات؛ لأنها –من جهة- تمكننا من التفكير والتواصل مع الآخرين، ومن جهة أخرى تمكننا من إعطاء معنىً لما يقترحه علينا الكون. والعلامات – في نظر بيرس- متساوية من حيث الأهميةُ، لذا عُنِيَ باللسانية منها وبغير اللسانية.
تركز سيميوطيقا بيرس على ثلاثة أبعاد رئيسة، هي : البعد النحوي، ويسميه تشارلز موريس (Ch. Morris) "البعد التركيبي" أو "النظْمي"، والبعد الدلالي أو الوجودي، والبعد التداولي أو المنطقي. وكل واحد منها يتضمن ثلاثَ علاماتٍ. وفيما يأتي بيانُ ذلك:
-أ- البعد الأول (التركيبي) : وهو بعد الممثل (Représentamen) منظوراً إليه في علاقته مع ذاته. والممثل –باعتباره علامة رئيسة- يتفرع إلى ثلاث علامات فرعية (Sous-signes) تبعا لعلاقته بالمقولات الفانيروسكوبية الثلاث (الأولية / Priméité والثانوية / Secondéité والثالثية / Tiercéité). وذلك على النحو التالي :
* العلامة الوصفية (Qualisigne) : وهي الصفة التي تشكل علامة. ولا يمكن أن تشتغل إلا وهي متجسدة –ماديا- في العلامة الفردية. ومثال العلامة الوصفية اللون الدال على شيء مّا.
* العلامة الفردية (Sinsigne) : ويعرفها بيرس بأنها "شيء أو حدث موجود وواقعي في شكل علامة"، كما أنها "موضوع أو حدث فردي"[60]. ويمكن أن نمثل لهذه العلامة بالنصْب التَذكاري أو بعَرَض (Symptôme) داء معين.
* العلامة العُرْفية (Légisigne) : هي قانون أو قاعدة أو مبدأ عام في شكل علامة. وتعد أنساق الكتابة الخاضعة لقواعد الصرف والنحو علامات عرفية.
-ب- البعد الثاني (الدلالي): وهو بعد الموضوع (Objet). ويتعلق الأمر هنا بالعلامة منظورا إليها في علاقتها بموضوعها الذي تحيل إليه. ويتكون هذا البعد من ثلاث علامات فرعية كالآتي :
* الأيقونة (Icône): وهي تشبه الموضوع الذي تمثله. يقول حنون مبارك: "إن الأيقونة صورة تَستنسخ نموذجا"[61]. والصورة الفوتوغرافية مثالٌ لهذا النوع من العلامات.
* القرينة (Indice): وهي تنسج علاقة مباشرة أو ملاصِقة مع موضوعها. ومثالها الدخان الذي هو أَمَارة على وجود النار.
* الرمز (Symbole) : وهو يحيل إلى موضوعه بفضل قانون أو أفكار عامة مشتركة. وتعد كل علامة تعاقُدية (أو اصطلاحية) رمزا. والرمز –باعتباره علامة فرعية ثالثة لبعد الموضوع- نوعان؛ أحدهما مجرد (Abstrait)، وهو "شكل منحلّ (Dégénéré) عن الرمز الذي ليس لموضوعه إلا طابع عام".[62] والآخر متميز[63] (Singulier)، وهو "شكل آخر منحل عن الرمز الذي يكون موضوعه فردا موجودا، بحيث لا يعني هذا الموضوع إلا الطبائع التي يملكها هذا الفرد".[64]
-جـ- البعد الثالث (التداولي) : وهو بُعْد المؤول (Interprétant)، ويخص الأمر هنا العلامة منظورا إليها في علاقتها بالمؤول. ويتفرع هذا البعد إلى مؤول أول ومؤول ثان ومؤول ثالث تبعا لنوعية العلاقة التي يعقدها مع المقولات الثلاث، وذلك كما يأتي :
* الفِدْليل (Rhème) : ويترجمه حنون مبارك "بالخبر"[65]، والسرغيني "بالمسنَد إليه"[66]، ويستعمل آخرون مصطلح "سمة" مقابلا للفظ الأجنبي (Rhème)، ويقتصر بعض الباحثين على ترجمة هذا المصطلح ترجمة حرفية "رِيم".. ويقصد بالفدليل في السيميوطيقا البيرسية علامة الإمكانية الكيفية (Possibiqualitative)؛ أي إنه مُدْرَك باعتباره يمثل هذا النوع أو ذاك من الموضوع الممكن. ويمكن للفدليل أن يمدنا بإخبار (أو معلومة)، إلا أنه لا يؤوَّل بوصفه شيئا يمدنا بإخبار ما.
* العلامة الإخبارية (Dicisigne): وهي تخبر وتعطي معلومة تتعلق بموضوع العلامة. ويعرفها دولودال بأنها "العلامة التي تكون بالنسبة لمؤولها علامة وجود واقعي: إنها تقدم إعلاما يتعلق بموضوعه"[67]. ويمكن أن نمثل لهذه العلامة بالجملة البيانية.
* البرهان (Argument) : وهو علامة تشكل بالنسبة إلى مؤولها علامة قانون. ولو لم يكن للاستدلال (Raisonnement) بعد سيكولوجي لسماه بيرس به. ولأن البرهان "ثالثي بسبب مبدإ "تراتبية المقولات"، فإنه التعبير المختَصَر للعلامة التامة : أي العلامة العرفية الرمزية البرهانية".[68]
ويمكن أن نلخص الأبعاد الثلاثة المذكورة، وتفريعاتها المترتبة عن علاقتها بالمقولات الثلاث في الجدول أسفله :
الأولية
الثانوية
الثالثية
1
العلامة الوصفية
العلامة الفردية
العلامة العرفية
2
الأيقونة
القرينة
الرمز
3
الفدليل
العلامة الإخبارية
البرهان
مما سبق، يتبدى لنا أن العلامة في سيميوطيقا بيرس علاقة ثلاثية بين ثلاثة عناصر أو علامات رئيسة (الممثل-الموضوع-المؤول)؛ أي:
الموضوع
المؤول الممثل
ولا يمكن أن تقوم العلامة إلا بوجود هذه العناصر الثلاثة مجتمعة. وهذا ما أسْماه بيرس "السيميوزيس" (Semiosis). وكل علامة من العلامات الثلاث المتقدمة ثلاثية الطابع. معنى هذا أن ثمة تسعَ علامات فرعية (انظر الجدول السابق). ومن الناحية النظرية، نحصل على 33؛ أي على 27 صنفا من العلامات الممكنة. إلا أن بيرس اختصرها في عشرة أصناف، هي: العلامة الوصفية الأيقونية الفدليلية (الشعور بالاحمرار مثلا)، والعلامة الفردية الأيقونية الفدليلية (رسم بياني معطى مثلا)، والعلامة الفردية القرينية الفدليلية (الصراخ التلقائي مثلا)، والعلامة الفردية القرينية الإخبارية (دوارة الهواء مثلا)، والعلامة العرفية الأيقونية الفدليلية (رسم بياني عام مثلا)، والعلامة العرفية القرينية الفدليلية (اسم الإشارة مثلا)، والعلامة العرفية القرينية الإخبارية (صراخ في الزقاق مثلا)، والعلامة العرفية الرمزية الفدليلية (اسم عام مشترك مثلا)، والعلامة العرفية الرمزية الإخبارية (التحليل القياسي مثلا)، والعلامة العرفية الرمزية البرهانية (العلاقة التضمينية مثلا). ويترتب عن ربط العلامات بعضها ببعض 66 نوعاً من العلامات السيميائية... ولكن الملاحَظ أن الاهتمام الأكبر قد انصب على الثلاثية الثانية المشكلة للبعد الدلالي؛ أي على العلامات الفرعية التالية : الأيقونة والقرينة والرمز.
خلاصة القول إن سيميوطيقا بيرس "ليست مجرد أدوات إجرائية يمكن استثمارها في قراءة ظواهر معينة، لكنها بالإضافة إلى ذلك تصور متكامل للكون، الذي هو سلسلة لا متناهية من الأنساق السيميائية. إذ يستحيل فصل العلامة عن الواقع، لأن هذا الأخير عبارة عن سلسلة من العلامات التي لا تنفك تحيل على علامات جديدة تدرج ضمن سلسلة أخرى من الإحالات. وهكذا دواليك".[69]
ب) سيميولوجيا سوسير :
يعد سوسير أبا اللسانيات الحديثة. ذلك بأنه أنفق جزءا غير يسير من حياته في دراسة اللغة، وخلف دروسا قيمة ورائدة في هذا الشأن. وقد طبع هذا التوجه اللساني نظرية سوسير العامة حول العلامة التي أطلق عليها اسم (Sémiologie).
لم يتناول سوسير السيميولوجيا إلا عَرَضًا في فترة لم يشق فيها البحث اللساني طريقه بَعْدُ. وعليه، لم يكن بوُسْع هذا العلم الجديد أن يتبلْور بعدُ باعتباره مجالا معرفيا مخصوصا، إذِ اقتصر على تقديم تصور عام لهذا العلم وموضوعه ووظيفته وعلاقته باللسانيات.
إن السيميولوجيا السوسيرية تعنى بعموم العلامات في نطاق المجتمع. وهي بذلك ظاهرة سوسيولوجية. كما أنها فرع من علم النفس العام. ويبدو التأثير السيكولوجي في نظرية سوسير واضحا في تعريفه للعلامة باعتبارها كيانا نفسيا قوامه عنصران يرتبطان –جدليا- وَفْقَ علاقة اعتباطية. وقد ركز سوسير –في المحل الأول- على اللسانيات في بناء نظريته حول العلامة، بحيث استمد العديد من مبادئه ومفاهيمه السيميولوجية من المجال اللساني.
إن العلامة اللغوية هي محور مشروع سوسير السيميولوجي. وقد عمل تلاميذه (مثل بويسنس) على المضي قُدُماً في هذا المشروع العام تَحْدوهم الرغبة في إنجاز نظرية سيميائية تَمْتََح أساسا من الطروحات اللسانية، خاصة وأن الدراسات اللغوية في تلك الفترة كانت في أوْج عطائها وذُروة تطورها. وقد ذهب أولئك التلاميذ بنظرية سوسير مذاهبَ شتى، من ذلك ما ذهب إليه بارث في حديثه عن علاقة السيميولوجيا باللسانيات.
وتقوم العلامة –حسب سوسير- على ركنين متضايفين، هما : التصور/المدلول والصورة السمعية/الدال. وتعتبر العلاقة بينهما علاقة اعتباط، ودليله في ذلك تعدد الأسامي المسمية للمسمى الواحد. ويَستثني من هذه العلاقة أمرين؛ المحاكيات (Les onomatopées) وبعض صيغ الندبة والتعجب. كما أن سوسير أهمل علاقة العلامة بالواقع/المرجع (Référent)، وحدد أهمية العلامات انطلاقا من العلاقات الاختلافية والتعارضية على مستوى تجاور الدالات والمدلولات.
وبالإضافة إلى العلامة الاعتباطية، تحدث سوسير عن العلامة الرمزية/العرفية المتسمة بخاصيات معينة. يقول: "ومن خاصية الرمز ألا يكون أبدا اعتباطيا في سائر وجوهه؛ فهو ليس خاليا ولا فارغا من كل محتوى مادي. إذ لا تزال فيه بقيةٌ من علاقة طبيعية بين داله ومدلوله. فالرمز الذي يشير إلى العدالة... لا يمكن أن نستبدله بأي رمز آخر كالعربة مثلا".[70]
وعلى الرغم من الطابع الثنائي للدليل، فإننا عندما نطلق العلامة ينصرف ذهننا مباشرة إلى جانب الدال فحسب. يقول سوسير: "فنحن نطلق لفظ "العلامة" على تركيب التصور والصورة السمعية. إلا أنه بوجه عام جرت عادة استخدام هذا المصطلح من حيث إنه يقصد به الصورة السمعية (أو الدال) وحْدَها، كما في لفظ شجرة ((ARBOR. وقد ننسى أنه إذا كان هذا اللفظ (ARBOR) يسمى علامة، فذلك راجع إلى كونه يحمل تصورا «للشجرة» حتى إن المعنى المحسوس أصبح يقتضي الفكرة الكلية".[71]
ومهما كان الأمر، فقد أسهم سوسير –بشكل كبير- في إرساء أسس السيميائيات الحديثة، ورسم صُواها البارزة. وكان لأفكاره واجتهاداته أثر كبيرٌ فيمن تلاه من السيميولوجيين واللسانيين.
جـ) سيميولوجيا التواصل :
بالنظر إلى أهمية التواصل (Communication) في الحياة الإنسانية، نشأ اتجاه في السيميائيات يعنى -أساسا- بالوظيفة الخاصة بالبنيات السيميوطيقية (أي التواصل). يقول ميتز : "تقترح سيميولوجيا التواصل –مبدئيا- دراسة اللغات التي أَسْميتها في موضع آخر "المتخصصة" (Spécialisés)؛ أي دراسة عدد من الحقول حيث اللغةُ والسنن/الشفرة (Code) يختلطان مؤقتا، قبل أن يتقلص العمل الاجتماعي للغة كلها –عمليا- إلى سَنَن واحد".[72] ومن رواد هذا الاتجاه إيريك بويسنس ولويس برييطو..
يرى بويسنس أن بالإمكان تعريف السيميولوجيا بوصفها دراسة طرق التواصل، أي دراسة الإواليات (Mécanismes) المستخدَمة لإحداث التأثير في الغير، والمعترَف بها -بتلك الصفة– من قبل الشخص الذي نتوخى التأثير فيه. إذاً، فعنصر التواصل هو الموضوع الرئيس في هذه السيميولوجيا، وخاصة "التواصل الإنساني".
ويرى برييطو أن استعمال العلامات هو –وحده- الذي يحدد التواصل؛ بحيث يمكن الحديث عن فعل تواصلي أو فعل سيمي في كل لحظة يحاول فيها مرسِل (Distinateur) –وهو في طور إنتاج علامة ما- إمداد مرسَل إليه (Distinataire) بأَمَارة أو إشارة معينة (Indication). ويميز برييطو بين أمارات ثلاثٍ كالآتي:
* الأمارات العفوية: مثل لون السماء الذي ينْبئ –بالنسبة إلى صياد السمك- بحالة البحر في اليوم الموالي.
* الأمارات العفوية المغلوطة: مثل اللُّكنة التي ينتحلها متكلم ما رغبة منه في إيهامنا بأنه أجنبي.
* الأمارات القصدية: مثل علامات المرور. وتدعى هذه الأمارات علامات (Signes).
وموضوع السيميولوجيا –في نظر برييطو- هو العلامات القائمة على القصدية التواصلية. ولهذا سميت هذه السيميولوجيا "بسيميولوجيا التواصل". وهي حلْقة مهمة في سلسلة تطور السيميائيات الحديثة، نظرا إلى أهمية موضوعها ومجالها.
د) سيميولوجيا الدلالة :
لما كانت الأشياء تحمل دلالات وكانت للدلالة أهمية خطيرة في الواقع، فقد نشأ في مجال السيميائيات تيار يبحث في هذا الأمر؛ وهو تيار يعزى إلى الفرنسي رولان بارث الذي أوضح أن جانبا هاما من البحث السيميولوجي المعاصر مرده –بدون انقطاع- إلى مسألة الدلالة.
تؤكد التجربة أن –بالإمكان- إنتاج الدلالة وتحقيق فعل التواصل بواسطة الأنساق السيميولوجية اللغوية وغير اللغوية. ولعل هذا ما حذا ببارث إلى أن يُسْنِد مهمة التواصل إلى أنساق اللغة وإلى الأشياء (Choses) على حد سواء. ويرى بارث أن اللغة هي مؤول كل الأنساق أيا كان نوعها.
وإذا كان سوسير يستخدم مصطلحات "العلامة" (Signe) و"الدال (Signifiant) و"المدلول" (Signifié)، فإن بارث قد استعمل –مكانَها- مصطلحات "الدلالة" (Signification) و"التعبير" (Expression) و"المحتوى" (Contenu). ويقسم بارث –في مقال "عناصر السيميولوجيا" الصادر عام 1964- الدلالة إلى دلالة حقيقية تعيينية (Dénotation) ودلالة مجازية إيحائية (Connotation). كما قلَب الرجل نفسُه المعادلة السوسيرية الشهيرة فيما يخص طبيعة علاقة السيميولوجيا باللسانيات.
ولم يفلت الطرح البارثي من سهام النقد، إذ وجهت إليه عدة انتقادات من قبل أنصار سيميولوجيا التواصل الذين عدوا ما أتى به بارث مجرد تجلٍّ بسيط. وهذا لا ينقص من قيمة جهود بار
- محمدمشرف مرسى الرياضة
- البلد :
عدد المساهمات : 7229
نقاط تميز العضو : 205083
تاريخ التسجيل : 10/12/2009
رد: المنهج السيميائي
13/01/11, 04:51 pm
بحث قيم ورائع
جزاك الله خيرا
جزاك الله خيرا
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى