- ناديسعضو مشارك
- البلد :
الجنس :
عدد المساهمات : 85
نقاط تميز العضو : 108541
تاريخ التسجيل : 17/03/2010
العمر : 37
الاْثر الاْرسطي في منهاج البلغاء لحازم القرطاجني
25/09/10, 10:38 pm
تمهيد:
إشكال التأثير الأرسطي، في النقد والبلاغة العربيين مر بمرحلتين مختلفتين:
المرحلة الأولى تمتد من سنة 1931 إلى سنة 1961 ؛ ففي سبتمبر سنة 1931 ألقى د. طه حسين بحثه البيان العربي من الجاحظ إلى عبد القاهر في مدينة ليدن بهولاندا أمام المؤتمر الثاني عشر لجماعة المستشرقين.
وقد قرر في هذا البحث أن أرسطو كان المعلم الأول للمسلمين في علم البيان، وهو بهذا أتي بما لم تأت به الأوائل من عرب ومستشرقين . فقبل بداية الثلاثينيات من القرن العشرين ، كان الاعتقاد السائد في أوساط الباحثين، أن البلاغة العربية كانت أصولها عربية وأن قضاياها ومفاهيمها ومباحثها ارتبطت بالتأمل في هندسة العبارة العربية، وبمعرفة وجوه إعجاز القرآن الكريم خاصة.
وهكذا زعزع د. طه حسين هذا الاعتقاد السائد، كما فعل ذلك الأستاد أمين الخولي في السنة نفسها ؛ فكانا المُشَرِّعَيْن الأوليْن لمسألة التأثير اليوناني في البيان العربي في مطلع الثلاثينين من القرن العشرين . وفتحا آفاقا واسعة للكشف عن الصلات الموجودة والممكنة والمتخيلة بين الثقافة اليونانية والبيان العربية. وأصبحت آراؤهما منطلقات لدراسات مقارنة لم تنته إلى يومنا هذا .
المرحلة الثانية تمتد من سنة 1961 إلى اليوم ؛ ففي سنة 1961 ظهر كتيب يحمل عنوان : حازم القرطاجني ونظريات أرسطو في البلاغة والشعر مع تحقيق قسم من "منهاج البلغاء وسراج الأدباء" [ وقد ضم ماورد في هذا الكتيب إلى كتاب : إلى طه حسين في عيد ميلاده السبعين ، الصادر سنة 1962 ] وذهب د. عبد الرحمن بدوي إلى أنه لم ير كتابا من كتب علماء البلغاء في القرون التالية حتى القرن السابع الهجري قد عرض لنظريات أرسطو في البلاغة والشعر ، وهكذا :
" فلأول مرة نجد في كتاب لأحد علماء البلاغة العربية الخُلَّص – أعني غير الفلاسفة - عرضا وإفادة من نظريات أرسطو في البلاغة والشعر، واستقصاء بالغا لها باهتمام وحسن فهم ورغبة في التطبيق على البلاغة العربية والشعر العربي" (1).
وفي سنة 1966 ظهر كتاب منهاج البلغاء وسراج الأدباء" لحازم القرطاجني (684هـ) محققا تحقيقا علميا ( بعدما نال به صاحبه محمد الحبيب ابن الخوجة درجة الدكتوراه من جامعة باريس في يونيو 1964 ، تحت إشراف المستشرق الفرنسي ريجيس بلاشير : 1900 - 1973). وقرر في مقدمة تحقيقه أنه قبل ظهور "المنهاج" كان من الصعب جدا التوصل إلى تقدير تأثيرات أرسطو على نقد الشعر عند العرب…
واليوم يمكننا أن نضع حدا للشك والغموض السابقين بالوقوف على كتاب حازم القرطاجني الأندلسي الذي… يصور بغاية الوضوح…، التأثيرات اليونانية في صناعة النقد عند العرب (2) .
وحازم عنده مرة أخرى " هو أول من أدخل نظريات أرسطو وتعرض لتطبيقها في كتب البلاغة العربية الخالصة" (3).
ويمكن القول إن مسألة التأثير الهيليني على البيان العربي، والتي رفع لواءها الليبراليون المصريون منذ مطالع الثلاثينيات؛ لم تحقق نتائج حاسمة على مستوى البحث العلمي، واتضح أن المنهج التاريخي المقارن الذي وظفه أصحاب القول بمسألة التأثير، لم يلتزم بمقررات المنهج ، وفي غياب النصوص التجأ أصحابه إلى بعض الافتراضات والظنون والتخمينات.
وبظهور منهاج البلغاء ، عادت مسألة التأثير اليوناني في البيان العربي إلى عنفوانها، ووجدت في حازم القرطاجني ضالتها. وقد ازدادت المسألة اتساعا وامتدادا بظهورثلاثة كتب أخرى ، هي :
- المنزع البديع في تجنيس أساليب البديع لأبي محمد القاسم السجلماسي، (عاش إلى حوالي سنة 730هـ) طبع الكتاب سنة 1980 بتحقيق د. علال الغازي
- وكتاب (الروض المريع في صناعة البديع لابن البناء المراكشي (721هـ)، طبع الكتاب سنة 1985 بتحقيق الأستاذ رضوان بنشقرون
- وكتاب التنبيهات على ما في التبيان من التمويهات لأبي المُطرف أحمد بن عَميرة ، تحقيق د. محمد ابن شريفة [ ط1 ، 1991 ] .
وهكذا شاع القول بوجود مدرسة مغربية متأثرة بنظريات النقد الأرسطي. وغايتي في هذه المقالة أن أتساءل هل كان حازم تلميذا لأرسطو ، وهل طبق نظرياته في النقد والبلاغة على التراث العربي ، كما ذهب إلى ذلك كثير من الباحثين ؟
أولا : حازم القرطاجني ومسألة التاثير الأرسطي في بعض الدراسات
لم تكن شخصية حازم النقدية والبلاغية معروفة لدى المستشرقين ولا لدى الباحثين العرب إلا في بداية الخمسينيات من القرن العشرين أي منذ سنة 1952.
1 - ففي سنة 1952م قدم عبد الفتاح شكري محمد عياد بحثاً لنيل الدكتوراه من كلية الآداب ، جامعة القاهرة ، تحت إشراف أمين الخولي ؛ موضوعها : كتاب أرسطوطاليس في الشعر ، نقل أبي بشر متى بن يونس القنائي من السرياني إلى العربي ، تحقيق مع ترجمة حديثة ودراسة تأثيره في البلاغة العربية) [ لم تنشر الأطروحة إلا سنة 1967] .
وكان من جملة ما هو جديد في هذه الأطروحة ، وقوف صاحبها على كتاب منهاج البلغاء وهو ما يزال مخطوطا . وقد تناوله بالدراسة أول مرة ، واعتبره قمة من قمم النقد الأدبي في اللغة العربية .
ورأى أن القيمة الحضارية للمنهاج يمكن أن تُقارن بالناحية التي سجلها ابن رشد في فلسفته ، وابن خلدون في بحثه الاجتماعي (4) .
وبعد أن استعرض الباحث مجمل موضوعات المنهاج قرر أن تأثير كتاب الشعرلأرسطو في منهاج البلغاء " عميق أشد العمق ، وأن حازماً قد جهد أن ينتفع بهذا الكتاب – أو بالصورة التي عرفها منه – أعظم الانتفاع " (5) .
ووجده في أحد فصول الكتاب ينقل كثيراً عن الفارابي وابن سينا ؛ مما جعل التأثير اليوناني واضحاً فيه ؛ وإن كان حازم لم يتصل اتصالاً مباشراً بالأدب اليوناني . ويعتقد د. شكري عياد أن كتاب المنهاج " التقى فيه التياران العربي واليوناني التقاء مثمراً ؛ وإن غلب عليه التيار اليوناني " (6) .
2 – وفي سنة 1955 تناول د. عز الدين إسماعيل مسألة التأثير الأرسطي في إطار بحثه عن الأسس الجمالية في النقد العربي ؛ فلم يجد له تأثيراً إيجابيا لاعتبارات أهمها :
- أن الشعر العربي استوى ناضجاً في المرحلة الجاهلية ، قبل أن تستقبل البيئات العربية الثقافة الهيلينية .
- والترجمة لا تعني التأثير ؛ إذ لم تقم أدلة مادية تثبت أثر الأفكار المنقولة في عقول مستقبليها .
- ثم إن وجود التشابه لا يعني بالضرورة وجود التأثير .
ونبه الباحث إلى وجود تشابه في مسائل جزئية بين كتاب الشعر لأرسطو وكتاب المناهج الأدبية [ = منهاج البلغاء ] لحازم القرطاجني ( وكان ما يزال مخطوطا) ، ووجد فيه " مادة وفيرة لالتماس وجوه جديدة من التشابه بين المشكلات الأدبية التي تنولت عند اليونان وعند العرب ، وطريقة تناولها " (7).
3 – وفي سنة 1961 ، كما سبقة الإشارة إلى ذلك ، عثر د. عبد الرحمن بدوي على منهاج البلغاء لحازم القرطاجني ، فأخرج كتيبا بعنوان : حازم القرطاجني ونظريات أرسطو في البلاغة والشعر ، ثم أعاد نشره في كتاب " إلى طه حسين في عيد ميلاده السبعين ؛ الذي أشرف على نشره سنة 1962 .
وقد سبق للباحث أن ترجم كتاب الشعر لأرسطو عن اليونانية ، وحقق كتاب أرسطوطاليس في الشعر ( نقل أبي بشر متى بن يونس القنائي من السرياني إلى العربي ) ، وحقق التلخيصات التي وضعها الفارابي وابن سينا وابن رشد ، وتتبع ما كان لكتاب الشعر من إشعاع في النهضة الغربية الحديثة . وحين أراد البحث عن تأثيره في التراث العربي ؛ أحس بخيبة الأمل ، وقال : " لا يخرج المرء من قراءته لهذه التلخيصات …إلا بشعور أليم بخيبة الأمل في أن يكون العرب قد أفادوا منه كما أفادت أوربا في عصر النهضة " ( .
ولاحظ أن العقول العربية التي تناولت كتاب الشعر لم تقدم عنه صورة صحيحة ، ولم تهيئ السبل للإفادة منه والاقتداء به . ولو تحقق ذلك في رأيه " لكان وجه الأدب العربي قد تغير جميعه ، ومن يدري أيضا لعل وجه الثقافة العربية كلها أن يتغير تماما " (9) .
ويوم عثر على المنهاج انزاحت الحسرة عن نفسه ، ووجد لأول مرة كتاباً من القرن السابع عرض فيه صاحبه لنظريات أرسطو في البلاغة والنقد . وقرر أن حازما " هو أول من أدخل نظريات أرسطو وتعرَّض لتطبيقها في كتب العربية الخالصة " (10) .
ود. عبد الرحمن بدوي ، بعدما وجد من يُدخل نظريات أرسطو إلى الحقل العربي ، ويُطبقها في مجالي النقد والبلاغة العربيين ؛ تعود إليه الحسرة والأسف ؛ فيقول : " وياليت مَن أتوا بعده أخذوا عنه في ذلك . ولكنه واسفاه . لم ينسج واحد من بعده على منواله ، وظلت كتب البلاغة العربية الخالصة بمعزل عن أفكار أرسطو الخصبة الحية " (11) .
4 – وفي سنة 1966م ، ظهر كتاب منهاج البلغاء محققا من لدن محمد الحبيب ابن الخوجة . واعتبر المحقق ظهور الكتاب حسما لتباين الآراء في مسألة التأثير الأرسطي في النقد العربي ؛ فإذا كان د. إبراهيم سلامة يُسلم بوجود التأثيرات الهيلّيِنية على نقد الشعر لدى العرب في أطروحته : بلاغة أرسطو بين العرب واليونان [ ط1 ، 1950 ] ، وكان د. أمجد الطرابلسي يُنكر ذلك إطلاقا في أطروحته نقد الشعر عند العرب إلى نهاية القرن الخامس للهجرة [ ط1 بالفرنسية سنة 1956 ] ؛ فإنه يرى أن كتاب المنهاج يمثل التأثيرات اليونانية في صناعة النقد عند العرب ، وأنه " جمع بين المبادئ والأصول الهيلينية والعربية " . وكان صاحبه على " دراية عجيبة بالنظريات الهيلينية … ألمَّ بفلسفات سقراط وأفلاطون وأرسطوطاليس من خلال الترجمات العربية " (12) .
5 – وفي سنة 1968 م ، تناول د. بدوي طبانة في الطبعة الرابعة من كتابه البيان العربي جانبا من جهود المغاربة في خدمة البحث البياني ؛ ووجد في منهاج البلغاء لحازم اتجاها مباينا لمن سبقه وما عاصر من اتجاهات . فقال : " فيه يظهر بوضوح تأثير الثقافة اليونانية أكثر مما ظهر في كتابات غيره من المشارقة والمغاربة " (13) .
ويعتبر الباحث كتاب المنهاج غريباً عن تيار التفكير العربي ؛ ذلك أن الذين اطلعوا على آثار الفكر اليوناني من السابقين ؛ حافظوا على طابعهم الأصيل ، أما حازم فكان – في رأيه – بالغ التأثر بحكمة اليونان وفلسفتهم ومنطقهم ؛ فاستشهد كثيراً بكلام أرسطو معتمدا على تلخيص كل من ابن سينا وابن رشد لكتاب الشعر. بل يرى أن منهج الكتابة وأسلوبها هو المنهج الأرسططاليسي في تناول الفن الأدبي (14) .
6 – ومع ظهور كتاب د. إحسان عباس تاريخ النقد الأدبي عند العرب ، من القرن الثاني إلى القرن الثامن ، سنة 1971م ، أصبحت مسألة التأثير الأرسطي ترتبط بمُكوِّنات النقد العربي في جميع مراحله إلى نهاية القرن الثامن للهجرة . واعتبر حازما " آخر صلة بين كتاب أرسطو والنقد العربي " (15) . ووجده قد جمع بين الثقافتين " العربية واليونانية ؛ إلا أن ما لخصه ابن سينا من كتاب الشعر وما أحس به ابن سينا نفسه ؛ أمران أقنعا حازماً بأن القواعد اليونانية وحدها لا تستطيع أن تستغرق الشعر العربي بالحكم والتفسير (16) . وعموما لاحظ أن حازما " حاول أن يُفيد من الاتجاه الفلسفي المبني على كتاب أرسططاليس ، ومن آثار النقاد سواء منهم من تأثر بالثقافة اليونانية أو لم يتأثر " (17) .
7 – وفي سنة 1972م ، ظهر كتاب د. أحمد كمال زكي : النقد الأدبي الحديث ، وقرر فيه " أن النقد الأدبي عند العرب تمكن بما قدمه أرسطو من أن ينمو ويتعقد ويتشعب كما تشعب عند الإغريق " (18) . وذهب بدوره إلى أن حازما القرطاجني كان أكبر من طبق نظريات أرسطو النقدية على البلاغة العربية .
8 - وفي سنة 1973م حدد د. أحمد مطلوب في كتابه اتجاهات النقد الأدبي في القرن الرابع الهجري ؛ محاور النقد الأدبي في اتجاهات أربعة : النقد والبديع – النقد والإعجاز – النقد وأبو تمام – النقد والمتنبي . واستبعد الباحث النقد وأرسطو الذي جعله د. إحسان عباس محوراً ثابتا في تاريخ النقد العربي ؛ إذ لاحظ د. أحمد مطلوب أن " الاتجاه المتأثر بالثقافة اليونانية ، كان من أضعف التيارات ظهوراً في مجال التطبيق "(19).
وبالرغم من أن الباحث لم يكن مقتنعا في أعماله كلها في مجالات النقد والبلاعة بمسألة التأثير الأرسطي ، بل هو يعتبر مسألة التأثير هذه تعسفا وانحرافاً عن المنهج العلمي السليم ؛ إذ أن العرب عرفوا البلاغة وفنونها قبل أن يترجم كتابا أرسطو ( الشعر والخطابة ) ؛ فإنه قرر في كتابه مناهج بلاغية أن حازما كان متأثرا ببلاغة أرسطو وفلسفة اليونان، واعتبره " أول من عرض لنظريات أرسطو في الشعر والبلاغة عرضا واضحا وطبق كثيراً من مقاييسه … وكتاب منهاج البلغاء …أقرب إلى أصول البلاغة او فلسفتها ، وقد جنح فيه مؤلفه إلى … تطبيق نظريات أرسطو وآرائه على الأدب العربي " (20) .
وأرجع د. أحمد مطلوب إبداع حازم في المنهاج إلى تعمقه في البلاغة واطلاعه على كتب أرسطو والفارابي وابن سينا وفهمهما ؛ وأنه انفرد بالاستفادة من بلاغة أرسطو مع تطبيقها على الشعر العربي ، وكان كتابه آخر كتاب تأثر صاحبه بأرسطو تأثراً مباشراً " (21) .
9 – وفي سنة 1978م ، قرر د. جابر أحمد عصفور في كتابه : مفهوم الشعر ، دراسة في التراث النقدي أن حازما جمع بين الفلسفة والإنجازات النقدية العربية السابقة عليه ؛ وتبين د. جابر عصفور صورة الجهد الأرسطي وهي تخايل حازماً بقوة . وتتبع مظاهر التأثير الأرسطي في منهاج البلغاء من خلال التقاطعات الممكنة بين النقد الأرسطي والنقد العربي (22) .
وقد تقرر لديه في كتابه الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي ، الصادر سنة 1974 ؛ أن الفكر اليوناني أسهم في تعميق الخبرة عند العرب . وعموما سعى د. جابر عصفور في عمليه هذيْن أن يُقدم كشوفا للأصول الأرسطية في النقد العربي .
10 – وفي سنة 1980م ، ذهب د. منصور عبد الرحمن في أطروحته : مصادر التفكير النقدي البلاغي عند حازم ؛ إلى أنه منذ وقع نظره على منهاج البغاء فطن لأول وهلة إلى تأثره الواضح بالفكرة اليونانية . وانتهى إلى القول أن حازماً أعظم البلاغيين والنقاد الذين استطاعوا أن يزاوجوا بين الفكرة العربية والفكرة اليونانية في دراسة البلاغة والنقد ، وأنه حسم موضوع الخلاف بين الباحثين حول اتصال النقد العربي بالفكر اليوناني (23).
11 – وفي سنة 1980م أيضا ، عالج د. عصام قصبجي في أطروحته : نظرية المحاكاة في النقد العربي القديم ، فوصف حازماً بالتخبط بين النظرية اليونانية والتطبيق العربي . واعتبر بحثه تكراراً لأقوال من سبقه من النقاد ؛ أمثال الفارابي وابن سينا وعبد القاهر " دون أن يعني اطلاعه على أرسطو شيئا مذكوراً …لأنه لم يكن يأتي بجديد يُذكر في مبادئ النقد ؛ وإن كان أجاد عرض هذه المبادئ في ثوبها اليوناني حيناً ، والعربي حيناً آخر " (24) .
12 – وفي السنة نفسها ، ذهب د. سعد مصلوح في بحثه حازم القرطاجني ونظرية المحاكاة والتخييل في الشعر إلى أن حازما قد أفاد من نظريات ارسطو وسعى إلى تطبيقها على البلاغة العربية والشعر العربي (25) . واعتبره أول من حاول محاولة جادة موفقة في إقامة جسر تعبر عليه افكار ارسطو كما فهمها الفلاسفة … إلى الشعر العربي ومشكلاته (26) .
13 – وفي سنة 1984 م، وجد د. محيي الدين صبحي في كتابه نظرية النقد العربي وتطورها إلى عصرنا أن أنضج إدراك عربي لقضية النظرية النقدية المتأثرة بالفلسفة اليونانية ، خلال القرن السابع ، في كتاب منهاج البلغاء لحازم القرطاجني. وذهب إلى أن نظرية حازم تستمد قوتها من مزج قوي بين الفكر العربي والفكر اليوناني ؛ فهي أفكار الحضارتين في التجربة الأدبية (27) .
14 - وفي سنة 1986م ظهرت أطروحة د. صفوت عبد الله الخطيب بعنوان نظرية حازم القرطاجني النقدية والجمالية في ضوء التأثرات اليونانية ؛ تناول فيها – كما هو واضح من العنوان – نظرية حازم من منطلق التأثير اليوناني ؛ بحيث إن كل جزئية يتناولها يحاول أن يردها إلى النقد اليوناني أو يبحث عن جذور لها في النقد العربي. وكان أمله أن يحسم في " قضية ألح عليها عدد من الباحثين … وهي قضية التأثير اليوناني في النقد عند حازم القرطاجني " (28) .
وانتهى الباحث في خاتمة بحثه إلى أن حازما لم يفد من التراث الفلسفي اليوناني ، ولا من شروح الفلاسفة المسلمين إلا مسألة التنظير في المقام الأول . فقد أدرك حازم بعض الأسس الهامة في تكوين الشعر ، وبخاصة الخيال والمحاكاة … أما القضايا والأفكار التي عالجتها هذه النظرية ؛ فإن حازماً رجع فيها إلى مصدرين :
- أولهما وأهمهما مراجعة النصوص الشعرية العربية نفسها ، واستنباط ما تقوم عليه من قوانين .
- وآخرهما بعض الإشارات التي أمكن تلمسها في كتابات النقاد العرب قبله (29) .
15 – وفي سنة 1991م ، ظهر كتاب التنبيهات على ما في التبيان من التمويهات لأبي المطرف بن عميرة (658هـ) [ كتاب وضعه للرد على كتاب التبيان في علم البيان المُطلع على إعجاز القرآن لعبد الكريم الزملكاني (651هـ) ] واعتبر محقق كتاب التنبيهات د. محمد ابن شريفة هذا الكتاب ثاني مجهود أندلسي ، بعد مجهود ابن رشد ، زاوج بين البلاغة اليونانية والبلاغة العربية أو حاول تطبيق الأولى على الثانية . ووجد أن قيمة صنيع ابن رشد تكمن في كونه فتح الباب الباب أمام التطبيقات العربية على مبادئ الصناعة النظرية التي وضعها أرسطو [ مقدمة التحقيق : 31 –32 ] .
بعد هذه الإشارة إلى بعض هذه الدراسات التي تناولت مسألة التأثير الأرسطي في منهادح البلغاء لحازم القرطاجني ؛ يلاحظ ما يأتي :
- إن ظهور منهاج البلغاء أعاد لمسألة التأثير الأرسطي عنفوانها الذي شهدته في عنفوانها بين سنة 1931 ونهاية الخمسينيات من القرن العشرين ، ومما أسهم في إثارة هذه المسألة بقوة ؛ ظهور تلك الكتب الثلا ثة الأخرى مع كتاب حازم ؛ مما قدم اتجاها مغايراً لصورة البلاغة العربية في المشرق خلال القرنين السابع والثامن .
- ظهور دراسات جامعية ؛ وخاصة في المغرب ؛ اهتمت بالمنهاج عامة وبمسألة التأثير اليوناني في النقد العربي خاصة . وكثرة الدراسات حول حازم كان من نتائجها أن تناولها بحثان لنيل دبلوم الدراسات العليا بجامعة القاضي عياض بمراكش ؛ أحدهما بكلية الآداب بمراكش والآخر بكلية الآداب ببني ملال ، مع خلاف بينهما في المنهج .
- ويبدو أن جهود المقارنين وجدت مساحات جديدة تُغري برصد التشابهات الممكنة والمقابلة بينها . وتقرر لدى أغلب الدارسين أن كتاب المنهاج قد حسم في مسألة التأثير ؛ أي أن حازما طبق – كما قيل – نظريات أرسطو على البلاغة العربية
فإلى أي حد كان حازم القرطاجني أرسطيا ؟ هل طبق حقا نظريات أرسطو النقدية والبلاغية على بلاغة العرب ونقدهم ؟ سأحاول أن أقارب هذا الإشكال .
ثانيا : وضع متأزم حضاريا وثقافيا
أ – الظرفية التاريخية التي أحطت بمنهاج حازم
بعد سنة من ولادة حزم سنة 608هـ ، كانت واقعة العقاب سنة 609هـ ؛ حيث بدأ انهيار سلطان العرب في الأندلس ؛ وهي فترة بدأت المدن الأندلسية تتساقط خلالها تباعا أمام المد المسيحي . وهكذا سقطت قرطبة أمام حركة الاسترداد سنة 633هـ. وتعرضت المراكز العلمية إلى ترجع في إشعاعها العلمي . ونزح حازم عن الأندلس ضمن النازحين ، وبعد أن استقر مدة بالمغرب في عهد الرشيد الموحدي ( بين حوالي 633 و639هـ ؛ انتقل إلى تونس حيث أقام قرب البلاط الحفصي؛ وهو لم يتجاوز الثلاثين من عمره ؛ وكان محط رجال الفكر زمن الهجرة . وفي هذا البلاط تسنم حازم مكانة عالية في ديوان الإنشاء ، وأضحت له مكانة علمية مرموقة ؛ وامتدته حياته هناك إلى سنة وفاته 684هـ ( 1285م) .
وفي ظل الدولة الحفصية ألف منهاج البلغاء ، وكان لابد أن يُفصح المنهاج عن عن معاناة صاحبه الفكرية في مرحلة عصيبة من حياته ، وعن ارتباط مشروعه النقدي والبلاغي بالحالة الفكرية لعصره .
ب – الجانب العقلي في ثقافة حازم
ماذا عن الجانب العقلي من ثقافة حازم ؟ ماذا عن شيوخه في الفلسفة ؟ وماذا كان يعرف حازم عن الشعر اليوناني ، وعن الترجيديا بشكل خاص ؛ وهي جوهر كتاب الشعر ؟ ثم ماذا عن مشروع حازم في ضوء شروح الفلاسفة المسلمين لكتابي الشعر والخطابة الأرسطيين ؟
نشأ حازم في بيت قضاء ، فوالده تولى القضاء في قرطاجنة الأندلس ثم انتقل إلى مرسية مدة تزيد على أربعين سنة قاضيا بها ، إلى أن توفي سنة 632هـ . وتنقل حازم بين المراكز الثقافية في عصره حتى استكمل ثقافته . " فكان فقيهاً مالكي المذهب كوالده ، نحويا بصرياً كعامة أهل الأندلس ، حافظاً للحديث ، راوية للأخبار والآداب " (30) .
ومن خلال آثاره في المصادر التي ترجمت له يتضح تنوع ثقافته بين النحو والعروض والبلاغة والنقد . ومما تجدر ملاحظته أن الجانب العقلي من ثقافة حازم يكتنفه كثير من الغموض ، ولم تستطع الترجمات التي عرضت له بالتعريف أن تكشف عن شيوخه في الفلسفة . فلا يُذكر عادة غير أبي علي الشَّلَوْبين ( عمر بن محمد بن عمر بن عبد الله الأزدي الأشبيلي 562 – 645 هـ ، والشَّلَوبين معناه بلغة الأندلس : الأبيض الأشقر ) . وكان شيخه هذا كبير نحاة الأندلس في زمانه ، ولم تتجاوز آثاره النحو . وقول د. ابن الخوجة بأن أبا علي جمع إلى العلوم النقلية العلوم العقلية كالمنطق والفلسفة ، وأنه بث في صدور الرجال العلوم والفلسفة ؛ قول لا يقوم عليه دليل ؛ وخاصة أن الباحث نفسه يؤكد أن الشلوْبين لم يعرف غير العربية التي واصل تدريسها وتلقين علومها وفنونها ستين عاما ، وأبرز جهوده تعاليق على كتاب سيبويه ومقدمة في النحو أسماها التوطئة (31) .
وهكذا لا نعرف من ألْف عالم ؛ التي قيل إن حازماً أخذ عنها ؛ إلا الشلوبين النحوي ؛ الذي ظل يُدرس النحو طيلة حياته . وما قيل إنه أخده الشلوبين عن ابن رشد وابن زهر ؛ لا نجد إشارة إليه أو إلى العلوم التي أخذها عنهما . وفي غياب هذه الحقائق ، يقول د. منصور عبد الرحمن : " وأغلب الظن أن حازماً درس بإمعان كتاب الشعر لأرسطو من خلال ترجماته الكثيرة على شيخه الشلوبين . ولمح الأستاذ في تلميذه استعداده لأخذ بالعلوم العقلية والحكمية ؛ فنمى فيه هذا الاتجاه ، وحمله على الأخذ به ، ووجهه إلى دراسة المنطق والخطابة والشعر ، وحثه على التعمق في دراسة مصنفات ابن رشد والفارابي وابن سينا " (32) .
يلاحظ أن الباحث قال في كلامه : وأغلب الظن ، ويبدو أنه صَدَّق ظنَّه ، واستند إليه في معرفة الشلوبين بالعلوم العقلية ، وفي ربط الصلة بين ابن رشد وحازم . وكيف نفسر أن حازما لم يشر ولو مرة إلى ابن رشد ، وهو أمر حَيَّرَ الباحثين ، كما سنرى ؟
ولا نجد إشارة إلى تكوين حازم الفلسفي إلا تلك الإشارة لتلميذه ابن رُشيْد ، حين قال عنه : " ويضرب بسهم في العقليات ، والدراية أغلب عليه من الرواية " (33).
جـ - طموح ثقافي في واقع متخلف
أعرب حازم في كتابه عن انتكاسة الإبداع والدراسة الأدبية في عصره وأرجع ذلك لأسباب ؛ هي : سيادة الجهل والعجمة واختلال الطباع واستهانة الناس بأمر الشعر وفساد أذواقهم .
فقد هان أمر الشعر على الناس في زمانه ، وأصبح عند بعضهم نقصاً وسفاهة ؛ وكل هذا بسبب العجمة وما لحق الطباع من اختلال . فالاستعداد لتقبل الشعر " معدوم بالجملة في هذا الزمان – أي في زمانه – بل كثير من أنذال العالم – وما أكثرهم – يعتقد أن الشعر نقص وسفاهة . وكان القدماء من تعظيم صناعة الشعر واعتقادهم فيها ضد ما اعتقده هؤلاء الزعانفة …وإنما هان الشعر على الناس هذا الهوان لعجمة ألسنتهم واختلال طباعهم ؛ فغابت عنهم أسرار الكلام وبدائعه … فصرفوا النقص إلى الصنعة … ولأن طرق الكلام اشتبهت عليهم أيضا " (34) .
ففي ضوء التحولات الحضارية فسدت الطباع ، وتضاءلت الرغبة في طلب العلم؛ فساد الجهل و " ران على قلوب شعراء المشرق المتأخرين وأعمى بصائرهم عن حقيقة الشعر منذ مائتي سنة . فلم يوجد فيهم على طول هذه المدة من نحا نحو الفحول … فخرجوا بذلك من مَهْيَع الشعر ، ودخلوا في محض التكلم " (35) .
أما الذوق الفني فقد اختل لما لحقه من إهمال وفساد ؛ وهكذا وجد حازم " أن الطباع قد تداخلها من الاختلال والفساد أضعاف ما تداخل الألسنة من اللحن ؛ فهي تستجيد الغث وتستغث الجيد من الكلام " (36).
فحازم يواجه واقعا متخلفا إنْ على مستوى الإبداع أو على مستوى التلقي والتذوق. وظروفه النفسية لم تكن تسمح له ببسط مشروعه بصورة تواجه الحالة الفكرية للعصر ؛ " إذ أوقات التخلي والنظر لا تنفسح لاستقصاء العلوم ؛ ولكن يجب أن تُناط العناية منها بالمتأكد فالمتأكد "(37).
من هنا وطَّن نفسه على الإجمال دون التفصيل ، ووجد ذلك ينسجم مع شواغله ، ومع الرغبة في إظهار مشروعه إلى الوجود بالرغم من تقهقر الذائقة الأدبية في العصر. " ولأن استقصاء القول في هذه الصناعة مُحوج إلى إطالة تتخون أزمنة الناظر " (38) .
ثم إن طبيعة المادة بتشعبها وما تحتويه من دقائق ما كانت تسمح له شواغله بتقصيها ؛ كما تبين له أنه " يجب إن يقتصر في التأليف من هذه الصناعة على ظواهرها ومتوسطاتها ، ويُمسك عن كثير من خفاياها ودقائقها ؛ لأن مرام استقصائها عسير جدا (39)… . وأكد لقارئه أن لو سار على منهجه هذا لأمكنه أن يُدرك خفايا هذه الصنعة ودقائقها .
ثالثا : مشروع حازم في المنهاج
أ – الاحتكام إلى قوانين البلاغة : قَمْع الطباع
فما عسى أن يفعل باحث عربي في وضع حضاري متأزم ؟ كيف يواجه الجهل وسيادة العجمة في مرحلته ؟ وكيف له أن يُصحح ما اختل من الطباع ؟
وما هو المشروع الإصلاحي التقويمي التي يستجيب لتطلعات تلك المرحلة ؟ وما هي آليات ذلك المشروع ؟
من أجل تحقيق الإصلاح استعمل منهجاً ؛ اعتبره آلية به " تُقمَعُ – الطباع – بردها إلى اعتبار الكلام بالقوانين البلاغية ؛ فيُعلم بذلك ما يحسُن وما لا يحسن " (40) . فمشروعه في المنهاج محاولة لقمع طباع مختلة ، وقمعها يتم عن طريق إرجاعها إلى قوانين البلاغة ؛ لتميز الطباع بين ما يحسن وما لا يحسن . وحتى حين تسترد الطباع توازنها ؛ فإنها لا تكفي وحدها ؛ إذ لا بد من معرفة القوانين الأساسية الضابطة للعلم بالشعر . فلا يمكن القول مع المدعين أن صناعة الشعر لا تحتاج أكثر من الطبع ؛ " إذ لم تكن العرب تستغني بصحة طباعها وجودة أفكارها عن تسديد طباعها وتقويمها باعتبار معاني الكلام بالقوانين المصحِّحة لها ، وجعلها ذلك علما تتدارسه في أنديتها ، ويستدرك بعضهم على بعض وتبصير بعضهم بعضا في ذلك " (41) .
إن الجهل بالقوانين الأساسية للعملية الشعرية يُعرض الإبداع إلى الغثاثة والادعاء الكاذب . وقد لاحظ حازم في زمانه أن من أراد أن يصوغ قافية يرفض أن يأخذ أي توجيه أو تبصير ؛ فقد أصبح يظن " أن الشعرية في الشعر إنما هي نظم أي لفظ اتفق ، كيف اتفق نظمه وتضمينه . أي غرض اتفق ، على أي صفة اتفق ، لا يُعتبر عنده في ذلك قانون أو رسم موضوع " (42) .
وهكذا أوقد حازم سراجا يستضيئ به من أراد أن يتعلم كيف يقول الشعر [ سراج الأدباء ] ، وكيف يتمثل حقيقة الشعرية في الشعر. كما هيأ للنقاد المنهاج الذي يسير عليه في تحليل الشعر وتقييمه وتذوقه [ منهاج البلغاء ] . فالشاعر والناقد في حاجة إلى العلم . فالكتاب منهاج البلغاء وسراج الأدباء . ولا يُمكن أن تُحاصر أزمة الثقافة في عصره إلاَّ بالعلم والتعلم . فالشاعر – كما يقول – يحتاج مع طبعه إلى تعليم معلم أو تبصير مَبَصِّر.
فأمام تراجع النفوذ الإسلامي أمام المد المُغولي الصليبي ، وأمام التراجع الحضاري وما لحق القيم والطبائع من اضطرابات وتشوهات ؛ كان لابد من وجود نزعة إصلاحية تبعث التجديد في كيان الأمة ، وتتخذ العلم والتعلم وسيلتين للخروج من التخلف . فإلى أي شيء يحتاج حازم في بناء مشروعه هذا لإقامة العلم بالشعر ؟ يقول :
" وإنما احتجت إلى الفرق بين المواد المستحسنة في الشعر والمستقبحة ، وترديد القول في إيضاح الجهات التي تقبح ، وإلى ذلك غلط أكثر الناس في هذه الصناعة ؛ لأرشد مَن لعل كلامي يحل منه محل القَبول من الناظرين ، وأزَعَ كل ذي حِجْر عما يُتعب به فكرَه ويَصِم شعرَه " (43) .
أي أنه يحتاج إلى آليات التمييز بين الجيد والردئ ، ليرشد العقول إلى جادة الصواب . وهي الآليات التي يتحقق بها العلم بالشعر أي النقد الأدبي . فمن أين سيستمد حازم تلك القوانين الصحيحة التي يتم بها التمييز بين الجيد والردئ ؟
لقد تحددت معالم البلاغة في المشرق ، وتبلورت مباحثها وتطبيقاتها في ساحات النصوص عامة ، واتضحت مناهجها في أقصى الشرق ( خوارزم ، جرجان …) وفي صرة العالم الإسلامي ( العراق الشام مصر اليمن ). فهل يريد حازم أن ياتي بقوانين جديدة تختلف عن القوانين التي تعارف عليها أهل البيان في المشرق والمغرب ؟ وهل يسعى إلى تجاوز ما أنجزه النقاد العرب السابقون ؟ ما هي الوجهة التي سيتخذها لإنجاز مشروعه ، وتأصيل العلم بالشعر ؟ لقد اتجه صوب ديوان الشعر العربي يقرأ دواوين أعلامه ، وإلى جهود النقاد العرب وما وضعوه من آراء وتصورات ، واتجه بشكل خاص إلى ما أنجزه الفلاسفة المسلمون من شروح أو تلخيصات لكتابي الشعر والخطابة الأرسطيين ؛ إذ كانت طبيعة المشروع الإصلاحي تقتضي منه وضع القوانين وتأصيل العلم بالشعر ، فكان لا بد من الاستعانة بأهل الفلسفة ، ومن هنا توقف عند جهود الفلاسفة المسلمين، وحاول أن يستفيد منها ويتجاوزها لما يلبي حاجة مرحلته وطبيعة شعر الأمة التي ينتمي إليها .
ب – مع جهود الفلاسفة المسلمين
اتجه حازم إلى عمل الفارابي (339هـ) ، ومنه : مقالة في قوانين صناعة الشعر ، ويعتبر هذا الأثر تلخيصاً لكتاب الشعر لأرسطو . فوجد أن الفارابي لم يقصد " إلى استيفاء جميع ما يُحتاج إليه في الصناعة وترتيبها ؛ إذ الحكيم ( أرسطو ) لم يكمل القول … في صناعة الشعر " (44) .
ووجد ابن سينا(429هـ) يقول في نهاية تلخيصه لكتاب الشعر لأرسطو : " ولا يبعد أن نجتهد نحن فنبتدع في علم الشعر المطلق ، وفي علم الشعر بحسب عادة هذا الزمان كلاماً شديد التحصيل والتفصيل " (45) .
ولعله اطلع على ما قاله ابن رشد (595هـ) في تلخيصه لكتاب الشعر : " إن ما شَعَر به أهل لساننا من القوانين الشعرية بالإضافة إلى ما في كتاب أرسطو هذا – كتاب الشعر – وفي كتاب الخطابة نَزْرٌٌ َيِسيرٌ " (46).
والفارابي يكتفي بالإشارة إلى ما يحضره من القوانين الشعرية ويقول : " ولو رُمْنا إتمامَ الصناعة التي لم يَرُمِ الحكيم إتمامَها – مع فضله وبراعته – لكان ذلك مما لا يليق بنا " (47) .
وابن سينا بدوره لا يروم إتمام الصنعة ، وإنما يحلم أن تتاح له الفرصة ليجتهد فيبتدع في علم الشعر المطلق .
جـ – فما هو هدف حازم من مشروعه هذا ؟
- هل يريد إتمام ما لم يرم الحكيم إتمامه ؟ وكأنه يريد أن يستكمل نظرية أرسطو في الشعر التي لم يرم الحكيم إتمامها ؛ ولا يرى – مثل الفارابي – أن ذلك لا يليق به .
- وضع قوانين لعلم الشعر عند العرب تربو على ما وضعت الأوائل ؛ فهو في بحثه عن كيفيات التصرف في الشعرية العربية ، وأمام ما تزخر به من أنماط القول في لسان العرب ؛ قال : " فلذلك وجب أن توضع لها من القوانين أكثر مما وضعت الأوائل " (48) .
- يريد أن يحقق حلم ابن سينا . لقد أراد أن يستكمل ما ورد عند أرسطو ، وأن يتجاوز ما وضعته الأوائل ؛ تحقيقا لحلم ابن سينا . وكشف حازم عن ذلك بقوله : " وقد ذكرت في هذا الكتاب من تفاصيل هذه الصنعة ما أرجو أنه من جملة ما أشار إليه أبو علي ابن سينا " (49) . فابن سينا الذي كان يأمل أن يجتهد فيبتدع في علم الشعر المطلق كلاما شديد التحصيل والتفصيل ؛ يأتي حازم ليحقق رغبته وحلمه . فكيف تحقق ذلك الحلم ؟ وهل أتى حازم بما لم تأتِ به الأوائل ؟
د – تحقيق حلم ابن سينا
كانت غاية حازم في مشروعه أن يضع علم الشعر المطلق ، أن يكشف عن جوهر الشعر العربي ، " وما أبدت فيه العرب من العجائب " (50) ، وهذا لا يتأتَّى له إلاَّ بتأصيل منهج لم يُسبَق إليه . يقول : " وقد سلكت في … ذلك مسلكا لم يسلكه أحد قبلي من أرباب هذه الصناعة لصعوبة مَرَامِهِ ، وتوعُّرِ سبيل التوصل إليه … فإني رأيت الناس لم يتكلموا إلا في بعض ظواهر لما اشتملت عليه تلك الصنعة ، فتجاوزت أنا تلك الظواهر … إلى التكلم في كثير من خفايا هذه الصنعة ودقائقها " (51) .
فحازم لا يسلك سبيل من تقدمه ، بل يريد تجاوز النقاد والفلاسفة قبله ليضع علم الشعر المطلق ، ويأتي على حده قوله " بقوانين كلية ، يَعرف بها أحوال الجزئيات مَن كانت له معرفة بكيفية الانتقالات من الحكم في بعض الأشياء إلى الحكم به في بعض " (52) .
وبالرغم من رغبته الشديدة في تناول خفايا الصنعة الشعرية ودقائقها ؛ إلاَّ أن ضرورة التأليف والتواصل مع القارئ تقتضيان أن يقتصر " من هذه الصناعة على ظواهرها ومتوسطاتها ويُمسك عن كثير من خفاياها ودقائقها ؛ لأن مرام استقصائها عسيرٌ جدا ، مضطر إلى الإطالة الكثيرة ؛ ولأن هذه القوانين الظاهرة والمتوسطة أيضا مَن فَهِمَها وأحكَمَ تصوُّرَها وعرَفها حقَّ معرفتها ؛ أمكنه أن يصير منها إلى خفايا هذه الصنعة ودقائقها . ويعلم كيف الحكمُ فيما تشعب من فروعها ، فيحصل له جميع الصنعة أو أكثرها بطريق مختصر " (53) .
فمنهجه العام يقوم على تحديد قوانين كلية بها تُعرف الجزئيات . وكان هذا طموح كثير من الباحثين خلال القرنين السابع والثامن ؛ صونا للقوانين العامة من الاندثار أمام بداية التراجع لحضارة أهل الإسلام آنذاك . من هنا اعتبر الأستاذ محمد الفاضل ابن عاشور أن منهاج حازم في منحاه البلاغي جاء بمنزلة الأصول من الفروع ، أو بمنزلة فلسفة العلم من العلم ؛ كمنزلة رسالة الإمام الشافعي من علم الفقه ، وأنه بموقفه في تأصيل علم البلاغة قد أخرج ( ما وراء البلاغة ) من البلاغة كما يخرج ( ما وراء الطبيعة ) من الطبيعة (54) .
فماذا يقال لمن ذهب إلى أن حازما كان واقعا تحت تأثير أرسطو ، وأنه طبق ما أخذه عنه على البلاغة والنقد العربيين ؟ إذا كان أرسطو قد صاغ قوانينه في ضوء متابعته للتراجيديا الإغريقية ، أو قل في ضوء مادة شعرية أو خطابية لها أسسها وخصائصها ومجالاتها ؛ فكيف لحازم أن يستفيد من تلك القوانين ؟ كيف يتأتَّى لبلاغي أن يعرف ما وراء البلاغة إذا كان يجهل المادة الأولية التي في ضوئها يتم التأصيل والتشريع ؟ فكيف يجلب حازم قوانين لمادة يجهل عنها كل شيء ؟
ألم يُقرر في منهاجه هذا المبدأ ؟ : " مَن يريد أن يستنبط هذه الصنعة ( الشعر ) من صناعة أخرى لعله لا يُحسنها بله هذه ، وذلك غير ممكن ؛ فإنما يُستنبَط الشيءُ من معدنه ويُطلب في مظنته " (55) .
وهل يجهل حازم أنَّ الخطوة الأولى في العلم هي أن نحدد مادته وموضوعه ؟ وإذا كان من البداهة ألاَّ يعرف أرسطو الشعر العربي ، فكيف نقتبس منه قوانين لهذا الشعر ؟ ألم يقل حازم: " لا مُعرَّج على ما يقوله في الشيء مَن لا يعرفه ، ولا التفات إلى رأيه فيه ؛ فإنما يُطلبُ الشيءُ من أهله ، ، وإنما يُقبل رأي المرء فيما يعرِفُه " (56) .
فلماذا انفتح على شروح الفلاسفة وتلخيصاتهم لكتابي الشعر والخطابة ؟
كان طموحه أن يُقيم " علم الشعر المطلق " ، فراح يستعين بجهود الفلاسفة المسلمين لمقاربة ذلك المطلق . حاول أن يبحث عما هو ثابت أو يمكن أن يكون كذلك ، في أية شعرية دون اعتبار للزمان والمكان . أي أنه حاول أن يتجاوز الخصوصيات ليبحث عن الثوابت في أية شعرية كانت . ( وهو توجه ظلت تدعيه الحداثة العربية في انفتاحاتها على الفكر الغربي الحديث ) . وهكذا قال حازم : " ولا يُعتبر الكلام بالنسبة إلى قائل ولا زمان البتة ؛ وإنما يُعتبر بحيث ما هو عليه في نفسه من استيفاء شروط البلاغة والفصاحة بحسب ما وقع فيه ، أو استيفاء أكثرها أو وقوع أقلها فيه أو عدمها بالجملة منه ، ووجود نقائضها أو أكثرها ؛ فبهذا النحو يَصِحُّ الاعتبار " (57) .
هـ – كيف فهم حازم أرسطو من خلال جهود الفلاسفة المسلمين ؟
تتجلى آثار تلك الجهود في نقول حازم عن الفارابي وعن ابن سينا بشكل خاص ، وما يُمكن أن يُقال إنه استفاده من ابن رشد ؛ وإن لم يُشر إليه .
- فقد نقل قولين عن الفارابي [ ص 86 ، 123 ] لا يُعرَفُ مصدرها .
واعتمد أربع عشرة مرة أثر ابن سينا في الشفا ، وقد تبين للباحثين بالمقارنة أن فهم حازم لكتاب أرسطو اعتمد فهم ابن سينا له بشكل خاص . فهذا د. سعد مصلوح في دراسته لنظرية المحاكاة والتخييل عند حازم أن كتابه ينبني كله على أن الشعر محاكاة وتخييل ؛ وهذه مقولة سينوية ولا شك ، كما يقول (58) .
والمثير حقا أن حازما لم يُشر ولو مرة واحدة إلى ابن رشد ، وبينهما قرب عهد ( بين وفاة ابن رشد وولادة حازم حوالي اثنىعشر عاما ) ، وهما ينتميان إلى إقليم واحد .
ويرجح د. عبد الرحمن بدوي أن يكون حازم قد تعمد إغفال ابن رشد ؛ " لأنهما طرقا موضوعا واحدا ؛ ألا وهو تطبيق نظريات أرسطو في الشعر والبلاغة على الشعر والبلاغة العربيين … وهذه ظاهرة نفسية مألوفة لدى المتعاصرين أو المتقاربين في الزمن " (59) .
ويصعب القول إنهما طرقا موضوعا واحدا أي أنهما طبَّقا نظريات أرسطو على الشعر والبلاغة العربيين . كما يصعب قبول إن حازما أغْفَل ذكرَ ابن رشد متعمدا ؛ لأنه أراد أن يُظهر قوته في التطبيق ؛ وكأن المنافسة كانت قائمة بينهما ، ولم تكن كذلك بين حازم وابن سينا .
ويرى د. محمد الحبيب ابن الخوجة أن حازما أغفل ذكر ابن رشد قصداً ، " ولا ندري أسباب ذلك على التحقيق ، ولعله وجده غير أمين في ترجمته لكتاب الشعر لأرسطو أو كان مقصراً لديه عن أن يُضيف من ذلك شيئاً إلى أصول النقد الشعري عند العرب ؛ فدعاه هذا إلى الاستدراك عليه … بوضع كتاب المنهاج الذي جمع بيم المبادئ والأصول الهيلينية والعربية " (60) .
ألم يقل الباحث أن الشلوبين وجه حازما إلى قراءة ابن رشد ؛ فأقبل على مطالعة مصنفاته ؟ لقد كان ابن الخوجة أقرب إلى العلم حين قال إنه لا يدري سببا لإغفال ذكر ابن رشد ؛ أما القول بأن ابن رشد غير أمين في ترجمته لكتاب الشعر؛ فإنه قول فيه شيء من الغموض؛ إذ أن ابن رشد لم يُترجم كتاب الشعر لأرسطو ، ولم يثبت أنه كان يعرف اليونانية . ولم يكن ابن رشد بصدد تأصيل نقد الشعر عند العرب ؛ إنما كان يُلخص الكتاب في ضوء ما عليه من شروح تأتَّى له أن يطلع عليها في زمانه ، ولم يكتف بالتلخيص إنما حاول أن يفهم ويقارن بين ما يقرأه وما يعرفه من تراث الأمة التي ينتمي إليها . ولا أَعتُبِرَ هذا تطبيقا ، كما ذهب القائلون بالتطبيق .
وجاء د. سعد مصلوح فاعتبر أن تلخيص ابن رشد كان بداية منطلق حازم لقراءة الترجمات والشروح الأخرى . واتضح للباحث – شأن د. بدوي – أن ابن رشد قد أفسد المفاهيم الأرسطية بل زيفها ، ونحَل المعلم الأول ما ليس له . ورأى الباحث أن محاولة ابن رشد لم تخلُ من فجاجة لتطبيق ما فهمه من أرسطو على أمثلة من الشعر العربي . وهكذا رجح د. سعد مصلوح " أن حازما إنما أهمل ذكر تلخيص ابن رشد لِمَا رأى فيه من عيوب لا نظنها كانت تخفى على مثله ؛ بل إن محاولة ابن رشد لتطبيق أفكار أرسطو على الشعر العربي … ربما كانت علة انصراف حازم عن الإشارة إلى ابن رشد ؛ لِما تميزت به من الفجاجة الواضحة " (61) .
فلماذا لم يمتعض حازم من تلك الفجاجة – إن كانت حقا فجاجة – ؟ ولماذا لم يشر إلى استفادته من ابن رشد ، وتزييفه لأرسطو – إن كان حقا زيف أرسطو – ؟ وأرى أن سبب إهمال حازم لابن رشد ما يزال يكتنفه كثير من الغموض . ولعل البحث في ظروف المرحلة من الناحية الثقافية قد يُفيد في إزالة ذلك الغموض .
وتزييف ابن رشد لأفكار أرسط من اختلاق بعض المستشرقين ومن تبعهم . فالمستشرقان " رينان " و " دوبور " نسبا إلى ابن رشد الخلط في أداء معاني أرسطو (62) . ود. طه حسين يرى أن ما قدمه ابن رشد عن الخطابة والشعر لا يتفق بجه من الوجوه ومعاني أرسطو ؛ ذلك أن ابن رشد لم يفهم هذه المعاني فحرفها جهد استطاعته " (63) .
ود. بدوي يجده متعسفا بل مزيفا لآراء أرسطو (64) .
فبأي شيء استحق ابن رشد اسم الشارح الأكبر ؟ هل استحقه بالتزييف والفجاجة ؟
وما هو واضح في المنهاج أن صاحبه استفاد من الشروح والتلخيصات والتعليقات حول كتابي الشعر والخطابة مما توافر لديه . ولما كانت غايته أن يحقق حلم ابن سينا فقد اهتم بتلخيصه ، ولاحظ ابن الخوجة أنه " أخذ بطريقته وأحال على تعاريفه وحدوده واستعمل كثيرا من ألفاظه وصيغه ، وذكر أحيانا نفس الأمثلة التي ذكرها الشيخ الرئيس . ولقد اعتمد كتاب فن الشعر لابن سينا لنقل كثير من فِقَر كتاب الشعر لأرسطو " (65) .
والحق أن ابن سينا كان هو معتمد حازم في منهاجه ؛ أما اسم أرسطو فلم يرد في كتابه إلا مرتين .
و– تصور حازم للشعر اليوناني من خلال فهمه لجهود القلاسفة
هناك نص يكشف عن هذا الفهم ، ويقدم لنا تصور حازم للشعر اليوناني من خلال ما فهمه من كتاب الشعر لأرسطو ، نص يحتاج إلى قراءة متأنية قبل الحديث عن مسألة التأثير الأرسطي في منهاج البلغاء . يقول حازم : " فإن الحكيم أرسطاطاليس ، وإن كان اعتنى بالشعر بحسب مذاهب اليونانية فيه ، ونبَّه على عظيم منفعته ، وتكلم في قوانين عنه ؛ فإن أشعار اليونانية إنما كانت أغراضا محدودة يفرضون فيها وجود أشياء وصورٍ لم تقع في الوجود . ويجعلون أحاديثها أمثالا وأمثلة لما وقع في الوجود ، وكانت لهم أيضا أمثال في أشياء موجودة نحواً من كليلة ودمنة ، ونحواً مما ذكره النابغة من حديث الحية وصاحبها . وكانت لهم طريقة أيضاً – وهي كثيرة في أشعارهم – يذكرون فيها انتقال أمر الزمان وتصاريفه ، وتَنَقُّلَ الدول وما تجري عليه أحوال الناس وتؤول إليه . فأما غير هذه الطرق ، فلم يكن لهم فيها كبير تصرف ، كتشبيه الأشياء بالأشياء ؛ فإن شعر اليونانيين ليس فيه شيء منه ، وإنما وقع في كلامهم التشبيه في الأفعال لا في ذوات الأفعال " (66) .
يثير هذا النص مجموعة ملاحظات :
الملاحظة الأولى : أدرك حازم أن أرسطو تكلم في قوانين تخص اليونانيين في مذاهبهم في الشعر .
الملاحظة الثانية : أغراض اليونانيين في الشعر محدودة ، في أوزان مخصوصة. وقد رجع حازم في هذا إلى قول ابن سينا : " نعبر عن القدر الذي أمكننا فهمه من التعليم الأول ؛ إذ اكثر ما فيه اقتصاص أشعار ورسوم كانت خاصة بهم ، ومتعارفة بينهم … وكان لهم … أنواع معدودة للشعر في أغراض محدودة ، ويخص كل غرض وزن " (67) . كما ورد عند ابن سينا في مكان آخر : " واليونانيون كانت لهم أغراض محدودة يقولون فيها الشعر ، وكانوا يخصون كل غرض بوزن على حدة " (68) . وقد ذكر ابن سينا أنواع الشعر اليوناني ؛ مما لم يرد ذكره عند أرسطو ، وحدد تلك الأنواع في اثني عشر نوعاً ، كما عين موضوعاتها .
الملاحظة الثالثة : ولما قرأ حازم ما ذكره ابن سينا عن أنواع أشعار اليونانيين ، وما ورد عن الفارابي قبله ؛ وجد أن مدار أشعار اليونانيين " على خرافات كانوا يضعونها ، يفرضون فيها وجود أشياء ، وصور لم تقع في الوجود . وقد يتكئ شعرهم على خرافات حول أمور موجودة تشبه أمثال كليلة ودمنة " .
فحازم يرى أن شعرهم له منحىً أسطوري لا حظ له من الواقع . وما يقوله حازم هنا عن الخرافات التي كانوا يضعونها ؛ هو ما فهمه من أمر التراجيديا التي تناولها أرسطو ونظَّر لها في كتاب الشعر . فماذا كان يفعل شعراء المسرح اليوناني – في تصور حازم – ؟ كانوا " يختلقون أشياء يبنون عليها تخاييلَهم الشعرية ، ويجعلونها جهات لأقوالهم ، ويجعلون تلك الأشياء التي لم تقع في الوجود كالأمثلة لما وقع فيه ، ويبنون على ذلك قصصا مخترعاً نحو ما تُحدِّثُ به العجائزُ الصِّبيانَ في أسمارهم من الأمور التي يمتنع وقوع مثلها " (69) .
فالمسرحية يتصورها حازم بمثابة حكاية ترويها عجوز للصبيان في أسمارهم . وقد استهان بها ؛ لأنه يجهل عنها كل شيء . وقد وجد ابن سينا يذم ذلك النوع من الشعر ، فنقل عنه قوله : " ولا يجب أن يُحتاج في التخييل الشعري إلى هذه الخرافات البسيطة التي هي قصص مخترعة ". وقال أيضا : " إن هذا ليس مما يوافق جميع الطباع " (70) .
الملاحظة الرابعة : ومدار شعر اليونانيين أيضاً على " انتقال الزمان وتصاريفه ، وتنقل الدول وما تجري عله أحوال الناس " .
هذا ما فهمه حازم عن الجنس الأدبي الثاني عند اليونان ؛ الذي هو الشعر الملحمي ؛ فالملحمة عند " انتقال أمور الزمان وتصاريفه " .
وما عساه أن يفهم عن الملحمة ، والفارابي يسميها " أفيقي " ، ويقول إنها تعني عندهم " سيَر الملوك وأخبارهم وأيامهم ووقائعهم " (71).
وابن سينا يسمي الملحمة " أفي " ، ويقول : " وهو نوع من الشعر تُذكر فيه الأقاويل المطربة المُفرحة لجودتها وغرابتها ونُدرتها " (72) . و " أفي " عنده " كأنه طراغوديات [ أي ترجيديات ] كثيرة مجموعة في خزانة واحدة " (73) .
و" أفيقي " و " أفي " تعني عند الفارابي وابن سينا " إبوس " epos التي هي epopée أي الملحمة .
الملاحظة الخامسة : نجد حازما في هذا النص يرى أن التشبيه في شعر اليونانيين وقع في الأفعال لا في ذوات الأفعال . وحازم يذكر هنا ما قاله ابن سينا: " والشعر اليوناني إنما كان يُقصَد فيه في كثير الأمر محاكاةُ الأفعال والأحوال لا غير . وأما الذوات فلم يكونوا يشتغلون بمحاكاتها أصلا كا شتغال العرب ؛ فإن العرب … كانت تُشبه كل شيء لتعجَب بحسن التشبيه " (74) .
والخلاصة أن ا
إشكال التأثير الأرسطي، في النقد والبلاغة العربيين مر بمرحلتين مختلفتين:
المرحلة الأولى تمتد من سنة 1931 إلى سنة 1961 ؛ ففي سبتمبر سنة 1931 ألقى د. طه حسين بحثه البيان العربي من الجاحظ إلى عبد القاهر في مدينة ليدن بهولاندا أمام المؤتمر الثاني عشر لجماعة المستشرقين.
وقد قرر في هذا البحث أن أرسطو كان المعلم الأول للمسلمين في علم البيان، وهو بهذا أتي بما لم تأت به الأوائل من عرب ومستشرقين . فقبل بداية الثلاثينيات من القرن العشرين ، كان الاعتقاد السائد في أوساط الباحثين، أن البلاغة العربية كانت أصولها عربية وأن قضاياها ومفاهيمها ومباحثها ارتبطت بالتأمل في هندسة العبارة العربية، وبمعرفة وجوه إعجاز القرآن الكريم خاصة.
وهكذا زعزع د. طه حسين هذا الاعتقاد السائد، كما فعل ذلك الأستاد أمين الخولي في السنة نفسها ؛ فكانا المُشَرِّعَيْن الأوليْن لمسألة التأثير اليوناني في البيان العربي في مطلع الثلاثينين من القرن العشرين . وفتحا آفاقا واسعة للكشف عن الصلات الموجودة والممكنة والمتخيلة بين الثقافة اليونانية والبيان العربية. وأصبحت آراؤهما منطلقات لدراسات مقارنة لم تنته إلى يومنا هذا .
المرحلة الثانية تمتد من سنة 1961 إلى اليوم ؛ ففي سنة 1961 ظهر كتيب يحمل عنوان : حازم القرطاجني ونظريات أرسطو في البلاغة والشعر مع تحقيق قسم من "منهاج البلغاء وسراج الأدباء" [ وقد ضم ماورد في هذا الكتيب إلى كتاب : إلى طه حسين في عيد ميلاده السبعين ، الصادر سنة 1962 ] وذهب د. عبد الرحمن بدوي إلى أنه لم ير كتابا من كتب علماء البلغاء في القرون التالية حتى القرن السابع الهجري قد عرض لنظريات أرسطو في البلاغة والشعر ، وهكذا :
" فلأول مرة نجد في كتاب لأحد علماء البلاغة العربية الخُلَّص – أعني غير الفلاسفة - عرضا وإفادة من نظريات أرسطو في البلاغة والشعر، واستقصاء بالغا لها باهتمام وحسن فهم ورغبة في التطبيق على البلاغة العربية والشعر العربي" (1).
وفي سنة 1966 ظهر كتاب منهاج البلغاء وسراج الأدباء" لحازم القرطاجني (684هـ) محققا تحقيقا علميا ( بعدما نال به صاحبه محمد الحبيب ابن الخوجة درجة الدكتوراه من جامعة باريس في يونيو 1964 ، تحت إشراف المستشرق الفرنسي ريجيس بلاشير : 1900 - 1973). وقرر في مقدمة تحقيقه أنه قبل ظهور "المنهاج" كان من الصعب جدا التوصل إلى تقدير تأثيرات أرسطو على نقد الشعر عند العرب…
واليوم يمكننا أن نضع حدا للشك والغموض السابقين بالوقوف على كتاب حازم القرطاجني الأندلسي الذي… يصور بغاية الوضوح…، التأثيرات اليونانية في صناعة النقد عند العرب (2) .
وحازم عنده مرة أخرى " هو أول من أدخل نظريات أرسطو وتعرض لتطبيقها في كتب البلاغة العربية الخالصة" (3).
ويمكن القول إن مسألة التأثير الهيليني على البيان العربي، والتي رفع لواءها الليبراليون المصريون منذ مطالع الثلاثينيات؛ لم تحقق نتائج حاسمة على مستوى البحث العلمي، واتضح أن المنهج التاريخي المقارن الذي وظفه أصحاب القول بمسألة التأثير، لم يلتزم بمقررات المنهج ، وفي غياب النصوص التجأ أصحابه إلى بعض الافتراضات والظنون والتخمينات.
وبظهور منهاج البلغاء ، عادت مسألة التأثير اليوناني في البيان العربي إلى عنفوانها، ووجدت في حازم القرطاجني ضالتها. وقد ازدادت المسألة اتساعا وامتدادا بظهورثلاثة كتب أخرى ، هي :
- المنزع البديع في تجنيس أساليب البديع لأبي محمد القاسم السجلماسي، (عاش إلى حوالي سنة 730هـ) طبع الكتاب سنة 1980 بتحقيق د. علال الغازي
- وكتاب (الروض المريع في صناعة البديع لابن البناء المراكشي (721هـ)، طبع الكتاب سنة 1985 بتحقيق الأستاذ رضوان بنشقرون
- وكتاب التنبيهات على ما في التبيان من التمويهات لأبي المُطرف أحمد بن عَميرة ، تحقيق د. محمد ابن شريفة [ ط1 ، 1991 ] .
وهكذا شاع القول بوجود مدرسة مغربية متأثرة بنظريات النقد الأرسطي. وغايتي في هذه المقالة أن أتساءل هل كان حازم تلميذا لأرسطو ، وهل طبق نظرياته في النقد والبلاغة على التراث العربي ، كما ذهب إلى ذلك كثير من الباحثين ؟
أولا : حازم القرطاجني ومسألة التاثير الأرسطي في بعض الدراسات
لم تكن شخصية حازم النقدية والبلاغية معروفة لدى المستشرقين ولا لدى الباحثين العرب إلا في بداية الخمسينيات من القرن العشرين أي منذ سنة 1952.
1 - ففي سنة 1952م قدم عبد الفتاح شكري محمد عياد بحثاً لنيل الدكتوراه من كلية الآداب ، جامعة القاهرة ، تحت إشراف أمين الخولي ؛ موضوعها : كتاب أرسطوطاليس في الشعر ، نقل أبي بشر متى بن يونس القنائي من السرياني إلى العربي ، تحقيق مع ترجمة حديثة ودراسة تأثيره في البلاغة العربية) [ لم تنشر الأطروحة إلا سنة 1967] .
وكان من جملة ما هو جديد في هذه الأطروحة ، وقوف صاحبها على كتاب منهاج البلغاء وهو ما يزال مخطوطا . وقد تناوله بالدراسة أول مرة ، واعتبره قمة من قمم النقد الأدبي في اللغة العربية .
ورأى أن القيمة الحضارية للمنهاج يمكن أن تُقارن بالناحية التي سجلها ابن رشد في فلسفته ، وابن خلدون في بحثه الاجتماعي (4) .
وبعد أن استعرض الباحث مجمل موضوعات المنهاج قرر أن تأثير كتاب الشعرلأرسطو في منهاج البلغاء " عميق أشد العمق ، وأن حازماً قد جهد أن ينتفع بهذا الكتاب – أو بالصورة التي عرفها منه – أعظم الانتفاع " (5) .
ووجده في أحد فصول الكتاب ينقل كثيراً عن الفارابي وابن سينا ؛ مما جعل التأثير اليوناني واضحاً فيه ؛ وإن كان حازم لم يتصل اتصالاً مباشراً بالأدب اليوناني . ويعتقد د. شكري عياد أن كتاب المنهاج " التقى فيه التياران العربي واليوناني التقاء مثمراً ؛ وإن غلب عليه التيار اليوناني " (6) .
2 – وفي سنة 1955 تناول د. عز الدين إسماعيل مسألة التأثير الأرسطي في إطار بحثه عن الأسس الجمالية في النقد العربي ؛ فلم يجد له تأثيراً إيجابيا لاعتبارات أهمها :
- أن الشعر العربي استوى ناضجاً في المرحلة الجاهلية ، قبل أن تستقبل البيئات العربية الثقافة الهيلينية .
- والترجمة لا تعني التأثير ؛ إذ لم تقم أدلة مادية تثبت أثر الأفكار المنقولة في عقول مستقبليها .
- ثم إن وجود التشابه لا يعني بالضرورة وجود التأثير .
ونبه الباحث إلى وجود تشابه في مسائل جزئية بين كتاب الشعر لأرسطو وكتاب المناهج الأدبية [ = منهاج البلغاء ] لحازم القرطاجني ( وكان ما يزال مخطوطا) ، ووجد فيه " مادة وفيرة لالتماس وجوه جديدة من التشابه بين المشكلات الأدبية التي تنولت عند اليونان وعند العرب ، وطريقة تناولها " (7).
3 – وفي سنة 1961 ، كما سبقة الإشارة إلى ذلك ، عثر د. عبد الرحمن بدوي على منهاج البلغاء لحازم القرطاجني ، فأخرج كتيبا بعنوان : حازم القرطاجني ونظريات أرسطو في البلاغة والشعر ، ثم أعاد نشره في كتاب " إلى طه حسين في عيد ميلاده السبعين ؛ الذي أشرف على نشره سنة 1962 .
وقد سبق للباحث أن ترجم كتاب الشعر لأرسطو عن اليونانية ، وحقق كتاب أرسطوطاليس في الشعر ( نقل أبي بشر متى بن يونس القنائي من السرياني إلى العربي ) ، وحقق التلخيصات التي وضعها الفارابي وابن سينا وابن رشد ، وتتبع ما كان لكتاب الشعر من إشعاع في النهضة الغربية الحديثة . وحين أراد البحث عن تأثيره في التراث العربي ؛ أحس بخيبة الأمل ، وقال : " لا يخرج المرء من قراءته لهذه التلخيصات …إلا بشعور أليم بخيبة الأمل في أن يكون العرب قد أفادوا منه كما أفادت أوربا في عصر النهضة " ( .
ولاحظ أن العقول العربية التي تناولت كتاب الشعر لم تقدم عنه صورة صحيحة ، ولم تهيئ السبل للإفادة منه والاقتداء به . ولو تحقق ذلك في رأيه " لكان وجه الأدب العربي قد تغير جميعه ، ومن يدري أيضا لعل وجه الثقافة العربية كلها أن يتغير تماما " (9) .
ويوم عثر على المنهاج انزاحت الحسرة عن نفسه ، ووجد لأول مرة كتاباً من القرن السابع عرض فيه صاحبه لنظريات أرسطو في البلاغة والنقد . وقرر أن حازما " هو أول من أدخل نظريات أرسطو وتعرَّض لتطبيقها في كتب العربية الخالصة " (10) .
ود. عبد الرحمن بدوي ، بعدما وجد من يُدخل نظريات أرسطو إلى الحقل العربي ، ويُطبقها في مجالي النقد والبلاغة العربيين ؛ تعود إليه الحسرة والأسف ؛ فيقول : " وياليت مَن أتوا بعده أخذوا عنه في ذلك . ولكنه واسفاه . لم ينسج واحد من بعده على منواله ، وظلت كتب البلاغة العربية الخالصة بمعزل عن أفكار أرسطو الخصبة الحية " (11) .
4 – وفي سنة 1966م ، ظهر كتاب منهاج البلغاء محققا من لدن محمد الحبيب ابن الخوجة . واعتبر المحقق ظهور الكتاب حسما لتباين الآراء في مسألة التأثير الأرسطي في النقد العربي ؛ فإذا كان د. إبراهيم سلامة يُسلم بوجود التأثيرات الهيلّيِنية على نقد الشعر لدى العرب في أطروحته : بلاغة أرسطو بين العرب واليونان [ ط1 ، 1950 ] ، وكان د. أمجد الطرابلسي يُنكر ذلك إطلاقا في أطروحته نقد الشعر عند العرب إلى نهاية القرن الخامس للهجرة [ ط1 بالفرنسية سنة 1956 ] ؛ فإنه يرى أن كتاب المنهاج يمثل التأثيرات اليونانية في صناعة النقد عند العرب ، وأنه " جمع بين المبادئ والأصول الهيلينية والعربية " . وكان صاحبه على " دراية عجيبة بالنظريات الهيلينية … ألمَّ بفلسفات سقراط وأفلاطون وأرسطوطاليس من خلال الترجمات العربية " (12) .
5 – وفي سنة 1968 م ، تناول د. بدوي طبانة في الطبعة الرابعة من كتابه البيان العربي جانبا من جهود المغاربة في خدمة البحث البياني ؛ ووجد في منهاج البلغاء لحازم اتجاها مباينا لمن سبقه وما عاصر من اتجاهات . فقال : " فيه يظهر بوضوح تأثير الثقافة اليونانية أكثر مما ظهر في كتابات غيره من المشارقة والمغاربة " (13) .
ويعتبر الباحث كتاب المنهاج غريباً عن تيار التفكير العربي ؛ ذلك أن الذين اطلعوا على آثار الفكر اليوناني من السابقين ؛ حافظوا على طابعهم الأصيل ، أما حازم فكان – في رأيه – بالغ التأثر بحكمة اليونان وفلسفتهم ومنطقهم ؛ فاستشهد كثيراً بكلام أرسطو معتمدا على تلخيص كل من ابن سينا وابن رشد لكتاب الشعر. بل يرى أن منهج الكتابة وأسلوبها هو المنهج الأرسططاليسي في تناول الفن الأدبي (14) .
6 – ومع ظهور كتاب د. إحسان عباس تاريخ النقد الأدبي عند العرب ، من القرن الثاني إلى القرن الثامن ، سنة 1971م ، أصبحت مسألة التأثير الأرسطي ترتبط بمُكوِّنات النقد العربي في جميع مراحله إلى نهاية القرن الثامن للهجرة . واعتبر حازما " آخر صلة بين كتاب أرسطو والنقد العربي " (15) . ووجده قد جمع بين الثقافتين " العربية واليونانية ؛ إلا أن ما لخصه ابن سينا من كتاب الشعر وما أحس به ابن سينا نفسه ؛ أمران أقنعا حازماً بأن القواعد اليونانية وحدها لا تستطيع أن تستغرق الشعر العربي بالحكم والتفسير (16) . وعموما لاحظ أن حازما " حاول أن يُفيد من الاتجاه الفلسفي المبني على كتاب أرسططاليس ، ومن آثار النقاد سواء منهم من تأثر بالثقافة اليونانية أو لم يتأثر " (17) .
7 – وفي سنة 1972م ، ظهر كتاب د. أحمد كمال زكي : النقد الأدبي الحديث ، وقرر فيه " أن النقد الأدبي عند العرب تمكن بما قدمه أرسطو من أن ينمو ويتعقد ويتشعب كما تشعب عند الإغريق " (18) . وذهب بدوره إلى أن حازما القرطاجني كان أكبر من طبق نظريات أرسطو النقدية على البلاغة العربية .
8 - وفي سنة 1973م حدد د. أحمد مطلوب في كتابه اتجاهات النقد الأدبي في القرن الرابع الهجري ؛ محاور النقد الأدبي في اتجاهات أربعة : النقد والبديع – النقد والإعجاز – النقد وأبو تمام – النقد والمتنبي . واستبعد الباحث النقد وأرسطو الذي جعله د. إحسان عباس محوراً ثابتا في تاريخ النقد العربي ؛ إذ لاحظ د. أحمد مطلوب أن " الاتجاه المتأثر بالثقافة اليونانية ، كان من أضعف التيارات ظهوراً في مجال التطبيق "(19).
وبالرغم من أن الباحث لم يكن مقتنعا في أعماله كلها في مجالات النقد والبلاعة بمسألة التأثير الأرسطي ، بل هو يعتبر مسألة التأثير هذه تعسفا وانحرافاً عن المنهج العلمي السليم ؛ إذ أن العرب عرفوا البلاغة وفنونها قبل أن يترجم كتابا أرسطو ( الشعر والخطابة ) ؛ فإنه قرر في كتابه مناهج بلاغية أن حازما كان متأثرا ببلاغة أرسطو وفلسفة اليونان، واعتبره " أول من عرض لنظريات أرسطو في الشعر والبلاغة عرضا واضحا وطبق كثيراً من مقاييسه … وكتاب منهاج البلغاء …أقرب إلى أصول البلاغة او فلسفتها ، وقد جنح فيه مؤلفه إلى … تطبيق نظريات أرسطو وآرائه على الأدب العربي " (20) .
وأرجع د. أحمد مطلوب إبداع حازم في المنهاج إلى تعمقه في البلاغة واطلاعه على كتب أرسطو والفارابي وابن سينا وفهمهما ؛ وأنه انفرد بالاستفادة من بلاغة أرسطو مع تطبيقها على الشعر العربي ، وكان كتابه آخر كتاب تأثر صاحبه بأرسطو تأثراً مباشراً " (21) .
9 – وفي سنة 1978م ، قرر د. جابر أحمد عصفور في كتابه : مفهوم الشعر ، دراسة في التراث النقدي أن حازما جمع بين الفلسفة والإنجازات النقدية العربية السابقة عليه ؛ وتبين د. جابر عصفور صورة الجهد الأرسطي وهي تخايل حازماً بقوة . وتتبع مظاهر التأثير الأرسطي في منهاج البلغاء من خلال التقاطعات الممكنة بين النقد الأرسطي والنقد العربي (22) .
وقد تقرر لديه في كتابه الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي ، الصادر سنة 1974 ؛ أن الفكر اليوناني أسهم في تعميق الخبرة عند العرب . وعموما سعى د. جابر عصفور في عمليه هذيْن أن يُقدم كشوفا للأصول الأرسطية في النقد العربي .
10 – وفي سنة 1980م ، ذهب د. منصور عبد الرحمن في أطروحته : مصادر التفكير النقدي البلاغي عند حازم ؛ إلى أنه منذ وقع نظره على منهاج البغاء فطن لأول وهلة إلى تأثره الواضح بالفكرة اليونانية . وانتهى إلى القول أن حازماً أعظم البلاغيين والنقاد الذين استطاعوا أن يزاوجوا بين الفكرة العربية والفكرة اليونانية في دراسة البلاغة والنقد ، وأنه حسم موضوع الخلاف بين الباحثين حول اتصال النقد العربي بالفكر اليوناني (23).
11 – وفي سنة 1980م أيضا ، عالج د. عصام قصبجي في أطروحته : نظرية المحاكاة في النقد العربي القديم ، فوصف حازماً بالتخبط بين النظرية اليونانية والتطبيق العربي . واعتبر بحثه تكراراً لأقوال من سبقه من النقاد ؛ أمثال الفارابي وابن سينا وعبد القاهر " دون أن يعني اطلاعه على أرسطو شيئا مذكوراً …لأنه لم يكن يأتي بجديد يُذكر في مبادئ النقد ؛ وإن كان أجاد عرض هذه المبادئ في ثوبها اليوناني حيناً ، والعربي حيناً آخر " (24) .
12 – وفي السنة نفسها ، ذهب د. سعد مصلوح في بحثه حازم القرطاجني ونظرية المحاكاة والتخييل في الشعر إلى أن حازما قد أفاد من نظريات ارسطو وسعى إلى تطبيقها على البلاغة العربية والشعر العربي (25) . واعتبره أول من حاول محاولة جادة موفقة في إقامة جسر تعبر عليه افكار ارسطو كما فهمها الفلاسفة … إلى الشعر العربي ومشكلاته (26) .
13 – وفي سنة 1984 م، وجد د. محيي الدين صبحي في كتابه نظرية النقد العربي وتطورها إلى عصرنا أن أنضج إدراك عربي لقضية النظرية النقدية المتأثرة بالفلسفة اليونانية ، خلال القرن السابع ، في كتاب منهاج البلغاء لحازم القرطاجني. وذهب إلى أن نظرية حازم تستمد قوتها من مزج قوي بين الفكر العربي والفكر اليوناني ؛ فهي أفكار الحضارتين في التجربة الأدبية (27) .
14 - وفي سنة 1986م ظهرت أطروحة د. صفوت عبد الله الخطيب بعنوان نظرية حازم القرطاجني النقدية والجمالية في ضوء التأثرات اليونانية ؛ تناول فيها – كما هو واضح من العنوان – نظرية حازم من منطلق التأثير اليوناني ؛ بحيث إن كل جزئية يتناولها يحاول أن يردها إلى النقد اليوناني أو يبحث عن جذور لها في النقد العربي. وكان أمله أن يحسم في " قضية ألح عليها عدد من الباحثين … وهي قضية التأثير اليوناني في النقد عند حازم القرطاجني " (28) .
وانتهى الباحث في خاتمة بحثه إلى أن حازما لم يفد من التراث الفلسفي اليوناني ، ولا من شروح الفلاسفة المسلمين إلا مسألة التنظير في المقام الأول . فقد أدرك حازم بعض الأسس الهامة في تكوين الشعر ، وبخاصة الخيال والمحاكاة … أما القضايا والأفكار التي عالجتها هذه النظرية ؛ فإن حازماً رجع فيها إلى مصدرين :
- أولهما وأهمهما مراجعة النصوص الشعرية العربية نفسها ، واستنباط ما تقوم عليه من قوانين .
- وآخرهما بعض الإشارات التي أمكن تلمسها في كتابات النقاد العرب قبله (29) .
15 – وفي سنة 1991م ، ظهر كتاب التنبيهات على ما في التبيان من التمويهات لأبي المطرف بن عميرة (658هـ) [ كتاب وضعه للرد على كتاب التبيان في علم البيان المُطلع على إعجاز القرآن لعبد الكريم الزملكاني (651هـ) ] واعتبر محقق كتاب التنبيهات د. محمد ابن شريفة هذا الكتاب ثاني مجهود أندلسي ، بعد مجهود ابن رشد ، زاوج بين البلاغة اليونانية والبلاغة العربية أو حاول تطبيق الأولى على الثانية . ووجد أن قيمة صنيع ابن رشد تكمن في كونه فتح الباب الباب أمام التطبيقات العربية على مبادئ الصناعة النظرية التي وضعها أرسطو [ مقدمة التحقيق : 31 –32 ] .
بعد هذه الإشارة إلى بعض هذه الدراسات التي تناولت مسألة التأثير الأرسطي في منهادح البلغاء لحازم القرطاجني ؛ يلاحظ ما يأتي :
- إن ظهور منهاج البلغاء أعاد لمسألة التأثير الأرسطي عنفوانها الذي شهدته في عنفوانها بين سنة 1931 ونهاية الخمسينيات من القرن العشرين ، ومما أسهم في إثارة هذه المسألة بقوة ؛ ظهور تلك الكتب الثلا ثة الأخرى مع كتاب حازم ؛ مما قدم اتجاها مغايراً لصورة البلاغة العربية في المشرق خلال القرنين السابع والثامن .
- ظهور دراسات جامعية ؛ وخاصة في المغرب ؛ اهتمت بالمنهاج عامة وبمسألة التأثير اليوناني في النقد العربي خاصة . وكثرة الدراسات حول حازم كان من نتائجها أن تناولها بحثان لنيل دبلوم الدراسات العليا بجامعة القاضي عياض بمراكش ؛ أحدهما بكلية الآداب بمراكش والآخر بكلية الآداب ببني ملال ، مع خلاف بينهما في المنهج .
- ويبدو أن جهود المقارنين وجدت مساحات جديدة تُغري برصد التشابهات الممكنة والمقابلة بينها . وتقرر لدى أغلب الدارسين أن كتاب المنهاج قد حسم في مسألة التأثير ؛ أي أن حازما طبق – كما قيل – نظريات أرسطو على البلاغة العربية
فإلى أي حد كان حازم القرطاجني أرسطيا ؟ هل طبق حقا نظريات أرسطو النقدية والبلاغية على بلاغة العرب ونقدهم ؟ سأحاول أن أقارب هذا الإشكال .
ثانيا : وضع متأزم حضاريا وثقافيا
أ – الظرفية التاريخية التي أحطت بمنهاج حازم
بعد سنة من ولادة حزم سنة 608هـ ، كانت واقعة العقاب سنة 609هـ ؛ حيث بدأ انهيار سلطان العرب في الأندلس ؛ وهي فترة بدأت المدن الأندلسية تتساقط خلالها تباعا أمام المد المسيحي . وهكذا سقطت قرطبة أمام حركة الاسترداد سنة 633هـ. وتعرضت المراكز العلمية إلى ترجع في إشعاعها العلمي . ونزح حازم عن الأندلس ضمن النازحين ، وبعد أن استقر مدة بالمغرب في عهد الرشيد الموحدي ( بين حوالي 633 و639هـ ؛ انتقل إلى تونس حيث أقام قرب البلاط الحفصي؛ وهو لم يتجاوز الثلاثين من عمره ؛ وكان محط رجال الفكر زمن الهجرة . وفي هذا البلاط تسنم حازم مكانة عالية في ديوان الإنشاء ، وأضحت له مكانة علمية مرموقة ؛ وامتدته حياته هناك إلى سنة وفاته 684هـ ( 1285م) .
وفي ظل الدولة الحفصية ألف منهاج البلغاء ، وكان لابد أن يُفصح المنهاج عن عن معاناة صاحبه الفكرية في مرحلة عصيبة من حياته ، وعن ارتباط مشروعه النقدي والبلاغي بالحالة الفكرية لعصره .
ب – الجانب العقلي في ثقافة حازم
ماذا عن الجانب العقلي من ثقافة حازم ؟ ماذا عن شيوخه في الفلسفة ؟ وماذا كان يعرف حازم عن الشعر اليوناني ، وعن الترجيديا بشكل خاص ؛ وهي جوهر كتاب الشعر ؟ ثم ماذا عن مشروع حازم في ضوء شروح الفلاسفة المسلمين لكتابي الشعر والخطابة الأرسطيين ؟
نشأ حازم في بيت قضاء ، فوالده تولى القضاء في قرطاجنة الأندلس ثم انتقل إلى مرسية مدة تزيد على أربعين سنة قاضيا بها ، إلى أن توفي سنة 632هـ . وتنقل حازم بين المراكز الثقافية في عصره حتى استكمل ثقافته . " فكان فقيهاً مالكي المذهب كوالده ، نحويا بصرياً كعامة أهل الأندلس ، حافظاً للحديث ، راوية للأخبار والآداب " (30) .
ومن خلال آثاره في المصادر التي ترجمت له يتضح تنوع ثقافته بين النحو والعروض والبلاغة والنقد . ومما تجدر ملاحظته أن الجانب العقلي من ثقافة حازم يكتنفه كثير من الغموض ، ولم تستطع الترجمات التي عرضت له بالتعريف أن تكشف عن شيوخه في الفلسفة . فلا يُذكر عادة غير أبي علي الشَّلَوْبين ( عمر بن محمد بن عمر بن عبد الله الأزدي الأشبيلي 562 – 645 هـ ، والشَّلَوبين معناه بلغة الأندلس : الأبيض الأشقر ) . وكان شيخه هذا كبير نحاة الأندلس في زمانه ، ولم تتجاوز آثاره النحو . وقول د. ابن الخوجة بأن أبا علي جمع إلى العلوم النقلية العلوم العقلية كالمنطق والفلسفة ، وأنه بث في صدور الرجال العلوم والفلسفة ؛ قول لا يقوم عليه دليل ؛ وخاصة أن الباحث نفسه يؤكد أن الشلوْبين لم يعرف غير العربية التي واصل تدريسها وتلقين علومها وفنونها ستين عاما ، وأبرز جهوده تعاليق على كتاب سيبويه ومقدمة في النحو أسماها التوطئة (31) .
وهكذا لا نعرف من ألْف عالم ؛ التي قيل إن حازماً أخذ عنها ؛ إلا الشلوبين النحوي ؛ الذي ظل يُدرس النحو طيلة حياته . وما قيل إنه أخده الشلوبين عن ابن رشد وابن زهر ؛ لا نجد إشارة إليه أو إلى العلوم التي أخذها عنهما . وفي غياب هذه الحقائق ، يقول د. منصور عبد الرحمن : " وأغلب الظن أن حازماً درس بإمعان كتاب الشعر لأرسطو من خلال ترجماته الكثيرة على شيخه الشلوبين . ولمح الأستاذ في تلميذه استعداده لأخذ بالعلوم العقلية والحكمية ؛ فنمى فيه هذا الاتجاه ، وحمله على الأخذ به ، ووجهه إلى دراسة المنطق والخطابة والشعر ، وحثه على التعمق في دراسة مصنفات ابن رشد والفارابي وابن سينا " (32) .
يلاحظ أن الباحث قال في كلامه : وأغلب الظن ، ويبدو أنه صَدَّق ظنَّه ، واستند إليه في معرفة الشلوبين بالعلوم العقلية ، وفي ربط الصلة بين ابن رشد وحازم . وكيف نفسر أن حازما لم يشر ولو مرة إلى ابن رشد ، وهو أمر حَيَّرَ الباحثين ، كما سنرى ؟
ولا نجد إشارة إلى تكوين حازم الفلسفي إلا تلك الإشارة لتلميذه ابن رُشيْد ، حين قال عنه : " ويضرب بسهم في العقليات ، والدراية أغلب عليه من الرواية " (33).
جـ - طموح ثقافي في واقع متخلف
أعرب حازم في كتابه عن انتكاسة الإبداع والدراسة الأدبية في عصره وأرجع ذلك لأسباب ؛ هي : سيادة الجهل والعجمة واختلال الطباع واستهانة الناس بأمر الشعر وفساد أذواقهم .
فقد هان أمر الشعر على الناس في زمانه ، وأصبح عند بعضهم نقصاً وسفاهة ؛ وكل هذا بسبب العجمة وما لحق الطباع من اختلال . فالاستعداد لتقبل الشعر " معدوم بالجملة في هذا الزمان – أي في زمانه – بل كثير من أنذال العالم – وما أكثرهم – يعتقد أن الشعر نقص وسفاهة . وكان القدماء من تعظيم صناعة الشعر واعتقادهم فيها ضد ما اعتقده هؤلاء الزعانفة …وإنما هان الشعر على الناس هذا الهوان لعجمة ألسنتهم واختلال طباعهم ؛ فغابت عنهم أسرار الكلام وبدائعه … فصرفوا النقص إلى الصنعة … ولأن طرق الكلام اشتبهت عليهم أيضا " (34) .
ففي ضوء التحولات الحضارية فسدت الطباع ، وتضاءلت الرغبة في طلب العلم؛ فساد الجهل و " ران على قلوب شعراء المشرق المتأخرين وأعمى بصائرهم عن حقيقة الشعر منذ مائتي سنة . فلم يوجد فيهم على طول هذه المدة من نحا نحو الفحول … فخرجوا بذلك من مَهْيَع الشعر ، ودخلوا في محض التكلم " (35) .
أما الذوق الفني فقد اختل لما لحقه من إهمال وفساد ؛ وهكذا وجد حازم " أن الطباع قد تداخلها من الاختلال والفساد أضعاف ما تداخل الألسنة من اللحن ؛ فهي تستجيد الغث وتستغث الجيد من الكلام " (36).
فحازم يواجه واقعا متخلفا إنْ على مستوى الإبداع أو على مستوى التلقي والتذوق. وظروفه النفسية لم تكن تسمح له ببسط مشروعه بصورة تواجه الحالة الفكرية للعصر ؛ " إذ أوقات التخلي والنظر لا تنفسح لاستقصاء العلوم ؛ ولكن يجب أن تُناط العناية منها بالمتأكد فالمتأكد "(37).
من هنا وطَّن نفسه على الإجمال دون التفصيل ، ووجد ذلك ينسجم مع شواغله ، ومع الرغبة في إظهار مشروعه إلى الوجود بالرغم من تقهقر الذائقة الأدبية في العصر. " ولأن استقصاء القول في هذه الصناعة مُحوج إلى إطالة تتخون أزمنة الناظر " (38) .
ثم إن طبيعة المادة بتشعبها وما تحتويه من دقائق ما كانت تسمح له شواغله بتقصيها ؛ كما تبين له أنه " يجب إن يقتصر في التأليف من هذه الصناعة على ظواهرها ومتوسطاتها ، ويُمسك عن كثير من خفاياها ودقائقها ؛ لأن مرام استقصائها عسير جدا (39)… . وأكد لقارئه أن لو سار على منهجه هذا لأمكنه أن يُدرك خفايا هذه الصنعة ودقائقها .
ثالثا : مشروع حازم في المنهاج
أ – الاحتكام إلى قوانين البلاغة : قَمْع الطباع
فما عسى أن يفعل باحث عربي في وضع حضاري متأزم ؟ كيف يواجه الجهل وسيادة العجمة في مرحلته ؟ وكيف له أن يُصحح ما اختل من الطباع ؟
وما هو المشروع الإصلاحي التقويمي التي يستجيب لتطلعات تلك المرحلة ؟ وما هي آليات ذلك المشروع ؟
من أجل تحقيق الإصلاح استعمل منهجاً ؛ اعتبره آلية به " تُقمَعُ – الطباع – بردها إلى اعتبار الكلام بالقوانين البلاغية ؛ فيُعلم بذلك ما يحسُن وما لا يحسن " (40) . فمشروعه في المنهاج محاولة لقمع طباع مختلة ، وقمعها يتم عن طريق إرجاعها إلى قوانين البلاغة ؛ لتميز الطباع بين ما يحسن وما لا يحسن . وحتى حين تسترد الطباع توازنها ؛ فإنها لا تكفي وحدها ؛ إذ لا بد من معرفة القوانين الأساسية الضابطة للعلم بالشعر . فلا يمكن القول مع المدعين أن صناعة الشعر لا تحتاج أكثر من الطبع ؛ " إذ لم تكن العرب تستغني بصحة طباعها وجودة أفكارها عن تسديد طباعها وتقويمها باعتبار معاني الكلام بالقوانين المصحِّحة لها ، وجعلها ذلك علما تتدارسه في أنديتها ، ويستدرك بعضهم على بعض وتبصير بعضهم بعضا في ذلك " (41) .
إن الجهل بالقوانين الأساسية للعملية الشعرية يُعرض الإبداع إلى الغثاثة والادعاء الكاذب . وقد لاحظ حازم في زمانه أن من أراد أن يصوغ قافية يرفض أن يأخذ أي توجيه أو تبصير ؛ فقد أصبح يظن " أن الشعرية في الشعر إنما هي نظم أي لفظ اتفق ، كيف اتفق نظمه وتضمينه . أي غرض اتفق ، على أي صفة اتفق ، لا يُعتبر عنده في ذلك قانون أو رسم موضوع " (42) .
وهكذا أوقد حازم سراجا يستضيئ به من أراد أن يتعلم كيف يقول الشعر [ سراج الأدباء ] ، وكيف يتمثل حقيقة الشعرية في الشعر. كما هيأ للنقاد المنهاج الذي يسير عليه في تحليل الشعر وتقييمه وتذوقه [ منهاج البلغاء ] . فالشاعر والناقد في حاجة إلى العلم . فالكتاب منهاج البلغاء وسراج الأدباء . ولا يُمكن أن تُحاصر أزمة الثقافة في عصره إلاَّ بالعلم والتعلم . فالشاعر – كما يقول – يحتاج مع طبعه إلى تعليم معلم أو تبصير مَبَصِّر.
فأمام تراجع النفوذ الإسلامي أمام المد المُغولي الصليبي ، وأمام التراجع الحضاري وما لحق القيم والطبائع من اضطرابات وتشوهات ؛ كان لابد من وجود نزعة إصلاحية تبعث التجديد في كيان الأمة ، وتتخذ العلم والتعلم وسيلتين للخروج من التخلف . فإلى أي شيء يحتاج حازم في بناء مشروعه هذا لإقامة العلم بالشعر ؟ يقول :
" وإنما احتجت إلى الفرق بين المواد المستحسنة في الشعر والمستقبحة ، وترديد القول في إيضاح الجهات التي تقبح ، وإلى ذلك غلط أكثر الناس في هذه الصناعة ؛ لأرشد مَن لعل كلامي يحل منه محل القَبول من الناظرين ، وأزَعَ كل ذي حِجْر عما يُتعب به فكرَه ويَصِم شعرَه " (43) .
أي أنه يحتاج إلى آليات التمييز بين الجيد والردئ ، ليرشد العقول إلى جادة الصواب . وهي الآليات التي يتحقق بها العلم بالشعر أي النقد الأدبي . فمن أين سيستمد حازم تلك القوانين الصحيحة التي يتم بها التمييز بين الجيد والردئ ؟
لقد تحددت معالم البلاغة في المشرق ، وتبلورت مباحثها وتطبيقاتها في ساحات النصوص عامة ، واتضحت مناهجها في أقصى الشرق ( خوارزم ، جرجان …) وفي صرة العالم الإسلامي ( العراق الشام مصر اليمن ). فهل يريد حازم أن ياتي بقوانين جديدة تختلف عن القوانين التي تعارف عليها أهل البيان في المشرق والمغرب ؟ وهل يسعى إلى تجاوز ما أنجزه النقاد العرب السابقون ؟ ما هي الوجهة التي سيتخذها لإنجاز مشروعه ، وتأصيل العلم بالشعر ؟ لقد اتجه صوب ديوان الشعر العربي يقرأ دواوين أعلامه ، وإلى جهود النقاد العرب وما وضعوه من آراء وتصورات ، واتجه بشكل خاص إلى ما أنجزه الفلاسفة المسلمون من شروح أو تلخيصات لكتابي الشعر والخطابة الأرسطيين ؛ إذ كانت طبيعة المشروع الإصلاحي تقتضي منه وضع القوانين وتأصيل العلم بالشعر ، فكان لا بد من الاستعانة بأهل الفلسفة ، ومن هنا توقف عند جهود الفلاسفة المسلمين، وحاول أن يستفيد منها ويتجاوزها لما يلبي حاجة مرحلته وطبيعة شعر الأمة التي ينتمي إليها .
ب – مع جهود الفلاسفة المسلمين
اتجه حازم إلى عمل الفارابي (339هـ) ، ومنه : مقالة في قوانين صناعة الشعر ، ويعتبر هذا الأثر تلخيصاً لكتاب الشعر لأرسطو . فوجد أن الفارابي لم يقصد " إلى استيفاء جميع ما يُحتاج إليه في الصناعة وترتيبها ؛ إذ الحكيم ( أرسطو ) لم يكمل القول … في صناعة الشعر " (44) .
ووجد ابن سينا(429هـ) يقول في نهاية تلخيصه لكتاب الشعر لأرسطو : " ولا يبعد أن نجتهد نحن فنبتدع في علم الشعر المطلق ، وفي علم الشعر بحسب عادة هذا الزمان كلاماً شديد التحصيل والتفصيل " (45) .
ولعله اطلع على ما قاله ابن رشد (595هـ) في تلخيصه لكتاب الشعر : " إن ما شَعَر به أهل لساننا من القوانين الشعرية بالإضافة إلى ما في كتاب أرسطو هذا – كتاب الشعر – وفي كتاب الخطابة نَزْرٌٌ َيِسيرٌ " (46).
والفارابي يكتفي بالإشارة إلى ما يحضره من القوانين الشعرية ويقول : " ولو رُمْنا إتمامَ الصناعة التي لم يَرُمِ الحكيم إتمامَها – مع فضله وبراعته – لكان ذلك مما لا يليق بنا " (47) .
وابن سينا بدوره لا يروم إتمام الصنعة ، وإنما يحلم أن تتاح له الفرصة ليجتهد فيبتدع في علم الشعر المطلق .
جـ – فما هو هدف حازم من مشروعه هذا ؟
- هل يريد إتمام ما لم يرم الحكيم إتمامه ؟ وكأنه يريد أن يستكمل نظرية أرسطو في الشعر التي لم يرم الحكيم إتمامها ؛ ولا يرى – مثل الفارابي – أن ذلك لا يليق به .
- وضع قوانين لعلم الشعر عند العرب تربو على ما وضعت الأوائل ؛ فهو في بحثه عن كيفيات التصرف في الشعرية العربية ، وأمام ما تزخر به من أنماط القول في لسان العرب ؛ قال : " فلذلك وجب أن توضع لها من القوانين أكثر مما وضعت الأوائل " (48) .
- يريد أن يحقق حلم ابن سينا . لقد أراد أن يستكمل ما ورد عند أرسطو ، وأن يتجاوز ما وضعته الأوائل ؛ تحقيقا لحلم ابن سينا . وكشف حازم عن ذلك بقوله : " وقد ذكرت في هذا الكتاب من تفاصيل هذه الصنعة ما أرجو أنه من جملة ما أشار إليه أبو علي ابن سينا " (49) . فابن سينا الذي كان يأمل أن يجتهد فيبتدع في علم الشعر المطلق كلاما شديد التحصيل والتفصيل ؛ يأتي حازم ليحقق رغبته وحلمه . فكيف تحقق ذلك الحلم ؟ وهل أتى حازم بما لم تأتِ به الأوائل ؟
د – تحقيق حلم ابن سينا
كانت غاية حازم في مشروعه أن يضع علم الشعر المطلق ، أن يكشف عن جوهر الشعر العربي ، " وما أبدت فيه العرب من العجائب " (50) ، وهذا لا يتأتَّى له إلاَّ بتأصيل منهج لم يُسبَق إليه . يقول : " وقد سلكت في … ذلك مسلكا لم يسلكه أحد قبلي من أرباب هذه الصناعة لصعوبة مَرَامِهِ ، وتوعُّرِ سبيل التوصل إليه … فإني رأيت الناس لم يتكلموا إلا في بعض ظواهر لما اشتملت عليه تلك الصنعة ، فتجاوزت أنا تلك الظواهر … إلى التكلم في كثير من خفايا هذه الصنعة ودقائقها " (51) .
فحازم لا يسلك سبيل من تقدمه ، بل يريد تجاوز النقاد والفلاسفة قبله ليضع علم الشعر المطلق ، ويأتي على حده قوله " بقوانين كلية ، يَعرف بها أحوال الجزئيات مَن كانت له معرفة بكيفية الانتقالات من الحكم في بعض الأشياء إلى الحكم به في بعض " (52) .
وبالرغم من رغبته الشديدة في تناول خفايا الصنعة الشعرية ودقائقها ؛ إلاَّ أن ضرورة التأليف والتواصل مع القارئ تقتضيان أن يقتصر " من هذه الصناعة على ظواهرها ومتوسطاتها ويُمسك عن كثير من خفاياها ودقائقها ؛ لأن مرام استقصائها عسيرٌ جدا ، مضطر إلى الإطالة الكثيرة ؛ ولأن هذه القوانين الظاهرة والمتوسطة أيضا مَن فَهِمَها وأحكَمَ تصوُّرَها وعرَفها حقَّ معرفتها ؛ أمكنه أن يصير منها إلى خفايا هذه الصنعة ودقائقها . ويعلم كيف الحكمُ فيما تشعب من فروعها ، فيحصل له جميع الصنعة أو أكثرها بطريق مختصر " (53) .
فمنهجه العام يقوم على تحديد قوانين كلية بها تُعرف الجزئيات . وكان هذا طموح كثير من الباحثين خلال القرنين السابع والثامن ؛ صونا للقوانين العامة من الاندثار أمام بداية التراجع لحضارة أهل الإسلام آنذاك . من هنا اعتبر الأستاذ محمد الفاضل ابن عاشور أن منهاج حازم في منحاه البلاغي جاء بمنزلة الأصول من الفروع ، أو بمنزلة فلسفة العلم من العلم ؛ كمنزلة رسالة الإمام الشافعي من علم الفقه ، وأنه بموقفه في تأصيل علم البلاغة قد أخرج ( ما وراء البلاغة ) من البلاغة كما يخرج ( ما وراء الطبيعة ) من الطبيعة (54) .
فماذا يقال لمن ذهب إلى أن حازما كان واقعا تحت تأثير أرسطو ، وأنه طبق ما أخذه عنه على البلاغة والنقد العربيين ؟ إذا كان أرسطو قد صاغ قوانينه في ضوء متابعته للتراجيديا الإغريقية ، أو قل في ضوء مادة شعرية أو خطابية لها أسسها وخصائصها ومجالاتها ؛ فكيف لحازم أن يستفيد من تلك القوانين ؟ كيف يتأتَّى لبلاغي أن يعرف ما وراء البلاغة إذا كان يجهل المادة الأولية التي في ضوئها يتم التأصيل والتشريع ؟ فكيف يجلب حازم قوانين لمادة يجهل عنها كل شيء ؟
ألم يُقرر في منهاجه هذا المبدأ ؟ : " مَن يريد أن يستنبط هذه الصنعة ( الشعر ) من صناعة أخرى لعله لا يُحسنها بله هذه ، وذلك غير ممكن ؛ فإنما يُستنبَط الشيءُ من معدنه ويُطلب في مظنته " (55) .
وهل يجهل حازم أنَّ الخطوة الأولى في العلم هي أن نحدد مادته وموضوعه ؟ وإذا كان من البداهة ألاَّ يعرف أرسطو الشعر العربي ، فكيف نقتبس منه قوانين لهذا الشعر ؟ ألم يقل حازم: " لا مُعرَّج على ما يقوله في الشيء مَن لا يعرفه ، ولا التفات إلى رأيه فيه ؛ فإنما يُطلبُ الشيءُ من أهله ، ، وإنما يُقبل رأي المرء فيما يعرِفُه " (56) .
فلماذا انفتح على شروح الفلاسفة وتلخيصاتهم لكتابي الشعر والخطابة ؟
كان طموحه أن يُقيم " علم الشعر المطلق " ، فراح يستعين بجهود الفلاسفة المسلمين لمقاربة ذلك المطلق . حاول أن يبحث عما هو ثابت أو يمكن أن يكون كذلك ، في أية شعرية دون اعتبار للزمان والمكان . أي أنه حاول أن يتجاوز الخصوصيات ليبحث عن الثوابت في أية شعرية كانت . ( وهو توجه ظلت تدعيه الحداثة العربية في انفتاحاتها على الفكر الغربي الحديث ) . وهكذا قال حازم : " ولا يُعتبر الكلام بالنسبة إلى قائل ولا زمان البتة ؛ وإنما يُعتبر بحيث ما هو عليه في نفسه من استيفاء شروط البلاغة والفصاحة بحسب ما وقع فيه ، أو استيفاء أكثرها أو وقوع أقلها فيه أو عدمها بالجملة منه ، ووجود نقائضها أو أكثرها ؛ فبهذا النحو يَصِحُّ الاعتبار " (57) .
هـ – كيف فهم حازم أرسطو من خلال جهود الفلاسفة المسلمين ؟
تتجلى آثار تلك الجهود في نقول حازم عن الفارابي وعن ابن سينا بشكل خاص ، وما يُمكن أن يُقال إنه استفاده من ابن رشد ؛ وإن لم يُشر إليه .
- فقد نقل قولين عن الفارابي [ ص 86 ، 123 ] لا يُعرَفُ مصدرها .
واعتمد أربع عشرة مرة أثر ابن سينا في الشفا ، وقد تبين للباحثين بالمقارنة أن فهم حازم لكتاب أرسطو اعتمد فهم ابن سينا له بشكل خاص . فهذا د. سعد مصلوح في دراسته لنظرية المحاكاة والتخييل عند حازم أن كتابه ينبني كله على أن الشعر محاكاة وتخييل ؛ وهذه مقولة سينوية ولا شك ، كما يقول (58) .
والمثير حقا أن حازما لم يُشر ولو مرة واحدة إلى ابن رشد ، وبينهما قرب عهد ( بين وفاة ابن رشد وولادة حازم حوالي اثنىعشر عاما ) ، وهما ينتميان إلى إقليم واحد .
ويرجح د. عبد الرحمن بدوي أن يكون حازم قد تعمد إغفال ابن رشد ؛ " لأنهما طرقا موضوعا واحدا ؛ ألا وهو تطبيق نظريات أرسطو في الشعر والبلاغة على الشعر والبلاغة العربيين … وهذه ظاهرة نفسية مألوفة لدى المتعاصرين أو المتقاربين في الزمن " (59) .
ويصعب القول إنهما طرقا موضوعا واحدا أي أنهما طبَّقا نظريات أرسطو على الشعر والبلاغة العربيين . كما يصعب قبول إن حازما أغْفَل ذكرَ ابن رشد متعمدا ؛ لأنه أراد أن يُظهر قوته في التطبيق ؛ وكأن المنافسة كانت قائمة بينهما ، ولم تكن كذلك بين حازم وابن سينا .
ويرى د. محمد الحبيب ابن الخوجة أن حازما أغفل ذكر ابن رشد قصداً ، " ولا ندري أسباب ذلك على التحقيق ، ولعله وجده غير أمين في ترجمته لكتاب الشعر لأرسطو أو كان مقصراً لديه عن أن يُضيف من ذلك شيئاً إلى أصول النقد الشعري عند العرب ؛ فدعاه هذا إلى الاستدراك عليه … بوضع كتاب المنهاج الذي جمع بيم المبادئ والأصول الهيلينية والعربية " (60) .
ألم يقل الباحث أن الشلوبين وجه حازما إلى قراءة ابن رشد ؛ فأقبل على مطالعة مصنفاته ؟ لقد كان ابن الخوجة أقرب إلى العلم حين قال إنه لا يدري سببا لإغفال ذكر ابن رشد ؛ أما القول بأن ابن رشد غير أمين في ترجمته لكتاب الشعر؛ فإنه قول فيه شيء من الغموض؛ إذ أن ابن رشد لم يُترجم كتاب الشعر لأرسطو ، ولم يثبت أنه كان يعرف اليونانية . ولم يكن ابن رشد بصدد تأصيل نقد الشعر عند العرب ؛ إنما كان يُلخص الكتاب في ضوء ما عليه من شروح تأتَّى له أن يطلع عليها في زمانه ، ولم يكتف بالتلخيص إنما حاول أن يفهم ويقارن بين ما يقرأه وما يعرفه من تراث الأمة التي ينتمي إليها . ولا أَعتُبِرَ هذا تطبيقا ، كما ذهب القائلون بالتطبيق .
وجاء د. سعد مصلوح فاعتبر أن تلخيص ابن رشد كان بداية منطلق حازم لقراءة الترجمات والشروح الأخرى . واتضح للباحث – شأن د. بدوي – أن ابن رشد قد أفسد المفاهيم الأرسطية بل زيفها ، ونحَل المعلم الأول ما ليس له . ورأى الباحث أن محاولة ابن رشد لم تخلُ من فجاجة لتطبيق ما فهمه من أرسطو على أمثلة من الشعر العربي . وهكذا رجح د. سعد مصلوح " أن حازما إنما أهمل ذكر تلخيص ابن رشد لِمَا رأى فيه من عيوب لا نظنها كانت تخفى على مثله ؛ بل إن محاولة ابن رشد لتطبيق أفكار أرسطو على الشعر العربي … ربما كانت علة انصراف حازم عن الإشارة إلى ابن رشد ؛ لِما تميزت به من الفجاجة الواضحة " (61) .
فلماذا لم يمتعض حازم من تلك الفجاجة – إن كانت حقا فجاجة – ؟ ولماذا لم يشر إلى استفادته من ابن رشد ، وتزييفه لأرسطو – إن كان حقا زيف أرسطو – ؟ وأرى أن سبب إهمال حازم لابن رشد ما يزال يكتنفه كثير من الغموض . ولعل البحث في ظروف المرحلة من الناحية الثقافية قد يُفيد في إزالة ذلك الغموض .
وتزييف ابن رشد لأفكار أرسط من اختلاق بعض المستشرقين ومن تبعهم . فالمستشرقان " رينان " و " دوبور " نسبا إلى ابن رشد الخلط في أداء معاني أرسطو (62) . ود. طه حسين يرى أن ما قدمه ابن رشد عن الخطابة والشعر لا يتفق بجه من الوجوه ومعاني أرسطو ؛ ذلك أن ابن رشد لم يفهم هذه المعاني فحرفها جهد استطاعته " (63) .
ود. بدوي يجده متعسفا بل مزيفا لآراء أرسطو (64) .
فبأي شيء استحق ابن رشد اسم الشارح الأكبر ؟ هل استحقه بالتزييف والفجاجة ؟
وما هو واضح في المنهاج أن صاحبه استفاد من الشروح والتلخيصات والتعليقات حول كتابي الشعر والخطابة مما توافر لديه . ولما كانت غايته أن يحقق حلم ابن سينا فقد اهتم بتلخيصه ، ولاحظ ابن الخوجة أنه " أخذ بطريقته وأحال على تعاريفه وحدوده واستعمل كثيرا من ألفاظه وصيغه ، وذكر أحيانا نفس الأمثلة التي ذكرها الشيخ الرئيس . ولقد اعتمد كتاب فن الشعر لابن سينا لنقل كثير من فِقَر كتاب الشعر لأرسطو " (65) .
والحق أن ابن سينا كان هو معتمد حازم في منهاجه ؛ أما اسم أرسطو فلم يرد في كتابه إلا مرتين .
و– تصور حازم للشعر اليوناني من خلال فهمه لجهود القلاسفة
هناك نص يكشف عن هذا الفهم ، ويقدم لنا تصور حازم للشعر اليوناني من خلال ما فهمه من كتاب الشعر لأرسطو ، نص يحتاج إلى قراءة متأنية قبل الحديث عن مسألة التأثير الأرسطي في منهاج البلغاء . يقول حازم : " فإن الحكيم أرسطاطاليس ، وإن كان اعتنى بالشعر بحسب مذاهب اليونانية فيه ، ونبَّه على عظيم منفعته ، وتكلم في قوانين عنه ؛ فإن أشعار اليونانية إنما كانت أغراضا محدودة يفرضون فيها وجود أشياء وصورٍ لم تقع في الوجود . ويجعلون أحاديثها أمثالا وأمثلة لما وقع في الوجود ، وكانت لهم أيضا أمثال في أشياء موجودة نحواً من كليلة ودمنة ، ونحواً مما ذكره النابغة من حديث الحية وصاحبها . وكانت لهم طريقة أيضاً – وهي كثيرة في أشعارهم – يذكرون فيها انتقال أمر الزمان وتصاريفه ، وتَنَقُّلَ الدول وما تجري عليه أحوال الناس وتؤول إليه . فأما غير هذه الطرق ، فلم يكن لهم فيها كبير تصرف ، كتشبيه الأشياء بالأشياء ؛ فإن شعر اليونانيين ليس فيه شيء منه ، وإنما وقع في كلامهم التشبيه في الأفعال لا في ذوات الأفعال " (66) .
يثير هذا النص مجموعة ملاحظات :
الملاحظة الأولى : أدرك حازم أن أرسطو تكلم في قوانين تخص اليونانيين في مذاهبهم في الشعر .
الملاحظة الثانية : أغراض اليونانيين في الشعر محدودة ، في أوزان مخصوصة. وقد رجع حازم في هذا إلى قول ابن سينا : " نعبر عن القدر الذي أمكننا فهمه من التعليم الأول ؛ إذ اكثر ما فيه اقتصاص أشعار ورسوم كانت خاصة بهم ، ومتعارفة بينهم … وكان لهم … أنواع معدودة للشعر في أغراض محدودة ، ويخص كل غرض وزن " (67) . كما ورد عند ابن سينا في مكان آخر : " واليونانيون كانت لهم أغراض محدودة يقولون فيها الشعر ، وكانوا يخصون كل غرض بوزن على حدة " (68) . وقد ذكر ابن سينا أنواع الشعر اليوناني ؛ مما لم يرد ذكره عند أرسطو ، وحدد تلك الأنواع في اثني عشر نوعاً ، كما عين موضوعاتها .
الملاحظة الثالثة : ولما قرأ حازم ما ذكره ابن سينا عن أنواع أشعار اليونانيين ، وما ورد عن الفارابي قبله ؛ وجد أن مدار أشعار اليونانيين " على خرافات كانوا يضعونها ، يفرضون فيها وجود أشياء ، وصور لم تقع في الوجود . وقد يتكئ شعرهم على خرافات حول أمور موجودة تشبه أمثال كليلة ودمنة " .
فحازم يرى أن شعرهم له منحىً أسطوري لا حظ له من الواقع . وما يقوله حازم هنا عن الخرافات التي كانوا يضعونها ؛ هو ما فهمه من أمر التراجيديا التي تناولها أرسطو ونظَّر لها في كتاب الشعر . فماذا كان يفعل شعراء المسرح اليوناني – في تصور حازم – ؟ كانوا " يختلقون أشياء يبنون عليها تخاييلَهم الشعرية ، ويجعلونها جهات لأقوالهم ، ويجعلون تلك الأشياء التي لم تقع في الوجود كالأمثلة لما وقع فيه ، ويبنون على ذلك قصصا مخترعاً نحو ما تُحدِّثُ به العجائزُ الصِّبيانَ في أسمارهم من الأمور التي يمتنع وقوع مثلها " (69) .
فالمسرحية يتصورها حازم بمثابة حكاية ترويها عجوز للصبيان في أسمارهم . وقد استهان بها ؛ لأنه يجهل عنها كل شيء . وقد وجد ابن سينا يذم ذلك النوع من الشعر ، فنقل عنه قوله : " ولا يجب أن يُحتاج في التخييل الشعري إلى هذه الخرافات البسيطة التي هي قصص مخترعة ". وقال أيضا : " إن هذا ليس مما يوافق جميع الطباع " (70) .
الملاحظة الرابعة : ومدار شعر اليونانيين أيضاً على " انتقال الزمان وتصاريفه ، وتنقل الدول وما تجري عله أحوال الناس " .
هذا ما فهمه حازم عن الجنس الأدبي الثاني عند اليونان ؛ الذي هو الشعر الملحمي ؛ فالملحمة عند " انتقال أمور الزمان وتصاريفه " .
وما عساه أن يفهم عن الملحمة ، والفارابي يسميها " أفيقي " ، ويقول إنها تعني عندهم " سيَر الملوك وأخبارهم وأيامهم ووقائعهم " (71).
وابن سينا يسمي الملحمة " أفي " ، ويقول : " وهو نوع من الشعر تُذكر فيه الأقاويل المطربة المُفرحة لجودتها وغرابتها ونُدرتها " (72) . و " أفي " عنده " كأنه طراغوديات [ أي ترجيديات ] كثيرة مجموعة في خزانة واحدة " (73) .
و" أفيقي " و " أفي " تعني عند الفارابي وابن سينا " إبوس " epos التي هي epopée أي الملحمة .
الملاحظة الخامسة : نجد حازما في هذا النص يرى أن التشبيه في شعر اليونانيين وقع في الأفعال لا في ذوات الأفعال . وحازم يذكر هنا ما قاله ابن سينا: " والشعر اليوناني إنما كان يُقصَد فيه في كثير الأمر محاكاةُ الأفعال والأحوال لا غير . وأما الذوات فلم يكونوا يشتغلون بمحاكاتها أصلا كا شتغال العرب ؛ فإن العرب … كانت تُشبه كل شيء لتعجَب بحسن التشبيه " (74) .
والخلاصة أن ا
- foufou90مشرفة المرسى العام
- البلد :
الجنس :
عدد المساهمات : 3749
نقاط تميز العضو : 148235
تاريخ التسجيل : 24/10/2009
العمر : 34
رد: الاْثر الاْرسطي في منهاج البلغاء لحازم القرطاجني
06/01/11, 09:22 pm
مجهود ممتاز وقيم
جزاك الله خير الجزاء
اتمنى الاستفادة للجميع
جزاك الله خير الجزاء
اتمنى الاستفادة للجميع
- ناديسعضو مشارك
- البلد :
الجنس :
عدد المساهمات : 85
نقاط تميز العضو : 108541
تاريخ التسجيل : 17/03/2010
العمر : 37
رد: الاْثر الاْرسطي في منهاج البلغاء لحازم القرطاجني
10/01/11, 09:41 pm
شكرا صديقتي أعدكم بالمزيد
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى