- عبد القادر الأسودعضو جديد
- البلد :
الجنس :
عدد المساهمات : 18
نقاط تميز العضو : 104270
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 76
البحر في الأدب العربي /2/ ( الشاعرعبد القادر الأسود)
03/09/10, 12:18 am
باب:
البحر في الحديث الشريف
ورد ذكر البحر في الكثير من الأحاديث الشريفة في معرض الإرشاد والموعظة والترغيب في عمل البر كما جاء في بعضها أحكام وتشريعات، ففي الحديث الآتي ينهى رسول الله {صلى الله عليه وسلَّم} عن ركوب البحر لغير ضرورة ، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص {رضي الله عنهما} قال ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ{صلى الله عليه وسلم}(لاَ يَرْكَبَنَّ رَجُلٌ بَحْرًا إِلاَّ غَازِيًا أَوْ مُعْتَمِرًا أَوْ حَاجًّا فَإِنَّ تَحْتَ الْبَحْرِ نَارًا وَتَحْتَ النَّارِ بَحْرٌ وَتَحْتَ الْبَحْرِ نَارٌ وَلاَ يُشْتَرَى مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ فِي ضَغْطَةٍ)).(1) فقد حدّد {عليه الصلاة والسلام } المجالات التي يُسْتَحَبُّ فيها ركوب البحر وهي الجهاد في سبيل الله ، والحجّ والعمرة إلى بيت الله ، لأن الرسول الكريم ما أحبَّ لأمَّته المخاطرة بحياتهم في مغامرات غير مضمونة العواقب ، لذلك نهى عن ركوب البحر فيما لا طائل منه ،كما نهى في هذا الحديث أن يستغل المسلم ضائقة أخيه المسام وحاجته الماسة فيشتري منه متاعه بثمن بخس كما أن كشف الرسول الأعظم ، في هذا الحديث ، عن حقيقة علمية أثبتها البحث العلمي بعد قرون ، ألا وهي أنّه ثمّة نار تحت مياه البحر . نعم في باطن الأرض نار ملتهبة وحمم بركانية، عبارة عن مواد منصهرة من شدّة الحرارة. وهذه التي نشاهدها تخرج من البراكين الثائرة.
أما أن يكون تحت هذه النار بحر آخر فهذا لم يعرفه البحث العلمي الحديث بعد، إلا أن يُراد أنَّ تلك الحُممَ التي في باطن الأرض أشدُّ انصهاراً بحيث تشبه الماء .
والذي هو أقرب للذهن ، بحسب المعطيات الحالية ، أنّك لو واصلت في التقدم نحو مركز الأرض ثم تجاوزت المركز إلى الناحية الأخرى من الكرة الأرضية فإنك تجد من الطرف الآخر للكرة الأرضية بحاراً ومحيطات أخرى ، والله أعلم.(2)
لكن الرسول الكريم الذي حذر من ركوب البحر فيما لا نفع فيه جعل للمؤمن حصناً من خطر هذا البحر الذي لا يُؤمَنُ جانبُه ، فعلمنا كلمات نقولها فنأمنَ من غضب البحر ونتجنّب أخطاره.قَالَ رَسُولُ اللهِ {صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم}(أَمَانٌ لأُمَّتِي مِنَ الْغَرَقِ إِذَا رَكِبُوا الْبَحْرَ أَنْ يَقُولُوا : ((بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ، وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ والأرض جميعاً قبضتُه والسموات مطويات بيمينه ))، الآيَةَ (3)
و هذه قصّةٌ وردت في الصحيحين من طرق متعدِّدةٍ عن رجلٍ مِن بني إسرائيل كان مسرفاً على نفسه ، وعندما حضرته الوفاة جمع أبناءه وقال لهم : أيَّ أبٍ كنتُ لكم ؟ فأثْنَوْا عليه خيراً ، فقال لهم : إني لم أفعل في حياتي خيراً قط ، فو الله لئن قَدِرَ اللهُ عليَّ ليُعذِّبَني عذابًا شديدًا ، فإذا متُّ فحرِّقوني وذرّوا رمادي نصفَه في البرِّ ونصفه في البحر، واخذ عليهم مَوْثِقاً بذلك ، ففعل به بَنوه ذلك لمّا ماتَ ، فأمرَ اللهُ البحرَ فجمع ما فيه ، وأمرَ البرَّ فجمع ما فيه ؛ فإذا هو قائم ، فسأله اللهُ عن ذلك فقال:ما الذي حملك على ذلك ؟ قال : يا ربّ مخافتُك ، قال النبيُّ {صلى الله عليه وسلم}:فغفر الله له.وهذه روايةُ الإمام مسلمٍ فيما رواه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ {رضي الله عنه} أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ {صلى الله عليه وسلم} قَالَ(قَالَ رَجُلٌ لَمْ يَعْمَلْ حَسَنَةً قَطُّ لأَهْلِهِ إِذَا مَاتَ فَحَرِّقُوهُ ثُمَّ اذْرُوا نِصْفَهُ فِي الْبَرِّ وَنِصْفَهُ فِي الْبَحْرِ فَوَ اللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ لَيُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا لاَ يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ فَلَمَّا مَاتَ الرَّجُلُ فَعَلُوا مَا أَمَرَهُمْ فَأَمَرَ اللَّهُ الْبَرَّ فَجَمَعَ مَا فِيهِ وَأَمَرَ الْبَحْرَ فَجَمَعَ مَا فِيهِ ثُمَّ قَالَ : لِمَ فَعَلْتَ هَذَا ؟ قَالَ مِنْ خَشْيَتِكَ يَا رَبِّ وَأَنْتَ أَعْلَمُ . فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ)).(4)
وهذا البحر الزاخر الذي يحتفظ برماد ذلك النادم الذي ظلم نفسه بما فرّط في حقّ الله نراه يضيق بكلمة غيبةٍ من النوعِ الذي لا يعبأ به أكثر البشر ، وفيه انتقاصٌ من قدر إنسان ، ولو كانت هذه الكلمةُ تعبّر عن صفةٍ أَوْدَعها الخالقُ {سبحانه} فيه وليست من كسبه ، كالطول أو القصر أو غير ذلك ، فعن أمِّ المؤمنين السيدة عائشة الصدّيقة {رضي الله عنها} قالت:قلتُ للنبيّ{صلى الله عليه وسلم} حَسْبُك من صَفيّةَ كذا وكذا ــ تعني : قصيرة ــ فقال (لقد قلتِ كلمةً لو مُزِجَتْ بماء البحر لمزجتْها)).(5) إذاً، لقد مازجت هذه الكلمةُ الغيبةُ ، من الصِدِّيقةِ ابنةِ الصِدّيق {رضي الله عنهما} ماء البحر الكثير والكثير جدّاً بالسوء، فنهاها الرسولُ الكريمُ أن تعود لمثلها ، وفي ذلك تعليم لنا وتحذير من أن يقع بعضُنا في عِرض البعض الآخر ، وشبّه في حديثٍ آخرَ هذا العمل بأكلِ لحمِ الجيفةِ وما فيه من إثم عظيم.
وهذه صورةٌ أخرى للبحر في الحديث الشريف ، صورة الإنسان المؤمن الذي يخاف الله {عزَّ وجلَّ} ويؤتمن على دراهم فيحفظ الأمانة ويحملها من شاطئ إلى شاطئ ليؤديها إلى صاحبها . فعن أبي هريرة {رضي الله عنه} عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال (كان رجلٌ يُسلِّفُ الناسَ في بني إسرائيل ، فأتاه رجلٌ فقال : يا فلان أسلفني ستَّ مئةِ دينارٍ . قال : نعم إن أتيتني بكفيلٍ . قال : اللهُ كفيلي . فقال : سبحان الله، نعم قد قبلتُ اللهَ كفيلاً ، فأعطاه ستَّ مئة دينار ، وضرَبَ له أجلاً ، فركب {الرجلُ}البحرَ بالمال ليتَّجر به ، وقدَّر اللهُ أنْ حلَّ الأجلُ وارتجَّ البحرُ بينهما ، وجعل ربُّ المال يأتي الساحلِ يسألُ عنه ، فيقول : الذين يسألهم عنه تركناه بموضع كذا وكذا ، فيقول : رَبُّ المالِ اللهمَّ أخلِفني في فلان بما أعطيتُه بك ، قال : وينطلق الذي عليه المالُ فينحت خشَبَةً ويجعل المالَ في جوفِها ثم كتبَ صحيفةً من فلان إلى فلان : إنّي دفعتُ مالك إلى كفيلي ، ثمَّ سَدَّ على فَمِ الخَشَبَةِ فرمى بها في عُرْضِ البحر ، فجعل {البحرُ}يهوي بها حتّى رمى بها إلى الساحل ، ويذهب رَبُّ المال إلى الساحل فيسألُ فيجد الخشَبَةَ فحَمَلَها فذهب بها إلى أهله ، وقال : أوقدوا بهذه فكسروها فانتثرت الدنانير والصحيفة ، فأخذها فقرأها فعرَف ، وتقدم الآخر فقال: له ربُّ المال: مالي ، فقال : قد دفعتُ مالي إلى كفيلي الموكل بي ، فقال له : أوفاني كفيلُك)) قال أبو هريرة فلقد رأيتُنا يكثر مِراؤنا ولغطُنا عند رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بيننا أيهما آمن {أكثر أمانةً}. (6)
وفي هذه القصة التي حكاها الحديث الشريف آنفاً ما لا يخفى من بليغ الموعظة وعظيم العِبرة , من وجوب وفاء المرء بعهده وأدائه ما في ذمته من دينٍ. فإذا صدق في عهده وأخلص في نيّتِه ، وحالت بينه وبين وفائه ظروف قاهرة ، خارجة عن إرادته ، أدّى الله عنه ،كما ورد في
أحاديث أخرى لا مجال لذكرها في هذا الكتاب .
وهذا البحر الزاخر بالعجائب الفيّاض بالخيرات المؤدّي للأمانات، محبٌّ للخير يجلُّ العلمَ ويحترم العلماء ، حتى إن أسماكه وحيتانه تشارك الموجودات بالدعاء والاستغفار لطلبة العلم فيما روَاهُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ {رضي الله عنه}قَالَ:قَالَ رَسُولُ الله {صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم}(طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ، وَطَالِبُ الْعِلْمِ ــ أَوْ صَاحِبُ الْعِلْمِ ــ يَسْتَغْفِرُ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى الْحُوتُ فِي الْبَحْرِ)).(7)
والبحر بعد ذلك طاهرٌ مطهِّرٌ عند النبيِّ الخاتم ، فقد سأله رَجُلٌ فقَالَ :
يَا رَسُولَ الله ، إِنَّا نَرْكَبُ أَرْمَاثًا فِي الْبَحْرِ ، فَنَحْمِلُ مَعَنَا الْمَاءَ لِلشفه، فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِمَائِنَا عَطِشْنَا ، وَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِمَاءِ الْبَحْرِ ، كَانَ فِي أَنْفُسِنَا مِنْهُ شَيْءٌ ! فَقَالَ رَسُولُ الله:{صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم}(هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ)).(
وعنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيُّ {صلى الله عليه وسلم} قَالَ(مَنْ لَمْ يُطَهِّرْهُ الْبَحْرُ فَلاَ طَهَّرَهُ اللَّهُ)).(9) وهو دعاء منه {عليه الصلاة والسلام} على مَن شكَّ في هذا الحكم الشرعي الذي شرعه النبيُّ الكريم ، وفيه أيضاً نفي
لوسواس النفس والشيطان .
وقد حرص الرسول على أمته أشدَّ الحرص ، ولا غرو فهو أرحم بنا من أنفسنا ، لأنه ربما يضرُّ أحدُنا نفسه عن جهل أو تهوّرٍ وربما تأخذُه شهوات نفسِه ووساوس شيطانِه إلى ما فيه هلاكه ، أمّا رسولُ الله فهو المعصوم عن الخطأ الذي(وما ينطق عن الهوى * إن هو إلاّ وحيٌ يوحى)).(10) وهو الرحمةُ المهداةُ ، وقد وصفَه ربُّهُ بأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، قال تعالى في كتابه العزيز( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ)).(11) وقال في أيضاً(لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)) (12)
وجاء ذكر البحر في حديث آخر من هديه {عليه الصلاة والسلام} مثل للحياة الاجتماعية بسفينة في البحر والمجتمع فيها كجماعة من ركّابها ، جماعة في أعلاها وجماعة في أسفلها ، ولنَستمِعْ إلى النعمان بن بشير {رضي الله عنه} يروي هذا الحديث عن سيدنا رسول الله،قال:قال رسول الله(مثل القائم على حدود الله والمداهن فيها ، كمثل قوم استهموا ، على سفينة في البحر ، فأصاب بعضُهم أعلاها وبعضُهم أسفلَها، وكان الذين في أسفلها يخرجون فيستقون الماء ويشقّون على الذين في أعلاها ، فقال الذين في أعلاها:لا ندعكم تمرون علينا فتؤذونا، فقال الذين في أسفلها : إن منعتمونا فتحنا بابا من أسفلها، فإن أخذوا على أيديهم فمنعوهم ، نجوا جميعاً ، وإن تركوهم هلكوا جميعاً)).(13) إذاً نحن في هذه الحياة مجتمع متكافل متضامن خيره يعم الجميع وشرُّه كذلك ، فيجب على الفرد أن يراعي مصلحة الآخرين في تصرّفاته الشخصيّة ، فهو حرٌّ طالما أنّ حرّيته الشخصيّة هذه لا تتعارض مع حريات الآخرين ، ثم إنه من الواجب على المجتمع أنْ يمنع الانحراف عن الخط القويم والصراط المستقيم وإلاّ حصد السوء .
وهذا حديث آخر في نفس السياق تقريباً ، يوجب الاحتياط للأمور وعدم الزجّ بالنفس في المخاطر وتعريضها إلى المهالك ، فإنَّ الله الذي خلق هذه النفس محاسبٌ صاحبَها عن كلِّ ضرر يلحقه بها عامداً متعمّداً ، وليس من حقِّ المرء أن يقول {نفسي وأنا حرٌّ بها} .
لذلك يقول رسول الله {صلى الله عليه وسلم}(مَنْ بَاتَ عَلَى سَطْحٍ لَيْسَ بِمَحْجُورٍ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ ، وَمَنْ رَمَى بِلَيْلٍ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ، وَمَنْ رَكِبَ الْبَحْرَ فِي ارْتِجَاجِهِ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ)).(14)
وَارْتِجَاجُ الْبَحْرِ هَيَجَانُهُ . والمؤمن محظور عليه أن يركب البحر حال هياجه ، وكذلك أن ينام على سطح غير مسيّج أو أن يرمي السهم ليلاً ، ومثلُ السهمِ الرصاص في عصرنا ، فهو أمر محظور في الليل إلا إذا كان الإنسان يرى ما يرميه ، لما في ذلك كله من مخاطرة بالنفس البشرية، إذ قد تؤدي هذه الأفعال إلى هلاكها ، وهي وديعةُ اللّه عندك أيها الإنسان فيجب عليك المحافظة عليها لا أن تعرضها لما يسيء إلى هذه الأمانة .
ثمّ نختم هذا الباب بجملة من الأحاديث التي بشّر بها رسول الله{صلى الله عليه وسلم} أمته بأنه سوف يركبون البحر فاتحين ، وبأنهم سوف يسيطرون عليه ، حتى يكون لهم بمثابة سرير الملك ،فعن سيدنا عمر بن الخطاب {رضي الله عنه} قال:قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم}(يظهر الإسلام حتى تخوض الخيل البحار ، وحتى يختلف التجار في البحر ..)).(15) عن أنس بن مالك قال ، قال رسول الله {صلى الله عليه و سلم} : ((يركب قومٌ من أمّتي ثَبَجَ البحر ، أو ثَبَجَ هذا البحر، هم الملوك على الأسِرَّة أو كالملوك على الأسِرَّة)) . (16)
و في حديث آخر عن الصحابيّة الجليلة أُمِّ حَرَامٍ أنّها سَمِعَتْ رَسُولَ اللهِ {صلى الله عليه وسلم} يَقُولُ(أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ هَذَا الْبَحْرَ،قَدْ أَوْجَبُوا، قَالَتْ أُمُّ حَرَامٍ: يَا رَسُولَ اللهِ ، أَنَا فِيهِمْ ؟ قَالَ: أَنْتِ فِيهِمْ ثم قَالَ:أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ مَدِينَةَ قَيْصَرَ،مَغْفُورٌ لَهُمْ قَالَتْ أُمُّ حَرَامٍ : يَا رَسُولَ اللهِ،أَنَا مِنْهُمْ ؟ قَالَ : لا)) . (17)
وقد رغّب {عليه الصلاة والسلام} أمَّته بركوب البحر جهاداً في سبيل الله وإعلاءً لكلمته ، جاء ذلك في أحاديث كثيرة نذكر بعضاً منها(وغزوة في البحر خير من عشرِ غزوات في البرِّ ومَنِ اجتاز البحرَ فكأنما اجتاز الأودية كلَّها والمائدُ فيه كالمتشحِّطِ في دَمِه)).(18) فالأجر على قدْر المتاعب والمخاطر ، ولا يخفى أنَّ الغزو في البحر أعظم خطراً من البحر وأن متاعبه أشدً.
وقد فضّل {عليه الصلاة والسلام} شهادة البحر على الشهادة في البرِّ، قال(إن شهداء البحر أفضل ُعند الله من شهداء البر)).(19) والسببُ واضح كما سلف ، ولذلك اندفع المسلمون ، ومنذ عصر الإسلام الأول وعبر القرون المتتالية حتى أواخر أيام الدولة العثمانية ، يصارعون أمواج البحار لينشروا النور والهداية في أصقاع المعمورة فوصلت زحوفهم إلى فيينا وقرعت أبواب باريس ورفعت راياتها على سوار الصين .
وعن الصحابي الجليل سلمان الفارسي {رضي الله عنه} عن النبي{صلى الله عليه وسلم} قال(إنّ الله عز وجل يقبض أرواح شهداء البحر بيده ولا يَكِلهم إلى ملك الموت ، ومَثَلُ روحِهِ حين يخرج من صدره كمثل اللبن حين يدخل صدره)).(20)
وعن أنس بن مالك {رضي الله عنه} عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنّه قال(من حرس ليلة على ساحل البحر كان أفضل من عبادة رجل في أهله ألف سنة السنة ثلاث مئة وستون يوماً كل يوم ألف سنة)).(21)
فهنيئاً للمجاهدين في سبيل الله الذين تجشّموا الصعاب وركبوا المخاطر وطووا البحار لينشروا نـور الإســـلام والحق والعدالـــة حاملين إلى البشريّة رسالة الله التي فيها عزهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة ، ففازوا برضوان الله ومحبّته وجزيل عطائه .
فقد صدق الصحابة الكرام {رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم} عهدهم لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} عندما قام سعد بن عبادة خطيباً باسم الأنصار {رضي الله تعالى عنهم} قُبيْل غزوة بدر إذ كان الرسول خرج بأصحابه يريد قافلة لقريش الذين أخرجوهم من ديارهم وأموالهم وقد حان الوقت ليستردّوا بعضَ ما سُلب منهم ، ووصل الخبر إلى أبي سفيان فقاد القافلة بعيداً فنجت ، وخرج جيش المشركين من مكة بقيادة أبي جهل لقتال المسلمين ، وتغيرت أهداف خروجه {صلى الله عليه وسلم} فطلب المشورة من أصحابه فقام عدد من المهاجرين مفوضين الأمر إليه، ولكنّه {صلى الله عليه وسلم} كان في كلِّ مرة يقول : ((أشيروا عليَّ فقام)) زعيم الأنصار سعد بن عبادة {رضي الله عنه} فقال : ((إيانا تريد يا رسول الله ؟ والذي نفسي بيده لو أمرتنا أنْ نُخيضها البحر لأخضناها ولو أمرتنا أنْ نَضرِبَ أكبادَها إلى بَرْك الغَمادِ لفعلنا)). (22) وبرك الغماد مكان كثير السباع شديد المخاطر يعدل في خطره البحر وربما فاقه ، فجزاهم الله تعلى عن الإسلام والمسلمين ما يليق بكرمه فقد كانوا كما وصفهم ربهم(وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحقَّ بها وأهلها)).(23)
مصادر الباب الثاني:
1 ــ السنن الكبرى للبيهقي ج 6 ص : / 18 / .
2 ــ أسئلة وأجوبة في الإيمان والكفر - (ج 1 / ص 75)
3 ــ إطراف المسند المعتلي بأطراف المسند الحنبلي - (ج 1 / ص 273)
4 ــ صحيح مسلم - (ج 8 / ص 97)
5 ــ جمع الجوامع أو الجامع الكبير للإمام السيوطي(ج1 ص 16465) حديث حسن صحيح .
6 ــ التبويب الموضوعي للأحاديث - (ج 1 / ص 21354)
7 ــ إتحاف الخيرة المهرة - (ج 1 / ص 197)
8 ــ إتحاف الخيرة المهرة - (ج 6 / ص 121)
9 ــ السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي - (ج 1 / ص 4)
10 ــ سورة النجم الآيتان : / 3و4 / .
11 ــ سورة الأحزاب ، الآية : / 6 / .
12 ــ سورة التوبة الآية : / 128 / .
13 ــ البحر الزخّار ـ مسند البزّار - (ج 8 / ص 191)
14 ــ إتحاف الخيرة المهرة - (ج 6 / ص 479)
15 ــ البحر الزخار ـ مسند البزار - (ج 1 / ص 367)
16 ــ مسند أحمد بن حنبل - (ج 3 / ص 240)
17 ــ إطراف المسند المعتلي بأطراف المسند الحنبلي - (ج 9 / ص 484)
18 ــ التبويب الموضوعي للأحاديث - (ج 1 / ص 16604)
19 ــ التبويب الموضوعي للأحاديث - (ج 1 / ص 16823)
20 ــ التبويب الموضوعي للأحاديث - (ج 1 / ص 16842)
21 ــ التبويب الموضوعي للأحاديث - (ج 1 / ص 16678)
22ــ التبويب الموضوعي للأحاديث - (ج 1 / ص 17019)
23 ــ سورة الفتح ، الآية : / 26 / .
باب:
البحر في النثر العربي
في الواقعِ لا يمكنُنا أن نَسْتَقْصيَ كلَّ ما ذكرَه العربُ عن البحرِ في نَثْرِهم منْ حكاياتٍ ورواياتٍ وخُطبٍ ومَلاحِمَ شعبيَّةٍ ، لأنّ النثْرَ كثيرٌ وكثير جدّاً، لكنّنا سنوافيك ــ عزيزي القارئ ــ من كلِّ وادٍ بزهرة ، وقد تمثّل الربيعَ زهرة ،إنَّما سنبدأ بأديب كبيرٍ من أُدباءِ العربيَّة ، ألا وهو الأديبُ الكبيرُ مصطفى صادق الرافعي ، لِمــا في ذلك مِنْ مَغْزًى عميقٍ ستلاحظُه ــ أيّها القارئ الكريمُ ــ وأنت تستعرضُ نصوصَه .
فالبحرُ ــ عند الرافعي ــ أنثى تحمل وتلد ، إنّما تَلِدُ المعانيَ للشعراءِ بينما تلدُ النساءُ البناتِ والأبناءَ ، وتلد الأرضُ النباتَ والحدائقَ الغَنّاء ، يقول : ((ويرى الشعراءُ في ساحلِكَ ما يَرون في أرضِ الربيعِ ، أنوثةً ظاهرةً تَلِدُ المعانيَ لا النّباتَ )) . (1) ليلاقي ، في نظرته هذه ، الشاعرَ الكبيرَ : حافظ إبراهيم، الذي يقول بلسان حال اللغة العربية :
أنا البحر في ساحلـــه الـدرُّ كامنٌ
فهل سألوا الغوّاص عن صَدفاتي ؟
والبحرُ هو الربيعُ الثاني يوحي بلونِه الأزرقِ ما يوحيه الربيعُ بلونِهِ الأخضرِ من سعادةٍ ولكنْ أرقُّ وألطفُ،يقول(إذا احتدم الصيفُ ، جعلتَ أنتَ أيها البحرُ للزمن فصلاً جديداً يُسمّى {الربيع الثاني} ويوحي لونُك الأزرقُ إلى النفوس ما كان يوحيه لونُ الربيــــعِ الأخضرُ إلاّ أنَّه أرقَّ وألطفَ)).(2)
أما العُشّاقُ فإنّهم يسمعون صدىً لتأوُّهاتِهم في أنسامِ البحرِ اللطيفةِ، يقول(ويُحسُّ العُشّاقُ عندك ما يُحِسّونَه في الربيعِ:أن الهَواءَ يَتأوّهُ..! وبالربيعين الأخضرِ والأزرقِ ينفتحُ بابان للعَالَمِ السِّحْرِيِّ العَجيبِ)).(3)
هكذا،إذاً،نظر الرافعيُّ إلى البحرِ،فهو إنسانٌ رَهيفُ الحِسِّ ، متعاطفٌ مع العشّاق،يَرِقُّ لعذاباتِهم،ويتعذّبُ لآلامِهم،ويُشاركُهم تَأوُّهاِتهم كما يُشاركُ الربيع بإضفاءِ السّحرِ والجَمالِ والبَهْجةِ على الكونِ ليَسْعَدَ الإنسانُ ، ويُشاركُ السماءَ في رسمِ صورةٍ سِحْريَّةٍ تَطوفُ بخيالِ الإنسانِ ، وتَسبحُ به في عَوالِمَ تَسرحُ بالقلبِ وتَخْلُبُ اللُّبَّ(ما أجملَ الأرضَ على حاشيةِ الأزرقيْن البحرِ والسماءِ ، يَكادُ الجالسُ هنا يَظُنُّ نفسَه مَرسوماً في صُورةٍ إلهيَّةٍ)).(4)
ثمَّ إنَّ البحرَ عنـده عــينُ الكرةِ الأرضيّـةِ التي تبكي بها أسىً وحُزناً على مصيرِها الذي ستؤولُ إليه يوماً ما ، عندما يَحينُ حِينُها ، يقول :
(( وقفتُ يوماً على شاطئِ البحرِ،فخُيِّلَ إليَّ أنّهُ عيْنٌ تَبكي بِها الكُرةُ الأرضيَّةُ بكاءً على قَدَرِها)). (5)
والبحرُ ، في نظرِه ، جَبّارُ الحياةِ ، تتجلّى فيه صفاتُ القوَّةُ والشِّدَّةُ والعُنْفُ في أجْلى مَظاهِرِها ، كما يتجلّى فيه اللّينُ في أبهى تَجَلياتِه ، فهو إذاً جامعُ الضِدّيْنِ ، ومَظهرُ المُتناقضيْن ، في هذا الجانبِ ، لكنّه حين يَصِفُه بالقَداسَةِ،وسَعَةِ الرّوحِ،ونقاءِ المادّةِ،لا يَذكُرُ أضدادَها يقول(كنْ مثلي جَبّارَ الحياةِ،مُجْتَمِعاً مِن أَلْيَـنِ اللّـينِ وأَعنفِ القُوَّةِ، كنْ مِثلي قِدِّيسَ الحيــاةِ ، واسعَ الروحِ ، نظيفَ المـــادّةِ ، مستعيناً لواحدةٍ بواحدةٍ)). (6)
كما يَرى أنّ البحرَ دائمَ التَّجَدُّدِ ، دائمَ الحركةِ ، حتى لا ييأسَ وحتّى لا تَفْسُـدَ مياهُه، فهو لذلك يدعو الإنسانَ ليقتديَ بالبحرِ ، فيكونَ دائمَ الحركةِ ، يسعى إلى تجديدِ نفسِه حتى لا يتسرَّبَ إليها اليأسُ،وحتّى لا يتغلغلَ فيها الوّهْنُ فيُفِسدَها،يقول(وأعرف للبحر في نفسي كلاماً ، فهو يوحي إليَّ أنْ تَجَدَّدْ في آمال ِقلبِكَ كأمواجي لِكيْلا تَمَلَّ فتيْأسَ ، وتحرّكْ..تحرّكْ في نَزَعاتِ نفسِكَ كتياري لئلاّ تَـرْكُدَ فَتفْسُدَ، وتَوَسَّعْ، تَوَسَّعْ في مَعاني حياتِك كأعماقي لئلا تَمتلئَ فتتعكَّرَ،وتَبَحَّرْ تَبَحَّرْ في جَـوِّكَ الحُرِّ كرِياحي لِئلاّ تَسْكُنَ فتَهْمَدَ)). (7) ويَقْصِدُ بالتَبَحُّرِ ــ هنا ــ
التوسُّعَ .
وثمّةَ حوارٌ شيّقٌ بديعٌ في كتابِ جواهرِ الأدَبِ أجراه مؤلِّفُهُ على لسانِ كلٍّ من البرِّ والبحرِ يتحدّث فيه كلٌّ منهما عن خصائصِه ومزاياه ومزايا صاحبِه وما خصّهما اللهُ به، وما أبدع فيهما من عجائبِ الخَلقِ وغرائبِه ، يقول على لسان البرِّ(يا صاحب الدَرِّ ومَعْدِنَ الدُرِّ ، أَطرقتَ رياضي ومزّقتَ جسوري وأحواضي، وأغرقتَ جُثّتي ، ودخلتَ جَنَّتي ، وتلاطمت أمواجُك على وجنتي ، وأكلت جَزائري وجُروفي ، وأهلكت مرعى فَصيلي وخَروفي ، وأهزلتَ ثوري وحَمَلي ، وفَرسي وجَملي ، وأَجريْتَ سُفُنَك على أرضٍ لم تجرِ عليها ، ولم تُمِلْ طَرْفَ غُرابِها إليها ، وغَرَستَ أوتادَها على أوتادِ الأرض ، وعَرَّسْتَ في مواطِنِ النَّفْلِ والفرض ، وجعلتَ مَجرى مراكِبِك في مجرى مراكبي ، ومشى حُوتُك على بطنِه في سعدِ أخبيةِ مَضاربي ، وغاص ملاحُك في ديار فرحي ، وهاجرتَ من القُرى إلى أمِّ القِرى ، وحَمَّلتَ فلاحي أثقالَه على القِرى ، وقد تلقيْتُك من الجنادِلِ بصَدْري ، وحَمَلتُك إلى بَرزَخِكَ على ظهري ، وقبَّلتُ أمواجَك بثغري ، وخَلَقتُ مقياسي فرَحاً بقدومِك إلى مِصري ، وقد حيَّرتَ وعدّلتَ وفعلتَ فلعلَك . تَغيضُ ولا يكون ذهابُك عن ذهابِ بغيض ، أو تُفارق هذه الفجاجَ وتختلط بالبحرِ العَجّاجِ ، وإنْ لم تفعلْ شَكَوْناك إلى مَن أنزَلَك من السماءِ ، وأنعمَ بك علينا من خزائنِ الماء ؟
إذا لم تكن ترحم بلاداً ولم تُغِثْ
عِبــــاداً فمولاهمُ يُغيثُ ويرحــمُ
وإن صدرتْ منهم ذنوبٌ عظيمةٌ
فعفو الذي أجراك يا بحرُ أعظمُ
نَمُـــــــدُّ إليــــه أيدياً لـم نَمُدَّهـــــا
إلى غيرِهِ واللهُ بالحـــــــــــــالِ أَعلَمُ
ثم قال على لسان البحر: يا بَرُّ يا ذا البِرِّ ، أهكذا تُخاطِبُ ضيفَك وهو يُخصِبُ شتاءك وصيفك ؟! وقد ساقني اللهُ إلى أرضِكَ الجُزُرِ ومَعْدِنِ الدَرِّ والخَزْرِ لأُبْهِجَ زرعَها وخيْلَها ، وأُخرجَ أَبَّها ونخيلَها، وأُكرِمَ ساكنَك، وأُنزِلَ البَرَكَةَ في أماكنِك ، وأُثبِتَ لك في قلبِ أهلِكَ أحكامَ المحبَّةِ ، وأُنْبِتَ بك لهم في كلِّ سُنبلةٍ مئةَ حبَّةٍ ، وأُحْييكَ حياةً طيِّبةً يبتهجُ بها عمرُك الجديدُ ، وتتلو {كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى}. ( ألسنةُ العبيدِ ، وأُطهِّرُك من الأوساخ ، وأحمِلُ إليك الإبليز فأُطيّبُك به من عَرَقِ السِباخ ، وأنا هديَّةُ اللهِ إلى مِصرِك ، ومَلِكُ عَصرِك القائمُ بنصرِك ، ولولا بركاتي عليك ومسيري في كلِّ مَسْرى إليك ، لكنتَ وادياً غيرَ ذي زرعٍ وصادياً غيرَ ذي ضَرْعٍ .
سَرَيْتُ ، أنا ماءَ الحيــاة ، فلا أَذًى
إذا ما حَفِظتَ الصحْبَ فالمالُ هيّنُ
فكن خَضِراً يا برُّ واعْـلَـــــــمْ بأنّـني
إلى طينِك الظمــــــآنِ بالرِيِّ أُحْسِنُ
وأَسعى إليــــه مِن بـــلادٍ بعيــــــدةٍ
وأُحْسِنَ أَجْـــري بالتي هي أحسَنُ
إذا طاف طُوفــــاني بمِقياسُكَ الذي
يُسِرُّ بإتْيــانِ الوفــــــــــــــــــاءِ ويُعلنُ
فقُـمْ وتَلَقّـــــــاهُ ببسطتِــــــــــك الـــتي
لروضها فضــــــلٌ على الروض بيّنُ
ولَعَمْري لقد تَلَطَّفَ {البرُّ} في عتابِه وأحْسَنَ ، ودَفَعَ{البحرُ} في جوابِه بالتي هي أَحسنُ ، وقد اصْطَلَحا ، وهُما بحمدِ اللهِ أَخَوانِ مُتضافران على عِمارةِ بلادِهِ ونَشْرِ الثروةِ ونُمُوِّ الخيرات بين عبادِه ، فاللّهُ تعالى يُخصِبُ مَرْعاهما ويَحرُسُهما ويَرْعاهُما.(9)
وركبَ ابنُ مُكانس البحر فكَتَبَ إلى والده يصف البحرَ ومخاطرَه وسفنَه ومخاطرَ هذه المغامرة وتمنّيه بانتهائها ، لا سيما وقد أخذ العطش منه كلَّ مأخذ، ولا ألذَّ من الماء على الظمأ فكيف إذا كان يرى الماء من حوله لكن هذا الماء لا يبلُّ ليلاً ولا يروي ظمأً ، يقول مستعملاً لغة العروضيين (..يا مولانا وأَبُثُّك ما لاقيتَ مِن أهوالِ البحرِ وأُحدِّثُ عنه ولا حرج ، فكم وَقَعَ المملوكُ من أعاريضه في زُحافٍ تَقطعُ منه القلبَ لَمّا دَخَلَ إلى دوائرِ تلك اللُّجَجِ ، وشاهدتُ منه سلطاناً جائراً يأخُذُ كلَّ سفينةٍ غَصْباً، ونَظَرْتُ إلى الجَواري الحِسان ، وقد رَمَتْ أُزُرَ قُلوعِها وهي بين يديه ــ لقلَّةِ رجالها ــ تُسبى، فتحقّقتُ أنَّ رأيَ مَن جاء يَسعى في الفُلْكِ غيرُ صائبٍ،واستصوبْتُ ــ هنا ــ رأيَ مَن جاء يمشي وهو راكبٌ، وزاد الظمأُ بالمملوكِ وقد اتّخذَ في البحرِ سبيلَه ،وكم قُلتُ من شدَّةِ الظمأ: يا تُرى ــ قبلَ الحُفرةِ ــ أَطْوي مِن البحرِ هذه الشُقَّةَ الطويلة ؟
وهل أُباكِرُ بحرَ النيلِ مُنْشرِحاً وأَشربُ الحلوَ مِن أَكوابِ مَلاّحِ
بحرٌ تلاطمت علينا أمواجُهُ حتّى مِتْنا مِن الخوفِ ، وحَمَلْنا على نَعْشِ الغُرابِ، وقامت {واواتُ} دوائرِهِ مقامَ {مع} ، فنَصِبْنا للغَرَقِ لما استوت المياهُ والأخشابُ ، وقارن العبدُ ، فيه ، سوداءَ اسْترقَّتْ مَواليَها وهي جاريةٌ ، وغَشِيَهم منها،في اليَمِّ ، ما غَشِيَهم، فهل أتاك حديثُ الغاشيَةِ واقَعَها الريحُ فحَمَلَتْ بِنا، ودخلها الماءُ فجاءها المخاضُ ، وانشقَّ قلبُها لِفَقْدِ رجالِها ، وجَرى ما جَرى على ذلك القلبِ ففاضَ ، وتَوَشَّحَتْ بالسَوادِ في هذا المأْتَمِ ، وسارَتْ على البَحرِ وهي مَثَلٌ ، وكم سُمِعَ فيها للمَغارِبَةِ على ذلك التَوْشيحِ زَجَلٌ بِرَجّ مائي ولكن تعرب في رفعها وخفضها عن النسر والحوت وتتشامخ كالجبال وهي خشب مسندة من تبطنها عد من المصبرين في التابوت تأتي بالطباق ولكن بالمقلوب لأن بياضها سواد وتمشي مع الماء وتطير مع الهواء وصلاحها عين الفساد إن نقر الموج على دفوفها لعبت أنامل قلوعها بالعود وترقصنا على آلتها الحدباء فتقوم قيامتنا من هذا الرقص الخارج ونحن قعود وتتشامم وهي كما قيل أنف في السماء وإست في الماء وكم تطيل الشكوى إلى قامة صاريها عند الميل وهي الصعدة الصماء فيها الهدى وليس لها عقل ولا دين وتتصابى إذا هبت الصبا وهي ابنة مائة وثمانين وتوقف أحوال القوم وهي تجري بهم في موج كالجبال وتدعي براءة الذمة وكم أغرقت لهم من أموال هذا وكم ضعف نحيل خصرها عن تثاقل أرداف الأمواج وكم وجلت القلوب لما صار الأهداب مجاذيفها على مقلة البحر اختلاج وكم أسبلت على وجنة البحر طرة قلعها فبالغ الريح في تشويشها وكم مر على قريتها العامرة فتركها وهي خاوية على عروشها تتعاظم فتهزل إلى أن ترى ضلوعها من السقم تعد ولقد رأيتها بعد ذلك التعاظم وقد تبت وهي حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد)).(10)
أمّا صاحب كتاب {الله يتجلّى في عصر العلم} فقد نحا في نظرته إلى البحر منحىً آخر ، منحى الاعتبار بما في البحر من جمال وعجائب دالّة على عظيم قدرة الخالق {سبحانه} وبديع خلقه ، وما يتركه ذلك في نفس الإنسان دهشة ممزوجة بالسعادة والمُتعة والعَجْزِ عن إدراكِ كُنْهِ ذلك كلِّهِ، فكيف يستطيع هذا الإنسانُ أن يُدرِك الذاتَ الإلهيّةَ التي أبدعت هذه الموجودات ؟ يقول (..انظر إلى النغم الموسيقي الرائع كم يثير في الأسماع من بهجة ورضا ، وكم يحرك في النفس من عواطف وأحاسيس.. إنّك لو ذهبتَ تطلُبُه بفكرك في طبقات الأثير ، تَرُدُّ كلَّ ذبذبةٍ فيه إلى ضوابطَ من الفَنِّ ، وقواعدَ من العِلم ، لأعْيَتْكَ مَذاهِبُه ، ولانتهى بك المطافُ إلى غيرِ طائل .. ، ثمَّ انْظرْ إلى البحرِ في سَعَتِه وامتدادِه.. كم تأخُذُ صفحتُه الرقراقةُ المتموِّجةُ من نفسِك ، وكم تبلُغُ عَظَمَتُه وروعتُه من قلبك حين تَملأُ عينَيْكَ منه ، وتُرَدِّدُ النظرَ فيه ، ثمَّ انْظُرْ كيف بك إذا ألقيتَ بنفسِكَ في عُبابِه ، ورَميْتَ بها في ثَبَجِهِ.. مَنْ أنتَ ؟ وما تكون ؟
فكيف بهذا الخالقِ العظيمِ ؟ نَرْمي بعقولِنا القاصرةِ وأفكارِنا المحدودةِ في عَوالِمَ لا نهايةَ لها ، نُريدُها أنْ تُحيطَ به وتُخضعَ حقيقتَه لما تَخضعُ له حقائقُ الأشياءِ في عالمنا المحدود؟
لماذا لا نَقفُ من هذا الخالقِ العظيمِ موقفَنا من النغمِ الموسيقي نَلْتَذُّ بسماعِه، أو البحر نَتملَّى جمالَه؟ ولم نَعْدِلْ عن هذا إلى مسابقةِ النَغَمِ في مَسْراهُ، أو مُطاوَلَةِ البحرِ في عَظَمَتِهِ ؟ ذلك هو الضلالُ البعيد.
وإنّ حركاتِ السَمَكِ ، وتَمَوُّجاتِ حشائشِ البحرِ في نُعومَةٍ تحت
سطحِهِ ، لَتَملأُ نفسَ الإنسانِ بشعورٍ مِنَ الانْسجامِ يَستجيبُ إلى تَشَوُّقِهِ.
وقد تَقعُدُ روحُ الإنسانِ هادئةً فوق شاطئ جزيرةٍ مَرجانيَّةٍ ، ويُغنّي لها البحرُ المُتلاطِمُ.الحكمةُ تُوجِبُ أنْ يَتوسَّطَ هذا الفنُّ بين الإصابَةِ والخطأِ حتى لا يُستَغنى عن اللِّياذِ باللهِ أَبَداً ، ولا يقعُ اليأسُ مِن قِبَلِهِ أبداً؛ وعلى هذا سَخَّرَ اللهُ الإنسانَ وقَيَّضَهُ وخيَّرَهُ في هذا الأمرِ وفوَّضَه ؛ ومَنَعَ من الثِقةِ والطُمأْنينَةِ إلاّ في معرفتِه وتوحيدِه وتقديسِهِ وتَمجيدِهِ ، والرُجوعِ إليْه ؛ انظرْ إلى حديثِ الطِبِّ ، فإنَّ عندَه الصِناعةُ تَوَسَّطَتِ الصَوابَ والخطأ ، لتكونَ الحكمةُ ساريةً فيها ، وليكون اللُّطفُ معهوداً بها ؛ لأنَّ الطِبَّ كما يَبْرَأُ به العليلُ ، قد يَهْلِكُ معَه العليلُ ، فانظرْ إلى حديثِ البحرِ ورُكوبِ البأسِ المُتَيَقَّنِ فيه ، وجَوْبِ الطولِ والعَرضِ وإصابَةِ الرِّبحِ ، وطَلَبِ العِلمِ ، كيف توسَّطَ بين السلامةِ والعَطَبِ، والنَجاةِ والهَلَكَةِ، فلو استمرتِ السلامةُ حتى لا يُوجد مَن يَغرقُ ويَهْلِكُ ، لَكان في ذلك مَفْسَدَةٌ عامّةٌ ؛ ولو استمرَّتْ الهَلَكَةُ حتى لا يُوجد مَن يَسلَمُ ويَنجو، لَكان في ذلك مَفْسَدةٌ عامَّةٌ ؛ فالحِكمَةُ إذاً ما تَوَسَّطَ هذا الأمرَ حتى يَشكرَ اللهَ من ينجو،ويُسلِّمَ نفسَه للّهِ مَن يَهْلِكُ)).(11)
وكتب عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب {رضي الله تعالى عنهما}
يصف له البحر فقال(.. يا أمير المؤمنين البحرُ خَلْقٌ عظيمٌ يَركبُهُ خلقٌ صغيرٌ ، دودٌ على عُودٍ)). (12)
وهذا مما يؤكِّدُ حقيقةَ ما ذهبنا إليه من أنَّ العرب لم يكونوا أُمَّةَ بحرٍ ولم تكن لهم خبرةٌ به و لا تجارب مهمَّة معه ، وبالتالي ، يفسّر رهبتهم منه وخوفهم من عواقب ركوب ظهره والإبحار فيه .
وقد بقيت هذه النظرة إلى البحر هي الغالبة حتى ما بعد عصر الفتوحات حيث ركب العرب المسلمون البحر فاتحين أجزاءً من جنوب القارة الأوربيّة ناشرين فيها العدالة ونور العلم والهداية ، فهاهو الصاحب بن عباد يأخذ يقول:
إذا أدنـــاك سلطــــانٌ فـــــزده من التعظيم واصحبـــــهُ وارقبْ
فما السلطانُ إلا البحرُ عظماً وقربُ البحر محـذورُ العواقبْ
(13)
وهو في ذلك إنّما يعمل بمقولة(البحر لا جواز له، والملك لا صديق له والعافية لا ثمن لها)).(14)
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ(مُخَالَطَةُ الأَشْرَارِ عَلَى خَطَرٍ،وَالصَّبْرُ عَلَى صُحْبَتِهِمْ كَرُكُوبِ الْبَحْرِ ، الَّذِي مَنْ سَلِمَ مِنْهُ بِبَدَنِهِ مِنْ التَّلَفِ فِيهِ ، لَمْ يَسْلَمْ بِقَلْبِهِ مِنْ الْحَذَرِ مِنْهُ )).(15) وهو دليلٌ آخر على النظرة السلبية إلى البحر عند العرب ، فهو شرّيرٌ مخيف .
أمّا في أخبار الظرفاء والمتماجنين فإنَّنا نرى البحر يتحوّل إلى قصعةٍ كبيرة من المرق في وليمة دعا إليها الهُدهدُ نبيَّ الله سليمان {عليه السلامُ} ومعه جيشُه ، والذبيحةُ جراده، حين جاء الهدهد إلى سليمان فقال: ((أريد أن تكون في ضيافتي ، فقال سليمان : أنا وحدي ؟ فقال : لا ! بل أنت والعسكر ، في يوم كذا ، على جزيرة كذا ؛ فلمّا كان ذلك اليوم ، جاء سليمان وعسكره ، فطار الهدهد ، فصاد جرادةً ، فخنقها، ورمى بها في البحر ، وقال : كلوا ، فمن لم ينل من اللّحم نال من المرقة ؛ فضحك سليمان من ذلك وجنوده حولاً كاملاً . (16)
وفي هذا البحر من الأمم أكثر مما في البرِّ بكثير وفي الإنسان من جميع هذا الخلق الذي فيه قد اختُصِرَ العالَمُ الأكبر ، ولذلك كان أكمل خلق اللهِ وبذلك استحقّّ أن يكونَ خليفتَهُ في أرضِهِ ، كما رُوِيَ عن سيِّدِنا عُمرَ بنِ الخَطّابِ {رضي الله عنه} أنّه قال(خلق اللهُ تعالى أَلفَ أُمَّةٍ وعشرين أُمَّةٍ ، منها ستُمئةٍ في البحر وأربعُمائةٍ وعشرون في البرِّ ، وفي الإنسان مِنْ كُلِّ خَلْقٍ، فلذلك سَخَّرَ اللهُ له جميعَ الخَلْقِ ، واستُجمِعت له جميعُ اللّذّات،وعمِل بيدِه جميعَ الآلاتِ وله النُطْقُ والضَحِكُ والبُكاءُ والفِكرةُ والفِطنةُ ، واختراعاتُ الأشياءِ ، واستنباطُ جميعِ العلوم ، واستخراجُ المعادن ، وعليه وقَعَ الأمرُ والنهيُ ، والوعدُ والوعيدُ ، والنعيمُ والعذابُ ، وإيّاهُ خاطَبَ ، وله قَرَّبَ . وخَلَقَ اللهُ تعالى إسرافيلَ {عليه السلام} على صورةِ الإنسان، وهو أقربُ الملائكةِ إليه وفي الحديث(لا تَضْرِبوا الوجوهَ فإنّها على صورةِ إسرافيل)).وآياتُ اللهِ تعالى أكثرُ مِنْ أنْ تُحصَرَ { فتبارك الله أحسن الخالقين}. ))(17)
ولِحُورِ البحر نصيبٌ وافرٌ من الأدب العربي فقد حكى القَزويني عن بعضِ البَحريين أنَّ الريحَ ألقتهم على جزيرةٍ ذاتِ أشجارٍ وأنهارٍ ، فأقاموا بهامُدَّةً ، وكانوا إذا جاء الليلُ يَسمعون بها هَمْهَمَةً وأصواتاً وضَحِكاً ولَعِباً ، فخرج مِن المَراكِبِ جماعةٌ وكَمَنوا في جانبِ البحرِ ، فلمّا جاء الليلُ خَرَج بناتُ الماءِ على عادتِهِنَّ ، فوَثَبوا عليهِنَّ ، فأخَذوا منهُنَّ اثنتينِ فتزوَّجَ بهما شخصان ، فأمّا أَحدُهُما فوثق بصاحبتِهِ فأطْلَقَها فوثَبَتْ في البَحْرِ ،وأمّا الآخرُ فبقي مع صاحبته زماناً ، وهو يَحرُسُها ، حتى ولَدت له ولداً كأنَّه القَمَرُ ، فلمّا طاب الهواءُ ورَكِبوا البحرَ ووثق بها فأطْلَقَها ، فأغْفَلَتْهُ وألْقَتْ نفسَها في البحرِ فتأسَّفَ عليها تأَسُّفاً عظيماً ، فلمّا كان بعدَ أيّامٍ ظَهَرتْ من البحرِ ودَنَتْ من المراكِبِ وألقتْ لصاحبِها صَدَفاً فيه دُرٌّ وجَوهَرٌ فباعَه وصار من التُجّار .
ونظيرُ هذه الحكايةِ ما ذكره ابنُ زولاقٍ في تاريخِه أنَّ رَجُلاً من الأَندلس، من الجزيرة الخضراء ، صاد جاريةً منهُنَّ حسناءَ الوجهِ ، سوداءَ الشَعْرَ ، حمراءَ الخدّيْن ، نجلاءَ العيْنيْنِ كأنَّها البدرُ ليلةَ التَمامِ ، كاملةَ الأوصافِ ، فأقامت عندَه سنين ، وأحبَّها حُبّاً شديداً ، وأَوْلَدَها ولداً ذَكَراً وبَلَغَ مِن العمرِ أربعَ سنين ، ثمَّ إنَّه أرادَ السفرَ فاصْطحَبَها معه ووَثق بها، فلمّا توسّطت البحرَ أخذتْ وَلَدَها ، وألقتْ نفسَها في البحر ، فكاد أنْ يُلْقي نفسَه خلفَها حسرةً عليها ، فلم يُمَكِّنُه أهلُ المَركَب من ذلك، فلما كان بعد ثلاثةِ أيّامٍ ظَهَرتْ له وألقتْ له صَدَفاً كثيراً فيه دُرٌّ ، ثمَّ سلَّمتْ عليه وتركَتْه، فكان ذلك آخرَ العهدِ بها فتبارَكَ اللهُ ما أكثرَ عجائبِ خَلْقِه.(18)وتبارك اللهُ ما أخصب خيال هؤلاء ، وإن كنتُ منهم حيث أقول:
يا عروس البحر غني هللّي واسبحي في النورِ قَرِّي أَعيُنــا
أنا والبحرُ وليلي ها هنـــــــا وصبـايـــــــا الشعر تحنو بالمنى
وما أظنُّ هؤلاء موجودات إلاّ في أخيلة الشعراء والأدباء ، وإلاّ فما لحور البحر هؤلاء قد هجرنَنا منذ تلك العصور ؟
وأمّا في أصل البحار وما فيها من ماء وعددها وصفات كلٍّ منها وما فيها من عجيب خلق الله ، فقد روي عن سيدنا عبدِ اللهِ بنِ عبّاسٍ {رضي الله تعالى عنهما} أنّه قال(لمّا أراد اللهُ تعالى أن يخلُق الماءَ خلقَ ياقوتَةً خضراءَ لا يَعلَمُ طولَها وعرضَها إلاّ اللهُ {سبحانه وتعالى} ثمّ نَظَرَ إليها بعينِ الهيْبةِ فذابتْ وصارت ماءً ، فاضْطَرَبَ الماءُ فخَلَقَ الريحَ ووضعَ عليها الماءَ ، ثمّ خَلَقَ العرشَ ووضعَه على متنِ الماءِ ، وعليه قولُه تعالى: {وكان عرشه على الماء}.
ثم قال :واعلمْ أنّ بحرَ الظُلُماتِ لا يَدخلُه شمسٌ ولا قمرٌ ، وإنّ بحرَ الهندِ خليجٌ منْه ، وبحرُ اللاذقيّةِ خليجٌ منه ، وبحرُ الصينِ خليجٌ منه ، وبحرُ الرومِ خليجٌ منه ، وبحرُ فارسَ خليجٌ منه ، وكلُّ هذه البحارِ التي ذكرتُها أصلُها من البحرِ الأسودِ الذي يُقال له البحرُ المحيطُ ، وأمّا بحرُ الخَزرِ وبحرُ خُوارِزْمَ وبحرُ أَرمينيّةَ والبحرُ الذي عندَ مدينةِ النحاسِ وغيرُ ذلك من البحارِ الصِغارِ فهي منقطعَةٌ عن البحر الأسودِ ، ولذلك ليس فيها جَزْرٌ ولا مَدٌّ ، وقيلَ سُئل النبيُّ عن الجَزْرِ والمَدِّ فقال : هو مَلَكٌ عالٍ قائمٌ بين البحرينِ إنْ وَضَعَ رِجلَه في البَحرِ حَصَلَ لَهُ المَدُّ وإذا رَفَعَها حَصَلَ له الجَزْرُ ، قيلَ إنّما سُمّيَ البحرُ الأسودُ لأنَّ ماءه فيه رأيَ العين كالحِبْرِ الأسودِ ، فإن أَخَذَ منه الإنسانُ في يدِهِ شيئاً رآه أبيضاً صافياً إلاّ أَنَّهُ أَمَرُّ مِن الصَبْرِ مالحٌ شديدُ المُلوحَةِ ، فإذا صار ذلك الماءُ في بحرِ الرومِ تَراهُ أخضرَ كالزِنْجار ِ، واللهُ تعالى يَعلمُ لأيِّ شيءٍ ذلك ، وكذلك يُرى في بحرِ الهِنْدِ خليجٌ أحمرُ كالدَمِ ، وبحرٌ أصفرُ كالذَهَبِ ، وخليجٌ أبيضُ كاللّبَنِ ، تتغيَّرُ هذه الألوانُ في هذه المواضِعِ والماءُ في نفسُه أبيضُ صافٍ ، وقيلَ إن تَغَيُّرَ الماءِ بلونِ الأرضِ . (19)
وأمّا ما يَخْرُجُ مِن البحرِ من السَمَكِ وغيرِهِ ، فهذه جملة من المشاهدات والقَصص التي تحوي من العجائب الشيء الكثير ، ونحن ننقلها كما رواها أصحابها،إذ غنيٌّ عن البيان أنّنا لا نتحرى الحقيقة العلميّة ــ هناــ وليس هذا من مهمّتنا،فيما نرمي إليه،إنّما نحن نتحدّث عن أثر البحر في أدب العرب ، شعرهم ونثرهم ، وحسب.
من ذلك ما رُوِيَ عن جابِرٍ بنِ عبدِ اللهِ {رضيَ اللهُ تعالى عنهما} قالَ : ((بَعَثَنا رسولُ اللهِ إلى ساحلِ البحرِ وأمَّرَ علينا أبا عُبيدةَ {رضي الله تعالى عنه} نتلَقّى عيرَ قريشٍ ، وزَوّدَنا جُراباً مِن تَمرٍ لم يَجِدْ لنا غيرَهُ فكان أبو عُبيدةَ يُعطينا تمرةً تمرةً نَمُصُّها ، ثمَّ نَشْربُ عليها الماءَ فتكفينا يومَنا إلى الليل ، فأشرفْنا على ساحلِ البحرِ ، فرأينا شيئاً كهيئةِ الكَثيبِ الضَخْمِ فأتيناهُ فإذا هو دابَّةٌ من دَوابِّ البحرِ تُدْعى العَنْبَرَ ، فأقمْنا شهراً نأكلُ منها ونحن ثلاثُمئةٍ حتّى سَمِنّا ، ولقد رأيْتُنا نغترفُ من الدُهنِ الذي في وَقْبِ عينَيْها بالقِلالِ ونقطعُ منه القِطعةَ كالثورِ ، ولقد أَخذَ مِنّا أبو عُبيدةَ ثلاثةَ عَشَرَ رجلاً فأقعدهم في وَقْبِ عيْنِها،وأَخَذَ ضِلْعاً من أضلاعِها فأقامها ثمّ رَحَلَ أعظمُ بعيرٍ معنا فمَرّ من تحتِها وتَزَوّدْنا من لحمِها،فلمّا قَدِمْنا المدينةَ ذَكَرْنا لرسولِ اللهِ ذلك فقال:هو رزقٌ أخرجَه اللهُ لكم فهل معكم شيءٌ من لحمها؟فتُطعِمونا؟فأرسلْنا له منه فأكلَه ))
وقيل يَخرُجُ من البحرِ سَمَكَةٌ عظيمةٌ فتتبعُها سَمَكةٌ أُخرى أعظمُ منها لتأكلَها فتَهرُبُ منها إلى مَجْمَعِ البحريْن فتَتْبَعُها فتَضيقُ عليها مجمعُ البحرين لعِظَمِها وكِبَرِها ، فترجِعُ إلى البحرِ الأسودِ،وعرضُ مَجمَعِ البحرين مئةُ فرسخٍ،فتبارك اللهُ ربُّ العالمين.
و هذه طائفة من أخبار البحر وردت عن رجل له مع البحر علاقات متينة وتجارب كثيرة ــ فيما يبدو ــ ذكرها في كتابه المسمّى بـ {تُحفةِ الألباب} فيها الكثيرُ الكثير من الطريف والغريب في آن ، قال : ((ركِبتُ في سفينةٍ مع جماعةٍ فدخَلْنا إلى مَجمَعِ البحرين ، فخَرَجتْ سمكةٌ عظيمةٌ مثلُ الجَبَلِ العظيمِ ، فصاحتْ صيحةً عظيمةً لم أَسمَعْ قَطُّ بأَهْوَلَ منها ولا بأَقوى ، فكادَ قلبي يَنخلِعُ وسَقَطْتُ على وجهي ، أنا وغيري ، ثمَّ ألقتْ السمكةُ نفسَها في البحرِ فاضطربَ البحرُ اضطراباً شديداً ، وعَظُمتْ أمواجُه، وخِفْنا الغَرَقَ فنجّانا اللهُ تعالى بفضلِهِ ، وسَمِعْتُ الملاّحين يقولون : هذه سَمَكَةٌ تُعْرَفُ بالبَغْلِ .
وقال:ورأيتُ في البحرِ سَمَكَةً كالجبلِ العظيمِ ومِن رأسِها إلى ذَنَبِها عِظامٌ سُودٌ كأسنانِ المِنشارِ ، كلُّ عَظْمٍ أطولُ من ذراعين ، وكان بينَنا وبينَها في البحرِ أكثرُ من فرسخٍ ، فسمعتُ الملاّحين يقولون : هذه السَمَكَةُ تُعرَفُ بالمِنشارِ ، إذا صادفتْ أسفلَ السفينةِ قَصَمَتْها نصفين ، ولقد سَمِعتُ مَن يقول أنّ جماعةً ركِبوا سفينةً في البحرِ ، فأرسوا على جزيرةٍ فخرجوا إلى تلك الجزيرةِ فغَسَلوا ثيابَهم واستراحوا ، ثمّ أَوْقَدوا ناراً ليَطبخوا فتحرّكتْ الجزيرةُ وطَلَبَتِ البحرَ وإذا بِها سمكةٌ ، فسبحانَ القادرِ على كلِّ شيءٍ، لا إلهَ إلاّ هو ولا معبودَ سِواه ، وقيلَ إنّ في البحرِ سمكةٌ تُعرَفُ بالمَنارةِ لِطولِها يُقالُ إنّها تَخرُجُ مِنَ البحرِ إلى جانبِ السفينةِ فتُلْقي نفسَها عليها فتُحطِّمُها وتُهلِكُ مَن فيها ، فإذا أَحَسَّ بِها أهلُ السفينةِ صاحوا وكبَّروا وضَجُّوا وضَرَبوا الطُبولَ ونَقَروا الطُسوتَ والسُطولَ والأخشابَ لأنّها إذا سمِعتْ تلك الأصواتَ ربّما صَرَفَها اللهُ تعالى عنهم بفضلِه ورحمتِهِ )) . وقال الشيخُ عبدُ اللهِ ، صاحبُ تُحفَةِ الألبابِ ، نفسُه : (( كنتُ يوماً في البحرِ على صخرةٍ فإذا أنا بِذَنَبِ حيَّةٍ صفراءَ مُنَقَّطةٍ بسوادٍ طُولُها مِقدارُ باعٍ فطَلَبتْ أنْ تَقبِضَ على رِجْلي فتباعَدْتُ عنها ، فأَخْرَجتْ رأسَها كأنّه رأسُ أرنبٍ مِن تحتِ تلك الصخرةِ، فَسَلَلْتُ خِنْجَراً كبيراً كان معي فطَعَنْتُ بِهِ رأسَها فغارَ فيه فلم أَقْدِرْ على خلاصِهِ منها ، فأَمسكْتُ نِصابَه بيديَّ جميعاً وجعلتُ أَجُرُّهُ حتّى أَلْصَقْتُها ببابِ الجُحْرِ ، فتركتْ الجُحْرَ وخَرَجتْ من تحتِ الصخرةِ فإذا هي خمسُ حيّاتٍ في رأسٍ واحدٍ ، فتعجَّبتُ من ذلك وسألتُ مَن كان هناك عن اسْمِ هذه الحيَّةِ فقال : هذه تُعرَفُ بأُمِّ الحيّاتِ ، وذَكروا أَنّها تَقْبِضُ على الآدَميِّ في الماءِ فتُمْسِكُهُ حتّى يَموتَ وتَأْكُلُهُ ، وأَنَّها تَعْظُمُ حتّى تَكونَ كلُّ حَيَّةٍ أكثرَ مِن عشرين ذِراعاً وأن تَقلِبَ الزوارقَ وتأكلَ مَن قَدَرتْ عليه مِن أصحابِها ، وأنَّ جِلْدَها أَرَقُّ مِن جِلدِ البَصَلِ ، ولا يُؤثِّرُ فيها الحديدُ شيئاً )) .
وقال( ورأيتُ مرّةً في البحرِ صخرةً عليها شيءٌ كثيرٌ مِن النارِنجِ
الأحمرِ الطَرِيِّ الذي كأنَّهُ قُطِعَ من شجرةٍ ، فقلتُ في نفسي هذا قد وَقَعَ مِن بعضِ السُفُنِ ، فذهبتُ إليهِ فقَبَضْتُ منه نارنجةً فإذا هي مُلْتصِقةٌ بالحَجَرِ فجَذَبْتُها فإذا هي حيوانٌ يتحرّكُ ويَضرِبُ في يدي ، فلَفَفْتُ يَدي بِكُمِّ ثوبي وقَبَضْتُ عليه وعَصرتُه فخرج مِن فِيهِ مياهٌ كثيرةٌ ، وضَمُرَ فلم أَقدِرْ أَنْ أقلَعَه من مكانه ، فتركتُه عَجزاً عنه ، وهو من عجائب خلقِ اللهِ تعالى ، وليس له عينٌ ولا جارحةٌ إلاّ الفَمَ ، واللهُ سبحانَه وتعالى أعلمُ لأيِّ شيءٍ يَصلُحُ ذلك المخلوق )).
ثمّ قال(ولقد رأيتُ يوماً على جانبِ البحر عُنقودَ عنبٍ أسودَ كبيرِ الحَبِّ أخضرَ العُرجونِ كأنّما قُطِفَ مِن كَرْمِهِ ، فأخذتُه ، وكان ذلك في أيامِ الشِتاءِ ، وليس في تلك الأرضِ التي كنتُ فيها عِنَبٌ ، فرُمْتُ أنْ آكلَ منه، فقبضتُ على حَبّةٍ منه وجَذَبْتُها فلم أَقْدِرْ أنْ أَقلَعَها مِن العُنقودِ حتى كأنّها من الحديدِ قوّةً وصَلابةً ، فجذبْتُها جَذْبةً أقوى من الأولى فانقشرتْ قشرةٌ من تلك الحبَّةِ كقِشْرِ العِنَبِ وفي داخلِها عجمٌ كعجمِ العِنَبِ ، فسألتُ عن ذلك فقيل لي : هذا من عِنَبِ البحرِ ورائحتُه كرائحةِ السَمَكِ)) .
وفي البحرِ ، أيضاً ، حيوانٌ رأسُه يُشبِه رأس
البحر في الحديث الشريف
ورد ذكر البحر في الكثير من الأحاديث الشريفة في معرض الإرشاد والموعظة والترغيب في عمل البر كما جاء في بعضها أحكام وتشريعات، ففي الحديث الآتي ينهى رسول الله {صلى الله عليه وسلَّم} عن ركوب البحر لغير ضرورة ، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص {رضي الله عنهما} قال ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ{صلى الله عليه وسلم}(لاَ يَرْكَبَنَّ رَجُلٌ بَحْرًا إِلاَّ غَازِيًا أَوْ مُعْتَمِرًا أَوْ حَاجًّا فَإِنَّ تَحْتَ الْبَحْرِ نَارًا وَتَحْتَ النَّارِ بَحْرٌ وَتَحْتَ الْبَحْرِ نَارٌ وَلاَ يُشْتَرَى مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ فِي ضَغْطَةٍ)).(1) فقد حدّد {عليه الصلاة والسلام } المجالات التي يُسْتَحَبُّ فيها ركوب البحر وهي الجهاد في سبيل الله ، والحجّ والعمرة إلى بيت الله ، لأن الرسول الكريم ما أحبَّ لأمَّته المخاطرة بحياتهم في مغامرات غير مضمونة العواقب ، لذلك نهى عن ركوب البحر فيما لا طائل منه ،كما نهى في هذا الحديث أن يستغل المسلم ضائقة أخيه المسام وحاجته الماسة فيشتري منه متاعه بثمن بخس كما أن كشف الرسول الأعظم ، في هذا الحديث ، عن حقيقة علمية أثبتها البحث العلمي بعد قرون ، ألا وهي أنّه ثمّة نار تحت مياه البحر . نعم في باطن الأرض نار ملتهبة وحمم بركانية، عبارة عن مواد منصهرة من شدّة الحرارة. وهذه التي نشاهدها تخرج من البراكين الثائرة.
أما أن يكون تحت هذه النار بحر آخر فهذا لم يعرفه البحث العلمي الحديث بعد، إلا أن يُراد أنَّ تلك الحُممَ التي في باطن الأرض أشدُّ انصهاراً بحيث تشبه الماء .
والذي هو أقرب للذهن ، بحسب المعطيات الحالية ، أنّك لو واصلت في التقدم نحو مركز الأرض ثم تجاوزت المركز إلى الناحية الأخرى من الكرة الأرضية فإنك تجد من الطرف الآخر للكرة الأرضية بحاراً ومحيطات أخرى ، والله أعلم.(2)
لكن الرسول الكريم الذي حذر من ركوب البحر فيما لا نفع فيه جعل للمؤمن حصناً من خطر هذا البحر الذي لا يُؤمَنُ جانبُه ، فعلمنا كلمات نقولها فنأمنَ من غضب البحر ونتجنّب أخطاره.قَالَ رَسُولُ اللهِ {صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم}(أَمَانٌ لأُمَّتِي مِنَ الْغَرَقِ إِذَا رَكِبُوا الْبَحْرَ أَنْ يَقُولُوا : ((بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ، وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ والأرض جميعاً قبضتُه والسموات مطويات بيمينه ))، الآيَةَ (3)
و هذه قصّةٌ وردت في الصحيحين من طرق متعدِّدةٍ عن رجلٍ مِن بني إسرائيل كان مسرفاً على نفسه ، وعندما حضرته الوفاة جمع أبناءه وقال لهم : أيَّ أبٍ كنتُ لكم ؟ فأثْنَوْا عليه خيراً ، فقال لهم : إني لم أفعل في حياتي خيراً قط ، فو الله لئن قَدِرَ اللهُ عليَّ ليُعذِّبَني عذابًا شديدًا ، فإذا متُّ فحرِّقوني وذرّوا رمادي نصفَه في البرِّ ونصفه في البحر، واخذ عليهم مَوْثِقاً بذلك ، ففعل به بَنوه ذلك لمّا ماتَ ، فأمرَ اللهُ البحرَ فجمع ما فيه ، وأمرَ البرَّ فجمع ما فيه ؛ فإذا هو قائم ، فسأله اللهُ عن ذلك فقال:ما الذي حملك على ذلك ؟ قال : يا ربّ مخافتُك ، قال النبيُّ {صلى الله عليه وسلم}:فغفر الله له.وهذه روايةُ الإمام مسلمٍ فيما رواه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ {رضي الله عنه} أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ {صلى الله عليه وسلم} قَالَ(قَالَ رَجُلٌ لَمْ يَعْمَلْ حَسَنَةً قَطُّ لأَهْلِهِ إِذَا مَاتَ فَحَرِّقُوهُ ثُمَّ اذْرُوا نِصْفَهُ فِي الْبَرِّ وَنِصْفَهُ فِي الْبَحْرِ فَوَ اللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ لَيُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا لاَ يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ فَلَمَّا مَاتَ الرَّجُلُ فَعَلُوا مَا أَمَرَهُمْ فَأَمَرَ اللَّهُ الْبَرَّ فَجَمَعَ مَا فِيهِ وَأَمَرَ الْبَحْرَ فَجَمَعَ مَا فِيهِ ثُمَّ قَالَ : لِمَ فَعَلْتَ هَذَا ؟ قَالَ مِنْ خَشْيَتِكَ يَا رَبِّ وَأَنْتَ أَعْلَمُ . فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ)).(4)
وهذا البحر الزاخر الذي يحتفظ برماد ذلك النادم الذي ظلم نفسه بما فرّط في حقّ الله نراه يضيق بكلمة غيبةٍ من النوعِ الذي لا يعبأ به أكثر البشر ، وفيه انتقاصٌ من قدر إنسان ، ولو كانت هذه الكلمةُ تعبّر عن صفةٍ أَوْدَعها الخالقُ {سبحانه} فيه وليست من كسبه ، كالطول أو القصر أو غير ذلك ، فعن أمِّ المؤمنين السيدة عائشة الصدّيقة {رضي الله عنها} قالت:قلتُ للنبيّ{صلى الله عليه وسلم} حَسْبُك من صَفيّةَ كذا وكذا ــ تعني : قصيرة ــ فقال (لقد قلتِ كلمةً لو مُزِجَتْ بماء البحر لمزجتْها)).(5) إذاً، لقد مازجت هذه الكلمةُ الغيبةُ ، من الصِدِّيقةِ ابنةِ الصِدّيق {رضي الله عنهما} ماء البحر الكثير والكثير جدّاً بالسوء، فنهاها الرسولُ الكريمُ أن تعود لمثلها ، وفي ذلك تعليم لنا وتحذير من أن يقع بعضُنا في عِرض البعض الآخر ، وشبّه في حديثٍ آخرَ هذا العمل بأكلِ لحمِ الجيفةِ وما فيه من إثم عظيم.
وهذه صورةٌ أخرى للبحر في الحديث الشريف ، صورة الإنسان المؤمن الذي يخاف الله {عزَّ وجلَّ} ويؤتمن على دراهم فيحفظ الأمانة ويحملها من شاطئ إلى شاطئ ليؤديها إلى صاحبها . فعن أبي هريرة {رضي الله عنه} عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال (كان رجلٌ يُسلِّفُ الناسَ في بني إسرائيل ، فأتاه رجلٌ فقال : يا فلان أسلفني ستَّ مئةِ دينارٍ . قال : نعم إن أتيتني بكفيلٍ . قال : اللهُ كفيلي . فقال : سبحان الله، نعم قد قبلتُ اللهَ كفيلاً ، فأعطاه ستَّ مئة دينار ، وضرَبَ له أجلاً ، فركب {الرجلُ}البحرَ بالمال ليتَّجر به ، وقدَّر اللهُ أنْ حلَّ الأجلُ وارتجَّ البحرُ بينهما ، وجعل ربُّ المال يأتي الساحلِ يسألُ عنه ، فيقول : الذين يسألهم عنه تركناه بموضع كذا وكذا ، فيقول : رَبُّ المالِ اللهمَّ أخلِفني في فلان بما أعطيتُه بك ، قال : وينطلق الذي عليه المالُ فينحت خشَبَةً ويجعل المالَ في جوفِها ثم كتبَ صحيفةً من فلان إلى فلان : إنّي دفعتُ مالك إلى كفيلي ، ثمَّ سَدَّ على فَمِ الخَشَبَةِ فرمى بها في عُرْضِ البحر ، فجعل {البحرُ}يهوي بها حتّى رمى بها إلى الساحل ، ويذهب رَبُّ المال إلى الساحل فيسألُ فيجد الخشَبَةَ فحَمَلَها فذهب بها إلى أهله ، وقال : أوقدوا بهذه فكسروها فانتثرت الدنانير والصحيفة ، فأخذها فقرأها فعرَف ، وتقدم الآخر فقال: له ربُّ المال: مالي ، فقال : قد دفعتُ مالي إلى كفيلي الموكل بي ، فقال له : أوفاني كفيلُك)) قال أبو هريرة فلقد رأيتُنا يكثر مِراؤنا ولغطُنا عند رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بيننا أيهما آمن {أكثر أمانةً}. (6)
وفي هذه القصة التي حكاها الحديث الشريف آنفاً ما لا يخفى من بليغ الموعظة وعظيم العِبرة , من وجوب وفاء المرء بعهده وأدائه ما في ذمته من دينٍ. فإذا صدق في عهده وأخلص في نيّتِه ، وحالت بينه وبين وفائه ظروف قاهرة ، خارجة عن إرادته ، أدّى الله عنه ،كما ورد في
أحاديث أخرى لا مجال لذكرها في هذا الكتاب .
وهذا البحر الزاخر بالعجائب الفيّاض بالخيرات المؤدّي للأمانات، محبٌّ للخير يجلُّ العلمَ ويحترم العلماء ، حتى إن أسماكه وحيتانه تشارك الموجودات بالدعاء والاستغفار لطلبة العلم فيما روَاهُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ {رضي الله عنه}قَالَ:قَالَ رَسُولُ الله {صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم}(طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ، وَطَالِبُ الْعِلْمِ ــ أَوْ صَاحِبُ الْعِلْمِ ــ يَسْتَغْفِرُ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى الْحُوتُ فِي الْبَحْرِ)).(7)
والبحر بعد ذلك طاهرٌ مطهِّرٌ عند النبيِّ الخاتم ، فقد سأله رَجُلٌ فقَالَ :
يَا رَسُولَ الله ، إِنَّا نَرْكَبُ أَرْمَاثًا فِي الْبَحْرِ ، فَنَحْمِلُ مَعَنَا الْمَاءَ لِلشفه، فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِمَائِنَا عَطِشْنَا ، وَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِمَاءِ الْبَحْرِ ، كَانَ فِي أَنْفُسِنَا مِنْهُ شَيْءٌ ! فَقَالَ رَسُولُ الله:{صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم}(هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ)).(
وعنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيُّ {صلى الله عليه وسلم} قَالَ(مَنْ لَمْ يُطَهِّرْهُ الْبَحْرُ فَلاَ طَهَّرَهُ اللَّهُ)).(9) وهو دعاء منه {عليه الصلاة والسلام} على مَن شكَّ في هذا الحكم الشرعي الذي شرعه النبيُّ الكريم ، وفيه أيضاً نفي
لوسواس النفس والشيطان .
وقد حرص الرسول على أمته أشدَّ الحرص ، ولا غرو فهو أرحم بنا من أنفسنا ، لأنه ربما يضرُّ أحدُنا نفسه عن جهل أو تهوّرٍ وربما تأخذُه شهوات نفسِه ووساوس شيطانِه إلى ما فيه هلاكه ، أمّا رسولُ الله فهو المعصوم عن الخطأ الذي(وما ينطق عن الهوى * إن هو إلاّ وحيٌ يوحى)).(10) وهو الرحمةُ المهداةُ ، وقد وصفَه ربُّهُ بأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، قال تعالى في كتابه العزيز( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ)).(11) وقال في أيضاً(لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)) (12)
وجاء ذكر البحر في حديث آخر من هديه {عليه الصلاة والسلام} مثل للحياة الاجتماعية بسفينة في البحر والمجتمع فيها كجماعة من ركّابها ، جماعة في أعلاها وجماعة في أسفلها ، ولنَستمِعْ إلى النعمان بن بشير {رضي الله عنه} يروي هذا الحديث عن سيدنا رسول الله،قال:قال رسول الله(مثل القائم على حدود الله والمداهن فيها ، كمثل قوم استهموا ، على سفينة في البحر ، فأصاب بعضُهم أعلاها وبعضُهم أسفلَها، وكان الذين في أسفلها يخرجون فيستقون الماء ويشقّون على الذين في أعلاها ، فقال الذين في أعلاها:لا ندعكم تمرون علينا فتؤذونا، فقال الذين في أسفلها : إن منعتمونا فتحنا بابا من أسفلها، فإن أخذوا على أيديهم فمنعوهم ، نجوا جميعاً ، وإن تركوهم هلكوا جميعاً)).(13) إذاً نحن في هذه الحياة مجتمع متكافل متضامن خيره يعم الجميع وشرُّه كذلك ، فيجب على الفرد أن يراعي مصلحة الآخرين في تصرّفاته الشخصيّة ، فهو حرٌّ طالما أنّ حرّيته الشخصيّة هذه لا تتعارض مع حريات الآخرين ، ثم إنه من الواجب على المجتمع أنْ يمنع الانحراف عن الخط القويم والصراط المستقيم وإلاّ حصد السوء .
وهذا حديث آخر في نفس السياق تقريباً ، يوجب الاحتياط للأمور وعدم الزجّ بالنفس في المخاطر وتعريضها إلى المهالك ، فإنَّ الله الذي خلق هذه النفس محاسبٌ صاحبَها عن كلِّ ضرر يلحقه بها عامداً متعمّداً ، وليس من حقِّ المرء أن يقول {نفسي وأنا حرٌّ بها} .
لذلك يقول رسول الله {صلى الله عليه وسلم}(مَنْ بَاتَ عَلَى سَطْحٍ لَيْسَ بِمَحْجُورٍ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ ، وَمَنْ رَمَى بِلَيْلٍ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ، وَمَنْ رَكِبَ الْبَحْرَ فِي ارْتِجَاجِهِ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ)).(14)
وَارْتِجَاجُ الْبَحْرِ هَيَجَانُهُ . والمؤمن محظور عليه أن يركب البحر حال هياجه ، وكذلك أن ينام على سطح غير مسيّج أو أن يرمي السهم ليلاً ، ومثلُ السهمِ الرصاص في عصرنا ، فهو أمر محظور في الليل إلا إذا كان الإنسان يرى ما يرميه ، لما في ذلك كله من مخاطرة بالنفس البشرية، إذ قد تؤدي هذه الأفعال إلى هلاكها ، وهي وديعةُ اللّه عندك أيها الإنسان فيجب عليك المحافظة عليها لا أن تعرضها لما يسيء إلى هذه الأمانة .
ثمّ نختم هذا الباب بجملة من الأحاديث التي بشّر بها رسول الله{صلى الله عليه وسلم} أمته بأنه سوف يركبون البحر فاتحين ، وبأنهم سوف يسيطرون عليه ، حتى يكون لهم بمثابة سرير الملك ،فعن سيدنا عمر بن الخطاب {رضي الله عنه} قال:قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم}(يظهر الإسلام حتى تخوض الخيل البحار ، وحتى يختلف التجار في البحر ..)).(15) عن أنس بن مالك قال ، قال رسول الله {صلى الله عليه و سلم} : ((يركب قومٌ من أمّتي ثَبَجَ البحر ، أو ثَبَجَ هذا البحر، هم الملوك على الأسِرَّة أو كالملوك على الأسِرَّة)) . (16)
و في حديث آخر عن الصحابيّة الجليلة أُمِّ حَرَامٍ أنّها سَمِعَتْ رَسُولَ اللهِ {صلى الله عليه وسلم} يَقُولُ(أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ هَذَا الْبَحْرَ،قَدْ أَوْجَبُوا، قَالَتْ أُمُّ حَرَامٍ: يَا رَسُولَ اللهِ ، أَنَا فِيهِمْ ؟ قَالَ: أَنْتِ فِيهِمْ ثم قَالَ:أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ مَدِينَةَ قَيْصَرَ،مَغْفُورٌ لَهُمْ قَالَتْ أُمُّ حَرَامٍ : يَا رَسُولَ اللهِ،أَنَا مِنْهُمْ ؟ قَالَ : لا)) . (17)
وقد رغّب {عليه الصلاة والسلام} أمَّته بركوب البحر جهاداً في سبيل الله وإعلاءً لكلمته ، جاء ذلك في أحاديث كثيرة نذكر بعضاً منها(وغزوة في البحر خير من عشرِ غزوات في البرِّ ومَنِ اجتاز البحرَ فكأنما اجتاز الأودية كلَّها والمائدُ فيه كالمتشحِّطِ في دَمِه)).(18) فالأجر على قدْر المتاعب والمخاطر ، ولا يخفى أنَّ الغزو في البحر أعظم خطراً من البحر وأن متاعبه أشدً.
وقد فضّل {عليه الصلاة والسلام} شهادة البحر على الشهادة في البرِّ، قال(إن شهداء البحر أفضل ُعند الله من شهداء البر)).(19) والسببُ واضح كما سلف ، ولذلك اندفع المسلمون ، ومنذ عصر الإسلام الأول وعبر القرون المتتالية حتى أواخر أيام الدولة العثمانية ، يصارعون أمواج البحار لينشروا النور والهداية في أصقاع المعمورة فوصلت زحوفهم إلى فيينا وقرعت أبواب باريس ورفعت راياتها على سوار الصين .
وعن الصحابي الجليل سلمان الفارسي {رضي الله عنه} عن النبي{صلى الله عليه وسلم} قال(إنّ الله عز وجل يقبض أرواح شهداء البحر بيده ولا يَكِلهم إلى ملك الموت ، ومَثَلُ روحِهِ حين يخرج من صدره كمثل اللبن حين يدخل صدره)).(20)
وعن أنس بن مالك {رضي الله عنه} عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنّه قال(من حرس ليلة على ساحل البحر كان أفضل من عبادة رجل في أهله ألف سنة السنة ثلاث مئة وستون يوماً كل يوم ألف سنة)).(21)
فهنيئاً للمجاهدين في سبيل الله الذين تجشّموا الصعاب وركبوا المخاطر وطووا البحار لينشروا نـور الإســـلام والحق والعدالـــة حاملين إلى البشريّة رسالة الله التي فيها عزهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة ، ففازوا برضوان الله ومحبّته وجزيل عطائه .
فقد صدق الصحابة الكرام {رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم} عهدهم لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} عندما قام سعد بن عبادة خطيباً باسم الأنصار {رضي الله تعالى عنهم} قُبيْل غزوة بدر إذ كان الرسول خرج بأصحابه يريد قافلة لقريش الذين أخرجوهم من ديارهم وأموالهم وقد حان الوقت ليستردّوا بعضَ ما سُلب منهم ، ووصل الخبر إلى أبي سفيان فقاد القافلة بعيداً فنجت ، وخرج جيش المشركين من مكة بقيادة أبي جهل لقتال المسلمين ، وتغيرت أهداف خروجه {صلى الله عليه وسلم} فطلب المشورة من أصحابه فقام عدد من المهاجرين مفوضين الأمر إليه، ولكنّه {صلى الله عليه وسلم} كان في كلِّ مرة يقول : ((أشيروا عليَّ فقام)) زعيم الأنصار سعد بن عبادة {رضي الله عنه} فقال : ((إيانا تريد يا رسول الله ؟ والذي نفسي بيده لو أمرتنا أنْ نُخيضها البحر لأخضناها ولو أمرتنا أنْ نَضرِبَ أكبادَها إلى بَرْك الغَمادِ لفعلنا)). (22) وبرك الغماد مكان كثير السباع شديد المخاطر يعدل في خطره البحر وربما فاقه ، فجزاهم الله تعلى عن الإسلام والمسلمين ما يليق بكرمه فقد كانوا كما وصفهم ربهم(وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحقَّ بها وأهلها)).(23)
مصادر الباب الثاني:
1 ــ السنن الكبرى للبيهقي ج 6 ص : / 18 / .
2 ــ أسئلة وأجوبة في الإيمان والكفر - (ج 1 / ص 75)
3 ــ إطراف المسند المعتلي بأطراف المسند الحنبلي - (ج 1 / ص 273)
4 ــ صحيح مسلم - (ج 8 / ص 97)
5 ــ جمع الجوامع أو الجامع الكبير للإمام السيوطي(ج1 ص 16465) حديث حسن صحيح .
6 ــ التبويب الموضوعي للأحاديث - (ج 1 / ص 21354)
7 ــ إتحاف الخيرة المهرة - (ج 1 / ص 197)
8 ــ إتحاف الخيرة المهرة - (ج 6 / ص 121)
9 ــ السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي - (ج 1 / ص 4)
10 ــ سورة النجم الآيتان : / 3و4 / .
11 ــ سورة الأحزاب ، الآية : / 6 / .
12 ــ سورة التوبة الآية : / 128 / .
13 ــ البحر الزخّار ـ مسند البزّار - (ج 8 / ص 191)
14 ــ إتحاف الخيرة المهرة - (ج 6 / ص 479)
15 ــ البحر الزخار ـ مسند البزار - (ج 1 / ص 367)
16 ــ مسند أحمد بن حنبل - (ج 3 / ص 240)
17 ــ إطراف المسند المعتلي بأطراف المسند الحنبلي - (ج 9 / ص 484)
18 ــ التبويب الموضوعي للأحاديث - (ج 1 / ص 16604)
19 ــ التبويب الموضوعي للأحاديث - (ج 1 / ص 16823)
20 ــ التبويب الموضوعي للأحاديث - (ج 1 / ص 16842)
21 ــ التبويب الموضوعي للأحاديث - (ج 1 / ص 16678)
22ــ التبويب الموضوعي للأحاديث - (ج 1 / ص 17019)
23 ــ سورة الفتح ، الآية : / 26 / .
باب:
البحر في النثر العربي
في الواقعِ لا يمكنُنا أن نَسْتَقْصيَ كلَّ ما ذكرَه العربُ عن البحرِ في نَثْرِهم منْ حكاياتٍ ورواياتٍ وخُطبٍ ومَلاحِمَ شعبيَّةٍ ، لأنّ النثْرَ كثيرٌ وكثير جدّاً، لكنّنا سنوافيك ــ عزيزي القارئ ــ من كلِّ وادٍ بزهرة ، وقد تمثّل الربيعَ زهرة ،إنَّما سنبدأ بأديب كبيرٍ من أُدباءِ العربيَّة ، ألا وهو الأديبُ الكبيرُ مصطفى صادق الرافعي ، لِمــا في ذلك مِنْ مَغْزًى عميقٍ ستلاحظُه ــ أيّها القارئ الكريمُ ــ وأنت تستعرضُ نصوصَه .
فالبحرُ ــ عند الرافعي ــ أنثى تحمل وتلد ، إنّما تَلِدُ المعانيَ للشعراءِ بينما تلدُ النساءُ البناتِ والأبناءَ ، وتلد الأرضُ النباتَ والحدائقَ الغَنّاء ، يقول : ((ويرى الشعراءُ في ساحلِكَ ما يَرون في أرضِ الربيعِ ، أنوثةً ظاهرةً تَلِدُ المعانيَ لا النّباتَ )) . (1) ليلاقي ، في نظرته هذه ، الشاعرَ الكبيرَ : حافظ إبراهيم، الذي يقول بلسان حال اللغة العربية :
أنا البحر في ساحلـــه الـدرُّ كامنٌ
فهل سألوا الغوّاص عن صَدفاتي ؟
والبحرُ هو الربيعُ الثاني يوحي بلونِه الأزرقِ ما يوحيه الربيعُ بلونِهِ الأخضرِ من سعادةٍ ولكنْ أرقُّ وألطفُ،يقول(إذا احتدم الصيفُ ، جعلتَ أنتَ أيها البحرُ للزمن فصلاً جديداً يُسمّى {الربيع الثاني} ويوحي لونُك الأزرقُ إلى النفوس ما كان يوحيه لونُ الربيــــعِ الأخضرُ إلاّ أنَّه أرقَّ وألطفَ)).(2)
أما العُشّاقُ فإنّهم يسمعون صدىً لتأوُّهاتِهم في أنسامِ البحرِ اللطيفةِ، يقول(ويُحسُّ العُشّاقُ عندك ما يُحِسّونَه في الربيعِ:أن الهَواءَ يَتأوّهُ..! وبالربيعين الأخضرِ والأزرقِ ينفتحُ بابان للعَالَمِ السِّحْرِيِّ العَجيبِ)).(3)
هكذا،إذاً،نظر الرافعيُّ إلى البحرِ،فهو إنسانٌ رَهيفُ الحِسِّ ، متعاطفٌ مع العشّاق،يَرِقُّ لعذاباتِهم،ويتعذّبُ لآلامِهم،ويُشاركُهم تَأوُّهاِتهم كما يُشاركُ الربيع بإضفاءِ السّحرِ والجَمالِ والبَهْجةِ على الكونِ ليَسْعَدَ الإنسانُ ، ويُشاركُ السماءَ في رسمِ صورةٍ سِحْريَّةٍ تَطوفُ بخيالِ الإنسانِ ، وتَسبحُ به في عَوالِمَ تَسرحُ بالقلبِ وتَخْلُبُ اللُّبَّ(ما أجملَ الأرضَ على حاشيةِ الأزرقيْن البحرِ والسماءِ ، يَكادُ الجالسُ هنا يَظُنُّ نفسَه مَرسوماً في صُورةٍ إلهيَّةٍ)).(4)
ثمَّ إنَّ البحرَ عنـده عــينُ الكرةِ الأرضيّـةِ التي تبكي بها أسىً وحُزناً على مصيرِها الذي ستؤولُ إليه يوماً ما ، عندما يَحينُ حِينُها ، يقول :
(( وقفتُ يوماً على شاطئِ البحرِ،فخُيِّلَ إليَّ أنّهُ عيْنٌ تَبكي بِها الكُرةُ الأرضيَّةُ بكاءً على قَدَرِها)). (5)
والبحرُ ، في نظرِه ، جَبّارُ الحياةِ ، تتجلّى فيه صفاتُ القوَّةُ والشِّدَّةُ والعُنْفُ في أجْلى مَظاهِرِها ، كما يتجلّى فيه اللّينُ في أبهى تَجَلياتِه ، فهو إذاً جامعُ الضِدّيْنِ ، ومَظهرُ المُتناقضيْن ، في هذا الجانبِ ، لكنّه حين يَصِفُه بالقَداسَةِ،وسَعَةِ الرّوحِ،ونقاءِ المادّةِ،لا يَذكُرُ أضدادَها يقول(كنْ مثلي جَبّارَ الحياةِ،مُجْتَمِعاً مِن أَلْيَـنِ اللّـينِ وأَعنفِ القُوَّةِ، كنْ مِثلي قِدِّيسَ الحيــاةِ ، واسعَ الروحِ ، نظيفَ المـــادّةِ ، مستعيناً لواحدةٍ بواحدةٍ)). (6)
كما يَرى أنّ البحرَ دائمَ التَّجَدُّدِ ، دائمَ الحركةِ ، حتى لا ييأسَ وحتّى لا تَفْسُـدَ مياهُه، فهو لذلك يدعو الإنسانَ ليقتديَ بالبحرِ ، فيكونَ دائمَ الحركةِ ، يسعى إلى تجديدِ نفسِه حتى لا يتسرَّبَ إليها اليأسُ،وحتّى لا يتغلغلَ فيها الوّهْنُ فيُفِسدَها،يقول(وأعرف للبحر في نفسي كلاماً ، فهو يوحي إليَّ أنْ تَجَدَّدْ في آمال ِقلبِكَ كأمواجي لِكيْلا تَمَلَّ فتيْأسَ ، وتحرّكْ..تحرّكْ في نَزَعاتِ نفسِكَ كتياري لئلاّ تَـرْكُدَ فَتفْسُدَ، وتَوَسَّعْ، تَوَسَّعْ في مَعاني حياتِك كأعماقي لئلا تَمتلئَ فتتعكَّرَ،وتَبَحَّرْ تَبَحَّرْ في جَـوِّكَ الحُرِّ كرِياحي لِئلاّ تَسْكُنَ فتَهْمَدَ)). (7) ويَقْصِدُ بالتَبَحُّرِ ــ هنا ــ
التوسُّعَ .
وثمّةَ حوارٌ شيّقٌ بديعٌ في كتابِ جواهرِ الأدَبِ أجراه مؤلِّفُهُ على لسانِ كلٍّ من البرِّ والبحرِ يتحدّث فيه كلٌّ منهما عن خصائصِه ومزاياه ومزايا صاحبِه وما خصّهما اللهُ به، وما أبدع فيهما من عجائبِ الخَلقِ وغرائبِه ، يقول على لسان البرِّ(يا صاحب الدَرِّ ومَعْدِنَ الدُرِّ ، أَطرقتَ رياضي ومزّقتَ جسوري وأحواضي، وأغرقتَ جُثّتي ، ودخلتَ جَنَّتي ، وتلاطمت أمواجُك على وجنتي ، وأكلت جَزائري وجُروفي ، وأهلكت مرعى فَصيلي وخَروفي ، وأهزلتَ ثوري وحَمَلي ، وفَرسي وجَملي ، وأَجريْتَ سُفُنَك على أرضٍ لم تجرِ عليها ، ولم تُمِلْ طَرْفَ غُرابِها إليها ، وغَرَستَ أوتادَها على أوتادِ الأرض ، وعَرَّسْتَ في مواطِنِ النَّفْلِ والفرض ، وجعلتَ مَجرى مراكِبِك في مجرى مراكبي ، ومشى حُوتُك على بطنِه في سعدِ أخبيةِ مَضاربي ، وغاص ملاحُك في ديار فرحي ، وهاجرتَ من القُرى إلى أمِّ القِرى ، وحَمَّلتَ فلاحي أثقالَه على القِرى ، وقد تلقيْتُك من الجنادِلِ بصَدْري ، وحَمَلتُك إلى بَرزَخِكَ على ظهري ، وقبَّلتُ أمواجَك بثغري ، وخَلَقتُ مقياسي فرَحاً بقدومِك إلى مِصري ، وقد حيَّرتَ وعدّلتَ وفعلتَ فلعلَك . تَغيضُ ولا يكون ذهابُك عن ذهابِ بغيض ، أو تُفارق هذه الفجاجَ وتختلط بالبحرِ العَجّاجِ ، وإنْ لم تفعلْ شَكَوْناك إلى مَن أنزَلَك من السماءِ ، وأنعمَ بك علينا من خزائنِ الماء ؟
إذا لم تكن ترحم بلاداً ولم تُغِثْ
عِبــــاداً فمولاهمُ يُغيثُ ويرحــمُ
وإن صدرتْ منهم ذنوبٌ عظيمةٌ
فعفو الذي أجراك يا بحرُ أعظمُ
نَمُـــــــدُّ إليــــه أيدياً لـم نَمُدَّهـــــا
إلى غيرِهِ واللهُ بالحـــــــــــــالِ أَعلَمُ
ثم قال على لسان البحر: يا بَرُّ يا ذا البِرِّ ، أهكذا تُخاطِبُ ضيفَك وهو يُخصِبُ شتاءك وصيفك ؟! وقد ساقني اللهُ إلى أرضِكَ الجُزُرِ ومَعْدِنِ الدَرِّ والخَزْرِ لأُبْهِجَ زرعَها وخيْلَها ، وأُخرجَ أَبَّها ونخيلَها، وأُكرِمَ ساكنَك، وأُنزِلَ البَرَكَةَ في أماكنِك ، وأُثبِتَ لك في قلبِ أهلِكَ أحكامَ المحبَّةِ ، وأُنْبِتَ بك لهم في كلِّ سُنبلةٍ مئةَ حبَّةٍ ، وأُحْييكَ حياةً طيِّبةً يبتهجُ بها عمرُك الجديدُ ، وتتلو {كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى}. ( ألسنةُ العبيدِ ، وأُطهِّرُك من الأوساخ ، وأحمِلُ إليك الإبليز فأُطيّبُك به من عَرَقِ السِباخ ، وأنا هديَّةُ اللهِ إلى مِصرِك ، ومَلِكُ عَصرِك القائمُ بنصرِك ، ولولا بركاتي عليك ومسيري في كلِّ مَسْرى إليك ، لكنتَ وادياً غيرَ ذي زرعٍ وصادياً غيرَ ذي ضَرْعٍ .
سَرَيْتُ ، أنا ماءَ الحيــاة ، فلا أَذًى
إذا ما حَفِظتَ الصحْبَ فالمالُ هيّنُ
فكن خَضِراً يا برُّ واعْـلَـــــــمْ بأنّـني
إلى طينِك الظمــــــآنِ بالرِيِّ أُحْسِنُ
وأَسعى إليــــه مِن بـــلادٍ بعيــــــدةٍ
وأُحْسِنَ أَجْـــري بالتي هي أحسَنُ
إذا طاف طُوفــــاني بمِقياسُكَ الذي
يُسِرُّ بإتْيــانِ الوفــــــــــــــــــاءِ ويُعلنُ
فقُـمْ وتَلَقّـــــــاهُ ببسطتِــــــــــك الـــتي
لروضها فضــــــلٌ على الروض بيّنُ
ولَعَمْري لقد تَلَطَّفَ {البرُّ} في عتابِه وأحْسَنَ ، ودَفَعَ{البحرُ} في جوابِه بالتي هي أَحسنُ ، وقد اصْطَلَحا ، وهُما بحمدِ اللهِ أَخَوانِ مُتضافران على عِمارةِ بلادِهِ ونَشْرِ الثروةِ ونُمُوِّ الخيرات بين عبادِه ، فاللّهُ تعالى يُخصِبُ مَرْعاهما ويَحرُسُهما ويَرْعاهُما.(9)
وركبَ ابنُ مُكانس البحر فكَتَبَ إلى والده يصف البحرَ ومخاطرَه وسفنَه ومخاطرَ هذه المغامرة وتمنّيه بانتهائها ، لا سيما وقد أخذ العطش منه كلَّ مأخذ، ولا ألذَّ من الماء على الظمأ فكيف إذا كان يرى الماء من حوله لكن هذا الماء لا يبلُّ ليلاً ولا يروي ظمأً ، يقول مستعملاً لغة العروضيين (..يا مولانا وأَبُثُّك ما لاقيتَ مِن أهوالِ البحرِ وأُحدِّثُ عنه ولا حرج ، فكم وَقَعَ المملوكُ من أعاريضه في زُحافٍ تَقطعُ منه القلبَ لَمّا دَخَلَ إلى دوائرِ تلك اللُّجَجِ ، وشاهدتُ منه سلطاناً جائراً يأخُذُ كلَّ سفينةٍ غَصْباً، ونَظَرْتُ إلى الجَواري الحِسان ، وقد رَمَتْ أُزُرَ قُلوعِها وهي بين يديه ــ لقلَّةِ رجالها ــ تُسبى، فتحقّقتُ أنَّ رأيَ مَن جاء يَسعى في الفُلْكِ غيرُ صائبٍ،واستصوبْتُ ــ هنا ــ رأيَ مَن جاء يمشي وهو راكبٌ، وزاد الظمأُ بالمملوكِ وقد اتّخذَ في البحرِ سبيلَه ،وكم قُلتُ من شدَّةِ الظمأ: يا تُرى ــ قبلَ الحُفرةِ ــ أَطْوي مِن البحرِ هذه الشُقَّةَ الطويلة ؟
وهل أُباكِرُ بحرَ النيلِ مُنْشرِحاً وأَشربُ الحلوَ مِن أَكوابِ مَلاّحِ
بحرٌ تلاطمت علينا أمواجُهُ حتّى مِتْنا مِن الخوفِ ، وحَمَلْنا على نَعْشِ الغُرابِ، وقامت {واواتُ} دوائرِهِ مقامَ {مع} ، فنَصِبْنا للغَرَقِ لما استوت المياهُ والأخشابُ ، وقارن العبدُ ، فيه ، سوداءَ اسْترقَّتْ مَواليَها وهي جاريةٌ ، وغَشِيَهم منها،في اليَمِّ ، ما غَشِيَهم، فهل أتاك حديثُ الغاشيَةِ واقَعَها الريحُ فحَمَلَتْ بِنا، ودخلها الماءُ فجاءها المخاضُ ، وانشقَّ قلبُها لِفَقْدِ رجالِها ، وجَرى ما جَرى على ذلك القلبِ ففاضَ ، وتَوَشَّحَتْ بالسَوادِ في هذا المأْتَمِ ، وسارَتْ على البَحرِ وهي مَثَلٌ ، وكم سُمِعَ فيها للمَغارِبَةِ على ذلك التَوْشيحِ زَجَلٌ بِرَجّ مائي ولكن تعرب في رفعها وخفضها عن النسر والحوت وتتشامخ كالجبال وهي خشب مسندة من تبطنها عد من المصبرين في التابوت تأتي بالطباق ولكن بالمقلوب لأن بياضها سواد وتمشي مع الماء وتطير مع الهواء وصلاحها عين الفساد إن نقر الموج على دفوفها لعبت أنامل قلوعها بالعود وترقصنا على آلتها الحدباء فتقوم قيامتنا من هذا الرقص الخارج ونحن قعود وتتشامم وهي كما قيل أنف في السماء وإست في الماء وكم تطيل الشكوى إلى قامة صاريها عند الميل وهي الصعدة الصماء فيها الهدى وليس لها عقل ولا دين وتتصابى إذا هبت الصبا وهي ابنة مائة وثمانين وتوقف أحوال القوم وهي تجري بهم في موج كالجبال وتدعي براءة الذمة وكم أغرقت لهم من أموال هذا وكم ضعف نحيل خصرها عن تثاقل أرداف الأمواج وكم وجلت القلوب لما صار الأهداب مجاذيفها على مقلة البحر اختلاج وكم أسبلت على وجنة البحر طرة قلعها فبالغ الريح في تشويشها وكم مر على قريتها العامرة فتركها وهي خاوية على عروشها تتعاظم فتهزل إلى أن ترى ضلوعها من السقم تعد ولقد رأيتها بعد ذلك التعاظم وقد تبت وهي حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد)).(10)
أمّا صاحب كتاب {الله يتجلّى في عصر العلم} فقد نحا في نظرته إلى البحر منحىً آخر ، منحى الاعتبار بما في البحر من جمال وعجائب دالّة على عظيم قدرة الخالق {سبحانه} وبديع خلقه ، وما يتركه ذلك في نفس الإنسان دهشة ممزوجة بالسعادة والمُتعة والعَجْزِ عن إدراكِ كُنْهِ ذلك كلِّهِ، فكيف يستطيع هذا الإنسانُ أن يُدرِك الذاتَ الإلهيّةَ التي أبدعت هذه الموجودات ؟ يقول (..انظر إلى النغم الموسيقي الرائع كم يثير في الأسماع من بهجة ورضا ، وكم يحرك في النفس من عواطف وأحاسيس.. إنّك لو ذهبتَ تطلُبُه بفكرك في طبقات الأثير ، تَرُدُّ كلَّ ذبذبةٍ فيه إلى ضوابطَ من الفَنِّ ، وقواعدَ من العِلم ، لأعْيَتْكَ مَذاهِبُه ، ولانتهى بك المطافُ إلى غيرِ طائل .. ، ثمَّ انْظرْ إلى البحرِ في سَعَتِه وامتدادِه.. كم تأخُذُ صفحتُه الرقراقةُ المتموِّجةُ من نفسِك ، وكم تبلُغُ عَظَمَتُه وروعتُه من قلبك حين تَملأُ عينَيْكَ منه ، وتُرَدِّدُ النظرَ فيه ، ثمَّ انْظُرْ كيف بك إذا ألقيتَ بنفسِكَ في عُبابِه ، ورَميْتَ بها في ثَبَجِهِ.. مَنْ أنتَ ؟ وما تكون ؟
فكيف بهذا الخالقِ العظيمِ ؟ نَرْمي بعقولِنا القاصرةِ وأفكارِنا المحدودةِ في عَوالِمَ لا نهايةَ لها ، نُريدُها أنْ تُحيطَ به وتُخضعَ حقيقتَه لما تَخضعُ له حقائقُ الأشياءِ في عالمنا المحدود؟
لماذا لا نَقفُ من هذا الخالقِ العظيمِ موقفَنا من النغمِ الموسيقي نَلْتَذُّ بسماعِه، أو البحر نَتملَّى جمالَه؟ ولم نَعْدِلْ عن هذا إلى مسابقةِ النَغَمِ في مَسْراهُ، أو مُطاوَلَةِ البحرِ في عَظَمَتِهِ ؟ ذلك هو الضلالُ البعيد.
وإنّ حركاتِ السَمَكِ ، وتَمَوُّجاتِ حشائشِ البحرِ في نُعومَةٍ تحت
سطحِهِ ، لَتَملأُ نفسَ الإنسانِ بشعورٍ مِنَ الانْسجامِ يَستجيبُ إلى تَشَوُّقِهِ.
وقد تَقعُدُ روحُ الإنسانِ هادئةً فوق شاطئ جزيرةٍ مَرجانيَّةٍ ، ويُغنّي لها البحرُ المُتلاطِمُ.الحكمةُ تُوجِبُ أنْ يَتوسَّطَ هذا الفنُّ بين الإصابَةِ والخطأِ حتى لا يُستَغنى عن اللِّياذِ باللهِ أَبَداً ، ولا يقعُ اليأسُ مِن قِبَلِهِ أبداً؛ وعلى هذا سَخَّرَ اللهُ الإنسانَ وقَيَّضَهُ وخيَّرَهُ في هذا الأمرِ وفوَّضَه ؛ ومَنَعَ من الثِقةِ والطُمأْنينَةِ إلاّ في معرفتِه وتوحيدِه وتقديسِهِ وتَمجيدِهِ ، والرُجوعِ إليْه ؛ انظرْ إلى حديثِ الطِبِّ ، فإنَّ عندَه الصِناعةُ تَوَسَّطَتِ الصَوابَ والخطأ ، لتكونَ الحكمةُ ساريةً فيها ، وليكون اللُّطفُ معهوداً بها ؛ لأنَّ الطِبَّ كما يَبْرَأُ به العليلُ ، قد يَهْلِكُ معَه العليلُ ، فانظرْ إلى حديثِ البحرِ ورُكوبِ البأسِ المُتَيَقَّنِ فيه ، وجَوْبِ الطولِ والعَرضِ وإصابَةِ الرِّبحِ ، وطَلَبِ العِلمِ ، كيف توسَّطَ بين السلامةِ والعَطَبِ، والنَجاةِ والهَلَكَةِ، فلو استمرتِ السلامةُ حتى لا يُوجد مَن يَغرقُ ويَهْلِكُ ، لَكان في ذلك مَفْسَدَةٌ عامّةٌ ؛ ولو استمرَّتْ الهَلَكَةُ حتى لا يُوجد مَن يَسلَمُ ويَنجو، لَكان في ذلك مَفْسَدةٌ عامَّةٌ ؛ فالحِكمَةُ إذاً ما تَوَسَّطَ هذا الأمرَ حتى يَشكرَ اللهَ من ينجو،ويُسلِّمَ نفسَه للّهِ مَن يَهْلِكُ)).(11)
وكتب عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب {رضي الله تعالى عنهما}
يصف له البحر فقال(.. يا أمير المؤمنين البحرُ خَلْقٌ عظيمٌ يَركبُهُ خلقٌ صغيرٌ ، دودٌ على عُودٍ)). (12)
وهذا مما يؤكِّدُ حقيقةَ ما ذهبنا إليه من أنَّ العرب لم يكونوا أُمَّةَ بحرٍ ولم تكن لهم خبرةٌ به و لا تجارب مهمَّة معه ، وبالتالي ، يفسّر رهبتهم منه وخوفهم من عواقب ركوب ظهره والإبحار فيه .
وقد بقيت هذه النظرة إلى البحر هي الغالبة حتى ما بعد عصر الفتوحات حيث ركب العرب المسلمون البحر فاتحين أجزاءً من جنوب القارة الأوربيّة ناشرين فيها العدالة ونور العلم والهداية ، فهاهو الصاحب بن عباد يأخذ يقول:
إذا أدنـــاك سلطــــانٌ فـــــزده من التعظيم واصحبـــــهُ وارقبْ
فما السلطانُ إلا البحرُ عظماً وقربُ البحر محـذورُ العواقبْ
(13)
وهو في ذلك إنّما يعمل بمقولة(البحر لا جواز له، والملك لا صديق له والعافية لا ثمن لها)).(14)
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ(مُخَالَطَةُ الأَشْرَارِ عَلَى خَطَرٍ،وَالصَّبْرُ عَلَى صُحْبَتِهِمْ كَرُكُوبِ الْبَحْرِ ، الَّذِي مَنْ سَلِمَ مِنْهُ بِبَدَنِهِ مِنْ التَّلَفِ فِيهِ ، لَمْ يَسْلَمْ بِقَلْبِهِ مِنْ الْحَذَرِ مِنْهُ )).(15) وهو دليلٌ آخر على النظرة السلبية إلى البحر عند العرب ، فهو شرّيرٌ مخيف .
أمّا في أخبار الظرفاء والمتماجنين فإنَّنا نرى البحر يتحوّل إلى قصعةٍ كبيرة من المرق في وليمة دعا إليها الهُدهدُ نبيَّ الله سليمان {عليه السلامُ} ومعه جيشُه ، والذبيحةُ جراده، حين جاء الهدهد إلى سليمان فقال: ((أريد أن تكون في ضيافتي ، فقال سليمان : أنا وحدي ؟ فقال : لا ! بل أنت والعسكر ، في يوم كذا ، على جزيرة كذا ؛ فلمّا كان ذلك اليوم ، جاء سليمان وعسكره ، فطار الهدهد ، فصاد جرادةً ، فخنقها، ورمى بها في البحر ، وقال : كلوا ، فمن لم ينل من اللّحم نال من المرقة ؛ فضحك سليمان من ذلك وجنوده حولاً كاملاً . (16)
وفي هذا البحر من الأمم أكثر مما في البرِّ بكثير وفي الإنسان من جميع هذا الخلق الذي فيه قد اختُصِرَ العالَمُ الأكبر ، ولذلك كان أكمل خلق اللهِ وبذلك استحقّّ أن يكونَ خليفتَهُ في أرضِهِ ، كما رُوِيَ عن سيِّدِنا عُمرَ بنِ الخَطّابِ {رضي الله عنه} أنّه قال(خلق اللهُ تعالى أَلفَ أُمَّةٍ وعشرين أُمَّةٍ ، منها ستُمئةٍ في البحر وأربعُمائةٍ وعشرون في البرِّ ، وفي الإنسان مِنْ كُلِّ خَلْقٍ، فلذلك سَخَّرَ اللهُ له جميعَ الخَلْقِ ، واستُجمِعت له جميعُ اللّذّات،وعمِل بيدِه جميعَ الآلاتِ وله النُطْقُ والضَحِكُ والبُكاءُ والفِكرةُ والفِطنةُ ، واختراعاتُ الأشياءِ ، واستنباطُ جميعِ العلوم ، واستخراجُ المعادن ، وعليه وقَعَ الأمرُ والنهيُ ، والوعدُ والوعيدُ ، والنعيمُ والعذابُ ، وإيّاهُ خاطَبَ ، وله قَرَّبَ . وخَلَقَ اللهُ تعالى إسرافيلَ {عليه السلام} على صورةِ الإنسان، وهو أقربُ الملائكةِ إليه وفي الحديث(لا تَضْرِبوا الوجوهَ فإنّها على صورةِ إسرافيل)).وآياتُ اللهِ تعالى أكثرُ مِنْ أنْ تُحصَرَ { فتبارك الله أحسن الخالقين}. ))(17)
ولِحُورِ البحر نصيبٌ وافرٌ من الأدب العربي فقد حكى القَزويني عن بعضِ البَحريين أنَّ الريحَ ألقتهم على جزيرةٍ ذاتِ أشجارٍ وأنهارٍ ، فأقاموا بهامُدَّةً ، وكانوا إذا جاء الليلُ يَسمعون بها هَمْهَمَةً وأصواتاً وضَحِكاً ولَعِباً ، فخرج مِن المَراكِبِ جماعةٌ وكَمَنوا في جانبِ البحرِ ، فلمّا جاء الليلُ خَرَج بناتُ الماءِ على عادتِهِنَّ ، فوَثَبوا عليهِنَّ ، فأخَذوا منهُنَّ اثنتينِ فتزوَّجَ بهما شخصان ، فأمّا أَحدُهُما فوثق بصاحبتِهِ فأطْلَقَها فوثَبَتْ في البَحْرِ ،وأمّا الآخرُ فبقي مع صاحبته زماناً ، وهو يَحرُسُها ، حتى ولَدت له ولداً كأنَّه القَمَرُ ، فلمّا طاب الهواءُ ورَكِبوا البحرَ ووثق بها فأطْلَقَها ، فأغْفَلَتْهُ وألْقَتْ نفسَها في البحرِ فتأسَّفَ عليها تأَسُّفاً عظيماً ، فلمّا كان بعدَ أيّامٍ ظَهَرتْ من البحرِ ودَنَتْ من المراكِبِ وألقتْ لصاحبِها صَدَفاً فيه دُرٌّ وجَوهَرٌ فباعَه وصار من التُجّار .
ونظيرُ هذه الحكايةِ ما ذكره ابنُ زولاقٍ في تاريخِه أنَّ رَجُلاً من الأَندلس، من الجزيرة الخضراء ، صاد جاريةً منهُنَّ حسناءَ الوجهِ ، سوداءَ الشَعْرَ ، حمراءَ الخدّيْن ، نجلاءَ العيْنيْنِ كأنَّها البدرُ ليلةَ التَمامِ ، كاملةَ الأوصافِ ، فأقامت عندَه سنين ، وأحبَّها حُبّاً شديداً ، وأَوْلَدَها ولداً ذَكَراً وبَلَغَ مِن العمرِ أربعَ سنين ، ثمَّ إنَّه أرادَ السفرَ فاصْطحَبَها معه ووَثق بها، فلمّا توسّطت البحرَ أخذتْ وَلَدَها ، وألقتْ نفسَها في البحر ، فكاد أنْ يُلْقي نفسَه خلفَها حسرةً عليها ، فلم يُمَكِّنُه أهلُ المَركَب من ذلك، فلما كان بعد ثلاثةِ أيّامٍ ظَهَرتْ له وألقتْ له صَدَفاً كثيراً فيه دُرٌّ ، ثمَّ سلَّمتْ عليه وتركَتْه، فكان ذلك آخرَ العهدِ بها فتبارَكَ اللهُ ما أكثرَ عجائبِ خَلْقِه.(18)وتبارك اللهُ ما أخصب خيال هؤلاء ، وإن كنتُ منهم حيث أقول:
يا عروس البحر غني هللّي واسبحي في النورِ قَرِّي أَعيُنــا
أنا والبحرُ وليلي ها هنـــــــا وصبـايـــــــا الشعر تحنو بالمنى
وما أظنُّ هؤلاء موجودات إلاّ في أخيلة الشعراء والأدباء ، وإلاّ فما لحور البحر هؤلاء قد هجرنَنا منذ تلك العصور ؟
وأمّا في أصل البحار وما فيها من ماء وعددها وصفات كلٍّ منها وما فيها من عجيب خلق الله ، فقد روي عن سيدنا عبدِ اللهِ بنِ عبّاسٍ {رضي الله تعالى عنهما} أنّه قال(لمّا أراد اللهُ تعالى أن يخلُق الماءَ خلقَ ياقوتَةً خضراءَ لا يَعلَمُ طولَها وعرضَها إلاّ اللهُ {سبحانه وتعالى} ثمّ نَظَرَ إليها بعينِ الهيْبةِ فذابتْ وصارت ماءً ، فاضْطَرَبَ الماءُ فخَلَقَ الريحَ ووضعَ عليها الماءَ ، ثمّ خَلَقَ العرشَ ووضعَه على متنِ الماءِ ، وعليه قولُه تعالى: {وكان عرشه على الماء}.
ثم قال :واعلمْ أنّ بحرَ الظُلُماتِ لا يَدخلُه شمسٌ ولا قمرٌ ، وإنّ بحرَ الهندِ خليجٌ منْه ، وبحرُ اللاذقيّةِ خليجٌ منه ، وبحرُ الصينِ خليجٌ منه ، وبحرُ الرومِ خليجٌ منه ، وبحرُ فارسَ خليجٌ منه ، وكلُّ هذه البحارِ التي ذكرتُها أصلُها من البحرِ الأسودِ الذي يُقال له البحرُ المحيطُ ، وأمّا بحرُ الخَزرِ وبحرُ خُوارِزْمَ وبحرُ أَرمينيّةَ والبحرُ الذي عندَ مدينةِ النحاسِ وغيرُ ذلك من البحارِ الصِغارِ فهي منقطعَةٌ عن البحر الأسودِ ، ولذلك ليس فيها جَزْرٌ ولا مَدٌّ ، وقيلَ سُئل النبيُّ عن الجَزْرِ والمَدِّ فقال : هو مَلَكٌ عالٍ قائمٌ بين البحرينِ إنْ وَضَعَ رِجلَه في البَحرِ حَصَلَ لَهُ المَدُّ وإذا رَفَعَها حَصَلَ له الجَزْرُ ، قيلَ إنّما سُمّيَ البحرُ الأسودُ لأنَّ ماءه فيه رأيَ العين كالحِبْرِ الأسودِ ، فإن أَخَذَ منه الإنسانُ في يدِهِ شيئاً رآه أبيضاً صافياً إلاّ أَنَّهُ أَمَرُّ مِن الصَبْرِ مالحٌ شديدُ المُلوحَةِ ، فإذا صار ذلك الماءُ في بحرِ الرومِ تَراهُ أخضرَ كالزِنْجار ِ، واللهُ تعالى يَعلمُ لأيِّ شيءٍ ذلك ، وكذلك يُرى في بحرِ الهِنْدِ خليجٌ أحمرُ كالدَمِ ، وبحرٌ أصفرُ كالذَهَبِ ، وخليجٌ أبيضُ كاللّبَنِ ، تتغيَّرُ هذه الألوانُ في هذه المواضِعِ والماءُ في نفسُه أبيضُ صافٍ ، وقيلَ إن تَغَيُّرَ الماءِ بلونِ الأرضِ . (19)
وأمّا ما يَخْرُجُ مِن البحرِ من السَمَكِ وغيرِهِ ، فهذه جملة من المشاهدات والقَصص التي تحوي من العجائب الشيء الكثير ، ونحن ننقلها كما رواها أصحابها،إذ غنيٌّ عن البيان أنّنا لا نتحرى الحقيقة العلميّة ــ هناــ وليس هذا من مهمّتنا،فيما نرمي إليه،إنّما نحن نتحدّث عن أثر البحر في أدب العرب ، شعرهم ونثرهم ، وحسب.
من ذلك ما رُوِيَ عن جابِرٍ بنِ عبدِ اللهِ {رضيَ اللهُ تعالى عنهما} قالَ : ((بَعَثَنا رسولُ اللهِ إلى ساحلِ البحرِ وأمَّرَ علينا أبا عُبيدةَ {رضي الله تعالى عنه} نتلَقّى عيرَ قريشٍ ، وزَوّدَنا جُراباً مِن تَمرٍ لم يَجِدْ لنا غيرَهُ فكان أبو عُبيدةَ يُعطينا تمرةً تمرةً نَمُصُّها ، ثمَّ نَشْربُ عليها الماءَ فتكفينا يومَنا إلى الليل ، فأشرفْنا على ساحلِ البحرِ ، فرأينا شيئاً كهيئةِ الكَثيبِ الضَخْمِ فأتيناهُ فإذا هو دابَّةٌ من دَوابِّ البحرِ تُدْعى العَنْبَرَ ، فأقمْنا شهراً نأكلُ منها ونحن ثلاثُمئةٍ حتّى سَمِنّا ، ولقد رأيْتُنا نغترفُ من الدُهنِ الذي في وَقْبِ عينَيْها بالقِلالِ ونقطعُ منه القِطعةَ كالثورِ ، ولقد أَخذَ مِنّا أبو عُبيدةَ ثلاثةَ عَشَرَ رجلاً فأقعدهم في وَقْبِ عيْنِها،وأَخَذَ ضِلْعاً من أضلاعِها فأقامها ثمّ رَحَلَ أعظمُ بعيرٍ معنا فمَرّ من تحتِها وتَزَوّدْنا من لحمِها،فلمّا قَدِمْنا المدينةَ ذَكَرْنا لرسولِ اللهِ ذلك فقال:هو رزقٌ أخرجَه اللهُ لكم فهل معكم شيءٌ من لحمها؟فتُطعِمونا؟فأرسلْنا له منه فأكلَه ))
وقيل يَخرُجُ من البحرِ سَمَكَةٌ عظيمةٌ فتتبعُها سَمَكةٌ أُخرى أعظمُ منها لتأكلَها فتَهرُبُ منها إلى مَجْمَعِ البحريْن فتَتْبَعُها فتَضيقُ عليها مجمعُ البحرين لعِظَمِها وكِبَرِها ، فترجِعُ إلى البحرِ الأسودِ،وعرضُ مَجمَعِ البحرين مئةُ فرسخٍ،فتبارك اللهُ ربُّ العالمين.
و هذه طائفة من أخبار البحر وردت عن رجل له مع البحر علاقات متينة وتجارب كثيرة ــ فيما يبدو ــ ذكرها في كتابه المسمّى بـ {تُحفةِ الألباب} فيها الكثيرُ الكثير من الطريف والغريب في آن ، قال : ((ركِبتُ في سفينةٍ مع جماعةٍ فدخَلْنا إلى مَجمَعِ البحرين ، فخَرَجتْ سمكةٌ عظيمةٌ مثلُ الجَبَلِ العظيمِ ، فصاحتْ صيحةً عظيمةً لم أَسمَعْ قَطُّ بأَهْوَلَ منها ولا بأَقوى ، فكادَ قلبي يَنخلِعُ وسَقَطْتُ على وجهي ، أنا وغيري ، ثمَّ ألقتْ السمكةُ نفسَها في البحرِ فاضطربَ البحرُ اضطراباً شديداً ، وعَظُمتْ أمواجُه، وخِفْنا الغَرَقَ فنجّانا اللهُ تعالى بفضلِهِ ، وسَمِعْتُ الملاّحين يقولون : هذه سَمَكَةٌ تُعْرَفُ بالبَغْلِ .
وقال:ورأيتُ في البحرِ سَمَكَةً كالجبلِ العظيمِ ومِن رأسِها إلى ذَنَبِها عِظامٌ سُودٌ كأسنانِ المِنشارِ ، كلُّ عَظْمٍ أطولُ من ذراعين ، وكان بينَنا وبينَها في البحرِ أكثرُ من فرسخٍ ، فسمعتُ الملاّحين يقولون : هذه السَمَكَةُ تُعرَفُ بالمِنشارِ ، إذا صادفتْ أسفلَ السفينةِ قَصَمَتْها نصفين ، ولقد سَمِعتُ مَن يقول أنّ جماعةً ركِبوا سفينةً في البحرِ ، فأرسوا على جزيرةٍ فخرجوا إلى تلك الجزيرةِ فغَسَلوا ثيابَهم واستراحوا ، ثمّ أَوْقَدوا ناراً ليَطبخوا فتحرّكتْ الجزيرةُ وطَلَبَتِ البحرَ وإذا بِها سمكةٌ ، فسبحانَ القادرِ على كلِّ شيءٍ، لا إلهَ إلاّ هو ولا معبودَ سِواه ، وقيلَ إنّ في البحرِ سمكةٌ تُعرَفُ بالمَنارةِ لِطولِها يُقالُ إنّها تَخرُجُ مِنَ البحرِ إلى جانبِ السفينةِ فتُلْقي نفسَها عليها فتُحطِّمُها وتُهلِكُ مَن فيها ، فإذا أَحَسَّ بِها أهلُ السفينةِ صاحوا وكبَّروا وضَجُّوا وضَرَبوا الطُبولَ ونَقَروا الطُسوتَ والسُطولَ والأخشابَ لأنّها إذا سمِعتْ تلك الأصواتَ ربّما صَرَفَها اللهُ تعالى عنهم بفضلِه ورحمتِهِ )) . وقال الشيخُ عبدُ اللهِ ، صاحبُ تُحفَةِ الألبابِ ، نفسُه : (( كنتُ يوماً في البحرِ على صخرةٍ فإذا أنا بِذَنَبِ حيَّةٍ صفراءَ مُنَقَّطةٍ بسوادٍ طُولُها مِقدارُ باعٍ فطَلَبتْ أنْ تَقبِضَ على رِجْلي فتباعَدْتُ عنها ، فأَخْرَجتْ رأسَها كأنّه رأسُ أرنبٍ مِن تحتِ تلك الصخرةِ، فَسَلَلْتُ خِنْجَراً كبيراً كان معي فطَعَنْتُ بِهِ رأسَها فغارَ فيه فلم أَقْدِرْ على خلاصِهِ منها ، فأَمسكْتُ نِصابَه بيديَّ جميعاً وجعلتُ أَجُرُّهُ حتّى أَلْصَقْتُها ببابِ الجُحْرِ ، فتركتْ الجُحْرَ وخَرَجتْ من تحتِ الصخرةِ فإذا هي خمسُ حيّاتٍ في رأسٍ واحدٍ ، فتعجَّبتُ من ذلك وسألتُ مَن كان هناك عن اسْمِ هذه الحيَّةِ فقال : هذه تُعرَفُ بأُمِّ الحيّاتِ ، وذَكروا أَنّها تَقْبِضُ على الآدَميِّ في الماءِ فتُمْسِكُهُ حتّى يَموتَ وتَأْكُلُهُ ، وأَنَّها تَعْظُمُ حتّى تَكونَ كلُّ حَيَّةٍ أكثرَ مِن عشرين ذِراعاً وأن تَقلِبَ الزوارقَ وتأكلَ مَن قَدَرتْ عليه مِن أصحابِها ، وأنَّ جِلْدَها أَرَقُّ مِن جِلدِ البَصَلِ ، ولا يُؤثِّرُ فيها الحديدُ شيئاً )) .
وقال( ورأيتُ مرّةً في البحرِ صخرةً عليها شيءٌ كثيرٌ مِن النارِنجِ
الأحمرِ الطَرِيِّ الذي كأنَّهُ قُطِعَ من شجرةٍ ، فقلتُ في نفسي هذا قد وَقَعَ مِن بعضِ السُفُنِ ، فذهبتُ إليهِ فقَبَضْتُ منه نارنجةً فإذا هي مُلْتصِقةٌ بالحَجَرِ فجَذَبْتُها فإذا هي حيوانٌ يتحرّكُ ويَضرِبُ في يدي ، فلَفَفْتُ يَدي بِكُمِّ ثوبي وقَبَضْتُ عليه وعَصرتُه فخرج مِن فِيهِ مياهٌ كثيرةٌ ، وضَمُرَ فلم أَقدِرْ أَنْ أقلَعَه من مكانه ، فتركتُه عَجزاً عنه ، وهو من عجائب خلقِ اللهِ تعالى ، وليس له عينٌ ولا جارحةٌ إلاّ الفَمَ ، واللهُ سبحانَه وتعالى أعلمُ لأيِّ شيءٍ يَصلُحُ ذلك المخلوق )).
ثمّ قال(ولقد رأيتُ يوماً على جانبِ البحر عُنقودَ عنبٍ أسودَ كبيرِ الحَبِّ أخضرَ العُرجونِ كأنّما قُطِفَ مِن كَرْمِهِ ، فأخذتُه ، وكان ذلك في أيامِ الشِتاءِ ، وليس في تلك الأرضِ التي كنتُ فيها عِنَبٌ ، فرُمْتُ أنْ آكلَ منه، فقبضتُ على حَبّةٍ منه وجَذَبْتُها فلم أَقْدِرْ أنْ أَقلَعَها مِن العُنقودِ حتى كأنّها من الحديدِ قوّةً وصَلابةً ، فجذبْتُها جَذْبةً أقوى من الأولى فانقشرتْ قشرةٌ من تلك الحبَّةِ كقِشْرِ العِنَبِ وفي داخلِها عجمٌ كعجمِ العِنَبِ ، فسألتُ عن ذلك فقيل لي : هذا من عِنَبِ البحرِ ورائحتُه كرائحةِ السَمَكِ)) .
وفي البحرِ ، أيضاً ، حيوانٌ رأسُه يُشبِه رأس
- إسماعيل سعديمدير الموقع
- البلد :
الجنس :
عدد المساهمات : 3758
نقاط تميز العضو : 150694
تاريخ التسجيل : 03/04/2009
رد: البحر في الأدب العربي /2/ ( الشاعرعبد القادر الأسود)
03/09/10, 01:13 am
جميل ما قرأت لك أستاذ عبد القادر بارك الله بك وزادك الله بسطة في العلم والمعرفة .
- عبد القادر الأسودعضو جديد
- البلد :
الجنس :
عدد المساهمات : 18
نقاط تميز العضو : 104270
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 76
رد: البحر في الأدب العربي /2/ ( الشاعرعبد القادر الأسود)
03/09/10, 10:39 am
وإياكم سيدي شكراً أخي إسماعيل
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى