- إسماعيل سعديمدير الموقع
- البلد :
الجنس :
عدد المساهمات : 3758
نقاط تميز العضو : 150694
تاريخ التسجيل : 03/04/2009
من تأنيث القصيدة
01/01/11, 01:56 pm
كاتب الموضوع: الدكتور عبد الله الغذامي - 02-02-2006
من "تأنيث القصيدة".. د. عبد الله محمد الغذامي .
لا أظننا قد تبينا المعنى العميق لكون الفتح الشعري الحديث قد تم على يد امرأة.
ففي عام 1947 وقعت الكوليرا في مصر، وهناك في بغداد وقعت كوليرا أخرى.
إحداهما مرض قاتل وموت، والأخرى انتفاضة ومشروع إحياء.
هذه مسألة معروفة في تاريخها وتاريخ ما أعقبها من نقاشات ومجادلات ملأن صفحات ديوان العرب الحديث.
والكل يعرف حكاية قصيدة الكوليرا لنازك الملائكة وعلاقتها بوباء الكوليرا الذي أصاب مصر عام 1947 ثم ما جرى من جدل طويل حول انطلاقة الشعر الحر وبدايته وريادته، مما هو معروف القول والبحث.
ولكن موضوعنا هنا هو في طرح الأسئلة حول هذه الحادثة الثقافية وارتباطها ارتباطاً مركزياً بنازك الملائكة.
أقصد نازك المرأة الأنثى التي حطمت أهم رموز الفحولة وأبرز علامات الذكورة وهو عمود الشعر.
هذا هو السؤال الذي لم نتنبه إليه ولم نقف عنده ولم نطرحه على أنفسنا.
فكيف حدث هذا من أنثى، والأنثى في المعتاد الثقافي مجرد كائن تابع وضعيف وعاجز؟
ثم ماذا جرى بعد هذا الاغتصاب والانتهاك الجريء ضد عمود الفحولة؟
2- الشعر شيطان ذكر – كما يقول أبو النجم العجلي – وهو جمل بازل – كما يقول الفرزدق – والجمل البازل هو الفحل المكتمل، وبما أنه كذلك فهو طعام الفحول. والفحول طبقات وأعلى هذه الطبقات هي مقام الرجال الأوائل أهل الكمال والتمام. وكل من جاء بعدهم فهو أقل منهم وتتقلص المنزلة جيلاً بعد جيل حتى ذلك اليوم الذي لا يبقى فيه للاحقين أي ميزة أو فضل على سابقيهم، لأن الأول ما ترك للآخر شيئاً منذ أن أكل الفحول الجمل البازل وراح الشعر كله والمعنى كله في بطن الشاعر الأول، فحل الفحول.
وليس للأنثى بوصفها كائناً ناقصا أي نصيب من لحم الجمل أو من همسات شيطان الشعر فالجمل ذكر منحاز إلى جنسه من الذكور والشيطان لا يجالس إلا الفحول لأنه ذكر وليس أنثى. ولذا صارت العبقرية الإبداعية تسمى "فحولة" وليس في الإبداع (أنوثة)، وإذا ما ظهرت امرأة واحدة نادرة وقالت بعض شعر فلابد لها أن تستفحل ويشهد لها أحد الفحول مؤكداً فحوليتها وعدم أنوثيتها لكي تدخل على طرف صفحات ديوان العرب وتتوارى تحت عمود الفحولة، هذا ما جرى للخنساء وهو مثال واحد يتيم لم يتكرر في ثقافة الشعر على مدى لا يقل عن خمسة عشر قرناً.
هذا هو المشهد الثقافي الذي يطغى على ذاكرة الثقافة قبل ظهور نازك الملائكة في عام 1947.
ومن هنا فإن ظهور هذه المرأة في هذا الوقت ليس بالشيء العادي وليس بالشيء الطبيعي – إذا فسرنا مفهوم الطبيعي بناء على المعطي الثقافي وليس المعطى الفطري.
والوقائع تؤكد ان الحدث لم يكن عاديا. وهذا أمر نستطيع استكشافه من خلال ردود الفعل على مشروع نازك الملائكة . وقد جاءت الردود بوصفها بعض أدوات الفحولة في الدفاع عن ثقافة الفحول وأخذت بالتسلسل التالي:
أ) كان أول رد فعل مضاد وأبرزه هو إنكار الأولية على نازك، وقد كتبت بحوث كثيرة ودراسات متعددة، كتبها رجال فحول ينكرون عليها الأولية وينفون عنها الريادة ويؤكدون ان قصيدة الكوليرا لم تكن القصيدة الأولى في اختراق نظام عمود الشعر وعروضه المذكر، وينسبون ذلك إلى رجال سابقين عليها أو معاصرين لها.
المهم عندهم هو منع هذه الأنثى من شرف الريادة ، بمعنى ان الفحولة لا يكسرها إلا فحل، أما الأنثى فليس لها إلا أن تكون تابعة لا رائدة ولا عاجزة ولا قادرة وتظل الأنثى أنثى وليس لها مكان في فنون الفحول.
ب) كانت هذه واحدة من أدوات الفحولة في مكافحة تلك الآفة المؤنثة، ولعل الثقافة بحسها المذكر لم تكن على ثقة تامة من نجاح خطتها الأولى في إنكار أولية هذه المرأة المدعوة بنازك الملائكة فأتبعت الثقافة متمثلة برجالها الفحول هجومها على هذه الأنثى بحيلة أخرى، وجرى القول بأن قصيدة الكوليرا ليست قصيدة حرة ، وأنها – فحسب – نوع من أنواع الموشحات.
وهذه حيلة خبيثة قال بها أحد المستشرقين مانحاً خدماته للدفاع عن فحولة الضاد.
ولو نجحت هذه الحيلة فستكون الريادة حينئذ من نصيب أحد الفحول وتحديداً بدر شاكر السياب وسيجري طرد المرأة عن هذا الرف المذكور.
ج) وتأتي الحيلة الثالثة في الدعوى التي تقول أن قصيدة نازك الكوليرا ليست سوى تغيير عروضي، وهذا أمر لا يعبأ به، والأهم هو التغيير الفني، وهذا في زعمهم لم يحدث إلا بعد سنة من الكوليرا أي في عام 1948 في قصائد مثل "في السوق القديم" للسياب، و"الخيط المشدود لشجرة السرو" و"الافعوان" لنازك.
وهذا مسعى يهدف الى زحزحة الحدث وتحييد مفعوله ونقله من فعل التكسير الحسي لعمود الشعر المتمثل بقصيدة الكوليرا إلى التغيير الفني الذي يغفل مسألة التكسير ورمزيتها.
إنها محاولة لمداراة المعنى العميق لحادثة كسر عمود الفحولة على يد أنثى، وبالتالي فهو حفاظ على ماء وجه الفحولة وتستر على حادثة الانتهاك، وإلغاء هذه الواقعة من الذاكرة بواسطة تهوين أمرها وسلب المعنى الدال منها. وبذا لن تكون المرأة سوى واحدة من آخرين أسهموا في تغيير مضامين الشعر، وكلهم رجال يفعلون فعل الرجال وهي تفعل فعلهم كشان جدتها الخنساء مع فحول زمانها.
د) ثم أخيراً يأتينا فحل آخر أحس ان الدفاعات الأولى كلها لم تكن كافية لحماية الفحولة والثقافة الذكورية فلعب لعبة متمادية في دهائها، فراح يعطي نازك الملائكة الحق في الشاعرية ولكنه ينكر عليها تجرؤها على التنظير للحركة الشعرية ، ويروح يسخر من أفكارها النقدية ومن رؤاها الفكرية ويقرعها تقريعاً لاذعاً على كل رأي رأته أو قول قالت به أو قاعدة أسندت إليها أو قانون اكتشفته ، وكأنه يقول لها مالك ومال شغل الرجاجيل ؟
وأن تكون المرأة شاعرة فهذا أهون على الفحولة من أن تكن منظرة وناقدة وصاحبة رأي وفكرة ونظرية.
هذه دفاعات أربعة لا يعجزنا أن نلاحظ البنية العسكرية فيها، فهي تماثل الخطوط العسكرية من خط دفاع أول ثم ثان إلى رابع، وكل خط يكون أكثر تحصيناً وأقوى احتياطا من سابقه، والفكر العسكري بوصفه أبلغ أنواع الفحولة وأشدها ذكورية هو ما يدير دائرة الحوار الذي هو علمي في ظاهره ولكنه في جوهره ليس سوى خطاب فحولي استنهض ذاته وحكحك أدواته وأسنة أقلامه لمكافحة هذه الأنثى المتجرئة على سلطان الفحولة وعمودها الراسخ.
3-
ماذا فعلت نازك بعمود الفحولة؟
في ظاهر الأمر لم تكن المسألة سوى تغيير عروضي تجريبي، هذا ما يبدو على سطح قصيدة الكوليرا المنشورة في أواخر عام 1947.
ولقد تعامل الدارسون مع هذا المستوى السطحي التجريبي وانطلقت الدراسات تحوم حول هذا الأساس العروضي والفني الخاص، وكأن المسألة مسألة تجديد أدبي شعري لا أكثر. ولقد أسهمت نازك الملائكة نفسها بتغذية هذا المنطلق الفني الصرف ، ربما لأنها لم تكن تعي أبعاد فعلتها وخطورة ما أقدمت عليه، بسبب هيمنة النسق الثقافي، الذي هو نسق ذكوري، عليها، وتطبعها بشروط هذا النسق المذكر وخضوعها لذهنيته.
ولربما أنها كانت تعي أبعاد فعلتها فتظاهرت بعكس ذلك وأوحت للفحول أنها ليست سوى شاعرة حديثة تسعى إلى تجديد ديوان العرب ومد يد مؤنثة تعاضد الفحول في مسعاهم التطويري. وهذه لعبة – لا شك – ان المرأة المثقفة لجأت إليها دائماً، لتحتمي بها وهذا ما تكشف عنه إحدى رسائل مي زيادة إلى باحثة البادية حيث نقرأ قولها: أسيادنا الرجال.. أقول "أسيادنا" مراعاة بل تحفظاً من أن ينقل حديثنا إليهم فيظنوا أن النساء يتآمرن عليهم . فكلمة "أسيادنا تخمد نار غضبهم . إني رأيتهم يطربون لتصريحنا بأنهم ظلمة مستبدون . "
هذا قناع ثقافي وقائي تستعمله المرأة لكي تعبر ذلك الطريق الطويل الشائك وسط إمبراطورية الفحولة. ويبدو ان نازك الملائكة قد تدرعت بهذا الوقاء لكي تتمكن من حماية مشروعها من غضبة فحولية مدمرة.
لكن ما أقدمت عليه نازك لم يكن مجرد تغيير فني، ولو كان كذلك لتساوى عملها مع أعمال كثيرة جاء بها تاريخ الأدب وسجلت أدوارها التغيرية في حدود الشرط الفني لا أكثر.
إن عمل نازك كان مشروعاً أنثوياً من أجل تأنيث القصيدة. وهذا لم يكن ليتم لو لم تعمد – أولاً – إلى تهشيم العمود الشعري، وهو عمود مذكر، عمود الفحولة.
ولقد أقدمت على ذلك ببصيرة تعي حدودها وتعرف حقوقها فأخذت نصف بحور الشعر.. والنصف دائماً هو نصيب الأنثى . ولذا فإن نازك لم تطمع بما هو ليس حقاً لها.
أخذت ثمانية بحور هي الرجز والكامل والرمل والمتقارب والمتدارك والهزج، ومعها السريع والوافر. وتركت الثمانية الأخرى.
وفي هذا الأخذ والترك علامات واضحة على مشروع التأنيث، فالمأخوذ هو النصف ، والنصف هو نصيب الأنثى .
كما أن البحور الثمانية المختارة تحمل سمات الأنوثة. من حيث كونها قابلة للتمدد والتقلص كشأن الجسد المؤنث الذي هو جسد مرن يزداد وينقص حسب الشرط الحيوي في تولد الحياة فيه وتمددها من داخله وانبثاقها منه، ثم يعود فيتقلص وتستمر فيه سمة قبوله للزيادة والنقص وقدرته على النزف دون أن يفقد حياته. وهذه الصفة تتوفر في البحور الثمانية المختارة ، فهي بحور تقبل الزيادة والنقصان والتمدد والتقلص والتكرر عبر التصرف بالتفعيلة الواحدة زيادة ونقصاً. هي واحدة متكررة كحالة الجسد المؤنث إذ تنبثق منه أجساد وأجساد تتكرر.
كما أن هذه البحور الثمانية هي بحور شعبية متواضعة وقريبة ، فهي من الناس وللناس ، فيها البساطة والليونة والخفة.
أما البحور الأخرى كالطويل والمديد والمنسرح وغيرها، فهي بحور الفحول، فيها سمات الفحولة وجهوريتها وصلابتها، وفيها من الجسد المذكر كونه لا يقبل التمدد والتقلص وكونه عموداً صلباً راسخاً لا ينزف ولا ينتفخ.
ولقد حاول الشعراء الرجال إدخال البحور المذكرة إلى القصيدة الحديثة فلم يفلحوا في ذلك، فالقصيدة الحديثة تأبى التذكر وهي في صدد التأنث
وممن حاولوا ذلك السياب وأودونيس وقبلهما أبو حديد وطه حسين.
ولقد أكثرت نازك من الحديث عن هذه القسمة، وتكلمت بشغف واضح عن البحور الصافية، أي البحور المؤنثة. في مقابل الأوزان المشبعة بالتسلط والرسمية والعمودية ، تلك التي يقوم عليها عمود الفحولة والنظام الأبوي الصارم .
إن نازك الملائكة في عملها هذا تتصدى لتكسير العمود والنسق الذهني المذكر الذي يقوم عليه الشعر، وتفعل هذا مستعينة بالنصف المؤنث من بحور العروض . وبواسطة هذا النصف الضعيف تواجه النصف القوي وتتصدى له وتقاومه . وتنجح اخيراً في ترسيخ البحور المؤنثة ، نصف العروض ، وتسكر العمود الكامل الذي فقد نصفه المذكر. وفتحت بذلك باباً عريضاً سيتسنى للقصيدة الحديثة أن تدخل عبره وتشرع في التأنيث بعد أن أنعتقت من عمود الفحولة الصارم .
لهذا واجهت نازك الملائكة كل أصناف المعارضات والاعتراضات من ممثلي الفحولة الثقافية ، لأنها امرأة تصدت للعمود وتولت تكسيره عمداً وعن سابق إصرار . لم تكتف بكتابة الشعر وتجريب أوزان العروض ، بل أشبعت ذلك بالتنظير والتخطيط والتفكير والتدبير، ومارست الأمر والنهى والجهر بالرأي والجرأة في المواجهة ، وهذه كلها صفات لم تكن معروفة عن الأنثى في ذاكرة ثقافة الرجاجيل .
من "تأنيث القصيدة".. د. عبد الله محمد الغذامي .
لا أظننا قد تبينا المعنى العميق لكون الفتح الشعري الحديث قد تم على يد امرأة.
ففي عام 1947 وقعت الكوليرا في مصر، وهناك في بغداد وقعت كوليرا أخرى.
إحداهما مرض قاتل وموت، والأخرى انتفاضة ومشروع إحياء.
هذه مسألة معروفة في تاريخها وتاريخ ما أعقبها من نقاشات ومجادلات ملأن صفحات ديوان العرب الحديث.
والكل يعرف حكاية قصيدة الكوليرا لنازك الملائكة وعلاقتها بوباء الكوليرا الذي أصاب مصر عام 1947 ثم ما جرى من جدل طويل حول انطلاقة الشعر الحر وبدايته وريادته، مما هو معروف القول والبحث.
ولكن موضوعنا هنا هو في طرح الأسئلة حول هذه الحادثة الثقافية وارتباطها ارتباطاً مركزياً بنازك الملائكة.
أقصد نازك المرأة الأنثى التي حطمت أهم رموز الفحولة وأبرز علامات الذكورة وهو عمود الشعر.
هذا هو السؤال الذي لم نتنبه إليه ولم نقف عنده ولم نطرحه على أنفسنا.
فكيف حدث هذا من أنثى، والأنثى في المعتاد الثقافي مجرد كائن تابع وضعيف وعاجز؟
ثم ماذا جرى بعد هذا الاغتصاب والانتهاك الجريء ضد عمود الفحولة؟
2- الشعر شيطان ذكر – كما يقول أبو النجم العجلي – وهو جمل بازل – كما يقول الفرزدق – والجمل البازل هو الفحل المكتمل، وبما أنه كذلك فهو طعام الفحول. والفحول طبقات وأعلى هذه الطبقات هي مقام الرجال الأوائل أهل الكمال والتمام. وكل من جاء بعدهم فهو أقل منهم وتتقلص المنزلة جيلاً بعد جيل حتى ذلك اليوم الذي لا يبقى فيه للاحقين أي ميزة أو فضل على سابقيهم، لأن الأول ما ترك للآخر شيئاً منذ أن أكل الفحول الجمل البازل وراح الشعر كله والمعنى كله في بطن الشاعر الأول، فحل الفحول.
وليس للأنثى بوصفها كائناً ناقصا أي نصيب من لحم الجمل أو من همسات شيطان الشعر فالجمل ذكر منحاز إلى جنسه من الذكور والشيطان لا يجالس إلا الفحول لأنه ذكر وليس أنثى. ولذا صارت العبقرية الإبداعية تسمى "فحولة" وليس في الإبداع (أنوثة)، وإذا ما ظهرت امرأة واحدة نادرة وقالت بعض شعر فلابد لها أن تستفحل ويشهد لها أحد الفحول مؤكداً فحوليتها وعدم أنوثيتها لكي تدخل على طرف صفحات ديوان العرب وتتوارى تحت عمود الفحولة، هذا ما جرى للخنساء وهو مثال واحد يتيم لم يتكرر في ثقافة الشعر على مدى لا يقل عن خمسة عشر قرناً.
هذا هو المشهد الثقافي الذي يطغى على ذاكرة الثقافة قبل ظهور نازك الملائكة في عام 1947.
ومن هنا فإن ظهور هذه المرأة في هذا الوقت ليس بالشيء العادي وليس بالشيء الطبيعي – إذا فسرنا مفهوم الطبيعي بناء على المعطي الثقافي وليس المعطى الفطري.
والوقائع تؤكد ان الحدث لم يكن عاديا. وهذا أمر نستطيع استكشافه من خلال ردود الفعل على مشروع نازك الملائكة . وقد جاءت الردود بوصفها بعض أدوات الفحولة في الدفاع عن ثقافة الفحول وأخذت بالتسلسل التالي:
أ) كان أول رد فعل مضاد وأبرزه هو إنكار الأولية على نازك، وقد كتبت بحوث كثيرة ودراسات متعددة، كتبها رجال فحول ينكرون عليها الأولية وينفون عنها الريادة ويؤكدون ان قصيدة الكوليرا لم تكن القصيدة الأولى في اختراق نظام عمود الشعر وعروضه المذكر، وينسبون ذلك إلى رجال سابقين عليها أو معاصرين لها.
المهم عندهم هو منع هذه الأنثى من شرف الريادة ، بمعنى ان الفحولة لا يكسرها إلا فحل، أما الأنثى فليس لها إلا أن تكون تابعة لا رائدة ولا عاجزة ولا قادرة وتظل الأنثى أنثى وليس لها مكان في فنون الفحول.
ب) كانت هذه واحدة من أدوات الفحولة في مكافحة تلك الآفة المؤنثة، ولعل الثقافة بحسها المذكر لم تكن على ثقة تامة من نجاح خطتها الأولى في إنكار أولية هذه المرأة المدعوة بنازك الملائكة فأتبعت الثقافة متمثلة برجالها الفحول هجومها على هذه الأنثى بحيلة أخرى، وجرى القول بأن قصيدة الكوليرا ليست قصيدة حرة ، وأنها – فحسب – نوع من أنواع الموشحات.
وهذه حيلة خبيثة قال بها أحد المستشرقين مانحاً خدماته للدفاع عن فحولة الضاد.
ولو نجحت هذه الحيلة فستكون الريادة حينئذ من نصيب أحد الفحول وتحديداً بدر شاكر السياب وسيجري طرد المرأة عن هذا الرف المذكور.
ج) وتأتي الحيلة الثالثة في الدعوى التي تقول أن قصيدة نازك الكوليرا ليست سوى تغيير عروضي، وهذا أمر لا يعبأ به، والأهم هو التغيير الفني، وهذا في زعمهم لم يحدث إلا بعد سنة من الكوليرا أي في عام 1948 في قصائد مثل "في السوق القديم" للسياب، و"الخيط المشدود لشجرة السرو" و"الافعوان" لنازك.
وهذا مسعى يهدف الى زحزحة الحدث وتحييد مفعوله ونقله من فعل التكسير الحسي لعمود الشعر المتمثل بقصيدة الكوليرا إلى التغيير الفني الذي يغفل مسألة التكسير ورمزيتها.
إنها محاولة لمداراة المعنى العميق لحادثة كسر عمود الفحولة على يد أنثى، وبالتالي فهو حفاظ على ماء وجه الفحولة وتستر على حادثة الانتهاك، وإلغاء هذه الواقعة من الذاكرة بواسطة تهوين أمرها وسلب المعنى الدال منها. وبذا لن تكون المرأة سوى واحدة من آخرين أسهموا في تغيير مضامين الشعر، وكلهم رجال يفعلون فعل الرجال وهي تفعل فعلهم كشان جدتها الخنساء مع فحول زمانها.
د) ثم أخيراً يأتينا فحل آخر أحس ان الدفاعات الأولى كلها لم تكن كافية لحماية الفحولة والثقافة الذكورية فلعب لعبة متمادية في دهائها، فراح يعطي نازك الملائكة الحق في الشاعرية ولكنه ينكر عليها تجرؤها على التنظير للحركة الشعرية ، ويروح يسخر من أفكارها النقدية ومن رؤاها الفكرية ويقرعها تقريعاً لاذعاً على كل رأي رأته أو قول قالت به أو قاعدة أسندت إليها أو قانون اكتشفته ، وكأنه يقول لها مالك ومال شغل الرجاجيل ؟
وأن تكون المرأة شاعرة فهذا أهون على الفحولة من أن تكن منظرة وناقدة وصاحبة رأي وفكرة ونظرية.
هذه دفاعات أربعة لا يعجزنا أن نلاحظ البنية العسكرية فيها، فهي تماثل الخطوط العسكرية من خط دفاع أول ثم ثان إلى رابع، وكل خط يكون أكثر تحصيناً وأقوى احتياطا من سابقه، والفكر العسكري بوصفه أبلغ أنواع الفحولة وأشدها ذكورية هو ما يدير دائرة الحوار الذي هو علمي في ظاهره ولكنه في جوهره ليس سوى خطاب فحولي استنهض ذاته وحكحك أدواته وأسنة أقلامه لمكافحة هذه الأنثى المتجرئة على سلطان الفحولة وعمودها الراسخ.
3-
ماذا فعلت نازك بعمود الفحولة؟
في ظاهر الأمر لم تكن المسألة سوى تغيير عروضي تجريبي، هذا ما يبدو على سطح قصيدة الكوليرا المنشورة في أواخر عام 1947.
ولقد تعامل الدارسون مع هذا المستوى السطحي التجريبي وانطلقت الدراسات تحوم حول هذا الأساس العروضي والفني الخاص، وكأن المسألة مسألة تجديد أدبي شعري لا أكثر. ولقد أسهمت نازك الملائكة نفسها بتغذية هذا المنطلق الفني الصرف ، ربما لأنها لم تكن تعي أبعاد فعلتها وخطورة ما أقدمت عليه، بسبب هيمنة النسق الثقافي، الذي هو نسق ذكوري، عليها، وتطبعها بشروط هذا النسق المذكر وخضوعها لذهنيته.
ولربما أنها كانت تعي أبعاد فعلتها فتظاهرت بعكس ذلك وأوحت للفحول أنها ليست سوى شاعرة حديثة تسعى إلى تجديد ديوان العرب ومد يد مؤنثة تعاضد الفحول في مسعاهم التطويري. وهذه لعبة – لا شك – ان المرأة المثقفة لجأت إليها دائماً، لتحتمي بها وهذا ما تكشف عنه إحدى رسائل مي زيادة إلى باحثة البادية حيث نقرأ قولها: أسيادنا الرجال.. أقول "أسيادنا" مراعاة بل تحفظاً من أن ينقل حديثنا إليهم فيظنوا أن النساء يتآمرن عليهم . فكلمة "أسيادنا تخمد نار غضبهم . إني رأيتهم يطربون لتصريحنا بأنهم ظلمة مستبدون . "
هذا قناع ثقافي وقائي تستعمله المرأة لكي تعبر ذلك الطريق الطويل الشائك وسط إمبراطورية الفحولة. ويبدو ان نازك الملائكة قد تدرعت بهذا الوقاء لكي تتمكن من حماية مشروعها من غضبة فحولية مدمرة.
لكن ما أقدمت عليه نازك لم يكن مجرد تغيير فني، ولو كان كذلك لتساوى عملها مع أعمال كثيرة جاء بها تاريخ الأدب وسجلت أدوارها التغيرية في حدود الشرط الفني لا أكثر.
إن عمل نازك كان مشروعاً أنثوياً من أجل تأنيث القصيدة. وهذا لم يكن ليتم لو لم تعمد – أولاً – إلى تهشيم العمود الشعري، وهو عمود مذكر، عمود الفحولة.
ولقد أقدمت على ذلك ببصيرة تعي حدودها وتعرف حقوقها فأخذت نصف بحور الشعر.. والنصف دائماً هو نصيب الأنثى . ولذا فإن نازك لم تطمع بما هو ليس حقاً لها.
أخذت ثمانية بحور هي الرجز والكامل والرمل والمتقارب والمتدارك والهزج، ومعها السريع والوافر. وتركت الثمانية الأخرى.
وفي هذا الأخذ والترك علامات واضحة على مشروع التأنيث، فالمأخوذ هو النصف ، والنصف هو نصيب الأنثى .
كما أن البحور الثمانية المختارة تحمل سمات الأنوثة. من حيث كونها قابلة للتمدد والتقلص كشأن الجسد المؤنث الذي هو جسد مرن يزداد وينقص حسب الشرط الحيوي في تولد الحياة فيه وتمددها من داخله وانبثاقها منه، ثم يعود فيتقلص وتستمر فيه سمة قبوله للزيادة والنقص وقدرته على النزف دون أن يفقد حياته. وهذه الصفة تتوفر في البحور الثمانية المختارة ، فهي بحور تقبل الزيادة والنقصان والتمدد والتقلص والتكرر عبر التصرف بالتفعيلة الواحدة زيادة ونقصاً. هي واحدة متكررة كحالة الجسد المؤنث إذ تنبثق منه أجساد وأجساد تتكرر.
كما أن هذه البحور الثمانية هي بحور شعبية متواضعة وقريبة ، فهي من الناس وللناس ، فيها البساطة والليونة والخفة.
أما البحور الأخرى كالطويل والمديد والمنسرح وغيرها، فهي بحور الفحول، فيها سمات الفحولة وجهوريتها وصلابتها، وفيها من الجسد المذكر كونه لا يقبل التمدد والتقلص وكونه عموداً صلباً راسخاً لا ينزف ولا ينتفخ.
ولقد حاول الشعراء الرجال إدخال البحور المذكرة إلى القصيدة الحديثة فلم يفلحوا في ذلك، فالقصيدة الحديثة تأبى التذكر وهي في صدد التأنث
وممن حاولوا ذلك السياب وأودونيس وقبلهما أبو حديد وطه حسين.
ولقد أكثرت نازك من الحديث عن هذه القسمة، وتكلمت بشغف واضح عن البحور الصافية، أي البحور المؤنثة. في مقابل الأوزان المشبعة بالتسلط والرسمية والعمودية ، تلك التي يقوم عليها عمود الفحولة والنظام الأبوي الصارم .
إن نازك الملائكة في عملها هذا تتصدى لتكسير العمود والنسق الذهني المذكر الذي يقوم عليه الشعر، وتفعل هذا مستعينة بالنصف المؤنث من بحور العروض . وبواسطة هذا النصف الضعيف تواجه النصف القوي وتتصدى له وتقاومه . وتنجح اخيراً في ترسيخ البحور المؤنثة ، نصف العروض ، وتسكر العمود الكامل الذي فقد نصفه المذكر. وفتحت بذلك باباً عريضاً سيتسنى للقصيدة الحديثة أن تدخل عبره وتشرع في التأنيث بعد أن أنعتقت من عمود الفحولة الصارم .
لهذا واجهت نازك الملائكة كل أصناف المعارضات والاعتراضات من ممثلي الفحولة الثقافية ، لأنها امرأة تصدت للعمود وتولت تكسيره عمداً وعن سابق إصرار . لم تكتف بكتابة الشعر وتجريب أوزان العروض ، بل أشبعت ذلك بالتنظير والتخطيط والتفكير والتدبير، ومارست الأمر والنهى والجهر بالرأي والجرأة في المواجهة ، وهذه كلها صفات لم تكن معروفة عن الأنثى في ذاكرة ثقافة الرجاجيل .
- محمدمشرف مرسى الرياضة
- البلد :
عدد المساهمات : 7229
نقاط تميز العضو : 205023
تاريخ التسجيل : 10/12/2009
رد: من تأنيث القصيدة
01/01/11, 02:16 pm
مميز ما عرضته لنا
دمت متألقا
دمت متألقا
- إسماعيل سعديمدير الموقع
- البلد :
الجنس :
عدد المساهمات : 3758
نقاط تميز العضو : 150694
تاريخ التسجيل : 03/04/2009
رد: من تأنيث القصيدة
01/01/11, 02:45 pm
أشكر لك مرورك أخي محمد تقاربت أذواقنا لهذا المقال الممتاز للدكتور الغذامي .
- foufou90مشرفة المرسى العام
- البلد :
الجنس :
عدد المساهمات : 3749
نقاط تميز العضو : 148155
تاريخ التسجيل : 24/10/2009
العمر : 34
رد: من تأنيث القصيدة
01/01/11, 10:43 pm
كالعادة دائما تطرح كل ماهو قيم ومفيد
شكرا وبارك الله فيك اخي اسماعيل
وفقك الله
شكرا وبارك الله فيك اخي اسماعيل
وفقك الله
- إسماعيل سعديمدير الموقع
- البلد :
الجنس :
عدد المساهمات : 3758
نقاط تميز العضو : 150694
تاريخ التسجيل : 03/04/2009
رد: من تأنيث القصيدة
01/01/11, 10:58 pm
foufou90 كتب:كالعادة دائما تطرح كل ماهو قيم ومفيد
شكرا وبارك الله فيك اخي اسماعيل
وفقك الله
شاكر لك مرورك العطر أختي فوفو .
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى