- إسماعيل سعديمدير الموقع
- البلد :
الجنس :
عدد المساهمات : 3758
نقاط تميز العضو : 150714
تاريخ التسجيل : 03/04/2009
ـــ د.عبد الله محمد عيسى الغزالي(1)
1- القصص الفكاهي في التراث العربي:
لقد
احتل القصص الفكاهي، كالنوادر والملح والطرائف، مكانة بارزة في التراث
العربي. وكما عرفت الأُمم الأُخرى القصص الفكاهي، فقد عرف العرب هذا اللون
من القصص منذ العصر الجاهلي، حيث كان ينقل شفاهاً بين عامة الناس، الأمر
الذي ساعد على انتشاره انتشاراً كبيراً. وكان لبعض القبائل في العصر
الجاهلي ما يسمى بمضحك القبيلة، وهي شخصية شعبية تشيع جواً من الضحك
والمرح بين أبناء القبيلة وشيوخها. كما كانت هناك مضحكة القبيلة التي تدخل
على النساء فتضحكهن(2).
كما وردت السخرية في الشعر الجاهلي أيضاً بشكل محدود(3).
وعند
ظهور الإسلام ونزول القرآن الكريم وَرَدَ كثيرٌ من الآيات القرآنية التي
تحمل معاني السخرية والهزء والضحك والاستخفاف في مواضع كثيرة(4).
كما
وَرَدَ كثير من الأحاديث النبوية الصحيحة في ضحك الرسول ( وتبسّمه، كحديث
جرير بن عبد الله البجلي الذي قال: "ما حجبني رسول الله ( منذ أسلمت، ولا
رآني إلا ضحك"(5). كما أورد الإمام أحمد بن حنبل قوله: "قال أبو ذر: فرأيت
رسول الله ( ضحك حتى بدت نواجذه"(6). وورد عن عبد الله بن مسعود قال: "جاء
حَبْرٌ من الأحبار إلى رسول الله ( فقال: يا محمد إنا نجد أنَّ الله يجعل
السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر
الخلائق على إصبع، فيقول: أنا الملك، فضحك النبي ( حتى بدت نواجذه،
تصديقاً لقول الحَبْر..."(7). وكان رسول الله ( يضحك من أقوال بعض
الأعراب، فقد قال أبو هريرة: "دخل أعرابي المسجد، ورسول الله ( جالس،
فقال: اللَّهُمَّ! اغفر لي ولمحمد ولا تغفر لأحد معنا، فضحك رسول الله (،
وقال: لقد احتظرت واسعاً"(، وعن أبي هريرة أيضاً أن النبي ( كان يحدِّث،
وعنده رجل من أهل البادية: "أن رجلاً من أهل الجنّة استأذن ربّه في الزرع،
فقال له: ألَسْتَ فيما شئت؟ قال: بلى، ولكني أحب أن أزرع. قال: فبذر فبادر
الطرف نباتُه واستواؤه واستحصاده، فكان أمثال الجبال. فيقول الله: دونك يا
بْنَ آدم، فإنه لا يشبعك شيء، فقال الأعرابي: والله لا تجده إلا قريشياً
أو أنصارياً فإنهم أصحاب زرع، وأما نحن فلسنا بأصحاب زرع، فضحك النبي
("(9). وقد خصص البخاري في صحيحه باباً أسماه: باب التبسُّم والضحك، في
كتاب الآداب، أورد فيه كثيراً من الأحاديث النبوية عن ضحك رسول الله (
وتبسّمه في مواقف كثيرة مضحكة.
وبالإضافة إلى ذلك فقد وَرَدَ كثير من مواقف السخرية والاستهزاء بين المسلمين والكفار في عصر النبوة(10).
أما
في العصر الأموي فقد انتشر القَصص العذري انتشاراً واسعاً، وهو قصص منسوب
إلى بني عذرة إحدى قبائل قضاعة التي سكنت وادي القرى في شمال الحجاز.
ودوّن أبو الفرج الأصفهاني، في كتابه الأغاني، كثيراً من تلك القِصص
والأخبار والأشعار، للكثيرين من الشعراء العذريين كقيس ليلى، وقيس لبنى،
وكُثَيِّر عزة، وجميل بثينة، وعبد الرحمن بن أبي عمّار الجشمي الناسك
وقصصه مع سلاّمة، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وقصصاً في حبّه لزوجته
عثمة، وليلى الأخيلية وحزنها على حبيبها توبة بن الحُمَيِّر، وغيرها من
الأسماء. وقد لعب الرواة والقصاصون دوراً كبيراً في نسج القصص والأخبار
والأشعار ونسبتها إليهم.
وفي
العراق انتشر شعر المناظرات ليلائم الطبيعة البدوية لأهل العراق ومزاجهم
العقلي. وقد نجح هؤلاء الشعراء في رسم صور شعرية مضحكة لخصومهم
ومهجُوِّيهم، ولا سيما تلك التي رسمها جرير الكلبي اليربوعي والفرزدق
المجاشعي الدارمي، وكلاهما من بني تميم، اللذان ظلاّ يتناظران شعراً طوال
خمس وأربعين سنة، لإمتاع الجمهور وإشاعة جو من المناظرات العقلية ورسم
الصور الكاريكاتورية المضحكة، بالإضافة إلى الراعي النميري والأخطل،
اللذين انضما إلى الفرزدق فلم يسلما من لسان جرير.
وَيَرِدُ
في كتاب الأغاني وغيره كثيرٌ من أشعار هؤلاء وما صاحبها من قصص وحكايات
وأخبار تناقلها الرواة والناس شفاهاً وتنادروا وتفاكهوا بها طويلاً.
وفي
العصر العباسي زاد انفتاح الدول الإسلامية على الحضارات والشعوب الأخرى،
كالفارسية والهندية وغيرها، ودخل كثير من أبناء هذه الشعوب الإسلام،
وأصبحت المدن الإسلامية في العراق وغيرها تحوي مزيجاً من أبناء تلك
الشعوب، كما زاد ثراء الدولة ونشطت الحركة الثقافية والأدبية والشعرية،
وكثرت الفرق الإسلامية، واتسعت دائرة الحِجاج والمناظرة والجدل العقلي في
كثير من المسائل الكلامية، مستفيدين بذلك من حركة الترجمة النشطة لكتب
الفلسفة اليونانية. وفي هذا المحيط النشط المترف تنامى الأدب الساخر شعراً
ونثراً. فظهر كثير من الشعراء الساخرين كبشار بن برد وحماد عجرد وأبي نواس
وابن الرومي وغيرهم، وبرعوا في رسم صور شعرية ساخرة لخصومهم أشاعت جَوَّاً
من المرح والهزل بين الجمهور. هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية نشطت حركة
النثر بمختلف أشكالها ولا سيما القَصص الفكاهي الذي أصبح السمة الغالبة
لهذا العصر.
وإذا
كان ابن المقفع (ت 142هـ) قد سخر وَتَفَكَّهَ بالعرب وببعض الشخصيات في
عصره بشكل خفي، خشية بطشهم به، فإن الجاحظ فتح باب الأدب الساخر والقصص
الفكاهي على مصراعيه، فوضع كثيراً من الرسائل والكتب دَوَّن فيها كثيراً
من القَصص الفكاهي في عصره، كرسالة "التربيع والتدوير"، التي رسم فيها
صوراً مضحكة لأحمد بن عبد الوهاب(11). وكتابه القيم "البيان والتبيين"
الذي دَوَّنَ فيه، بشكل موسوعي، كثيراً من القصص الفكاهي للكثير من
الشخصيات والنماذج النمطية والحقيقية، سواء كانت شخصيات حمقى ومغفلين، أو
بخلاء وطفيليين، أو علماء ونحاة وفقهاء، أو غيرهم. أما كتابه "البخلاء"
فقد حوى كثيراً من قَصص البخلاء الفكاهي في عصره بأسلوب الازدواج القائم
على توازن العبارات دون سجع.
وكانت
أعمال الجاحظ هذه بداية نحو تدوين مصادر التراث العربي القصصي الفكاهي.
ولعل من أبرزها كتاب: "جمع الجواهر في الملح والنوادر" لأبي إسحاق إبراهيم
بن علي بن تميم الأنصاري، المعروف بالحصري القيرواني، المتوفى سنة 453هـ/
1061م، وهو كتاب يحوي "نوادر المتقدمين والمتأخرين، وجواهر العقلاء
والمجانين، وغرائب السقاط والفضلاء، وعجائب الأجواد والبخلاء، وطُرَف
الجهّال والعلماء، وتحف المغفلين والفهماء، ونتف الفلاسفة والحكماء،
وبدائع السُّؤّال والقُصَّاص، وروائع العوام والخواص، وفواكه الأشراف
والسَّفلة، ومنازة الطفيليين والأَكَلة، وأخبار المخابيث والخصيان، وآثار
النساء والصبيان(12). وكتاب "التطفيل وحكايات الطفيليين" لأبي بكر أحمد بن
علي بن ثابت البغدادي، المعروف بالخطيب البغدادي، المتوفى سنة 463هـ/
1072م. كما يُعَدُّ كتاب: "نثر الدرر"، لأبي سَعْد منصور بن الحسين الآبي،
المتوفى سنة 421هـ/ 1030م، أكبر عمل موسوعي للقصص الفكاهي و "ربيع الأبرار
ونصوص الأخبار" لأبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري، المتوفى سنة 538هـ.
ويأتي أبو الفرج عبد الرحمن بن علي ابن محمد الجوزي، المتوفى سنة 597هـ/
1201م، ليضع مجموعة من المصنّفات في التراث الفكاهي أبرزها:
1-كتاب: الظِّراف والمتماجنين.
2-كتاب: القُصَّاص والمُذَكِّرِين.
3-كتاب: الأذكياء.
4-كتاب: أخبار الحمقى والمغفلين.
ونلاحظ
أن ابن الجوزي هنا قد خصص كل كتاب لطبقة معيّنة ذات مهنة أو طبع معيّن في
المجتمع. لكن لماذا وضع ابن الجوزي كل هذه الكتب؟ ولماذا اهتمَّ بهذا
الموضوع إلى هذا الحد؟ هذا ما سنكشف عنه في الصفحات القادمة.
2-السمر/ أدب المجالس في مجتمع ابن الجوزي:
حب
السمر سمة بارزة من سمات الشخصية العربية قديماً وحديثاً، شأنهم شأن غيرهم
من الشعوب. فقد أَحَبَّ العرب، منذ العصر الجاهلي، المسامرات وولعوا بها.
وارتبط السمر عندهم بشكل مباشر بمجالس القبيلة. ففي المجلس يتم تبادل
الأخبار والنوادر والأشعار. ولعب الأعراب دوراً بارزاً في تقديم تلك
المادة السمرية، وأصبحوا المحور الأساسي في تلك المجالس.
وكان السرد الشفاهي قاعدة نقل وتداول تلك المادة السمرية بين عامة الناس.
ومع
تطور العمران وتبدل الأحوال وقيام الحواضر وانتشار المدن العربية وزيادة
الترف والغنى زادت المجالس زيادة كبيرة، وزادت معها الحاجة إلى مادة سمرية
لقضاء الوقت في جو من المرح. ولقد شهدت بغداد منذ نهاية القرن الثاني
الهجري حتى القرن السادس الهجري، عصر ابن الجوزي، حياة ترف وبذخ وثراء
وصلت حد الفحش، وكان من أبرز مظاهر تلك الحياة المترفة انتشار المجالس
العامة والخاصة على حد سواء. فالعامة لهم مجالسهم ومادتهم السمرية،
والخاصة لهم أيضاً مجالسهم الخاصة بهم، ولهم أسمارهم، سواء كانوا خلفاء أو
وزراء أو كبار القادة العسكريين أو العلماء.
ولقد
كُتِبَ لابن الجوزي أن يعيش في بغداد أغلب سني القرن السادس الهجري، وكان
طبيعياً أن يتأثر بتلك الحياة المدنية ذات الصبغة السمرية، فهي سمة عصره
التي أثرت في جانب من جوانبه الشخصية والتأليفية بشكل ملحوظ. ولقد ساعد
ابن الجوزي على ذلك أن أمامه تراثاً مدوّناً من الأخبار والأسمار والنوادر
والطرائف ككتب الجاحظ وكتاب: "جمع الجواهر" للحصري القيرواني، وكتاب
"التطفيل" للخطيب البغدادي، وكتاب "نثر الدرر" للآبي وغيرها، مما فرض عليه
السير في نفس الطريق، مع إضافة مادة سمرية معاصرة من مجتمعه إلى تلك
المدوّنات.
وفي
المجتمعات المدنية كبغداد لم تعد الأسمار وسرد الأخبار والنوادر والطرائف
فيها مقتصرة على الطبقة العامة من الناس فقط، ولم تعد الشفاهية وسيلة
سردها الوحيدة، فقد اهتم الخاصة بالأسمار وكانت لهم مجالسهم السمرية
أيضاً، وأصبحت عملية تدوين ذلك الموروث من النوادر والأخبار من اهتمامات
الطبقة الخاصة أيضاً. لذا نرى عناية ابن الجوزي بتدوين تلك الأخبار
والنوادر في أكثر من كتاب إعلاناً بأن الأسمار وسرد النوادر والأخبار لم
تعد شيئاً خاصاً بالعامة من الناس، بل للخاصة أيضاً، كالعلماء والقضاة
والأمراء، ولم تعد الشفاهية وسيلة سرد تلك المادة السمرية، بل التدوين
والتوثيق لتلك المادة.
ولقد
وجد ابن الجوزي أن الإطار العام للتصنيف السردي لكتب النوادر والأخبار
جاهز أمامه، قد وضعه سابقوه. فالحصري القيرواني مثلاً في كتابه: "جمع
الجواهر في الملح والنوادر" قد رسم إطار التصنيف/ التبويب السردي بحيث
يبدأ الكتاب بِبِسْمِ الله الرحمن الرحيم، ثم يضع الإطار العام لأبواب
الكتاب السردية: "الحمد لله الذي أضحك وأبكى، وأمات وأحيا، فعرفنا بلذة
الفرح شدة الترح، وبحلاوة الحياة مرارة الوفاة..."(13)ثم يبيّن سبب تأليف
الكتاب، ومنهجه فيه، ثم يبين أصول اختيار المادة، وشروط المسامر والمنادر،
فالكتاب مدوّن للخاصة، ثم يسوّغ الحاجة إلى الهزل، وحاجة أهل الأدب إلى
ظريف المضحكات، ثم يستطرد في ذكر مزاح النبي عليه الصلاة والسلام، ثم يأتي
إلى ذكر المادة السمرية من أخبار ونوادر وملح وأشعار موثَّقة ومنسوبة إلى
مصادرها. ولم يفت الجامع أن يكمل الإطار السردي للكتاب بالإعلان عن نهاية
الكتاب، والاعتذار عن النقص، ثم الصلاة والسلام على رسول الله.
ولقد
التزم ابن الجوزي في كتابه: "أخبار الحمقى والمغفلين" بهذا الإطار
التصنيفي، أو بالأحرى المخطط السردي لكتابه، كما سيتضح بالتفصيل فيما بعد.
وابن الجوزي، الذي ساهم في نقل تلك المادة السمرية السردية من مرحلة
الشفاهية إلى التدوين ومن العامة إلى الخاصة، حرص أشد الحرص على مخاطبة
القارئ لا السامع. فالاستماع من صفات العامة أما القراءة فهي للطبقة
الخاصة المثقّفَة.
وبذلك
يكون ابن الجوزي قد تأثر بحياة المدن وحاجتها الماسة إلى الأسمار، غير أنه
التزم بوقاره فساعد على النهوض بالأسمار وتحويلها من مرحلة الشفاهية إلى
التدوينية، ومن العامة إلى الخاصة أيضاً، وخاطب القارئ المثقف لا المستمع
العامي.
3-تعريف الخبر الفكاهي:
لا
بد من الوقوف عند تعريف الخبر في كلام العرب قديماً وحديثاً. أما قديماً
فقد أطلق علماء البيان والأصوليون والمنطقيون والمتكلمون وغيرهم لفظ الخبر
على الكلام التام غير الإنشائي، وهو ما يعنينا هنا، إذ لا يعنينا مفهوم
الخبر عند النحاة، وأنه المجرد المسند إلى المبتدأ، كما لا يعنينا هنا
أيضاً تعريف أهل الحديث للخبر، وهل هو مرادف للحديث النبوي أم أن الخبر
أعم منه(14).
أما
الدراسات النقدية الحديثة، وأهمها دراسة سعيد يقطين: الكلام والخبر، فقد
تناولت "الكلام" بالدراسة والتحليل من خلال النصوص، فَعَرَّفته وقسّمت
أجناسه وصيغه وأنواعه. فالكلام العربي من حيث الجنس ينقسم إلى: خبر وشعر
وحديث.
أما
من حيث الصيغ فينقسم إلى: قول وخبر. أما القول فيصدر من قائل إلى سامع،
دون فاصل زمني بين القائل والقول والمخاطب/ السامع الماثل أمام القائل،
ويتمثَّل ذلك في المناظرات والمساجلات والمحاورات والخطب، شفهية كانت أم
مكتوبة. أما الخبر فيصدر من مُخْبِر إلى مخاطَب، مع وجود فاصل زمني بين
المُخْبِر/ الراوي/ السارد، والإخبار /الحكايات/ الأخبار، كأخبار الحمقى
والمغفلين مثلاً، والمخاطَب الغائب وغير الماثل أمام المُخْبِر. وهذا ما
حرص عليه ابن الجوزي في أخبار الحمقى والمغفلين، إذ لم يُرد أن يكون
قائلاً بل مُخْبِراً، لا يقول لسامعين بل يُخْبِر القرَّاء، واضعاً بذلك
مسافة زمنية بين زمن الإخبار وزمن القراءة، وبذلك يحفظ وقاره ويرتفع عن
أية شبهة قد تلحق به من وراء مضامين تلك الأخبار، ويبتعد عن ذم السلف
للقصَّاصين وكراهيتهم للقصص، ويبتعد عن مجالس السامعين أيضاً.
أما الكلام من حيث النوع فينقسم إلى: خبر وحكاية وقصة وسيرة. ثم إن الخبر، من حيث هو نوع لا جنس، ينقسم في أنماطه العامة إلى:
1-خبر لتوصيل المعرفة للمتلقي، كقصص الأنبياء والقصص الدينية والتاريخية. ويكون هدفه التعرف والإخبار.
2-خبر لخلق الانفعال لدى المتلقي بقصد التدبُّر، كما في المواعظ المحكية. وهذان النوعان أخبار جد.
3-خبر
لخلق انفعال بقصد الإضحاك، كما في الملح والنوادر والطُّرف وأخبار الحمقى
والمغفلين، وهي للتفكُّه، وهذا الأكثر أهمية لنا في هذه الدراسة.
4-خبر لخلق اللذة الروحيّة كأخبار العشاق والجواري والغلمان والمتماجنين وهدفها اللذة. وهذان النوعان الأخيران أخبار هزل(15).
ويمكن
تعريف الخبر الفكاهي بأنه نوع من أنوع القصص الفكاهي، صغير في حجمه قصير
في طوله، لا يتجاوز الأسطر القليلة، يعتمد على وحدة قصصية واحدة، تكشف عن
موقف واحد، ويعتمد على لغة فنية تتناسب مع الموقف، وقد تكون باللغة
العربية الفصحى، وقد تأتي باللهجة العامية، لتؤدي الغرض، وتنقل الموقف
الفكاهي كما كان، وقد تكون اللغة شعراً وقد تكون نثراً، ويتم الإخبار مع
الحركة البدنية والتلوين الصوتي في المرحلة الشفاهية منه، وَيُتَخَيَّلُ
ذلك عند قراءة الخبر الفكاهي المدوّن، ويكون الحوار فيه بلغة العصر
والحياة اليومية فيه، لتكون الأخبار مصدراً لدراسة المستوى اللغوي لذلك
العصر الذي نُقِلَت عنه. ويتم ذلك كله من خلال حوار قصير، بين أحمق/ مغفل
وسوي، كما في أخبار الحمقى والمغفلين، ويتحقق ذلك من خلال السرد الممتع
لذلك الخبر الفكاهي/ الموقف لغايات سمرية جمالية، ونقدية سياسية،
واجتماعية، ونفسية تعويضية.
وهكذا
يشترك الخبر الفكاهي مع النادرة والملحة في الكثير من السمات المشتركة
لأوصاف الكلام وأقسامه، وهو ما وصل إليه الدكتور سعيد يقطين(16)، وما
أثبته الدكتور محمد رجب النجار بأن النادرة نوع من أنواع القصص
الفكاهي(17).
فإذا
كانت النوادر في لغة القدماء تساوي القَصص الفكاهي في لغة المحدثين فما
المكونات السردية للخبر الفكاهي؟، لنجعله مرادفاً للنادرة ومساوياً لها،
فيكون بذلك نَوْعاً من أنواع القصص الفكاهي؟
4-أخبار الحمقى والمُغَفَّلِين، المسوّغات، الأبواب:
يقوم
ابن الجوزي، كغيره من مصنفي كتب القَصص الفكاهي، بتسويغ تصنيفه "أخبار
الحمقى والمغفلين"، ويبين جواز تصنيف مثل هذه الكتب، على اعتبار أن
الثقافة العربية والإسلامية ثقافة للخاصة وبعيدة عن روح المزاح والفكاهة.
ويعرض ابن الجوزي ثلاثة أسباب يسوّغ فيها تصنيفه "أخبار الحمقى
والمغفلين". حتى لا يساء فهم العامة له، كما أعتقد، وهي:
1-أن العاقل إذا سمع أخبارهم عرف قدر ما وُهب له مما حرموه، فحثّه ذلك على الشكر.
2-أن
ذكر المغفلين يحث المتيقظ على اتقاء أسباب الغفلة إذا كان ذلك داخلاً تحت
الكسب وعامله فيه الرياضة، وأما إذا كانت الغفلة مجبولة في الطباع، فإنها
لا تكاد تقبل التغيير.
3-أن
يُرَوِّح الإنسان قلبه بالنظر في سير هؤلاء المبخوسين حظوظاً يوم القسمة،
فإن النفس قد تمل من الدؤوب في الجد، وترتاح إلى بعض المباح من اللهو، وقد
قال رسول الله (: "ساعة وساعة"(18)، ويضيف مسوغاً رابعاً في موضع آخر:
"وهذا في الغالب عبارة عمن يروى أخبار الماضين، وهذا لا يُذم لنفسه، لأن
في إيراد أخبار السالفين عبرة لمعتبر، وعظة لمزدجر، واقتداء بصواب
لمتبع..."(19). وهكذا يضع ابن الجوزي المسوغات لمصنفه.
فهو
مدعاة لشكر العاقل عند سماع أخبار الحمقى والمغفلين، وحثٌ لِلْمُتَيَقِّظِ
على اتقاء أسباب الغفلة، ثم هو راحة للقلب عند سماع المباح من اللهو، كما
أن سماع أخبار الماضين عبرة وعِظَة واقتداء بصواب. ولكي يدلل على أنه لم
يقترف ذنباً عند تصنيفه كتاب فكاهة نراه يلجأ إلى أقوال ومواقف للرسول (
وأصحابه دعوا فيها إلى ترويح القلوب بمباح اللهو والفكاهة والضحك، منها:
1-قول الرسول ( لحنظلة: ساعة وساعة.
2-كان رسول الله ( يضحك حتى تبدو نواجذه.
3-قال علي بن أبي طالب: رَوِّحوا القلوب، واطلبوا لها طرف الحكمة فإنها تملُّ كما تمل الأبدان.
4-قال أبو الدرداء: إني لأستجم نفسي ببعض الباطل كراهية أن أحمل عليها من الحق ما يملّها.
5-كان ابن عباس إذا جلس مع أصحابه حدَّثهم ساعة ثم قال حَمِّضُونا. وغير ذلك من أقوال التابعين والعلماء(20).
ويبدو
أن ابن الجوزي قد أقنع نفسه بجواز تصنيف كتب الأخبار قبل أن يقنع الآخرين،
وهذا ما قد يدفع إلى القول بأن تيار القَصص الفكاهي قد ساد وانتشر في زمن
الدولة العباسية، الذي عاش فيه ابن الجوزي، سواء في مدن العراق أو غيرها
من مدن الدولة الإسلامية، وأن القصص الفكاهي أصبح نوعاً أدبياً مرموقاً
يقبل عليه رجل الدين ورجل الأدب، والعامة والخاصة على حد سواء، وبذلك
يتجاوز القصص الفكاهي وقار العلماء، وجِدِّية الشعراء، وسمت الأدباء ليصبح
أدباً مقبولاً يتفاكه به الجميع، وسمة من سمات الأدب العربي في العصر
العباسي وما بعده.
ولعل
ابن الجوزي قد بيَّن الأسباب المعلنة لتصنيف كتابه "أخبار الحمقى
والمغفلين" وحاول أن يتستر خلفها، كما فعل غيره، خوفاً من بطش السلطة،
ويبدو أن هناك أسباباً غير معلنة دفعت ابن الجوزي إلى رصد هذا الكم الكبير
من الأخبار الفكاهية ليوظفها في تعرية شخصيات نمطية لفئات كثيرة في مجتمعه
العباسي السلجوقي.
لقد
ولد عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي، القرشي التيمي البكري البغدادي،
الذي يرجع نسبه إلى الخليفة الأول، أبي بكر الصديق رضي الله عنه، في بغداد
سنة 508هـ/ 1114م، وتوفي فيها سنة 597هـ/ 1201م، أي في العصر العباسي
الرابع، (447هـ-656هـ)، ذلك العصر الذي ظهرت فيه الدولة السلجوقية، التي
استمرت قرابة الثلاثة قرون، حكموا خلالها المنطقة الممتدة من أفغانستان
إلى البحر الأبيض، ونودي باسم سلطانهم لأربعين جمعة في بغداد.
وفي
هذا العصر شهد العالم الإسلامي الكثير من المِحَن والفِتَن والويلات، فقد
نشط الصليبيون في الاستيلاء على مدن الشام من سنة 492 هـ إلى سنة 582هـ،
وقد عاش ابن الجوزي هذه الأحداث وسمع عنها، كما سقطت دولة الإسلام في
الأندلس، وانقسمت إلى إمارات سيطر عليها البرابرة والموالي، وظهرت دول
ملوك الطوائف التي كانت صيداً سهلاً للأسبان، الذين طردوهم من بلادهم،
لتنتهي الدولة الأموية والدويلات الإسلامية في بلاد الأندلس.
ولا
شك أن تلك الأحداث قد أثرت كثيراً في نفسية رجل مثل ابن الجوزي، الذي أحس
بالانكسار، وضعف المسلمين، وسيطرة الصليبيين والإفرنج على بقاع واسعة من
خريطة العالم الإسلامي.
وإذا
كانت هذه بعض مظاهر الضعف التي شعر بها ابن الجوزي من خارج بغداد، فإن
الذي شهده من ويلات وضعف لدولة الخلافة الإسلامية العباسية داخل بغداد
نفسها كان أشد.(21).
لقد
عاش ابن الجوزي صراعاً مريراً بين الخلفاء العباسيين وخصومهم السلاجقة،
وشهد ما دار في بغداد في فِتَن وحروب وسرقات ودمار، وقد ضعفت دولة الخلافة
العباسية، وأصبح السلاجقة مصدر القوة ومصدر البطش معاً، ويبدو أن ذلك كله
أثر في نفس ابن الجوزي العربي المسلم، فمضى في "أخبار الحمقى والمغفلين"
يكشف الأقنعة ويعري كثيراً من الأنماط البشرية في مجتمعه، محققاً بذلك
وظائف كثيرة، ولعل أبرزها الوظيفة السياسية، وكأنه يصرخ بصوت عال ضد البطش
والظلم والفساد الذي أحدثه السلاجقة، منبهاً من خطرهم في إسقاط دولة
الخلافة العباسية، وداعياً إلى الدفاع عن بغداد ونصرة الخليفة العباسي.
ويبدو
لي أن ابن الجوزي قد حقق وظيفة اجتماعية أيضاً في تعرية الكثير من الأنماط
البشرية في مجتمعه، الذي انتشر فيه الحمقى والمغفلون، وتغلغلوا في طبقات
ينبغي لها أن تكون بمنأى عن الحمق والتغفيل، كالقرَّاء ورواة الحديث
والقضاة والأمراء والولاة والكُتَّاب والحُجَّاب والمؤذنين والأئمة
وغيرهم، وكأن ابن الجوزي يطلق صرخة احتجاج يعلن فيها ما بلغه المجتمع
العباسي من فساد وقد انتشر الحمقى والمغفلون بين هذه الطبقات.
أما
الوظيفة النفسية التعويضية، فقد استطاع ابن الجوزي أن يحققها بنجاح كبير،
فإن شر البلية ما يضحك، وهل هناك بلية أكبر مما يحدث في زمن ابن الجوزي
وفي وطنه.
ويبدو
أن تلك البلية كانت كبيرة إلى درجة أنها دفعت شخصاً وقوراً، عالم عصره،
إلى الضحك ليعوِّض به ما يحسه من ألم وضيق جراء ما يحدث من حوله من ضعف
ودمار.
وأخيراً فقد حقق ابن الجوزي وظيفة جمالية إمتاعية ذات صبغة سردية مضحكة.
وقد
قُسِّمَت المصنفات في القَصص الفكاهي إلى عدة أنواع منها: التصنيف الاسمي
كنوادر جحا، والتصنيف الموضوعي كنوادر البخلاء، والتصنيف الموسوعي الجامع
كنثر الدرر، والتصنيف الموضوعي الفرعي كأخبار الحمقى والمغفلين(22).
حدد
ابن الجوزي موضوع القصص في مصنفه وجعله في أخبار الحمقى والمغفلين فقط. ثم
فرَّعَ هذا الموضوع ليشمل فئات مختلفة من الناس، يشتركون كلهم في صفة
الحمق والغفلة، فقسم الكتاب إلى أربعة وعشرين باباً. خصص التسعة الأولى
منها للحديث عن جملة من القضايا المتعلقة بالحمقى والمغفلين مثل: ذكر
الحماقة ومعناها، بيان أن الحمق غريزة، ذكر اختلاف الناس في الحمق، ذكر
أسماء الأحمق، ذكر صفات الأحمق، التحذير من صحبة الأحمق، ضرب العرب المثل
بمن عرف حمقه، ذكر أخبار من ضرب المثل بحمقه وتغفيله، ذكر جماعة من
العقلاء صدر عنهم فعل الحمقى. ويأتي بعد هذه الأبواب التسعة، التي تُعَدُّ
مقدمة لكل ما يتعلَّق بالحمق والتغفيل، خمسة عشر باباً، يتعلَّق كل باب
منها بفئة خاصة من الحمقى والمغفلين وأخبارهم ونوادرهم. وهذه الفئات هي:
القُرَّاء، رُواة الحديث، القُضاة، الأُمراء والوُلاة، الكُتَّاب
والحُجَّاب، والمؤذنون، الأئمة، الأعراب، من قصد الفصاحة والإعراب من
المغفلين، من قال شعراً من المغفلين، القُصَّاص، المتزهدون، المعلمون،
الحاكة، المغفلون على الإطلاق.
***
5-الإطار السردي للكتاب/ المصنف:
يعد
موضوع الكتاب، المخصص لتعرية الأنماط البشرية المختلفة من الحمقى
والمغفلين في مجتمع ابن الجوزي، هو الإطار السردي الكبير للكتاب، ويحوي
موضوعاً إطارياً واحداً هو أخبار هؤلاء الحمقى والمغفلين بحق، وليس
المتحامقين والمستغفِلين، وهو الأمر الذي حرص عليه ابن الجوزي، فالأحمق لا
يعرف أنه أحمق بليد سطحي، وهنا تكمن خطورة انتشار الحمق والتغفيل بين
طبقات المجتمع المثقفة والمتعلمة، أما المتحامق فيعرف أنه ليس أَحْمَقَ،
إنما يلجأ إلى التظاهر بالحمق والغفلة ليتخلص من بعض المواقف المحرجة، أو
للتحايل على الآخرين، أو لتحاشي المُساءَلَة.
أما
الأطر السردية الصغرى للكتاب فهي أبوابه الخمسة عشر، التي أتت بعد مقدمة
حوت تسعة أبواب، تعلقت بقضايا الحمق والتغفيل. ويعد كل باب من الأبواب
الخمسة عشر موضوعاً إطارياً صغيراً خصصه ابن الجوزي لفئة من فئات الحمقى
والمغفلين في المجتمع البشري الذي عاصره في بغداد، أو غيرها، أو لمن قرأ
عنهم، ويأتي ذلك في سياق الموضوع الإطاري العام للكتاب. ثم يشمل كل باب/
موضوع إطاري، كثيراً من الأخبار الفكاهية القصيرة المتعلقة بتلك الفئة.
ويختلف حجم الخبر الفكاهي من حيث الطول ويتراوح ما بين السطرين والعشرة
أسطر، وقد يزيد قليلاً.
ويلعب
ابن الجوزي، من خلال هذا الإطار السردي المتماسك دور السارد/ المُخْبِر،
من خلال أداة هي الراوي، لسرد الخبر الفكاهي لمخاطَبٍ يستَقبله.
وهنا
نقف عند المكونات السردية للخبر الفكاهي في "أخبار الحمقى والمغفلين"
للتعرف عليها وَعَلى مدى تطابقها مع المكونات السردية للنادرة؟(23)
***
6-المكونات السردية في "أخبار الحمقى والمغفلين"
6/1-الإسناد:
حرص
ابن الجوزي على إسناد أخباره الفكاهية حرصاً شديداً. إذ لم يرد خبر فكاهي
واحد إلا وقد سبقه إسناد، حتى أصبح الإسناد واحداً من المكونات الأساسية
السردية لأخبار ابن الجوزي في مصنفه "أخبار الحمقى والمغفلين"، ذلك أن
طبيعة التكوين العلمي لابن الجوزي المعتمدة على عِلْمي الحديث والتاريخ قد
فرضت الالتزام بالإسناد فرضاً في أخباره الفكاهية للحمقى والمغفلين، بعد
أن أصبح الإسناد تقليداً متعارفاً عليه في التراث العربي، واستمراراً
للإسناد في السُّنَّة النبوية، ويضاف إلى ذلك أن طبيعة الخبر الفكاهي
الشفاهية تستوجب إسناد الرواية في سلسلة من الرواة جيلاً بعد جيل حتى
مرحلة التدوين، التي حافظت على تلك الأسانيد كمحافظتها على المتون، وفي
ذلك دلالة واضحة على أن الإسناد والتوثيق سمة من سمات تراث الأمة العربية
الإخباري/ القصصي، عبر العصور.
#000000]إن
طبيعة الإخبار الشفاهية عبر الأشخاص والأجيال تؤدي تلقائياً إلى إعادة
إنتاج أو إعادة صياغة، مع تغيير طفيف في الأسماء والأفعال والأقوال وردود
الأفعال والأقوال، لمفردات الخبر الفكاهي، وأن عملية إعادة الإنتاج/
الصياغة هذه تستوجب أسانيد جديدة وهكذا. ويزداد الحرص على تلك الأسانيد
بشكل أكبر إذا كانت الأخبار الفكاهية المعاد إنتاجها/ صياغتها آتية من
ثقافات أخرى. [/size]
كما
أن الموقف الفكاهي هو موقف قصصي ذو طبيعة سردية، والسرد يتطلَّب إلى جانب
صيغ الإخبار والإسناد الانتقال إلى الزمن الماضي لتنفتح آفاق المتخيل
السردي لدى المخاطَب، وتتحقق المتعة والشوق لمتابعة الموقف/ الخبر حتى
نهايته. ولا يخفى أن الإسناد في رواية المواقف/ الأخبار يعني أن السارد/
ابن الجوزي مفارق لمرويه، فهو يروي ما ليس له، وبذلك يحفظ وقاره، على
اعتبار أن الضحك لا يليق بابن الجوزي وأمثاله، وناقل الكفر ليس بكافر
أيضاً، على الرغم من أن المخاطَب يعي جيداً أن ابن الجوزي يقوم بإسناد
الرواية إلى غيره، وهو الراوي الحقيقي لها. ويؤكد ذلك أن كثيراً من
الروايات تسند لشخصيات نكرة (نمطية) مثل: بلغنا أن رجلاً، أو حكى فقيه، أو
أذن مؤذن، أو سئل أعرابي، دون أن يذكر اسم الرجل أو الفقيه أو المؤذن أو
الأعرابي.
أما
صيغ الإسناد أو الإخبار فكثيرة وكلها أفعال في الزمن الماضي مثل:
حدَّثني... أو حدثنا... أو قال... أو سمعت... أو عن... أو سأل... أو
حكى... أما الرواة الذين نقل عنهم ابن الجوزي تلك الأخبار/ المواقف
الفكاهية فكثيرون؛ منهم معارف كالجاحظ وابن الأعرابي والثعالبي والتنوخي
وابن المرزبان وأبي العيناء والبحتري وأبي تمام وغيرهم، ومنهم نكرات كبعض
المُؤَذِّنين والقُرَّاء والمُدَرِّسين والمُحَدِّثين والأعراب والغلمان
وغيرهم.
ويمكن
معرفة أصول المصنف "أخبار الحمقى والمغفلين" ورد رواياته إلى مصادرها عند
تتبع أسماء الرواة الذين نقل عنهم ابن الجوزي. كما أن تلك الأسانيد وأسماء
الرواة تبين أن ابن الجوزي جمع تلك الأخبار الفكاهية عن الحمقى والمغفلين
من أزمنة وعصور مختلفة، وهو أمر لا غرابة فيه.
6/2- الراوي:
يرتبط
الراوي، وهو مُكَوِّنٌ سرديٌ آخر للخبر الفكاهي، ارتباطاً وثيقاً
بالإسناد. فما دام هناك إسناد للرواية فهناك راوٍ لها. وبحكم الطبيعة
السردية الشفاهية للأخبار الفكاهية فإن الرواة يتعددون، حيث يقدم الساردُ
الحقيقي/ ابنُ الجوزي، الراويَ الفعلي للخبر الفكاهي، الذي يروي ما شاهده
أو سمعه بنفسه، أو يروي عن غيره. كما في قوله: "وعن ابن أخي شعيب بن حرب،
قال: سمعت ابن أخي عمير الكاتب يقول وهو يُعَزِّي قوماً: آجركم الله، وإن
شئتم أجركم الله، كلاهما سماعي عن الفَرَّاء"(24).
إن
السارد الحقيقي المفارق لمرويه هنا/ ابن الجوزي قدم الراوي الفعلي للخبر/
الموقف الفكاهي، وهو ابن أخي شعيب، الذي قام بوظيفته السردية بسرد الخبر/
الموقف، وهو راوٍ ثقة قد شَهَد الموقف وسمع ما دار فيه بنفسه، كما أن
الراوي قدم البطل الأحمق وهو ابن أخي عمير الكاتب. أما جملة "وهو يعزي"
فقد حددت الفضاء المكاني والزماني للخبر/ الموقف الفكاهي، فهو مكان عزاء
ووقت جِدٍ لا هزل. ثم حدثت المفارقة وهي جملة العزاء غير المتوقعة من
البطل الأحمق المُعَزِّي.
وكقولـه: "وعن أبي زيد النحوي قال: وقفت على قصّاب وعنده بطون، فقلت: بكم البطنان؟ فقال: بدرهمان يا ثقيلان"(25).
فالراوي يروي خبراً/ موقفاً، حصل له شخصياً.
وقد
يروي الراوي عن غيره كقوله: "حدثنا محمد بن سعيد قال: سمعت الفضل بن يوسف
الجعفي يقول: سمعت رجلاً يقول لأبي نعيم: حدثتك أمك، يريد: حدثك أمي
الصيرفي"(26).
1- القصص الفكاهي في التراث العربي:
لقد
احتل القصص الفكاهي، كالنوادر والملح والطرائف، مكانة بارزة في التراث
العربي. وكما عرفت الأُمم الأُخرى القصص الفكاهي، فقد عرف العرب هذا اللون
من القصص منذ العصر الجاهلي، حيث كان ينقل شفاهاً بين عامة الناس، الأمر
الذي ساعد على انتشاره انتشاراً كبيراً. وكان لبعض القبائل في العصر
الجاهلي ما يسمى بمضحك القبيلة، وهي شخصية شعبية تشيع جواً من الضحك
والمرح بين أبناء القبيلة وشيوخها. كما كانت هناك مضحكة القبيلة التي تدخل
على النساء فتضحكهن(2).
كما وردت السخرية في الشعر الجاهلي أيضاً بشكل محدود(3).
وعند
ظهور الإسلام ونزول القرآن الكريم وَرَدَ كثيرٌ من الآيات القرآنية التي
تحمل معاني السخرية والهزء والضحك والاستخفاف في مواضع كثيرة(4).
كما
وَرَدَ كثير من الأحاديث النبوية الصحيحة في ضحك الرسول ( وتبسّمه، كحديث
جرير بن عبد الله البجلي الذي قال: "ما حجبني رسول الله ( منذ أسلمت، ولا
رآني إلا ضحك"(5). كما أورد الإمام أحمد بن حنبل قوله: "قال أبو ذر: فرأيت
رسول الله ( ضحك حتى بدت نواجذه"(6). وورد عن عبد الله بن مسعود قال: "جاء
حَبْرٌ من الأحبار إلى رسول الله ( فقال: يا محمد إنا نجد أنَّ الله يجعل
السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر
الخلائق على إصبع، فيقول: أنا الملك، فضحك النبي ( حتى بدت نواجذه،
تصديقاً لقول الحَبْر..."(7). وكان رسول الله ( يضحك من أقوال بعض
الأعراب، فقد قال أبو هريرة: "دخل أعرابي المسجد، ورسول الله ( جالس،
فقال: اللَّهُمَّ! اغفر لي ولمحمد ولا تغفر لأحد معنا، فضحك رسول الله (،
وقال: لقد احتظرت واسعاً"(، وعن أبي هريرة أيضاً أن النبي ( كان يحدِّث،
وعنده رجل من أهل البادية: "أن رجلاً من أهل الجنّة استأذن ربّه في الزرع،
فقال له: ألَسْتَ فيما شئت؟ قال: بلى، ولكني أحب أن أزرع. قال: فبذر فبادر
الطرف نباتُه واستواؤه واستحصاده، فكان أمثال الجبال. فيقول الله: دونك يا
بْنَ آدم، فإنه لا يشبعك شيء، فقال الأعرابي: والله لا تجده إلا قريشياً
أو أنصارياً فإنهم أصحاب زرع، وأما نحن فلسنا بأصحاب زرع، فضحك النبي
("(9). وقد خصص البخاري في صحيحه باباً أسماه: باب التبسُّم والضحك، في
كتاب الآداب، أورد فيه كثيراً من الأحاديث النبوية عن ضحك رسول الله (
وتبسّمه في مواقف كثيرة مضحكة.
وبالإضافة إلى ذلك فقد وَرَدَ كثير من مواقف السخرية والاستهزاء بين المسلمين والكفار في عصر النبوة(10).
أما
في العصر الأموي فقد انتشر القَصص العذري انتشاراً واسعاً، وهو قصص منسوب
إلى بني عذرة إحدى قبائل قضاعة التي سكنت وادي القرى في شمال الحجاز.
ودوّن أبو الفرج الأصفهاني، في كتابه الأغاني، كثيراً من تلك القِصص
والأخبار والأشعار، للكثيرين من الشعراء العذريين كقيس ليلى، وقيس لبنى،
وكُثَيِّر عزة، وجميل بثينة، وعبد الرحمن بن أبي عمّار الجشمي الناسك
وقصصه مع سلاّمة، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وقصصاً في حبّه لزوجته
عثمة، وليلى الأخيلية وحزنها على حبيبها توبة بن الحُمَيِّر، وغيرها من
الأسماء. وقد لعب الرواة والقصاصون دوراً كبيراً في نسج القصص والأخبار
والأشعار ونسبتها إليهم.
وفي
العراق انتشر شعر المناظرات ليلائم الطبيعة البدوية لأهل العراق ومزاجهم
العقلي. وقد نجح هؤلاء الشعراء في رسم صور شعرية مضحكة لخصومهم
ومهجُوِّيهم، ولا سيما تلك التي رسمها جرير الكلبي اليربوعي والفرزدق
المجاشعي الدارمي، وكلاهما من بني تميم، اللذان ظلاّ يتناظران شعراً طوال
خمس وأربعين سنة، لإمتاع الجمهور وإشاعة جو من المناظرات العقلية ورسم
الصور الكاريكاتورية المضحكة، بالإضافة إلى الراعي النميري والأخطل،
اللذين انضما إلى الفرزدق فلم يسلما من لسان جرير.
وَيَرِدُ
في كتاب الأغاني وغيره كثيرٌ من أشعار هؤلاء وما صاحبها من قصص وحكايات
وأخبار تناقلها الرواة والناس شفاهاً وتنادروا وتفاكهوا بها طويلاً.
وفي
العصر العباسي زاد انفتاح الدول الإسلامية على الحضارات والشعوب الأخرى،
كالفارسية والهندية وغيرها، ودخل كثير من أبناء هذه الشعوب الإسلام،
وأصبحت المدن الإسلامية في العراق وغيرها تحوي مزيجاً من أبناء تلك
الشعوب، كما زاد ثراء الدولة ونشطت الحركة الثقافية والأدبية والشعرية،
وكثرت الفرق الإسلامية، واتسعت دائرة الحِجاج والمناظرة والجدل العقلي في
كثير من المسائل الكلامية، مستفيدين بذلك من حركة الترجمة النشطة لكتب
الفلسفة اليونانية. وفي هذا المحيط النشط المترف تنامى الأدب الساخر شعراً
ونثراً. فظهر كثير من الشعراء الساخرين كبشار بن برد وحماد عجرد وأبي نواس
وابن الرومي وغيرهم، وبرعوا في رسم صور شعرية ساخرة لخصومهم أشاعت جَوَّاً
من المرح والهزل بين الجمهور. هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية نشطت حركة
النثر بمختلف أشكالها ولا سيما القَصص الفكاهي الذي أصبح السمة الغالبة
لهذا العصر.
وإذا
كان ابن المقفع (ت 142هـ) قد سخر وَتَفَكَّهَ بالعرب وببعض الشخصيات في
عصره بشكل خفي، خشية بطشهم به، فإن الجاحظ فتح باب الأدب الساخر والقصص
الفكاهي على مصراعيه، فوضع كثيراً من الرسائل والكتب دَوَّن فيها كثيراً
من القَصص الفكاهي في عصره، كرسالة "التربيع والتدوير"، التي رسم فيها
صوراً مضحكة لأحمد بن عبد الوهاب(11). وكتابه القيم "البيان والتبيين"
الذي دَوَّنَ فيه، بشكل موسوعي، كثيراً من القصص الفكاهي للكثير من
الشخصيات والنماذج النمطية والحقيقية، سواء كانت شخصيات حمقى ومغفلين، أو
بخلاء وطفيليين، أو علماء ونحاة وفقهاء، أو غيرهم. أما كتابه "البخلاء"
فقد حوى كثيراً من قَصص البخلاء الفكاهي في عصره بأسلوب الازدواج القائم
على توازن العبارات دون سجع.
وكانت
أعمال الجاحظ هذه بداية نحو تدوين مصادر التراث العربي القصصي الفكاهي.
ولعل من أبرزها كتاب: "جمع الجواهر في الملح والنوادر" لأبي إسحاق إبراهيم
بن علي بن تميم الأنصاري، المعروف بالحصري القيرواني، المتوفى سنة 453هـ/
1061م، وهو كتاب يحوي "نوادر المتقدمين والمتأخرين، وجواهر العقلاء
والمجانين، وغرائب السقاط والفضلاء، وعجائب الأجواد والبخلاء، وطُرَف
الجهّال والعلماء، وتحف المغفلين والفهماء، ونتف الفلاسفة والحكماء،
وبدائع السُّؤّال والقُصَّاص، وروائع العوام والخواص، وفواكه الأشراف
والسَّفلة، ومنازة الطفيليين والأَكَلة، وأخبار المخابيث والخصيان، وآثار
النساء والصبيان(12). وكتاب "التطفيل وحكايات الطفيليين" لأبي بكر أحمد بن
علي بن ثابت البغدادي، المعروف بالخطيب البغدادي، المتوفى سنة 463هـ/
1072م. كما يُعَدُّ كتاب: "نثر الدرر"، لأبي سَعْد منصور بن الحسين الآبي،
المتوفى سنة 421هـ/ 1030م، أكبر عمل موسوعي للقصص الفكاهي و "ربيع الأبرار
ونصوص الأخبار" لأبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري، المتوفى سنة 538هـ.
ويأتي أبو الفرج عبد الرحمن بن علي ابن محمد الجوزي، المتوفى سنة 597هـ/
1201م، ليضع مجموعة من المصنّفات في التراث الفكاهي أبرزها:
1-كتاب: الظِّراف والمتماجنين.
2-كتاب: القُصَّاص والمُذَكِّرِين.
3-كتاب: الأذكياء.
4-كتاب: أخبار الحمقى والمغفلين.
ونلاحظ
أن ابن الجوزي هنا قد خصص كل كتاب لطبقة معيّنة ذات مهنة أو طبع معيّن في
المجتمع. لكن لماذا وضع ابن الجوزي كل هذه الكتب؟ ولماذا اهتمَّ بهذا
الموضوع إلى هذا الحد؟ هذا ما سنكشف عنه في الصفحات القادمة.
2-السمر/ أدب المجالس في مجتمع ابن الجوزي:
حب
السمر سمة بارزة من سمات الشخصية العربية قديماً وحديثاً، شأنهم شأن غيرهم
من الشعوب. فقد أَحَبَّ العرب، منذ العصر الجاهلي، المسامرات وولعوا بها.
وارتبط السمر عندهم بشكل مباشر بمجالس القبيلة. ففي المجلس يتم تبادل
الأخبار والنوادر والأشعار. ولعب الأعراب دوراً بارزاً في تقديم تلك
المادة السمرية، وأصبحوا المحور الأساسي في تلك المجالس.
وكان السرد الشفاهي قاعدة نقل وتداول تلك المادة السمرية بين عامة الناس.
ومع
تطور العمران وتبدل الأحوال وقيام الحواضر وانتشار المدن العربية وزيادة
الترف والغنى زادت المجالس زيادة كبيرة، وزادت معها الحاجة إلى مادة سمرية
لقضاء الوقت في جو من المرح. ولقد شهدت بغداد منذ نهاية القرن الثاني
الهجري حتى القرن السادس الهجري، عصر ابن الجوزي، حياة ترف وبذخ وثراء
وصلت حد الفحش، وكان من أبرز مظاهر تلك الحياة المترفة انتشار المجالس
العامة والخاصة على حد سواء. فالعامة لهم مجالسهم ومادتهم السمرية،
والخاصة لهم أيضاً مجالسهم الخاصة بهم، ولهم أسمارهم، سواء كانوا خلفاء أو
وزراء أو كبار القادة العسكريين أو العلماء.
ولقد
كُتِبَ لابن الجوزي أن يعيش في بغداد أغلب سني القرن السادس الهجري، وكان
طبيعياً أن يتأثر بتلك الحياة المدنية ذات الصبغة السمرية، فهي سمة عصره
التي أثرت في جانب من جوانبه الشخصية والتأليفية بشكل ملحوظ. ولقد ساعد
ابن الجوزي على ذلك أن أمامه تراثاً مدوّناً من الأخبار والأسمار والنوادر
والطرائف ككتب الجاحظ وكتاب: "جمع الجواهر" للحصري القيرواني، وكتاب
"التطفيل" للخطيب البغدادي، وكتاب "نثر الدرر" للآبي وغيرها، مما فرض عليه
السير في نفس الطريق، مع إضافة مادة سمرية معاصرة من مجتمعه إلى تلك
المدوّنات.
وفي
المجتمعات المدنية كبغداد لم تعد الأسمار وسرد الأخبار والنوادر والطرائف
فيها مقتصرة على الطبقة العامة من الناس فقط، ولم تعد الشفاهية وسيلة
سردها الوحيدة، فقد اهتم الخاصة بالأسمار وكانت لهم مجالسهم السمرية
أيضاً، وأصبحت عملية تدوين ذلك الموروث من النوادر والأخبار من اهتمامات
الطبقة الخاصة أيضاً. لذا نرى عناية ابن الجوزي بتدوين تلك الأخبار
والنوادر في أكثر من كتاب إعلاناً بأن الأسمار وسرد النوادر والأخبار لم
تعد شيئاً خاصاً بالعامة من الناس، بل للخاصة أيضاً، كالعلماء والقضاة
والأمراء، ولم تعد الشفاهية وسيلة سرد تلك المادة السمرية، بل التدوين
والتوثيق لتلك المادة.
ولقد
وجد ابن الجوزي أن الإطار العام للتصنيف السردي لكتب النوادر والأخبار
جاهز أمامه، قد وضعه سابقوه. فالحصري القيرواني مثلاً في كتابه: "جمع
الجواهر في الملح والنوادر" قد رسم إطار التصنيف/ التبويب السردي بحيث
يبدأ الكتاب بِبِسْمِ الله الرحمن الرحيم، ثم يضع الإطار العام لأبواب
الكتاب السردية: "الحمد لله الذي أضحك وأبكى، وأمات وأحيا، فعرفنا بلذة
الفرح شدة الترح، وبحلاوة الحياة مرارة الوفاة..."(13)ثم يبيّن سبب تأليف
الكتاب، ومنهجه فيه، ثم يبين أصول اختيار المادة، وشروط المسامر والمنادر،
فالكتاب مدوّن للخاصة، ثم يسوّغ الحاجة إلى الهزل، وحاجة أهل الأدب إلى
ظريف المضحكات، ثم يستطرد في ذكر مزاح النبي عليه الصلاة والسلام، ثم يأتي
إلى ذكر المادة السمرية من أخبار ونوادر وملح وأشعار موثَّقة ومنسوبة إلى
مصادرها. ولم يفت الجامع أن يكمل الإطار السردي للكتاب بالإعلان عن نهاية
الكتاب، والاعتذار عن النقص، ثم الصلاة والسلام على رسول الله.
ولقد
التزم ابن الجوزي في كتابه: "أخبار الحمقى والمغفلين" بهذا الإطار
التصنيفي، أو بالأحرى المخطط السردي لكتابه، كما سيتضح بالتفصيل فيما بعد.
وابن الجوزي، الذي ساهم في نقل تلك المادة السمرية السردية من مرحلة
الشفاهية إلى التدوين ومن العامة إلى الخاصة، حرص أشد الحرص على مخاطبة
القارئ لا السامع. فالاستماع من صفات العامة أما القراءة فهي للطبقة
الخاصة المثقّفَة.
وبذلك
يكون ابن الجوزي قد تأثر بحياة المدن وحاجتها الماسة إلى الأسمار، غير أنه
التزم بوقاره فساعد على النهوض بالأسمار وتحويلها من مرحلة الشفاهية إلى
التدوينية، ومن العامة إلى الخاصة أيضاً، وخاطب القارئ المثقف لا المستمع
العامي.
3-تعريف الخبر الفكاهي:
لا
بد من الوقوف عند تعريف الخبر في كلام العرب قديماً وحديثاً. أما قديماً
فقد أطلق علماء البيان والأصوليون والمنطقيون والمتكلمون وغيرهم لفظ الخبر
على الكلام التام غير الإنشائي، وهو ما يعنينا هنا، إذ لا يعنينا مفهوم
الخبر عند النحاة، وأنه المجرد المسند إلى المبتدأ، كما لا يعنينا هنا
أيضاً تعريف أهل الحديث للخبر، وهل هو مرادف للحديث النبوي أم أن الخبر
أعم منه(14).
أما
الدراسات النقدية الحديثة، وأهمها دراسة سعيد يقطين: الكلام والخبر، فقد
تناولت "الكلام" بالدراسة والتحليل من خلال النصوص، فَعَرَّفته وقسّمت
أجناسه وصيغه وأنواعه. فالكلام العربي من حيث الجنس ينقسم إلى: خبر وشعر
وحديث.
أما
من حيث الصيغ فينقسم إلى: قول وخبر. أما القول فيصدر من قائل إلى سامع،
دون فاصل زمني بين القائل والقول والمخاطب/ السامع الماثل أمام القائل،
ويتمثَّل ذلك في المناظرات والمساجلات والمحاورات والخطب، شفهية كانت أم
مكتوبة. أما الخبر فيصدر من مُخْبِر إلى مخاطَب، مع وجود فاصل زمني بين
المُخْبِر/ الراوي/ السارد، والإخبار /الحكايات/ الأخبار، كأخبار الحمقى
والمغفلين مثلاً، والمخاطَب الغائب وغير الماثل أمام المُخْبِر. وهذا ما
حرص عليه ابن الجوزي في أخبار الحمقى والمغفلين، إذ لم يُرد أن يكون
قائلاً بل مُخْبِراً، لا يقول لسامعين بل يُخْبِر القرَّاء، واضعاً بذلك
مسافة زمنية بين زمن الإخبار وزمن القراءة، وبذلك يحفظ وقاره ويرتفع عن
أية شبهة قد تلحق به من وراء مضامين تلك الأخبار، ويبتعد عن ذم السلف
للقصَّاصين وكراهيتهم للقصص، ويبتعد عن مجالس السامعين أيضاً.
أما الكلام من حيث النوع فينقسم إلى: خبر وحكاية وقصة وسيرة. ثم إن الخبر، من حيث هو نوع لا جنس، ينقسم في أنماطه العامة إلى:
1-خبر لتوصيل المعرفة للمتلقي، كقصص الأنبياء والقصص الدينية والتاريخية. ويكون هدفه التعرف والإخبار.
2-خبر لخلق الانفعال لدى المتلقي بقصد التدبُّر، كما في المواعظ المحكية. وهذان النوعان أخبار جد.
3-خبر
لخلق انفعال بقصد الإضحاك، كما في الملح والنوادر والطُّرف وأخبار الحمقى
والمغفلين، وهي للتفكُّه، وهذا الأكثر أهمية لنا في هذه الدراسة.
4-خبر لخلق اللذة الروحيّة كأخبار العشاق والجواري والغلمان والمتماجنين وهدفها اللذة. وهذان النوعان الأخيران أخبار هزل(15).
ويمكن
تعريف الخبر الفكاهي بأنه نوع من أنوع القصص الفكاهي، صغير في حجمه قصير
في طوله، لا يتجاوز الأسطر القليلة، يعتمد على وحدة قصصية واحدة، تكشف عن
موقف واحد، ويعتمد على لغة فنية تتناسب مع الموقف، وقد تكون باللغة
العربية الفصحى، وقد تأتي باللهجة العامية، لتؤدي الغرض، وتنقل الموقف
الفكاهي كما كان، وقد تكون اللغة شعراً وقد تكون نثراً، ويتم الإخبار مع
الحركة البدنية والتلوين الصوتي في المرحلة الشفاهية منه، وَيُتَخَيَّلُ
ذلك عند قراءة الخبر الفكاهي المدوّن، ويكون الحوار فيه بلغة العصر
والحياة اليومية فيه، لتكون الأخبار مصدراً لدراسة المستوى اللغوي لذلك
العصر الذي نُقِلَت عنه. ويتم ذلك كله من خلال حوار قصير، بين أحمق/ مغفل
وسوي، كما في أخبار الحمقى والمغفلين، ويتحقق ذلك من خلال السرد الممتع
لذلك الخبر الفكاهي/ الموقف لغايات سمرية جمالية، ونقدية سياسية،
واجتماعية، ونفسية تعويضية.
وهكذا
يشترك الخبر الفكاهي مع النادرة والملحة في الكثير من السمات المشتركة
لأوصاف الكلام وأقسامه، وهو ما وصل إليه الدكتور سعيد يقطين(16)، وما
أثبته الدكتور محمد رجب النجار بأن النادرة نوع من أنواع القصص
الفكاهي(17).
فإذا
كانت النوادر في لغة القدماء تساوي القَصص الفكاهي في لغة المحدثين فما
المكونات السردية للخبر الفكاهي؟، لنجعله مرادفاً للنادرة ومساوياً لها،
فيكون بذلك نَوْعاً من أنواع القصص الفكاهي؟
4-أخبار الحمقى والمُغَفَّلِين، المسوّغات، الأبواب:
يقوم
ابن الجوزي، كغيره من مصنفي كتب القَصص الفكاهي، بتسويغ تصنيفه "أخبار
الحمقى والمغفلين"، ويبين جواز تصنيف مثل هذه الكتب، على اعتبار أن
الثقافة العربية والإسلامية ثقافة للخاصة وبعيدة عن روح المزاح والفكاهة.
ويعرض ابن الجوزي ثلاثة أسباب يسوّغ فيها تصنيفه "أخبار الحمقى
والمغفلين". حتى لا يساء فهم العامة له، كما أعتقد، وهي:
1-أن العاقل إذا سمع أخبارهم عرف قدر ما وُهب له مما حرموه، فحثّه ذلك على الشكر.
2-أن
ذكر المغفلين يحث المتيقظ على اتقاء أسباب الغفلة إذا كان ذلك داخلاً تحت
الكسب وعامله فيه الرياضة، وأما إذا كانت الغفلة مجبولة في الطباع، فإنها
لا تكاد تقبل التغيير.
3-أن
يُرَوِّح الإنسان قلبه بالنظر في سير هؤلاء المبخوسين حظوظاً يوم القسمة،
فإن النفس قد تمل من الدؤوب في الجد، وترتاح إلى بعض المباح من اللهو، وقد
قال رسول الله (: "ساعة وساعة"(18)، ويضيف مسوغاً رابعاً في موضع آخر:
"وهذا في الغالب عبارة عمن يروى أخبار الماضين، وهذا لا يُذم لنفسه، لأن
في إيراد أخبار السالفين عبرة لمعتبر، وعظة لمزدجر، واقتداء بصواب
لمتبع..."(19). وهكذا يضع ابن الجوزي المسوغات لمصنفه.
فهو
مدعاة لشكر العاقل عند سماع أخبار الحمقى والمغفلين، وحثٌ لِلْمُتَيَقِّظِ
على اتقاء أسباب الغفلة، ثم هو راحة للقلب عند سماع المباح من اللهو، كما
أن سماع أخبار الماضين عبرة وعِظَة واقتداء بصواب. ولكي يدلل على أنه لم
يقترف ذنباً عند تصنيفه كتاب فكاهة نراه يلجأ إلى أقوال ومواقف للرسول (
وأصحابه دعوا فيها إلى ترويح القلوب بمباح اللهو والفكاهة والضحك، منها:
1-قول الرسول ( لحنظلة: ساعة وساعة.
2-كان رسول الله ( يضحك حتى تبدو نواجذه.
3-قال علي بن أبي طالب: رَوِّحوا القلوب، واطلبوا لها طرف الحكمة فإنها تملُّ كما تمل الأبدان.
4-قال أبو الدرداء: إني لأستجم نفسي ببعض الباطل كراهية أن أحمل عليها من الحق ما يملّها.
5-كان ابن عباس إذا جلس مع أصحابه حدَّثهم ساعة ثم قال حَمِّضُونا. وغير ذلك من أقوال التابعين والعلماء(20).
ويبدو
أن ابن الجوزي قد أقنع نفسه بجواز تصنيف كتب الأخبار قبل أن يقنع الآخرين،
وهذا ما قد يدفع إلى القول بأن تيار القَصص الفكاهي قد ساد وانتشر في زمن
الدولة العباسية، الذي عاش فيه ابن الجوزي، سواء في مدن العراق أو غيرها
من مدن الدولة الإسلامية، وأن القصص الفكاهي أصبح نوعاً أدبياً مرموقاً
يقبل عليه رجل الدين ورجل الأدب، والعامة والخاصة على حد سواء، وبذلك
يتجاوز القصص الفكاهي وقار العلماء، وجِدِّية الشعراء، وسمت الأدباء ليصبح
أدباً مقبولاً يتفاكه به الجميع، وسمة من سمات الأدب العربي في العصر
العباسي وما بعده.
ولعل
ابن الجوزي قد بيَّن الأسباب المعلنة لتصنيف كتابه "أخبار الحمقى
والمغفلين" وحاول أن يتستر خلفها، كما فعل غيره، خوفاً من بطش السلطة،
ويبدو أن هناك أسباباً غير معلنة دفعت ابن الجوزي إلى رصد هذا الكم الكبير
من الأخبار الفكاهية ليوظفها في تعرية شخصيات نمطية لفئات كثيرة في مجتمعه
العباسي السلجوقي.
لقد
ولد عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي، القرشي التيمي البكري البغدادي،
الذي يرجع نسبه إلى الخليفة الأول، أبي بكر الصديق رضي الله عنه، في بغداد
سنة 508هـ/ 1114م، وتوفي فيها سنة 597هـ/ 1201م، أي في العصر العباسي
الرابع، (447هـ-656هـ)، ذلك العصر الذي ظهرت فيه الدولة السلجوقية، التي
استمرت قرابة الثلاثة قرون، حكموا خلالها المنطقة الممتدة من أفغانستان
إلى البحر الأبيض، ونودي باسم سلطانهم لأربعين جمعة في بغداد.
وفي
هذا العصر شهد العالم الإسلامي الكثير من المِحَن والفِتَن والويلات، فقد
نشط الصليبيون في الاستيلاء على مدن الشام من سنة 492 هـ إلى سنة 582هـ،
وقد عاش ابن الجوزي هذه الأحداث وسمع عنها، كما سقطت دولة الإسلام في
الأندلس، وانقسمت إلى إمارات سيطر عليها البرابرة والموالي، وظهرت دول
ملوك الطوائف التي كانت صيداً سهلاً للأسبان، الذين طردوهم من بلادهم،
لتنتهي الدولة الأموية والدويلات الإسلامية في بلاد الأندلس.
ولا
شك أن تلك الأحداث قد أثرت كثيراً في نفسية رجل مثل ابن الجوزي، الذي أحس
بالانكسار، وضعف المسلمين، وسيطرة الصليبيين والإفرنج على بقاع واسعة من
خريطة العالم الإسلامي.
وإذا
كانت هذه بعض مظاهر الضعف التي شعر بها ابن الجوزي من خارج بغداد، فإن
الذي شهده من ويلات وضعف لدولة الخلافة الإسلامية العباسية داخل بغداد
نفسها كان أشد.(21).
لقد
عاش ابن الجوزي صراعاً مريراً بين الخلفاء العباسيين وخصومهم السلاجقة،
وشهد ما دار في بغداد في فِتَن وحروب وسرقات ودمار، وقد ضعفت دولة الخلافة
العباسية، وأصبح السلاجقة مصدر القوة ومصدر البطش معاً، ويبدو أن ذلك كله
أثر في نفس ابن الجوزي العربي المسلم، فمضى في "أخبار الحمقى والمغفلين"
يكشف الأقنعة ويعري كثيراً من الأنماط البشرية في مجتمعه، محققاً بذلك
وظائف كثيرة، ولعل أبرزها الوظيفة السياسية، وكأنه يصرخ بصوت عال ضد البطش
والظلم والفساد الذي أحدثه السلاجقة، منبهاً من خطرهم في إسقاط دولة
الخلافة العباسية، وداعياً إلى الدفاع عن بغداد ونصرة الخليفة العباسي.
ويبدو
لي أن ابن الجوزي قد حقق وظيفة اجتماعية أيضاً في تعرية الكثير من الأنماط
البشرية في مجتمعه، الذي انتشر فيه الحمقى والمغفلون، وتغلغلوا في طبقات
ينبغي لها أن تكون بمنأى عن الحمق والتغفيل، كالقرَّاء ورواة الحديث
والقضاة والأمراء والولاة والكُتَّاب والحُجَّاب والمؤذنين والأئمة
وغيرهم، وكأن ابن الجوزي يطلق صرخة احتجاج يعلن فيها ما بلغه المجتمع
العباسي من فساد وقد انتشر الحمقى والمغفلون بين هذه الطبقات.
أما
الوظيفة النفسية التعويضية، فقد استطاع ابن الجوزي أن يحققها بنجاح كبير،
فإن شر البلية ما يضحك، وهل هناك بلية أكبر مما يحدث في زمن ابن الجوزي
وفي وطنه.
ويبدو
أن تلك البلية كانت كبيرة إلى درجة أنها دفعت شخصاً وقوراً، عالم عصره،
إلى الضحك ليعوِّض به ما يحسه من ألم وضيق جراء ما يحدث من حوله من ضعف
ودمار.
وأخيراً فقد حقق ابن الجوزي وظيفة جمالية إمتاعية ذات صبغة سردية مضحكة.
وقد
قُسِّمَت المصنفات في القَصص الفكاهي إلى عدة أنواع منها: التصنيف الاسمي
كنوادر جحا، والتصنيف الموضوعي كنوادر البخلاء، والتصنيف الموسوعي الجامع
كنثر الدرر، والتصنيف الموضوعي الفرعي كأخبار الحمقى والمغفلين(22).
حدد
ابن الجوزي موضوع القصص في مصنفه وجعله في أخبار الحمقى والمغفلين فقط. ثم
فرَّعَ هذا الموضوع ليشمل فئات مختلفة من الناس، يشتركون كلهم في صفة
الحمق والغفلة، فقسم الكتاب إلى أربعة وعشرين باباً. خصص التسعة الأولى
منها للحديث عن جملة من القضايا المتعلقة بالحمقى والمغفلين مثل: ذكر
الحماقة ومعناها، بيان أن الحمق غريزة، ذكر اختلاف الناس في الحمق، ذكر
أسماء الأحمق، ذكر صفات الأحمق، التحذير من صحبة الأحمق، ضرب العرب المثل
بمن عرف حمقه، ذكر أخبار من ضرب المثل بحمقه وتغفيله، ذكر جماعة من
العقلاء صدر عنهم فعل الحمقى. ويأتي بعد هذه الأبواب التسعة، التي تُعَدُّ
مقدمة لكل ما يتعلَّق بالحمق والتغفيل، خمسة عشر باباً، يتعلَّق كل باب
منها بفئة خاصة من الحمقى والمغفلين وأخبارهم ونوادرهم. وهذه الفئات هي:
القُرَّاء، رُواة الحديث، القُضاة، الأُمراء والوُلاة، الكُتَّاب
والحُجَّاب، والمؤذنون، الأئمة، الأعراب، من قصد الفصاحة والإعراب من
المغفلين، من قال شعراً من المغفلين، القُصَّاص، المتزهدون، المعلمون،
الحاكة، المغفلون على الإطلاق.
***
5-الإطار السردي للكتاب/ المصنف:
يعد
موضوع الكتاب، المخصص لتعرية الأنماط البشرية المختلفة من الحمقى
والمغفلين في مجتمع ابن الجوزي، هو الإطار السردي الكبير للكتاب، ويحوي
موضوعاً إطارياً واحداً هو أخبار هؤلاء الحمقى والمغفلين بحق، وليس
المتحامقين والمستغفِلين، وهو الأمر الذي حرص عليه ابن الجوزي، فالأحمق لا
يعرف أنه أحمق بليد سطحي، وهنا تكمن خطورة انتشار الحمق والتغفيل بين
طبقات المجتمع المثقفة والمتعلمة، أما المتحامق فيعرف أنه ليس أَحْمَقَ،
إنما يلجأ إلى التظاهر بالحمق والغفلة ليتخلص من بعض المواقف المحرجة، أو
للتحايل على الآخرين، أو لتحاشي المُساءَلَة.
أما
الأطر السردية الصغرى للكتاب فهي أبوابه الخمسة عشر، التي أتت بعد مقدمة
حوت تسعة أبواب، تعلقت بقضايا الحمق والتغفيل. ويعد كل باب من الأبواب
الخمسة عشر موضوعاً إطارياً صغيراً خصصه ابن الجوزي لفئة من فئات الحمقى
والمغفلين في المجتمع البشري الذي عاصره في بغداد، أو غيرها، أو لمن قرأ
عنهم، ويأتي ذلك في سياق الموضوع الإطاري العام للكتاب. ثم يشمل كل باب/
موضوع إطاري، كثيراً من الأخبار الفكاهية القصيرة المتعلقة بتلك الفئة.
ويختلف حجم الخبر الفكاهي من حيث الطول ويتراوح ما بين السطرين والعشرة
أسطر، وقد يزيد قليلاً.
ويلعب
ابن الجوزي، من خلال هذا الإطار السردي المتماسك دور السارد/ المُخْبِر،
من خلال أداة هي الراوي، لسرد الخبر الفكاهي لمخاطَبٍ يستَقبله.
وهنا
نقف عند المكونات السردية للخبر الفكاهي في "أخبار الحمقى والمغفلين"
للتعرف عليها وَعَلى مدى تطابقها مع المكونات السردية للنادرة؟(23)
***
6-المكونات السردية في "أخبار الحمقى والمغفلين"
6/1-الإسناد:
حرص
ابن الجوزي على إسناد أخباره الفكاهية حرصاً شديداً. إذ لم يرد خبر فكاهي
واحد إلا وقد سبقه إسناد، حتى أصبح الإسناد واحداً من المكونات الأساسية
السردية لأخبار ابن الجوزي في مصنفه "أخبار الحمقى والمغفلين"، ذلك أن
طبيعة التكوين العلمي لابن الجوزي المعتمدة على عِلْمي الحديث والتاريخ قد
فرضت الالتزام بالإسناد فرضاً في أخباره الفكاهية للحمقى والمغفلين، بعد
أن أصبح الإسناد تقليداً متعارفاً عليه في التراث العربي، واستمراراً
للإسناد في السُّنَّة النبوية، ويضاف إلى ذلك أن طبيعة الخبر الفكاهي
الشفاهية تستوجب إسناد الرواية في سلسلة من الرواة جيلاً بعد جيل حتى
مرحلة التدوين، التي حافظت على تلك الأسانيد كمحافظتها على المتون، وفي
ذلك دلالة واضحة على أن الإسناد والتوثيق سمة من سمات تراث الأمة العربية
الإخباري/ القصصي، عبر العصور.
#000000]إن
طبيعة الإخبار الشفاهية عبر الأشخاص والأجيال تؤدي تلقائياً إلى إعادة
إنتاج أو إعادة صياغة، مع تغيير طفيف في الأسماء والأفعال والأقوال وردود
الأفعال والأقوال، لمفردات الخبر الفكاهي، وأن عملية إعادة الإنتاج/
الصياغة هذه تستوجب أسانيد جديدة وهكذا. ويزداد الحرص على تلك الأسانيد
بشكل أكبر إذا كانت الأخبار الفكاهية المعاد إنتاجها/ صياغتها آتية من
ثقافات أخرى. [/size]
كما
أن الموقف الفكاهي هو موقف قصصي ذو طبيعة سردية، والسرد يتطلَّب إلى جانب
صيغ الإخبار والإسناد الانتقال إلى الزمن الماضي لتنفتح آفاق المتخيل
السردي لدى المخاطَب، وتتحقق المتعة والشوق لمتابعة الموقف/ الخبر حتى
نهايته. ولا يخفى أن الإسناد في رواية المواقف/ الأخبار يعني أن السارد/
ابن الجوزي مفارق لمرويه، فهو يروي ما ليس له، وبذلك يحفظ وقاره، على
اعتبار أن الضحك لا يليق بابن الجوزي وأمثاله، وناقل الكفر ليس بكافر
أيضاً، على الرغم من أن المخاطَب يعي جيداً أن ابن الجوزي يقوم بإسناد
الرواية إلى غيره، وهو الراوي الحقيقي لها. ويؤكد ذلك أن كثيراً من
الروايات تسند لشخصيات نكرة (نمطية) مثل: بلغنا أن رجلاً، أو حكى فقيه، أو
أذن مؤذن، أو سئل أعرابي، دون أن يذكر اسم الرجل أو الفقيه أو المؤذن أو
الأعرابي.
أما
صيغ الإسناد أو الإخبار فكثيرة وكلها أفعال في الزمن الماضي مثل:
حدَّثني... أو حدثنا... أو قال... أو سمعت... أو عن... أو سأل... أو
حكى... أما الرواة الذين نقل عنهم ابن الجوزي تلك الأخبار/ المواقف
الفكاهية فكثيرون؛ منهم معارف كالجاحظ وابن الأعرابي والثعالبي والتنوخي
وابن المرزبان وأبي العيناء والبحتري وأبي تمام وغيرهم، ومنهم نكرات كبعض
المُؤَذِّنين والقُرَّاء والمُدَرِّسين والمُحَدِّثين والأعراب والغلمان
وغيرهم.
ويمكن
معرفة أصول المصنف "أخبار الحمقى والمغفلين" ورد رواياته إلى مصادرها عند
تتبع أسماء الرواة الذين نقل عنهم ابن الجوزي. كما أن تلك الأسانيد وأسماء
الرواة تبين أن ابن الجوزي جمع تلك الأخبار الفكاهية عن الحمقى والمغفلين
من أزمنة وعصور مختلفة، وهو أمر لا غرابة فيه.
6/2- الراوي:
يرتبط
الراوي، وهو مُكَوِّنٌ سرديٌ آخر للخبر الفكاهي، ارتباطاً وثيقاً
بالإسناد. فما دام هناك إسناد للرواية فهناك راوٍ لها. وبحكم الطبيعة
السردية الشفاهية للأخبار الفكاهية فإن الرواة يتعددون، حيث يقدم الساردُ
الحقيقي/ ابنُ الجوزي، الراويَ الفعلي للخبر الفكاهي، الذي يروي ما شاهده
أو سمعه بنفسه، أو يروي عن غيره. كما في قوله: "وعن ابن أخي شعيب بن حرب،
قال: سمعت ابن أخي عمير الكاتب يقول وهو يُعَزِّي قوماً: آجركم الله، وإن
شئتم أجركم الله، كلاهما سماعي عن الفَرَّاء"(24).
إن
السارد الحقيقي المفارق لمرويه هنا/ ابن الجوزي قدم الراوي الفعلي للخبر/
الموقف الفكاهي، وهو ابن أخي شعيب، الذي قام بوظيفته السردية بسرد الخبر/
الموقف، وهو راوٍ ثقة قد شَهَد الموقف وسمع ما دار فيه بنفسه، كما أن
الراوي قدم البطل الأحمق وهو ابن أخي عمير الكاتب. أما جملة "وهو يعزي"
فقد حددت الفضاء المكاني والزماني للخبر/ الموقف الفكاهي، فهو مكان عزاء
ووقت جِدٍ لا هزل. ثم حدثت المفارقة وهي جملة العزاء غير المتوقعة من
البطل الأحمق المُعَزِّي.
وكقولـه: "وعن أبي زيد النحوي قال: وقفت على قصّاب وعنده بطون، فقلت: بكم البطنان؟ فقال: بدرهمان يا ثقيلان"(25).
فالراوي يروي خبراً/ موقفاً، حصل له شخصياً.
وقد
يروي الراوي عن غيره كقوله: "حدثنا محمد بن سعيد قال: سمعت الفضل بن يوسف
الجعفي يقول: سمعت رجلاً يقول لأبي نعيم: حدثتك أمك، يريد: حدثك أمي
الصيرفي"(26).
- إسماعيل سعديمدير الموقع
- البلد :
الجنس :
عدد المساهمات : 3758
نقاط تميز العضو : 150714
تاريخ التسجيل : 03/04/2009
إن السارد الحقيقي هنا/ ابن الجوزي يقدم راوي الخبر/ الموقف وهو محمد بن سعيد، الذي يقوم بتقديم راوٍ جديد هو الفضل بن يوسف الجعفي، الذي يقوم بوظيفة سرد ما سمع من ذلك الأحمق/ المغفل.
وقد يكون الراوي معرفة كالجاحظ أو الأَصمعي أو المدائني أو الدارقطني أو غيرهم. وقد يكون نكرة كقولـه: قال أعرابي، أو أذن مؤذن. وقد يأتي الخبر دون راوٍ ولا سيما في الباب الرابع والعشرين حيث قدم السارد/ ابن الجوزي كثيراً من الأخبار/ المواقف الفكاهية دون رواة لها، وبذلك يتحوّل السارد راوياً كقوله: "سمع بعض المغفلين أن صوم يوم عاشوراء يعادل صوم سنة، فصام إلى الظهر وأكل، وقال: يكفيني ستة أشهر"(27).
وإذا كان السارد مفارقاً لمرويه في بعض الأخبار/ المواقف الفكاهية، يروي ما سمعه عن غيره فإنه قد يكون في أحيانٍ أخرى متماهياً يروي ما حدث له أو كان شاهداً عليه.
كقوله: "دخلتُ على بعض أصدقائي وفيهم مريض العين ومعي بعض المغفلين، فقال له المغفل: كيف عينك؟ قال: تؤلمني. فقال: إن فلاناً آلمته عينه أياماً ثم ذهبت، فاستحييتُ واستعجلتُ الخروج"(28).
6/3-الموقف:
يشكل الموقف مكوناً أساسياً من مكونات السرد في الخبر الفكاهي. ويعتمد على عنصر قصصي واحد قصير في الأغلب، قد يطول بعض الشيء أحياناً، وقد حدده ابن الجوزي في مصنفه وجعله لفئات مختلفة من الحمقى والمغفلين. ويتكون هذا الموقف /العنصر القصصي الواحد، من بطل أحمق/ مغفل يقوم بفعل أو قول، ثم يستقبل ذلك الفعل أو القول بطل ثانوي سوي، ثم تحدث المفارقة غير المتوقعة فينفرج الموقف في نهايته ويحدث الضحك، في عملية إرسال من السارد، عبر الراوي، واستقبال من المخاطَب. ويكون سبب المفارقة أو الخلل في التوازن المنطقي بين الأشياء هو الحمق أو التغفيل أو السذاجة في الرد من المغفل/ الأحمق مثل: "دعا أعرابي بمكة لأمه، فقيل له: ما بال أبيك؟ قال: ذاك رجل يحتال لنفسه"(29).
وقد يكون انفراج الموقف المؤدي إلى الضحك، من السوي بعد فعل أو قول من الأحمق/ المغفل، مثل: "عن المدائني قال: قرأ إمام: ولا الظَّالِّينَ، بالظاء المعجمة، فرفسه رجل من خلفه، فقال الإمام: آه ضهري، فقال له الرجل: يا كذا وكذا، خذ الضاد من ضهرك واجعلها في الظالين وأنت في عافية"(30) ويقوم الراوي، كما تقدَّم، برسم الفضاء المكاني والزماني للموقف، مما يساعد المخاطَب على فتح آفاق المتخيل السردي لديه ووضعه ذهنياً في قلب الموقف لِيُحْسِن استقباله، كما في الموقفين السابقين، وكما في قوله: "قرأ إمام في صلاته: وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه خمسين ليلة، فجذبه رجل وقال له: ما تحسن تقرأ، ما تحسن تحسب"(31). إن عبارة "قرأ إمام في صلاته" قد رسمت فضاء الموقف المكاني وهو المسجد، والزماني وهو زمن صلاة جهر، مما يساعد المخاطَب على الانتقال ذهنياً إلى ذلك المكان الطاهر والزمن الروحاني، اللذين يتطلبان الجد لا الهزل، ويأتي الموقف، وهو القراءة الخاطئة للآية القرآنية، وقد يكون الأمر طبيعياً لو أن الرجل أصلح خطأ الإمام، غير أن الرد غير المتوقع من الرجل قد أخل في التوازن المنطقي وجاء التهكم بالإمام، خلافاً لما قد استعد الذهن لاستقباله، فحدثت المفارقة وكان الضحك. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الذي أضحك هو الرد غير المتوقع من الرجل على قراءة الإمام الخاطئة للآية القرآنية وليس القراءة نفسها.
وتؤدي هذه الأخبار/ المواقف الفكاهية، وظيفة نقدية اجتماعية حرص ابن الجوزي على إبرازها في مجتمعه مسّت فئات كثيرة لشخصية نمطية واحدة هي شخصية الأحمق/ المغفل، أما الضحك فهو نتيجة طبيعية لتلقي هذا الخبر الفكاهي. ورغم وجود البطل الأحمق/ المغفل، والمقابل السوي، والفضاء المكاني والزماني، والمفارقة في الموقف، إلا أنه يظل موقفاً قصيراً، تتكثّف فيه الأفعال والأقوال، ويخلو من التعقيد، ويعتمد على الواقعية والصدق في تصوير الموقف، مع المبالغة الشديدة، والجنوح في السياق القولي أو الفعلي، والشد الذهني، حتى الوصول إلى نهاية الموقف، حيث الانفراج والارتخاء الذهني، عند حدوث المفارقة غير المتوقعة في ردود الأفعال أو الأقوال، ليأتي الضحك في النهاية.
6/4-البطل:
يلعب البطل دوراً أساسياً في الخبر/ الموقف الفكاهي، وهو المكون الأساسي فيه، ونتيجة أفعاله أو أقواله، وعلاقته مع الطرف السوي المقابل له، تحدث المفارقة غير المتوقعة أو غير المنطقية فينفرج الموقف ويحصل الارتخاء الذهني، بعد الشد، فيحدث الضحك، ولهذا البطل المُضْحِك كثير من الصفات الواجب توفّرها فيه.
والبطل في "أخبار الحمقى والمغفلين" نمطي ثابت الصفات، فهو أحمق أو مغفل، وإن اختلفت الفئة التي ينتمي إليها، كفئة القُرّاء أو رُوَاة الحديث أو القُضاة أو الأُمراء والوُلاة أو الكُتَّاب والحُجَّاب أو المؤذنين أو الأئمة أو الأَعْراب أو الشعراء أو القُصَّاص أو المتزهدين أو المعلمين أو الحاكة أو غيرهم. ويشترك جميع هؤلاء بصفات ثابتة لازمت الشخصية النمطية لهم جميعاً. فالأحمق أو المغفل شخصية واقعية اجتماعية، إذ إن جميع الفئات التي أورد ابن الجوزي أخبارها الفكاهية شخصيات موجودة في الواقع الاجتماعي الذي عاش فيه، وهي في الغالب تؤدي وظائفها المهنية والاجتماعية في مجتمعاتها كقراءة القرآن أو رواية الحديث أو ممارسة القضاء... الخ، كغيرهم من الناس، إلا أنهم يمتازون بالحمق أو الغفلة. وهم أيضاً لا يعرفون صفات الحمق والغفلة التي فيهم، ولو عرفوها لتحاشوها، ولما كانت مواقفهم مضحكة. كما أنهم شديدو الالتصاق بالذات، بعيدون في عالمهم عن الآخرين.
والأحمق أو المغفل سطحي بليد، وهو سريع الإجابة دون تركيز، صريح ومباشر إلى أبعد الحدود، حتى قيل: "لا يقول الحق إلا أحمق أو صبي، فهو لا يملك القدرة على إخفاء نواياه ومقاصده، يقول ما في نفسه دون مراعاة لظروف المكان أو الوقت الذي هو فيه، ولا يراعي مشاعر الآخرين، بل يتصرّف وكأن أحداً لا يراه أو يسمعه، فهو يعيش في شبه عزلة شعورية في عالمه الخاص به دون اكتراث بالآخرين. وهو لا يرى نفسه ولا يرى أفعاله، ولا يسمع أقواله كما يراها أو يسمعها الآخرون، الذين يضخِّمونها ويبالغون في تصوّرها للضحك. كما أن الحمقى والمغفلين عند ابن الجوزي متسامحون وطيبون، غير أشرار، فهم لا ينزعجون من الضحك عليهم ولا يتشنجون ولا يغضبون ولا ينتقمون ممن يضحك منهم. وهم بالطبع لا يضحكون، لأنهم لا يعرفون حمقهم أو غفلتهم، ولا يعرفون أن فعلهم أو قولهم في ذلك الموقف كان مضحكاً. وهم يقبلون النصح والتوجيه في الغالب، فيما يحرص الآخرون الأسوياء على عدم نصحهم أو توجيههم، والتعامل معهم بأدب واحترام، دون إخلال في العلاقة، ليبقوهم في حمقهم أو غفلتهم، فيضحكون منهم، في عملية تواصل دون انقطاع. والأحمق أو المغفل لا يثير الشفقة كما يثيرها المجنون، لذلك فإن الأسوياء والعقلاء لا يضحكون من أفعال المجنون المخالفة للعقل والمنطق لأنه مثير للشفقة، ولكنهم بلا شك يمنعون في الضحك من فعل أو قول الأحمق لأنه لا يثير شفقتهم، فالشفقة تنفي الضحك.
والأحمق أو المغفل قد يكون مغروراً، حين يتصرّف بتعال ويتحدّث بغرور، والغرور مدعاة للضحك أيضاً، كما في أخبار بعض الحمقى والمغفلين من الأعراب والقُضاة والقُرَّاء والمحدِّثين الذين يخطئون ويكابرون فَيُضْحَكُ عليهم. لذلك يبتعد العقلاء والأسوياء عن الغرور والجد المبالغ فيه، ويميلون إلى البساطة والتواضع والتبسيط حتى لا يكونوا مدعاة لضحك الآخرين عليهم. كما أن الأحمق/ المغفل له منطق خاص به مخالف لمن حوله يُسَبِّب ضحك الآخرين منه، لا سيما إذا ظهر زيف منطقه وبطلانه وأصرَّ على التمسُّك به.
ويؤدي البطل هذا وظيفته السردية في الخبر/ الموقف الفكاهي، فبعد أن يقدمه الراوي، الذي رسم الأبعاد المكانية والزمانية للموقف الفكاهي، يقوم البطل بفعل أو قول أمام بطل ثانوي سوي، يستقل ذلك الفعل أو القول، فيسأل أو يرد على البطل الأحمق/ المغفل الذي يقوم بدوره بردة فعل، أو قول، تلقائية غير منطقية، أو غير متوقعة فتحدث المفارقة وينفرج الموقف ويضحك الآخرون. وقد يكون انفراج الموقف بفعل أو قول البطل الثانوي السوي نتيجة لفعل أو قول للأحمق أو المغفل. كما تبين سابقاً عند الحديث عن الموقف.
واستطاع ابن الجوزي أن يوظِّف هذا المكون السردي /البطل الأحمق/ المغفل توظيفاً فنيَّاً ويأتي بالأخبار الفكاهية ليحقق الكثير من الغايات والأهداف ذات الأبعاد السياسية، ولا سيما في الباب الثاني عشر، في ذكر المغفلين من الأمراء والولاة، ليبين المستوى الذي بلغه حال بعض الأمراء والولاة، في زمنه وفي غير زمنه، إذ بلغ فيهم الحمق والتغفيل مبلغه. منها: "حدثنا المدائني قال: كان عبد الله بن أبي ثور والي المدينة، فخطبهم فقال: يا أيها الناس، اتقوا الله وارْجوا التوبة، فإنه أهلك قوم صالح في ناقة قيمتها خمسمائة درهم. فسموه: مقوم الناقة، وعزله الزبير"(32). ومنها: "خطب قبيصة، وهو خليفة أبيه على خراسان، فأتاه كتابه فقال: "هذا كتاب الأمير، وهو والله أهل أن يطاع، وهو أبي وأكبر مني"(33). وكذلك الباب الثالث عشر: في ذكر المغفلين من القُضاة. حيث انتشر بينهم الحمقى والمغفلون. وقد أورد ابن الجوزي كثيراً من الأخبار الفكاهية عنهم مثل قوله: "قال ابن خلف: قال بعض الرواة: تقدم رجلان إلى أبي العطوف، قاضي حَرَّان، فقال أحدهما: أصلح الله القاضي، هذا ذبح ديكاً لي، فخذ لي بحقي، فقال لهما القاضي: عليكما بصاحب الشرطة فإنه ينظر في الدماء"(34). وكقوله في خبر آخر: "بلغنا أن رجلاً قدَّم رجلاً إلى بعض القضاة وادَّعى عليه بثلاثين ديناراً وأقام شاهداً واحداً، فقال القاضي: ادفع له خمسة عشر ديناراً إلى أن يقيم الشاهد الآخر"(35).
وكأن ابن الجوزي يصرخ محتجاً متألماً حيناً، لما آل إليه أمر بعض الأمراء والوُلاة والقُضاة في مجتمعه، وساخراً بمرارة، حيناً آخر، من كثير من الفئات الاجتماعية كالقُرَّاء الذين لا يحسنون قراءة القرآن، والمحدثين الذين لا يعرفون قراءة الأحاديث النبوية، والمؤذِّنين، والأئمة وغيرهم. ويروي ابن الجوزي كثيراً من الأخبار الفكاهية في ذلك، كقوله: "وقال القاضي المقدمي: قرأ علينا عثمان بن أبي شيبة: جعل السقاية في رجل أخيه، فقيل هي: (في رحل أخيه) فقال: تحت الجيم واحدة"(36)، وكقوله: "وحكى لنا أبو بكر بن عبد الباقي البزاز: صَحَّفَ رجل فقال: حدثنا سقنان البوري، عن جلد المجدا عن أتش عن النبي ( قال: اذهبوا عنا، أراد سفيان الثوري، عن خالد الحذَّاء، عن أنس، عن النبي ( قال: ادهنوا غِباً"(37).
"وعن أبي بكر النقاش قال: حدثنا أن أعرابياً سمع مؤذناً كان يقول: أشهد أن محمداً رسول الله بالنصب. فقال: ويحك فعل ماذا؟"(38)، وعن محمد بن خلف قال: مرَّ رجل بإمام يصلي بقوم فقرأ: ألم غلبت الترك. فلما فرغ قلت: يا هذا، إنما هو (غلبت الروم) فقال: كلهم أعداء لا نبالي من ذكر منهم"(39).
وهكذا جعل ابن الجوزي من هذا المكون السردي/ البطل الأحمق أو المغفل، أداة فنية، حقق من خلالها أهدافه وغاياته وكشف عن مدى المأساة السياسية التي يعيشها في ظل الدولة السلجوقية، حيث فساد الوزراء والولاة وصراع السلاطين والخلفاء، وحَذَّرَ من خطورة انتشار هذه النماذج على حساب دولة الخلافة العباسية. وكشف الأقنعة عن كثير من النماذج لفئات اجتماعية سادت في مجتمعه، وحقق ذلك من خلال المتعة الجمالية في سرد تلك الأخبار الفكاهية، فعوَّض نفسياً عمّا بداخله من ضيق وألم لتردي كافة الأوضاع في زمنه.
6/5-السارد والمخاطب:
وهو المكون السردي الأهم في الخبر الفكاهي حيث يقوم الخبر الفكاهي على عملية تواصل بين السارد /المُخْبِر والمخاطَب/ المُخْبَر عبر راوٍ يروي خبراً فكاهيَّاً مضحكاً.
وفي "أخبار الحمقى والمغفلين" قام ابن الجوزي نفسه بدور السارد للخبر الفكاهي. فهو الذي اختار تلك الأخبار الفكاهية، إما من مشاهداته الخاصة في مجتمعه، أو مما سمعه أو نُقِلَ إليه، أو مما قرأه من أخبار السابقين له، غير أن ابن الجوزي لا يروي الخبر الفكاهي مباشرة بل يلجأ إلى خلق أداة فنية تؤدي دوره في السرد وهي الراوي، الذي يحرص ابن الجوزي في الغالب على إسناد الرواية إليه، إذ يبدأ الخبر الفكاهي غالباً بالإسناد مثل: عن عبد الله بن عمر بن أبان، أو عن محمد بن أبي الفضل، أو حدثنا إسماعيل بن محمد(40)، أو قال الدارقطني(41)، أو سمعت ابن الرومي(42)، أو جاء رجل إلى الليث بن سعد(43)، أو حكى لنا أبو بكر بن عبد الباقي البزاز(44)، أو غيرها من الصيغ، وعندما يباشر الراوي وظيفته الفنية في سرد الخبر الفكاهي يختفي السارد، وقد تحول مخاطَباً، يستمع إلى الخبر ويستمتع به ضاحكاً، أو شاهداً يشهد على الموقف الفكاهي ويسجل ملاحظاته عليه.
كما حرص ابن الجوزي على أن يكون مفارقاً لمرويه، فهو يسرد ما سمع أو قرأ أو شاهد دون أن يجعل لنفسه دوراً أو مكاناً فيما يسرده، وإذا ظهر ابن الجوزي في "أخبار الحمقى والمغفلين" متماهياً لمرويه فإن هذا الظهور كان قليلاً جداً، في الباب الرابع والعشرين. وربما حقق ابن الجوزي بذلك أمرين: الأول، أن إسناد الرواية إلى الراوي، وتحوله هو مُخَاطَباً، ساعده كثيراً على مشاهدة الموقف الفكاهي والاستمتاع به عن بُعد، فكم راوٍ لطرفة اليوم يضحك ويستمتع بما يرويه أكثر من المخاطَبين المروي لهم، والثاني أن ابن الجوزي أبعد شبهة مشاركته أو روايته لأخبار فكاهية، فهو مجرد سارد لها فقط، وناقل الكفر ليس بكافر. مع أن قارئ أخبار الحمقى والمغفلين لابن الجوزي قد يستنتج أن كثيراً من الأخبار غير المسندة إنما هي من وضع ابن الجوزي نفسه، ولا سيما المحتشم منها. أما المخاطَب المستقبِل لتلك الأخبار الفكاهية السردية فهو القارئ وليس المستمع. إذ لم يشأ ابن الجوزي أن يكون سارداً مباشراً لتلك الأخبار الفكاهية، ولم يرد أن يلتقي مع المخاطَب مباشرة ليجعل منه مستمعاً، فذلك لا يتناسب مع شخصية ابن الجوزي الجادة ولا يستقيم مع مكانته العلمية. لقد أراد ابن الجوزي أن يخلق مسافة زمنية ونفسية، وحاجزاً مكانياً بينه وبين مخاطبه، فتجاوز المستمع المباشر إلى القارئ البعيد فجعل القارئ مخاطَباً والراوي سارداً، فيما اكتفى هو بدور السارد الخفي.
***
7- أنماط الإخبار ومادته:
لقد استفاد ابن الجوزي في سرد أخباره الفكاهية، كما فعل أصحاب النوادر والملح، من الموروث القصصي الفكاهي العربي، سواء في المادة والمصادر أو أنماط الإخبار. وكما اتضح يمكن ردّ مادة الأخبار الفكاهية في "أخبار الحمقى والمغفلين" إلى مصادرها من القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، وقواعد النحو العربي، وأخبار اللحن، وحكايات الحمق والتغفيل، والشعر العربي وغيرها.
ويعد السرد هو الصيغة التي اعتمد عليها ابن الجوزي في تقديم أخباره عن الحمقى والمغفلين، فخاطب القارئ لا السامع فحقق أهدافه وغاياته المختلفة كما تقدّم.
واستخدم ابن الجوزي أكثر من نمط ليقدم لنا أخباره الفكاهية بما يتناسب مع طبيعة الموقف، وشخصية البطل، وفضاء الخبر الفكاهي المكاني والزماني، ومنها:
7/1-التصحيف:
وهو تغيير أحد حروف الكلمة لتدل على معنى آخر غير المعنى الصحيح، ويحدث عادة بسبب التنقيط.
وقد اعتمد ابن الجوزي على التصحيف بشكل كبير جداً ولا سيما في الباب العاشر، الذي خُصِّصَ للتصحيف في القرآن الكريم، والباب الحادي عشر، الذي خُصِّصَ للتصحيف في الحديث النبوي. أما مثال التصحيف في القرآن الكريم فكقوله: "وعن محمد بن عبد الله الخضرمي أنه قال: قرأ علينا عثمان بن أبي شيبة: فضرب بينهم سنور له ناب. فقيل له: إنما هو (بسور له باب) فقال: أنا لا أقرأ قراءة حمزة، قراءة حمزة عندنا بدعة"(45). أما التصحيف في الحديث النبوي فكقوله: "حدثنا يحيى بن بكير قال: جاء رجل إلى البشير بن سعد فقال: كيف حدثك نافع عن النبي ( [في الذي نشرت في أبيه القصة"> فقال الليث: ويحك إنما هو [في الذي يشرب في آنية الفضة">"(46)
7/2-حسن التعليل:
وهو حسن تعليل أو تسويغ الفعل أو القول الذي حدث، كقوله: "وكان أَعرابي يقول: اللهم اغفر لي وحدي، فقيل له: لو عممت بدعائك فإن الله واسع المغفرة، فقال: أكره أن أثقل على ربي"(47). وكقوله: "دعا أعرابي بمكة لأمه، فقيل له: ما بال أبيك؟ قال: ذلك رجل يحتال لنفسه"(48).
7/3-ظاهره جد وباطنه هزل:
وهو أن يقول القائل ما ظاهره جد إلا أن القصد الحقيقي هو الهزل، كقوله: "حدثنا المدائني قال: كان عبد الله بن أبي ثور والي المدينة فخطبهم فقال: أيها الناس اتقوا الله وارْجوا التوبة، فإنه أهلك قوم صالح في ناقة قيمتها خمسمائة درهم"(49).
7/4-الخطأ في نسبة الكلام:
كأن يقول القائل: قال تعالى، ثم يأتي بحديث نبوي، أو يقول: قال الشاعر ويأتي بآية قرآنية، أو أن يقول: قال تعالى، ويأتي بيت شعر، كما في قوله: "وبلغنا أن يزيد بن المهلب ولى أعرابياً على بعض كور خراسان، فلما كان يوم الجمعة صعد المنبر وقال: الحمدُ لله، ثم ارتج عليه فقال: أيها الناس إياكم والدنيا فإنكم لم تجدوها إلا كما قال تعالى:
وما الدنيا بباقية لحي * ـ * ـ * وما حي على الدنيا بِبَاقِ
فقال كاتبه: أصلح الله الأمير هذا شعر، قال: فالدنيا باقية على أحد؟ قال: لا، قال: فيبقى عليها أحد؟ قال: لا، قال: فما كلفتك إذن؟"(50).
7/5-الخطأ في النحو:
وهو كثير عند المؤذنين والأئمة والمتحذلقين كقوله: "عن ميمون بن هارون قال: قال رجل لصديق له: ما فعل فلان بحمارهِ؟ فقال: باعِهِ، قال: قل باعَهُ، قال: فلم قلت بحمارِهِ؟ قال: الباء تجر، قال: فمن جعل باءك تجر وبائي ترفع"(51).
7/6-الاستفهام:
وهو أن يُستفهم بعد خطأ على سبيل التهكم. كقوله: "وقرأ إمام في صلاته: وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر، فتم ميقات ربه خمسين ليلة، فجذبه رجل وقال: ما تحسن تقرأ، ما تحسن تحسب!(52).
7/7-التورية:
وهي إطلاق لفظ له معنيان: قريب لا يراد، وبعيد يراد وهو المقصود. كقوله: "وتذاكر قوم قيام الليل وعندهم أعرابي، فقالوا له أتقوم الليل؟ قال: إي والله، فقالوا: فما تصنع؟ قال: أبول وأرجع أنام"(53).
7/8-التمني:
كقوله: "وعن أبي حصين قال: عاد رجل عليلاً فعزّاهم فيه، فقالوا له إنه لم يمت، فقال: يموت إن شاء الله"(54).
7/9-الأمر:
كقوله: "وعن أبي عاصم قال: قال رجل لأبي حنيفة: متى يحرّم الطعام على الصائم؟ قال: إذا طلع الفجر، قال: وإذا طلع الفجر نصف الليل؟ قال: قم يا أعرج"(55).
7/10-النهي:
كقوله: "وركب أحمقان في قارب فتحركت الريح، فقال أحدهما: غرقنا والله، وقال الآخر: إن شاء الله، قال: لا تستثن حتى تَسلم"(56).
7/11-السذاجة:
وهي السذاجة في الرد من شخص يفترض فيه الذكاء، وكثرت في القضاة، كقوله: "قال المدائني: استعمل حيان بن حسان قاضي فارس على ناحية كرمان فخطبهم فقال: يا أهل كرمان تعرفان عثمان بن زياد هو عمي أخو أمي، فقالوا: هو خالك إذن"(57).
7/12-إبدال كلمة مكان أخرى:
كقوله: "وعن محمد بن خلف قال: مر رجل بإمام يصلي بقوم فقرأ: ألم، غلبت الترك، فلما فرع قلت يا هذا، إنما هو (ألم غلبت الروم) فقال: كلهم أعداء لا نبالي من ذكر منهم"(58).
7/13-الجناس المُحَرَّف:
وهو تشابه الكلمتين مع الاختلاف في الحركة، كقوله: "وقد روينا عن الوليد أنه قال لرجل: ما شأنك؟ فقال الرجل: شيخ نايفي، فقال عمر بن عبد العزيز: إن أمير المؤمنين يقول لك ما شأنك؟ فقال: خَتْنِي ظلمني، فقال الوليد: ومَنْ خَتَنَك؟ فنكس الأعرابي رأسه وقال: ما سؤال أمير المؤمنين عن هذا، فقال عمر: إنما أراد أمير المؤمنين مَنْ خَتَنُكَ؟ فقال: هذا، وأشار إلى رجل معه"(59).
7/14-التندر بالشعر:
كقولـه: "وحكى بعضهم، قال: اجتمعنا ثلاثة نفر من الشعراء في قرية تسمى طيهاثا فشربنا يوماً، ثم قلنا: ليقل كل واحد بيت شعر في وصف يومنا، فقلت:
نلنا لذيذ العيش في طيهاثا
فقال الثاني:
لما احتثثنا القدح احتثاثا
فأرتج على الثالث فقال:
امرأتي طالقة ثلاثا"(60)
***
نتائج الدراسة
وتأتي هذه الدراسة لتسجل المضامين والمقاربات والنتائج التي وصلت إليها، حيث اتضح أن الطبيعة السردية للشخصية العربية كانت وراء استمرار القصص الفكاهي بل أشكاله الأدبية عبر العصور، حتى الزمن الحاضر، مروراً بعصر ابن الجوزي/ القرن السادس الهجري. وأن السمر /أدب المجالس أصبح السمة البارزة في مجتمع ابن الجوزي. ويبدو أن الذي ساعد ابن الجوزي على الدخول في عالم السرد، وتدوين الأخبار الفكاهية، وتصنيف المصنفات فيه مثل "أخبار الحمقى والمغفلين" هو حرصه على الاعتناء بهذا الموروث الحكائي القصصي السردي، من ناحية، ووجود الإطار العام لمصنفات وكتب النوادر والملح والأخبار جاهزاً أمامه يسير على منواله ويضرب على هداه، ولا سيما مصنفات ورسائل الجاحظ، و "جمع الجواهر في الملح والنوادر"للحصري القيرواني، من ناحية ثانية. إن تأثر ابن الجوزي في "أخبار الحمقى والمغفلين بتلك المصنفات والرسائل جاء ليؤكد الصلة السردية والتشابه التام بين النادرة والخبر الفكاهي.
وجاء تعريف الخبر الفكاهي ليزيد تلك الصلة وذلك التشابه بين الخبر الفكاهي والنادرة. كما أن المسوغات التي ساقها ابن الجوزي وأعلن عنها في "أخبار الحمقى والمغفلين" جاءت متطابقة إلى حد كبير مع تلك المقدمة الدفاعية، والمسوغات التي جاء بها الحصري القيرواني في "جمع الجواهر"، ولا سيما تلك الأقوال التي ساقها على لسان بكر بن عبد الله المزني، وأبي الدرداء، والحسن البصري، وأردشير بن بابك، وأبي الفتح كشاجم، في تسويغ جمع تلك الجواهر من النوادر والملح والفكاهات. وبالإضافة إلى ذلك فقد تم إلقاء الضوء على المسوغات غير المعلنة التي، ربما، كانت دافعاً دفعت ابن الجوزي إلى إطلاق صرخة الاحتجاج، المصحوبة بالغضب والألم معاً، للتعبير بالخبر الفكاهي عن العجز، المصحوب بالمرارة، لإيقاف ذلك الدمار والخراب والهوان الذي أصاب دولة الخلافة الإسلامية العباسية على يد السلاجقة. ولا شك أن الحروب الصليبية في بلاد الشام ضد المسلمين، وسقوط الدولة الأموية بالأندلس، قبل فتن السلاجقة وخرابهم، قد زادتْ من إحساس ابن الجوزي، بالعجز والغضب والمرارة، إن جميع تلك الأسباب، التي أعلن عنها ابن الجوزي أو التي سكت عنها، دفعته إلى إطلاق تلك الصرخة الفنية في "أخبار الحمقى والمغفلين" ليعلن بالخبر الفكاهي عن ألمه ورفضه وغضبه مما يحدث حوله، عن طريق تعرية الكثير من النماذج لفئات اجتماعية وسياسية ودينية وتعليمية وعلمية كثيرة في مجتمعه ممن اتسموا بالحمق والغفلة في زمن يتطلب الذكاء واليقظة لمجابهة الأخطار العظيمة والمدمرة التي تحيط بالأمة.
إن الإطار السردي للمصنف "أخبار الحمقى والمغفلين" جاء ليؤكد علاقة الخبر الفكاهي بالنادرة. حيث تشابه تلك الأطر، فقد جعل ابن الجوزي موضوع مصنفه الخاص بالحمقى والمغفلين إطاراً سردياً كبيراً للمصنف، وجعل الخمسة عشر باباً أطراً سردية صغرى، جاءت بعد مقدمة من تسعة أبواب في الحمق والتغفيل. وحوى كل باب/ إطار سردي صغير، الكثير من الأخبار الفكاهية ذات المكونات السردية الشبيهة بالنادرة.
وإذا كانت النوادر في لغة القدماء تساوي القصص الفكاهي في لغة المحدثين، فقد ذهب الأستاذان سعيد يقطين ومحمد رجب النجار إلى أن النوادر نوع من أنواع القصص الفكاهي. ولقد اتضح، لي بشكل أطمئن إليه، من خلال دراسة المكونات السردية للخبر الفكاهي في "أخبار الحمقى والمغفلين" لابن الجوزي أن تلك المكونات السردية تتطابق مع المكونات السردية للنادرة/ القصة الفكاهية. وبذلك تصل هذه الدراسة إلى أهم غاياتها وهي تأكيد أن الخبر الفكاهي يساوي النادرة، وهو، أعني الخبر الفكاهي، نوع من أنواع القصص الفكاهي.
وقد جاءت أنماط الأخبار الفكاهية في "أخبار الحمقى والمغفلين"، ومادتها أيضاً، لتزيد الأمر تأكيداً بأن الخبر الفكاهي مُسَاوٍ للنادرة، وأنه نوع من أنواع القصص الفكاهي.
المصادر والمراجع:
(1)البخاري، محمد بن إسماعيل، أبو عبد الله، صحيح البخاري، بحاشية السندي- بيروت: دار المعرفة، بدون تاريخ.
(2)التهانوي، محمد علي الفاروقي. كشاف اصطلاحات الفنون. تحقيق الدكتور لطفي عبد البديع، القاهرة: المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر، دار الكتاب العربي، 1963م.
(3)الجاحظ، عمرو بن بحر. رسائل الجاحظ، تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون. المجلد الثالث، الطبعة الأولى، القاهرة: مكتبة الخانجي، 1979م.
(4)ابن الجوزي، عبد الرحمن بن علي، أبو الفرج. أخبار الحمقى والمغفلين من الفقهاء والمفسرين والرواة والمحدثين والشعراء والمتأدبين والكتاب والمعلمين والتجار والمتسببين وطوائف تتصل للغفلة بسبب متين. بيروت: دار الكتب العلمية، 1997م.
(5)ابن الجوزي. كتاب القُصَّاص والمُذَكِّرِين. تحقيق الدكتور محمد بن لطفي الصباغ، الطبعة الثانية، بيروت: المكتب الإسلامي، 1988م.
(6)الحصري القيرواني، إبراهيم بن علي. جمع الجواهر في الملح والنوادر. تحقيق محمد علي البجاوي. الطبعة الثانية، بيروت: دار الجيل، بدون تاريخ.
(7)ابن حنبل، الإمام أحمد. مسند الإمام أحمد بن حنبل. الطبع الأولى، بيروت، عمّان: المكتب الإسلامي، 1993م.
(الزهراني، محمد بن مفسر بن حسين. نفوذ السلاجقة السياسي في الدولة العباسية 447-590هـ. الطبعة الأولى. بيروت: مؤسسة الرسالة، 1982م.
(9)طه، نعمان محمد أمين. السخرية في الأدب العربي حتى نهاية القرن الرابع الهجري. الطبعة الأولى، القاهرة: دار التوفيقية للطباعة، 1978م.
(10)ابن ماجة، محمد بن يزيد القزويني. سنن ابن ماجة، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، بيروت دار الكتب العلمية، بدون تاريخ.
(11)النجار، محمد رجب. التراث القصصي في الأدب العربي، مقاربات سوسيو- سدية. المجلد الأول. الطبعة الأولى، الكويت: ذات السلاسل، 1995م.
(12)يقطين، سعيد. الكلام والخبر، مقدمة للسرد العربي. الطبعة الأولى، الدار البيضاء، بيروت: المركز الثقافي العربي، 1997م.
(1) جامعة الكويت- كلية الآداب.
(2) التراث القصصي: النجار، ص 665 وما بعدها.
(3) السخرية: طه، ص 58 وما بعدها.
(4)المرجع السابق: ص70 وما بعدها.
(5) صحيح البخاري، البخاري، باب مناقب الأنصار، باب ذكر جرير بن عبد الله العجيلي ص 316.
(6) المسند: ابن حنبل، الحديث رقم 21386/ 105، ج5، ص 204.
(7) صحيح البخاري، البخاري، كتاب التفسير، الزمر، ج3، ص 182.
( سنن ابن ماجة، ابن ماجه، الحديث رقم 529، ج1، ص 176.
(9) صحيح البخاري، البخاري، كتاب الوكالة، ج2، ص 49-50.
(10)لمزيد من المعلومات في هذا الموضوع يراجع السخرية: طه، ص 62 وما بعدها.
(11) رسائل الجاحظ: الجاحظ، ص 55-109.
(12) جمع الجواهر: الحصري القيرواني، ص 3.
(13)المرجع السابق: ص 1.
(14) كشاف اصطلاحات الفنون: التهانوي، ج2، ص 14، ص 184.
(15) الكلام والخبر: يقطين، 175 وما بعدها.
(16)المرجع السابق: ص 154 وما بعدها.
(17) التراث القصصي، النجار، ص 657.
(18) أخبار الحمقى والمغفلين: ابن الجوزي، ص 6.
(19) كتاب القصاص والمذكرين: ابن الجوزي، ص 159-160.
(20) أخبار الحمقى والمغفلين: ابن الجوزي، ص5-11.
(21)لمزيد من المعلومات عن صراع العباسيين مع السلاجقة يراجع كتاب الزهراني، نفوذ السلاجقة السياسي في الدولة العباسية 447-590هـ.
(22) التراث القصصي، النجار، ص 681هـ.
(23)درس الدكتور النجار في القسم الخامس/ القصص الفكاهي، المخصص للنوادر والحكايات المرحة، وعرَّف النوادر/ وبيّن خصائصها بقوله ص 685 [النادرة هي أقصوصة مرحة تتكون من وحدة سردية مستقلة بذاتها، ومن ثم فهي تتسم بالإيجاز، بل هي ممعنة في القصر، محدودة الشخصيات، نمطية الأبطال، وتتكون من عنصر قصصي واحد Motif يدور موضوعها حول الحياة اليومية، والتجارب الشخصية الإنسانية.. وهي تتجاوز مجرد تحقيق الضحك كاستجابة سيكولوجية لدى جمهورها، بل تعكس في الوقت ذاته رأي هذا الجمهور في الهيئتين الاجتماعية والسياسية أفراداً وطوائف وجماعات، وهي إنسانية الشخوص، واقعية الأحداث، قلما يظهر فيها العنصر الخارق، ولها محور رئيسي واحد، تعمد خلاله إلى الإخلال المقصود بين التوازن أو التناسب الواجب للموقف أو للشخصية، وتعتمد على المفارقات التي يستحدثها الغباء أو البلادة أو الخدعة أو القول اللاذع أو أنماط السلوك الشاذة وما شابه ذلك، كما تعتمد على المفارقات التي تنجم عن المغالطات المنطقية أو الحيل البلاغية والبيانية، فتنتهي إلى موقف مفاجئ، غير متوقع، يثير الفكاهة، ويشير في الوقت ذاته إلى مغزى تقويمي أو دفاعي دال">. ثم يبين بعد ذلك سمات النادرة التي لا تختلف عن سمات/ مكونات السرد في الخبر الفكاهي عند ابن الجوزي في: أخبار الحمقى والمغفلين.
(24) أخبار الحمقى والمغفلين: ابن الجوزي، ص 114.
(25)المرجع السابق: ص 119.
(26)المرجع السابق: ص 73.
(27)المرجع السابق: ص 163.
(28)المرجع السابق: ص 157.
(29)المرجع السابق: ص 110.
(30)المرجع السابق: ص 105.
(31)المرجع السابق: ص 105.
(32)المرجع السابق: ص 90.
(33)المرجع السابق: ص 93.
(34)المرجع السابق: ص 96.
(35)المرجع السابق: ص 98.
(36)المرجع السابق: ص 66-67.
(37)المرجع السابق: ص 85.
(38)المرجع السابق: ص 103.
(39)المرجع السابق: ص 104.
(40)المرجع السابق: ص65.
(41) المرجع السابق: ص 70.
(42)المرجع السابق: ص 71.
(43)المرجع السابق: ص 77.
(44)المرجع السابق: ص 85.
(45)المرجع السابق: ص 67.
(46)المرجع السابق: ص 73.
(47)المرجع السابق: ص 110.
(48)المرجع السابق: ص 110. وسبق ذكره أيضاً عند الحاشية 29
(49)المرجع السابق: ص 90. وسبق ذكره أيضاً عند الحاشية 32.
(50)المرجع السابق: ص 88.
(51)المرجع السابق: ص 115.
(52)المرجع السابق: ص 105. وسبق ذكره عند الحاشية 31.
(53)المرجع السابق: ص111.
(54)المرجع السابق: ص 142.
(55)المرجع السابق: ص 142.
(56)المرجع السابق: ص 146.
(57)المرجع السابق: ص 96.
(58)المرجع السابق: ص 104. وسبق ذكره عند الحاشية 39.
(59)المرجع السابق: ص 115.
(60)المرجع السابق: ص 122، وفي الأصل المطبوع "امرأته طالق" وما أثبتناه هو الصواب.
awu-dam.org/trath/90/turath90-018.htm
وقد يكون الراوي معرفة كالجاحظ أو الأَصمعي أو المدائني أو الدارقطني أو غيرهم. وقد يكون نكرة كقولـه: قال أعرابي، أو أذن مؤذن. وقد يأتي الخبر دون راوٍ ولا سيما في الباب الرابع والعشرين حيث قدم السارد/ ابن الجوزي كثيراً من الأخبار/ المواقف الفكاهية دون رواة لها، وبذلك يتحوّل السارد راوياً كقوله: "سمع بعض المغفلين أن صوم يوم عاشوراء يعادل صوم سنة، فصام إلى الظهر وأكل، وقال: يكفيني ستة أشهر"(27).
وإذا كان السارد مفارقاً لمرويه في بعض الأخبار/ المواقف الفكاهية، يروي ما سمعه عن غيره فإنه قد يكون في أحيانٍ أخرى متماهياً يروي ما حدث له أو كان شاهداً عليه.
كقوله: "دخلتُ على بعض أصدقائي وفيهم مريض العين ومعي بعض المغفلين، فقال له المغفل: كيف عينك؟ قال: تؤلمني. فقال: إن فلاناً آلمته عينه أياماً ثم ذهبت، فاستحييتُ واستعجلتُ الخروج"(28).
6/3-الموقف:
يشكل الموقف مكوناً أساسياً من مكونات السرد في الخبر الفكاهي. ويعتمد على عنصر قصصي واحد قصير في الأغلب، قد يطول بعض الشيء أحياناً، وقد حدده ابن الجوزي في مصنفه وجعله لفئات مختلفة من الحمقى والمغفلين. ويتكون هذا الموقف /العنصر القصصي الواحد، من بطل أحمق/ مغفل يقوم بفعل أو قول، ثم يستقبل ذلك الفعل أو القول بطل ثانوي سوي، ثم تحدث المفارقة غير المتوقعة فينفرج الموقف في نهايته ويحدث الضحك، في عملية إرسال من السارد، عبر الراوي، واستقبال من المخاطَب. ويكون سبب المفارقة أو الخلل في التوازن المنطقي بين الأشياء هو الحمق أو التغفيل أو السذاجة في الرد من المغفل/ الأحمق مثل: "دعا أعرابي بمكة لأمه، فقيل له: ما بال أبيك؟ قال: ذاك رجل يحتال لنفسه"(29).
وقد يكون انفراج الموقف المؤدي إلى الضحك، من السوي بعد فعل أو قول من الأحمق/ المغفل، مثل: "عن المدائني قال: قرأ إمام: ولا الظَّالِّينَ، بالظاء المعجمة، فرفسه رجل من خلفه، فقال الإمام: آه ضهري، فقال له الرجل: يا كذا وكذا، خذ الضاد من ضهرك واجعلها في الظالين وأنت في عافية"(30) ويقوم الراوي، كما تقدَّم، برسم الفضاء المكاني والزماني للموقف، مما يساعد المخاطَب على فتح آفاق المتخيل السردي لديه ووضعه ذهنياً في قلب الموقف لِيُحْسِن استقباله، كما في الموقفين السابقين، وكما في قوله: "قرأ إمام في صلاته: وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه خمسين ليلة، فجذبه رجل وقال له: ما تحسن تقرأ، ما تحسن تحسب"(31). إن عبارة "قرأ إمام في صلاته" قد رسمت فضاء الموقف المكاني وهو المسجد، والزماني وهو زمن صلاة جهر، مما يساعد المخاطَب على الانتقال ذهنياً إلى ذلك المكان الطاهر والزمن الروحاني، اللذين يتطلبان الجد لا الهزل، ويأتي الموقف، وهو القراءة الخاطئة للآية القرآنية، وقد يكون الأمر طبيعياً لو أن الرجل أصلح خطأ الإمام، غير أن الرد غير المتوقع من الرجل قد أخل في التوازن المنطقي وجاء التهكم بالإمام، خلافاً لما قد استعد الذهن لاستقباله، فحدثت المفارقة وكان الضحك. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الذي أضحك هو الرد غير المتوقع من الرجل على قراءة الإمام الخاطئة للآية القرآنية وليس القراءة نفسها.
وتؤدي هذه الأخبار/ المواقف الفكاهية، وظيفة نقدية اجتماعية حرص ابن الجوزي على إبرازها في مجتمعه مسّت فئات كثيرة لشخصية نمطية واحدة هي شخصية الأحمق/ المغفل، أما الضحك فهو نتيجة طبيعية لتلقي هذا الخبر الفكاهي. ورغم وجود البطل الأحمق/ المغفل، والمقابل السوي، والفضاء المكاني والزماني، والمفارقة في الموقف، إلا أنه يظل موقفاً قصيراً، تتكثّف فيه الأفعال والأقوال، ويخلو من التعقيد، ويعتمد على الواقعية والصدق في تصوير الموقف، مع المبالغة الشديدة، والجنوح في السياق القولي أو الفعلي، والشد الذهني، حتى الوصول إلى نهاية الموقف، حيث الانفراج والارتخاء الذهني، عند حدوث المفارقة غير المتوقعة في ردود الأفعال أو الأقوال، ليأتي الضحك في النهاية.
6/4-البطل:
يلعب البطل دوراً أساسياً في الخبر/ الموقف الفكاهي، وهو المكون الأساسي فيه، ونتيجة أفعاله أو أقواله، وعلاقته مع الطرف السوي المقابل له، تحدث المفارقة غير المتوقعة أو غير المنطقية فينفرج الموقف ويحصل الارتخاء الذهني، بعد الشد، فيحدث الضحك، ولهذا البطل المُضْحِك كثير من الصفات الواجب توفّرها فيه.
والبطل في "أخبار الحمقى والمغفلين" نمطي ثابت الصفات، فهو أحمق أو مغفل، وإن اختلفت الفئة التي ينتمي إليها، كفئة القُرّاء أو رُوَاة الحديث أو القُضاة أو الأُمراء والوُلاة أو الكُتَّاب والحُجَّاب أو المؤذنين أو الأئمة أو الأَعْراب أو الشعراء أو القُصَّاص أو المتزهدين أو المعلمين أو الحاكة أو غيرهم. ويشترك جميع هؤلاء بصفات ثابتة لازمت الشخصية النمطية لهم جميعاً. فالأحمق أو المغفل شخصية واقعية اجتماعية، إذ إن جميع الفئات التي أورد ابن الجوزي أخبارها الفكاهية شخصيات موجودة في الواقع الاجتماعي الذي عاش فيه، وهي في الغالب تؤدي وظائفها المهنية والاجتماعية في مجتمعاتها كقراءة القرآن أو رواية الحديث أو ممارسة القضاء... الخ، كغيرهم من الناس، إلا أنهم يمتازون بالحمق أو الغفلة. وهم أيضاً لا يعرفون صفات الحمق والغفلة التي فيهم، ولو عرفوها لتحاشوها، ولما كانت مواقفهم مضحكة. كما أنهم شديدو الالتصاق بالذات، بعيدون في عالمهم عن الآخرين.
والأحمق أو المغفل سطحي بليد، وهو سريع الإجابة دون تركيز، صريح ومباشر إلى أبعد الحدود، حتى قيل: "لا يقول الحق إلا أحمق أو صبي، فهو لا يملك القدرة على إخفاء نواياه ومقاصده، يقول ما في نفسه دون مراعاة لظروف المكان أو الوقت الذي هو فيه، ولا يراعي مشاعر الآخرين، بل يتصرّف وكأن أحداً لا يراه أو يسمعه، فهو يعيش في شبه عزلة شعورية في عالمه الخاص به دون اكتراث بالآخرين. وهو لا يرى نفسه ولا يرى أفعاله، ولا يسمع أقواله كما يراها أو يسمعها الآخرون، الذين يضخِّمونها ويبالغون في تصوّرها للضحك. كما أن الحمقى والمغفلين عند ابن الجوزي متسامحون وطيبون، غير أشرار، فهم لا ينزعجون من الضحك عليهم ولا يتشنجون ولا يغضبون ولا ينتقمون ممن يضحك منهم. وهم بالطبع لا يضحكون، لأنهم لا يعرفون حمقهم أو غفلتهم، ولا يعرفون أن فعلهم أو قولهم في ذلك الموقف كان مضحكاً. وهم يقبلون النصح والتوجيه في الغالب، فيما يحرص الآخرون الأسوياء على عدم نصحهم أو توجيههم، والتعامل معهم بأدب واحترام، دون إخلال في العلاقة، ليبقوهم في حمقهم أو غفلتهم، فيضحكون منهم، في عملية تواصل دون انقطاع. والأحمق أو المغفل لا يثير الشفقة كما يثيرها المجنون، لذلك فإن الأسوياء والعقلاء لا يضحكون من أفعال المجنون المخالفة للعقل والمنطق لأنه مثير للشفقة، ولكنهم بلا شك يمنعون في الضحك من فعل أو قول الأحمق لأنه لا يثير شفقتهم، فالشفقة تنفي الضحك.
والأحمق أو المغفل قد يكون مغروراً، حين يتصرّف بتعال ويتحدّث بغرور، والغرور مدعاة للضحك أيضاً، كما في أخبار بعض الحمقى والمغفلين من الأعراب والقُضاة والقُرَّاء والمحدِّثين الذين يخطئون ويكابرون فَيُضْحَكُ عليهم. لذلك يبتعد العقلاء والأسوياء عن الغرور والجد المبالغ فيه، ويميلون إلى البساطة والتواضع والتبسيط حتى لا يكونوا مدعاة لضحك الآخرين عليهم. كما أن الأحمق/ المغفل له منطق خاص به مخالف لمن حوله يُسَبِّب ضحك الآخرين منه، لا سيما إذا ظهر زيف منطقه وبطلانه وأصرَّ على التمسُّك به.
ويؤدي البطل هذا وظيفته السردية في الخبر/ الموقف الفكاهي، فبعد أن يقدمه الراوي، الذي رسم الأبعاد المكانية والزمانية للموقف الفكاهي، يقوم البطل بفعل أو قول أمام بطل ثانوي سوي، يستقل ذلك الفعل أو القول، فيسأل أو يرد على البطل الأحمق/ المغفل الذي يقوم بدوره بردة فعل، أو قول، تلقائية غير منطقية، أو غير متوقعة فتحدث المفارقة وينفرج الموقف ويضحك الآخرون. وقد يكون انفراج الموقف بفعل أو قول البطل الثانوي السوي نتيجة لفعل أو قول للأحمق أو المغفل. كما تبين سابقاً عند الحديث عن الموقف.
واستطاع ابن الجوزي أن يوظِّف هذا المكون السردي /البطل الأحمق/ المغفل توظيفاً فنيَّاً ويأتي بالأخبار الفكاهية ليحقق الكثير من الغايات والأهداف ذات الأبعاد السياسية، ولا سيما في الباب الثاني عشر، في ذكر المغفلين من الأمراء والولاة، ليبين المستوى الذي بلغه حال بعض الأمراء والولاة، في زمنه وفي غير زمنه، إذ بلغ فيهم الحمق والتغفيل مبلغه. منها: "حدثنا المدائني قال: كان عبد الله بن أبي ثور والي المدينة، فخطبهم فقال: يا أيها الناس، اتقوا الله وارْجوا التوبة، فإنه أهلك قوم صالح في ناقة قيمتها خمسمائة درهم. فسموه: مقوم الناقة، وعزله الزبير"(32). ومنها: "خطب قبيصة، وهو خليفة أبيه على خراسان، فأتاه كتابه فقال: "هذا كتاب الأمير، وهو والله أهل أن يطاع، وهو أبي وأكبر مني"(33). وكذلك الباب الثالث عشر: في ذكر المغفلين من القُضاة. حيث انتشر بينهم الحمقى والمغفلون. وقد أورد ابن الجوزي كثيراً من الأخبار الفكاهية عنهم مثل قوله: "قال ابن خلف: قال بعض الرواة: تقدم رجلان إلى أبي العطوف، قاضي حَرَّان، فقال أحدهما: أصلح الله القاضي، هذا ذبح ديكاً لي، فخذ لي بحقي، فقال لهما القاضي: عليكما بصاحب الشرطة فإنه ينظر في الدماء"(34). وكقوله في خبر آخر: "بلغنا أن رجلاً قدَّم رجلاً إلى بعض القضاة وادَّعى عليه بثلاثين ديناراً وأقام شاهداً واحداً، فقال القاضي: ادفع له خمسة عشر ديناراً إلى أن يقيم الشاهد الآخر"(35).
وكأن ابن الجوزي يصرخ محتجاً متألماً حيناً، لما آل إليه أمر بعض الأمراء والوُلاة والقُضاة في مجتمعه، وساخراً بمرارة، حيناً آخر، من كثير من الفئات الاجتماعية كالقُرَّاء الذين لا يحسنون قراءة القرآن، والمحدثين الذين لا يعرفون قراءة الأحاديث النبوية، والمؤذِّنين، والأئمة وغيرهم. ويروي ابن الجوزي كثيراً من الأخبار الفكاهية في ذلك، كقوله: "وقال القاضي المقدمي: قرأ علينا عثمان بن أبي شيبة: جعل السقاية في رجل أخيه، فقيل هي: (في رحل أخيه) فقال: تحت الجيم واحدة"(36)، وكقوله: "وحكى لنا أبو بكر بن عبد الباقي البزاز: صَحَّفَ رجل فقال: حدثنا سقنان البوري، عن جلد المجدا عن أتش عن النبي ( قال: اذهبوا عنا، أراد سفيان الثوري، عن خالد الحذَّاء، عن أنس، عن النبي ( قال: ادهنوا غِباً"(37).
"وعن أبي بكر النقاش قال: حدثنا أن أعرابياً سمع مؤذناً كان يقول: أشهد أن محمداً رسول الله بالنصب. فقال: ويحك فعل ماذا؟"(38)، وعن محمد بن خلف قال: مرَّ رجل بإمام يصلي بقوم فقرأ: ألم غلبت الترك. فلما فرغ قلت: يا هذا، إنما هو (غلبت الروم) فقال: كلهم أعداء لا نبالي من ذكر منهم"(39).
وهكذا جعل ابن الجوزي من هذا المكون السردي/ البطل الأحمق أو المغفل، أداة فنية، حقق من خلالها أهدافه وغاياته وكشف عن مدى المأساة السياسية التي يعيشها في ظل الدولة السلجوقية، حيث فساد الوزراء والولاة وصراع السلاطين والخلفاء، وحَذَّرَ من خطورة انتشار هذه النماذج على حساب دولة الخلافة العباسية. وكشف الأقنعة عن كثير من النماذج لفئات اجتماعية سادت في مجتمعه، وحقق ذلك من خلال المتعة الجمالية في سرد تلك الأخبار الفكاهية، فعوَّض نفسياً عمّا بداخله من ضيق وألم لتردي كافة الأوضاع في زمنه.
6/5-السارد والمخاطب:
وهو المكون السردي الأهم في الخبر الفكاهي حيث يقوم الخبر الفكاهي على عملية تواصل بين السارد /المُخْبِر والمخاطَب/ المُخْبَر عبر راوٍ يروي خبراً فكاهيَّاً مضحكاً.
وفي "أخبار الحمقى والمغفلين" قام ابن الجوزي نفسه بدور السارد للخبر الفكاهي. فهو الذي اختار تلك الأخبار الفكاهية، إما من مشاهداته الخاصة في مجتمعه، أو مما سمعه أو نُقِلَ إليه، أو مما قرأه من أخبار السابقين له، غير أن ابن الجوزي لا يروي الخبر الفكاهي مباشرة بل يلجأ إلى خلق أداة فنية تؤدي دوره في السرد وهي الراوي، الذي يحرص ابن الجوزي في الغالب على إسناد الرواية إليه، إذ يبدأ الخبر الفكاهي غالباً بالإسناد مثل: عن عبد الله بن عمر بن أبان، أو عن محمد بن أبي الفضل، أو حدثنا إسماعيل بن محمد(40)، أو قال الدارقطني(41)، أو سمعت ابن الرومي(42)، أو جاء رجل إلى الليث بن سعد(43)، أو حكى لنا أبو بكر بن عبد الباقي البزاز(44)، أو غيرها من الصيغ، وعندما يباشر الراوي وظيفته الفنية في سرد الخبر الفكاهي يختفي السارد، وقد تحول مخاطَباً، يستمع إلى الخبر ويستمتع به ضاحكاً، أو شاهداً يشهد على الموقف الفكاهي ويسجل ملاحظاته عليه.
كما حرص ابن الجوزي على أن يكون مفارقاً لمرويه، فهو يسرد ما سمع أو قرأ أو شاهد دون أن يجعل لنفسه دوراً أو مكاناً فيما يسرده، وإذا ظهر ابن الجوزي في "أخبار الحمقى والمغفلين" متماهياً لمرويه فإن هذا الظهور كان قليلاً جداً، في الباب الرابع والعشرين. وربما حقق ابن الجوزي بذلك أمرين: الأول، أن إسناد الرواية إلى الراوي، وتحوله هو مُخَاطَباً، ساعده كثيراً على مشاهدة الموقف الفكاهي والاستمتاع به عن بُعد، فكم راوٍ لطرفة اليوم يضحك ويستمتع بما يرويه أكثر من المخاطَبين المروي لهم، والثاني أن ابن الجوزي أبعد شبهة مشاركته أو روايته لأخبار فكاهية، فهو مجرد سارد لها فقط، وناقل الكفر ليس بكافر. مع أن قارئ أخبار الحمقى والمغفلين لابن الجوزي قد يستنتج أن كثيراً من الأخبار غير المسندة إنما هي من وضع ابن الجوزي نفسه، ولا سيما المحتشم منها. أما المخاطَب المستقبِل لتلك الأخبار الفكاهية السردية فهو القارئ وليس المستمع. إذ لم يشأ ابن الجوزي أن يكون سارداً مباشراً لتلك الأخبار الفكاهية، ولم يرد أن يلتقي مع المخاطَب مباشرة ليجعل منه مستمعاً، فذلك لا يتناسب مع شخصية ابن الجوزي الجادة ولا يستقيم مع مكانته العلمية. لقد أراد ابن الجوزي أن يخلق مسافة زمنية ونفسية، وحاجزاً مكانياً بينه وبين مخاطبه، فتجاوز المستمع المباشر إلى القارئ البعيد فجعل القارئ مخاطَباً والراوي سارداً، فيما اكتفى هو بدور السارد الخفي.
***
7- أنماط الإخبار ومادته:
لقد استفاد ابن الجوزي في سرد أخباره الفكاهية، كما فعل أصحاب النوادر والملح، من الموروث القصصي الفكاهي العربي، سواء في المادة والمصادر أو أنماط الإخبار. وكما اتضح يمكن ردّ مادة الأخبار الفكاهية في "أخبار الحمقى والمغفلين" إلى مصادرها من القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، وقواعد النحو العربي، وأخبار اللحن، وحكايات الحمق والتغفيل، والشعر العربي وغيرها.
ويعد السرد هو الصيغة التي اعتمد عليها ابن الجوزي في تقديم أخباره عن الحمقى والمغفلين، فخاطب القارئ لا السامع فحقق أهدافه وغاياته المختلفة كما تقدّم.
واستخدم ابن الجوزي أكثر من نمط ليقدم لنا أخباره الفكاهية بما يتناسب مع طبيعة الموقف، وشخصية البطل، وفضاء الخبر الفكاهي المكاني والزماني، ومنها:
7/1-التصحيف:
وهو تغيير أحد حروف الكلمة لتدل على معنى آخر غير المعنى الصحيح، ويحدث عادة بسبب التنقيط.
وقد اعتمد ابن الجوزي على التصحيف بشكل كبير جداً ولا سيما في الباب العاشر، الذي خُصِّصَ للتصحيف في القرآن الكريم، والباب الحادي عشر، الذي خُصِّصَ للتصحيف في الحديث النبوي. أما مثال التصحيف في القرآن الكريم فكقوله: "وعن محمد بن عبد الله الخضرمي أنه قال: قرأ علينا عثمان بن أبي شيبة: فضرب بينهم سنور له ناب. فقيل له: إنما هو (بسور له باب) فقال: أنا لا أقرأ قراءة حمزة، قراءة حمزة عندنا بدعة"(45). أما التصحيف في الحديث النبوي فكقوله: "حدثنا يحيى بن بكير قال: جاء رجل إلى البشير بن سعد فقال: كيف حدثك نافع عن النبي ( [في الذي نشرت في أبيه القصة"> فقال الليث: ويحك إنما هو [في الذي يشرب في آنية الفضة">"(46)
7/2-حسن التعليل:
وهو حسن تعليل أو تسويغ الفعل أو القول الذي حدث، كقوله: "وكان أَعرابي يقول: اللهم اغفر لي وحدي، فقيل له: لو عممت بدعائك فإن الله واسع المغفرة، فقال: أكره أن أثقل على ربي"(47). وكقوله: "دعا أعرابي بمكة لأمه، فقيل له: ما بال أبيك؟ قال: ذلك رجل يحتال لنفسه"(48).
7/3-ظاهره جد وباطنه هزل:
وهو أن يقول القائل ما ظاهره جد إلا أن القصد الحقيقي هو الهزل، كقوله: "حدثنا المدائني قال: كان عبد الله بن أبي ثور والي المدينة فخطبهم فقال: أيها الناس اتقوا الله وارْجوا التوبة، فإنه أهلك قوم صالح في ناقة قيمتها خمسمائة درهم"(49).
7/4-الخطأ في نسبة الكلام:
كأن يقول القائل: قال تعالى، ثم يأتي بحديث نبوي، أو يقول: قال الشاعر ويأتي بآية قرآنية، أو أن يقول: قال تعالى، ويأتي بيت شعر، كما في قوله: "وبلغنا أن يزيد بن المهلب ولى أعرابياً على بعض كور خراسان، فلما كان يوم الجمعة صعد المنبر وقال: الحمدُ لله، ثم ارتج عليه فقال: أيها الناس إياكم والدنيا فإنكم لم تجدوها إلا كما قال تعالى:
وما الدنيا بباقية لحي * ـ * ـ * وما حي على الدنيا بِبَاقِ
فقال كاتبه: أصلح الله الأمير هذا شعر، قال: فالدنيا باقية على أحد؟ قال: لا، قال: فيبقى عليها أحد؟ قال: لا، قال: فما كلفتك إذن؟"(50).
7/5-الخطأ في النحو:
وهو كثير عند المؤذنين والأئمة والمتحذلقين كقوله: "عن ميمون بن هارون قال: قال رجل لصديق له: ما فعل فلان بحمارهِ؟ فقال: باعِهِ، قال: قل باعَهُ، قال: فلم قلت بحمارِهِ؟ قال: الباء تجر، قال: فمن جعل باءك تجر وبائي ترفع"(51).
7/6-الاستفهام:
وهو أن يُستفهم بعد خطأ على سبيل التهكم. كقوله: "وقرأ إمام في صلاته: وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر، فتم ميقات ربه خمسين ليلة، فجذبه رجل وقال: ما تحسن تقرأ، ما تحسن تحسب!(52).
7/7-التورية:
وهي إطلاق لفظ له معنيان: قريب لا يراد، وبعيد يراد وهو المقصود. كقوله: "وتذاكر قوم قيام الليل وعندهم أعرابي، فقالوا له أتقوم الليل؟ قال: إي والله، فقالوا: فما تصنع؟ قال: أبول وأرجع أنام"(53).
7/8-التمني:
كقوله: "وعن أبي حصين قال: عاد رجل عليلاً فعزّاهم فيه، فقالوا له إنه لم يمت، فقال: يموت إن شاء الله"(54).
7/9-الأمر:
كقوله: "وعن أبي عاصم قال: قال رجل لأبي حنيفة: متى يحرّم الطعام على الصائم؟ قال: إذا طلع الفجر، قال: وإذا طلع الفجر نصف الليل؟ قال: قم يا أعرج"(55).
7/10-النهي:
كقوله: "وركب أحمقان في قارب فتحركت الريح، فقال أحدهما: غرقنا والله، وقال الآخر: إن شاء الله، قال: لا تستثن حتى تَسلم"(56).
7/11-السذاجة:
وهي السذاجة في الرد من شخص يفترض فيه الذكاء، وكثرت في القضاة، كقوله: "قال المدائني: استعمل حيان بن حسان قاضي فارس على ناحية كرمان فخطبهم فقال: يا أهل كرمان تعرفان عثمان بن زياد هو عمي أخو أمي، فقالوا: هو خالك إذن"(57).
7/12-إبدال كلمة مكان أخرى:
كقوله: "وعن محمد بن خلف قال: مر رجل بإمام يصلي بقوم فقرأ: ألم، غلبت الترك، فلما فرع قلت يا هذا، إنما هو (ألم غلبت الروم) فقال: كلهم أعداء لا نبالي من ذكر منهم"(58).
7/13-الجناس المُحَرَّف:
وهو تشابه الكلمتين مع الاختلاف في الحركة، كقوله: "وقد روينا عن الوليد أنه قال لرجل: ما شأنك؟ فقال الرجل: شيخ نايفي، فقال عمر بن عبد العزيز: إن أمير المؤمنين يقول لك ما شأنك؟ فقال: خَتْنِي ظلمني، فقال الوليد: ومَنْ خَتَنَك؟ فنكس الأعرابي رأسه وقال: ما سؤال أمير المؤمنين عن هذا، فقال عمر: إنما أراد أمير المؤمنين مَنْ خَتَنُكَ؟ فقال: هذا، وأشار إلى رجل معه"(59).
7/14-التندر بالشعر:
كقولـه: "وحكى بعضهم، قال: اجتمعنا ثلاثة نفر من الشعراء في قرية تسمى طيهاثا فشربنا يوماً، ثم قلنا: ليقل كل واحد بيت شعر في وصف يومنا، فقلت:
نلنا لذيذ العيش في طيهاثا
فقال الثاني:
لما احتثثنا القدح احتثاثا
فأرتج على الثالث فقال:
امرأتي طالقة ثلاثا"(60)
***
نتائج الدراسة
وتأتي هذه الدراسة لتسجل المضامين والمقاربات والنتائج التي وصلت إليها، حيث اتضح أن الطبيعة السردية للشخصية العربية كانت وراء استمرار القصص الفكاهي بل أشكاله الأدبية عبر العصور، حتى الزمن الحاضر، مروراً بعصر ابن الجوزي/ القرن السادس الهجري. وأن السمر /أدب المجالس أصبح السمة البارزة في مجتمع ابن الجوزي. ويبدو أن الذي ساعد ابن الجوزي على الدخول في عالم السرد، وتدوين الأخبار الفكاهية، وتصنيف المصنفات فيه مثل "أخبار الحمقى والمغفلين" هو حرصه على الاعتناء بهذا الموروث الحكائي القصصي السردي، من ناحية، ووجود الإطار العام لمصنفات وكتب النوادر والملح والأخبار جاهزاً أمامه يسير على منواله ويضرب على هداه، ولا سيما مصنفات ورسائل الجاحظ، و "جمع الجواهر في الملح والنوادر"للحصري القيرواني، من ناحية ثانية. إن تأثر ابن الجوزي في "أخبار الحمقى والمغفلين بتلك المصنفات والرسائل جاء ليؤكد الصلة السردية والتشابه التام بين النادرة والخبر الفكاهي.
وجاء تعريف الخبر الفكاهي ليزيد تلك الصلة وذلك التشابه بين الخبر الفكاهي والنادرة. كما أن المسوغات التي ساقها ابن الجوزي وأعلن عنها في "أخبار الحمقى والمغفلين" جاءت متطابقة إلى حد كبير مع تلك المقدمة الدفاعية، والمسوغات التي جاء بها الحصري القيرواني في "جمع الجواهر"، ولا سيما تلك الأقوال التي ساقها على لسان بكر بن عبد الله المزني، وأبي الدرداء، والحسن البصري، وأردشير بن بابك، وأبي الفتح كشاجم، في تسويغ جمع تلك الجواهر من النوادر والملح والفكاهات. وبالإضافة إلى ذلك فقد تم إلقاء الضوء على المسوغات غير المعلنة التي، ربما، كانت دافعاً دفعت ابن الجوزي إلى إطلاق صرخة الاحتجاج، المصحوبة بالغضب والألم معاً، للتعبير بالخبر الفكاهي عن العجز، المصحوب بالمرارة، لإيقاف ذلك الدمار والخراب والهوان الذي أصاب دولة الخلافة الإسلامية العباسية على يد السلاجقة. ولا شك أن الحروب الصليبية في بلاد الشام ضد المسلمين، وسقوط الدولة الأموية بالأندلس، قبل فتن السلاجقة وخرابهم، قد زادتْ من إحساس ابن الجوزي، بالعجز والغضب والمرارة، إن جميع تلك الأسباب، التي أعلن عنها ابن الجوزي أو التي سكت عنها، دفعته إلى إطلاق تلك الصرخة الفنية في "أخبار الحمقى والمغفلين" ليعلن بالخبر الفكاهي عن ألمه ورفضه وغضبه مما يحدث حوله، عن طريق تعرية الكثير من النماذج لفئات اجتماعية وسياسية ودينية وتعليمية وعلمية كثيرة في مجتمعه ممن اتسموا بالحمق والغفلة في زمن يتطلب الذكاء واليقظة لمجابهة الأخطار العظيمة والمدمرة التي تحيط بالأمة.
إن الإطار السردي للمصنف "أخبار الحمقى والمغفلين" جاء ليؤكد علاقة الخبر الفكاهي بالنادرة. حيث تشابه تلك الأطر، فقد جعل ابن الجوزي موضوع مصنفه الخاص بالحمقى والمغفلين إطاراً سردياً كبيراً للمصنف، وجعل الخمسة عشر باباً أطراً سردية صغرى، جاءت بعد مقدمة من تسعة أبواب في الحمق والتغفيل. وحوى كل باب/ إطار سردي صغير، الكثير من الأخبار الفكاهية ذات المكونات السردية الشبيهة بالنادرة.
وإذا كانت النوادر في لغة القدماء تساوي القصص الفكاهي في لغة المحدثين، فقد ذهب الأستاذان سعيد يقطين ومحمد رجب النجار إلى أن النوادر نوع من أنواع القصص الفكاهي. ولقد اتضح، لي بشكل أطمئن إليه، من خلال دراسة المكونات السردية للخبر الفكاهي في "أخبار الحمقى والمغفلين" لابن الجوزي أن تلك المكونات السردية تتطابق مع المكونات السردية للنادرة/ القصة الفكاهية. وبذلك تصل هذه الدراسة إلى أهم غاياتها وهي تأكيد أن الخبر الفكاهي يساوي النادرة، وهو، أعني الخبر الفكاهي، نوع من أنواع القصص الفكاهي.
وقد جاءت أنماط الأخبار الفكاهية في "أخبار الحمقى والمغفلين"، ومادتها أيضاً، لتزيد الأمر تأكيداً بأن الخبر الفكاهي مُسَاوٍ للنادرة، وأنه نوع من أنواع القصص الفكاهي.
المصادر والمراجع:
(1)البخاري، محمد بن إسماعيل، أبو عبد الله، صحيح البخاري، بحاشية السندي- بيروت: دار المعرفة، بدون تاريخ.
(2)التهانوي، محمد علي الفاروقي. كشاف اصطلاحات الفنون. تحقيق الدكتور لطفي عبد البديع، القاهرة: المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر، دار الكتاب العربي، 1963م.
(3)الجاحظ، عمرو بن بحر. رسائل الجاحظ، تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون. المجلد الثالث، الطبعة الأولى، القاهرة: مكتبة الخانجي، 1979م.
(4)ابن الجوزي، عبد الرحمن بن علي، أبو الفرج. أخبار الحمقى والمغفلين من الفقهاء والمفسرين والرواة والمحدثين والشعراء والمتأدبين والكتاب والمعلمين والتجار والمتسببين وطوائف تتصل للغفلة بسبب متين. بيروت: دار الكتب العلمية، 1997م.
(5)ابن الجوزي. كتاب القُصَّاص والمُذَكِّرِين. تحقيق الدكتور محمد بن لطفي الصباغ، الطبعة الثانية، بيروت: المكتب الإسلامي، 1988م.
(6)الحصري القيرواني، إبراهيم بن علي. جمع الجواهر في الملح والنوادر. تحقيق محمد علي البجاوي. الطبعة الثانية، بيروت: دار الجيل، بدون تاريخ.
(7)ابن حنبل، الإمام أحمد. مسند الإمام أحمد بن حنبل. الطبع الأولى، بيروت، عمّان: المكتب الإسلامي، 1993م.
(الزهراني، محمد بن مفسر بن حسين. نفوذ السلاجقة السياسي في الدولة العباسية 447-590هـ. الطبعة الأولى. بيروت: مؤسسة الرسالة، 1982م.
(9)طه، نعمان محمد أمين. السخرية في الأدب العربي حتى نهاية القرن الرابع الهجري. الطبعة الأولى، القاهرة: دار التوفيقية للطباعة، 1978م.
(10)ابن ماجة، محمد بن يزيد القزويني. سنن ابن ماجة، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، بيروت دار الكتب العلمية، بدون تاريخ.
(11)النجار، محمد رجب. التراث القصصي في الأدب العربي، مقاربات سوسيو- سدية. المجلد الأول. الطبعة الأولى، الكويت: ذات السلاسل، 1995م.
(12)يقطين، سعيد. الكلام والخبر، مقدمة للسرد العربي. الطبعة الأولى، الدار البيضاء، بيروت: المركز الثقافي العربي، 1997م.
(1) جامعة الكويت- كلية الآداب.
(2) التراث القصصي: النجار، ص 665 وما بعدها.
(3) السخرية: طه، ص 58 وما بعدها.
(4)المرجع السابق: ص70 وما بعدها.
(5) صحيح البخاري، البخاري، باب مناقب الأنصار، باب ذكر جرير بن عبد الله العجيلي ص 316.
(6) المسند: ابن حنبل، الحديث رقم 21386/ 105، ج5، ص 204.
(7) صحيح البخاري، البخاري، كتاب التفسير، الزمر، ج3، ص 182.
( سنن ابن ماجة، ابن ماجه، الحديث رقم 529، ج1، ص 176.
(9) صحيح البخاري، البخاري، كتاب الوكالة، ج2، ص 49-50.
(10)لمزيد من المعلومات في هذا الموضوع يراجع السخرية: طه، ص 62 وما بعدها.
(11) رسائل الجاحظ: الجاحظ، ص 55-109.
(12) جمع الجواهر: الحصري القيرواني، ص 3.
(13)المرجع السابق: ص 1.
(14) كشاف اصطلاحات الفنون: التهانوي، ج2، ص 14، ص 184.
(15) الكلام والخبر: يقطين، 175 وما بعدها.
(16)المرجع السابق: ص 154 وما بعدها.
(17) التراث القصصي، النجار، ص 657.
(18) أخبار الحمقى والمغفلين: ابن الجوزي، ص 6.
(19) كتاب القصاص والمذكرين: ابن الجوزي، ص 159-160.
(20) أخبار الحمقى والمغفلين: ابن الجوزي، ص5-11.
(21)لمزيد من المعلومات عن صراع العباسيين مع السلاجقة يراجع كتاب الزهراني، نفوذ السلاجقة السياسي في الدولة العباسية 447-590هـ.
(22) التراث القصصي، النجار، ص 681هـ.
(23)درس الدكتور النجار في القسم الخامس/ القصص الفكاهي، المخصص للنوادر والحكايات المرحة، وعرَّف النوادر/ وبيّن خصائصها بقوله ص 685 [النادرة هي أقصوصة مرحة تتكون من وحدة سردية مستقلة بذاتها، ومن ثم فهي تتسم بالإيجاز، بل هي ممعنة في القصر، محدودة الشخصيات، نمطية الأبطال، وتتكون من عنصر قصصي واحد Motif يدور موضوعها حول الحياة اليومية، والتجارب الشخصية الإنسانية.. وهي تتجاوز مجرد تحقيق الضحك كاستجابة سيكولوجية لدى جمهورها، بل تعكس في الوقت ذاته رأي هذا الجمهور في الهيئتين الاجتماعية والسياسية أفراداً وطوائف وجماعات، وهي إنسانية الشخوص، واقعية الأحداث، قلما يظهر فيها العنصر الخارق، ولها محور رئيسي واحد، تعمد خلاله إلى الإخلال المقصود بين التوازن أو التناسب الواجب للموقف أو للشخصية، وتعتمد على المفارقات التي يستحدثها الغباء أو البلادة أو الخدعة أو القول اللاذع أو أنماط السلوك الشاذة وما شابه ذلك، كما تعتمد على المفارقات التي تنجم عن المغالطات المنطقية أو الحيل البلاغية والبيانية، فتنتهي إلى موقف مفاجئ، غير متوقع، يثير الفكاهة، ويشير في الوقت ذاته إلى مغزى تقويمي أو دفاعي دال">. ثم يبين بعد ذلك سمات النادرة التي لا تختلف عن سمات/ مكونات السرد في الخبر الفكاهي عند ابن الجوزي في: أخبار الحمقى والمغفلين.
(24) أخبار الحمقى والمغفلين: ابن الجوزي، ص 114.
(25)المرجع السابق: ص 119.
(26)المرجع السابق: ص 73.
(27)المرجع السابق: ص 163.
(28)المرجع السابق: ص 157.
(29)المرجع السابق: ص 110.
(30)المرجع السابق: ص 105.
(31)المرجع السابق: ص 105.
(32)المرجع السابق: ص 90.
(33)المرجع السابق: ص 93.
(34)المرجع السابق: ص 96.
(35)المرجع السابق: ص 98.
(36)المرجع السابق: ص 66-67.
(37)المرجع السابق: ص 85.
(38)المرجع السابق: ص 103.
(39)المرجع السابق: ص 104.
(40)المرجع السابق: ص65.
(41) المرجع السابق: ص 70.
(42)المرجع السابق: ص 71.
(43)المرجع السابق: ص 77.
(44)المرجع السابق: ص 85.
(45)المرجع السابق: ص 67.
(46)المرجع السابق: ص 73.
(47)المرجع السابق: ص 110.
(48)المرجع السابق: ص 110. وسبق ذكره أيضاً عند الحاشية 29
(49)المرجع السابق: ص 90. وسبق ذكره أيضاً عند الحاشية 32.
(50)المرجع السابق: ص 88.
(51)المرجع السابق: ص 115.
(52)المرجع السابق: ص 105. وسبق ذكره عند الحاشية 31.
(53)المرجع السابق: ص111.
(54)المرجع السابق: ص 142.
(55)المرجع السابق: ص 142.
(56)المرجع السابق: ص 146.
(57)المرجع السابق: ص 96.
(58)المرجع السابق: ص 104. وسبق ذكره عند الحاشية 39.
(59)المرجع السابق: ص 115.
(60)المرجع السابق: ص 122، وفي الأصل المطبوع "امرأته طالق" وما أثبتناه هو الصواب.
awu-dam.org/trath/90/turath90-018.htm
- محمدمشرف مرسى الرياضة
- البلد :
عدد المساهمات : 7229
نقاط تميز العضو : 205043
تاريخ التسجيل : 10/12/2009
موضوع مفيد وجميل جدا ومجهود كبير
دمت لنا وفيا ودام لنا قلمك النير
دمت لنا وفيا ودام لنا قلمك النير
- إسماعيل سعديمدير الموقع
- البلد :
الجنس :
عدد المساهمات : 3758
نقاط تميز العضو : 150714
تاريخ التسجيل : 03/04/2009
أسرّني مرورك شكرا لك أخي محمد
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى