النحاة والحديث النبوي الشريف
27/06/10, 10:18 pm
د. الفجال يكشف عن أسرار كتابه
(ارتكاز الفكر النحوي على الحديث والأثر في كتاب سيبويه)
أثار الأستاذ الدكتور محمود فجال جدلاً كبيرًا بين اللغويين والمهتمين بعلوم النحو واللغة، فقد كشف عن عدم صحة الكثير من الأقوال التي كانت شبه مسلمات عند بعض النحاة، بل ولدى الكثيرين من المهتمين بعلم النحو، حول الاستشهاد بالأحاديث النبوية لدى النحويين.
هنا يوضح د. فجال أسباب الجدال الذي أثير حول كتابه...
* ما الذي دعاك إلى التأليف في قضية الاستشهاد بالحديث النبوي عند النحاة؟
- الذي دعاني هو إحقاق الحقِّ، وإنارة الطريق للسراة السالكين، واستمع لما أقوله لك:
إنني بدأت طلب العلم بقراءة الحديث النبوي وعلومه، وعلم الفقه وأصوله على الشيوخ ذوي العلم الغزير، فأيقنت بمكانة الحديث النبوي في التشريع الإسلامي وأثره في الفقه منذ عصر النبي صلى الله عليه وسلم حتى عصور الأئمة المجتهدين، ورأيت أن القرآن والحديث لهما الأثر الكبير في اتساع دائرة الفقه بأبوابه المختلفة ومذاهبه المتنوعة. وبهرني عنايةُ رواة الحديث في نقدهم الأسانيد والمتون ودقّتُهم وتحريهم، كما أُعجبت بجهود الفقهاء في استنباط الأحكام الشرعية من القرآن والسنة، فجاؤوا بنتائج عجيبة تخدم البشرية في جميع مرافق حياتهم، ومختلف عصورهم، وعملُهم هذا فيه توثيق لعُرى الإسلام، وتثبيت لأركانه.
وفوجئت بمهاجمة السنة، والتشكيك في حجيّتها عن طريق الطَّعن برُواتها من الصحابة والتابعين. وعلى هذا الغرض التقى أعداءُ السُّنة من أمثال (محمود أبو ريّة) في كتابه (أضواء على السنّة المحمّديّة)، مع أعداء الإسلام من المستشرقين في الحضارة الغربية لهدم كلِّ ما يتصل بالحديث والأثر والفقه. من أمثال المستشرق أغناس غولدتسيهر (Goldziher) سنة 1890م، الذي شكك في صحّة الأحاديث، وجاء بعده المستشرق البروفيسور جوزيف شاخت (Joseph Schacht) الذي وصل في بحثه إلى أنّه ليس هناك حديث واحدٌ صحيح. وتبعهما المستشرق الإنجليزي البروفيسور (جب). وهؤلاء وغيرهم قاموا بأخطر دور في تاريخ البحث العلمي فيما يتعلّق بالحديث النبوي وما يتصل به.
وبعد ما توسّعتُ في علم النحو وتخصّصت فيه لاحظتُ أمراً غريباً وهو أن النحويين يستشهدون بالقرآن الكريم، ويكثرون من الشواهد الشعرية، ولفت نظري قلّةُ شواهدهم من السنة النبوية.
وحينما درستُ نشأة النحو، وتاريخَه وأصولَه وجدتُ عبارات يرددونها مثل : تَرَكَ أئمةُ العربية الاحتجاج بالحديث، ومثل: النحويون المتقدمون لم يستشهدوا بالحديث سواء في ذلك البصريون والكوفيون.
ووقفتُ على تصريح الإمام (ابن الضائع) (المتوفى سنة 680هـ) وتلميذه الإمام (أبي حيان) (المتوفى سنة 745 هـ) بأنّ نحاة البصرة والكوفة لم يستدلوا بالحديث على إثبات القواعد الكلية.
وأمّا الإمام (الشاطبي) (المتوفى سنة 790هـ) الذي يستشهد بالحديث الثابت المروي باللفظ فقد قال: (لم نجد أحداً من النحويين استشهد بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يستشهدون بكلام أجلاف العرب وسفهائهم الذين يبولون على أعقابهم، وأشعارهم التي فيها الفحش والخنا، ويتركون الأحاديث الصحيحة..).
هؤلاء الأئمة الثلاثة هم أبرز من تكلَّم في قضية الاحتجاج بالحديث الشريف في ميدان النحو، ووجدت لفيفاً من المُحْدَثين من الأساتذة استقرّ في أذهانهم عدمُ الاحتجاج بالحديث في النحو العربي. فَشَمَّرْتُ عن ساعد الجدّ والبحث للتنقيب عن هذه الفكرة وخوض غمارها لَعَلِّي أصدر بنتائج علمية صحيحة تزيل الشكوك في هذه القضية فتناولتُ أبرزَ شروح الألفية الستة لمؤلفيها: ابن الناظم، وابن أم قاسم، وابن هشام، وابن عقيل، والشاطبي، والأشموني، وعثرت فيها على أكثر من مئة وعشرة أحاديث، فدرست ظاهرة الاستشهاد بالحديث، ودرست هذه الأحاديث دراسة علمية وافية في كتاب أسميته (الحديث النبوي في النحو العربي) وقد نال القبول عند العلماء (والحمد لله). ثم بعد ذلك أخذتُ (شرحَ الكافية) للرضي، فعثرت فيه على أكثر من ستة وسبعين حديثاً، فقمتُ بدَحْض شبهات مانعي الاحتجاج بالحديث لقواعد النحو، ودرستُ هذه الأحاديثَ دراسةً مستفيضة في كتاب أسميته (السير الحديث إلى الاستشهاد بالحديث في النحو العربي) ونال هذا الكتاب القبول عند العلماء الأفذاذ أيضاً (والحمد لله).
ثم عرَّجتُ على (كتاب سيبويه) فوقع نظري على أمثلة واردة في كتب السنة النبوية من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وكلام أصحابه رضي الله عنهم ولكنَّ سيبويه ذكرها من دون أن يعزوَها، فعجبتُ من صنيعه فبحثتُ عن السبب فعرفتُ أنّه الورع الذي يَتَحَلَّى به سيبويه؛ خشيةَ أن يكون ما يحكيه مرويًّا بالمعنى، فيندرج تحت قوله صلى الله عليه وسلم: (من كَذَبَ عليّ متعمّدًا...) الحديثَ. وربما يقال له: أخطأتَ يا سيبويه. فكان أحيانًا يعزوه للعرب - وهو صادق- إذ النبيُّ صلى الله عليه وسلم سيّدُ العرب وعلى رأسهم في الفصاحة والبلاغة، وأحياناً يقول: قال، ثم يذكر المثال.
كما عرفتُ من منهج سيبويه أنه لم ينسب الشعر إلى قائله، وأن ما نجده من نسبة إنما هو من صنيع الإمام (الجرميّ) وشُرَّاح كتابه، وسبب ذلك يعود إلى أمانة سيبويه وكونه ثقةً، فقد كَرهَ أن ينسب الشعرَ لما رآه من اختلاف الرواة في نسبة البيت إلى أكثر من شاعر. وقد بلغ عددُ ما وقفت عليه أكثر من مئة وثلاثين ما بين حديث وأثر، من كلمة ذات دلالة، أو كلمتين أو جملة.
فقمتُ بعمل دراسة لحياة سيبويه العلمية، ولمنهجه في كتابه، ودرست ما وافق من أمثلته ما ورد في كتب السنة النبوية في كتاب أسميته: (ارتكاز الفكر النحوي على الحديث والأثر في كتاب سيبويه).
وبعد البحث الدقيق، والمناقشات الجادّة في مؤلّفاتي الثلاثة، انكشف لي بوضوح أنّه لا يوجد في القدامى مَنْ رفضَ الاحتجاج بالحديث في علمَي النحو والصرف، كما أنّهم لم يثيروا هذه المسألة البتة، ونحن نتحدّى أن يكون لسيبويه والخليل والمبرِّد، ومن كان في طبقتهم قولٌ في ذلك، من قريب أو بعيد، بعبارة أو إشارة، بتصريح أو تلويح، بل لم ينطقوا بِبِنتِ شَفَة، ولم يأثموا في الخوض في منع الاستشهاد بالحديث.
أمّا التقسيم الذي قسمه العلماء إلى ثلاثة اتجاهات:
الاتجاه الأوّل: الاستشهاد بالحديث في النحو مطلقًا.
الاتجاه الثاني: المنع من الاستشهاد مطلقًا.
الاتجاه الثالث: التوسُّط بين الاتجاهين.
فهذا التقسيم كان أخيرًا بسبب ما أثاره (ابنُ الضائع) و(أبو حيّان). وقد ناقشتُ ذلك، ودحضتُ شبههما التي تعلّقا بها بما فيه الكفاية. كما ظهر لكلِّ ذي عَينين أنّ الذين احتجُّوا بالحديث الشريف بكثرة في مسائل النحو والصرف هم من أئمته، أو من المطّلعين عليه، والمشتغلين به.
وأمّا الذين لم يحتجّوا به بكثرة، فليس لهم نصيبٌ في هذا الشأن، وليسوا من أرباب هذا الفن، وبضاعتهم فيه قليلة.
أمّا ادّعاء عدم احتجاج سيبويه والنحاة من بعده بالحديث والأثر فهذا غير وارد. وإنكار وجود السنّة في كتاب سيبويه كإنكار وجود الشمس الساطعة في وسط النهار.
وهذا كما قال المتنبي:
وليس يصحُّ في الأفهام شيءٌ ** إذا احتاجَ النهارُ إلى دليل
وأمّا الشُّبه التي أثاروها فهي شُبَهٌ واهية مبنيّةٌ على جهل تامّ بكتب السنّة النبوية، وأسلوب المحدثين في نقل التراث.
وأنا أقرر ما قاله الثِّقات: إنَّ كلامَ الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابِه رضي الله عنهم ثروةٌ من الكلام العربي، ورصيد ضخم، ومعجم لا يضاهيه معجم عُنيَ به أجدادنا العلماء عناية فائقة فمن الواجب علينا أن نلقِّن أبناءنا في قاعات الدرس النحوي مرتكزين على المادة التي تلقّاها الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحببهم فيها؛ ليتعلّقوا بأمثلتها وشواهدها.
والمحروم حقًّا من كان هذا الخير بين يديه، ونفسُه لا تطاوعه أن ينهل من معينه العذب الزلال.
* ذكرتَ أنّ الحديثَ النبوي أصلٌ من أصول النحو، فما هي الأصول التي اعتمد عليها النحاة في تقعيد القواعد؟
- كانت العرب تتكلَّم على سجيّتها وطباعها، لا تتعثّر ألسنتها في خطأ، ولا يشوبُ صفوَ كلامها لحنٌ، وعَرَفَتْ مواقع كلامها، وقامت في عقولها علَلُه، وإن لم ينقل ذلك عنها، ولما انتشر الإسلام، ودخل الناسُ من عرب وعجم في دين الله أفواجاً، أخذ اللحنُ يدبّ إلى الألسنة؛ لاختلاط العرب بغيرهم، فهبَّ العلماءُ لدفع هذا اللحن، ولتقويم الألسنة، فكان لا بدّ من وضع قواعد الفكر النحوي لتَعْصمَ الألسنةَ من الزلل، وتُمكِّن غير العربيّ من التحدُّث بالفصحى.
وتعني كلمة (أصول النحو) أدلةَ النحو. وأصولُ النحو الغالبةُ ثلاثةٌ:
السماع، والإجماع، والقياس.
وكلٌّ من الإجماع والقياس لا بدَّ له من مستند من السماع.
الأصل الأول: السماع، والمقصود منه ما ثبت في كلام مَنْ يوثق بفصاحته.
ويشمل ما يأتي:
1- القرآن الكريم متواتره وآحاده وشواذّه.
2- السنة. والمراد بها كلام النبي صلى الله عليه وسلم وهو (المرفوع)، وكلام أصحابه رضي الله عنهم وهو (الموقوف)، وكلام التابعين الذين لم تتغيّر ألسنتهم وهو (المقطوع)، قال الإمام عمر البيقوني:
وما أُضيفَ للنبي (المرفوعُ) ** و ما لتابع هو (المقطوعُ)
وما أضفتَه إلى الأصحابِ منْ ** قول وفعل فهو (موقوفٌ) زُكنْ
3- كلام العرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وفي زمنه وبعدَه نظمًا ونثرًا عن مسلم وغير مسلم.
الأصل الثاني: الإجماع. والمقصودُ منه إجماعُ نحاة البَلَدين، يعني علماء البصرة والكوفة.
الأصل الثالث: القياس، وهو حَمْلُ غير المنقول على المنقول إذا كان في معناه. وقد عُنيَ النحاة بالقياس منذ بدء الدرس النحوي، وهو معظم أدلة النحو، والمعوّل عليه في غالب مسائله، وللكسائيّ قصيدةٌ مطلعها:
إنّما النحوُ قياسٌ يُتَّبَعْ ** وبه في كلِّ أمر يُنْتَفَعْ
إذن السنَّةُ هي أصلٌ أصيلٌ من أصول الاحتجاج؛ لأنّه لا يُتَصوّر نحوٌ بلا اعتماد على الحديث والأثر، بل لا يُقبل نحوٌ من دون اعتماد عليهما، وإلّا سيكون في النحو ثغرةٌ لا يسدّها إلا الحديث والأثر.
* قلتَ: إنّ سيبويه استشهد بالحديث والأثر في (الكتاب) فهل قال أحدٌ من النحاة الأوائل والمعاصرين: إن سيبويه استشهد بهما؟
1- النحاة الأوائل.
لو ذهبنا نتصفَّحُ مصنفاتهم لوجدنا فريقًا كبيرًا منهم ينقلون أمثلةً من كتاب سيبويه ويقيمون أحكاماً نحوية عليها ويُصَدِّرونها بقولٍ يفيد أنها حديث كقولهم : (وفي الحديث)، و(قوله صلى الله عليه وسلم) و(منه الحديث المرفوع)، و(قوله عليه الصلاة والسلام)، و(في الحديث من كلام أبي بكر)، و(من كلام عمر)، و(كما جاء في الخبر)، و(جاء الأثرُ).. إلخ.
من هؤلاء: الفراء، والزَّجّاج، والزَّجّاجي، والفارسي، وابن جني، وابن خروف، وابن عصفور، وأبو البركات الأنباري، والصيمري، وابن يعيش، وابن معط، والرضيّ، وابن مالك، وأبو حيان، وابن هشام، وابن عقيل، والسيوطي، والدماميني، والشيخ خالد الأزهري، والأشموني، وغيرهم فقد استشهد هؤلاء بأحاديث ذكرها سيبويه في كتابه.
وفي هذا دليل قاطع واعتراف بأنَّ النحويين الأوائل يُسَلِّمون بأنّ سيبويه استدلّ بالحديث النبوي وبكلام الصَّحْب في كتابه.
2- النحاة المُحْدَثون:
أ- قال الأستاذ عثمان فكي في بحثه (الاستشهاد في النحو العربي) (57): عثرت على ثلاثة أحاديث في كتاب سيبويه، وعدّه أوّل من احتجّ بالحديث من النحاة.
ب- ذكر الأستاذ أحمد راتب النّفَّاخ في (فهرس شواهد سيبويه) (57-58) ستة أحاديث في كتاب سيبويه.
ج- د. محمود حسني محمود في بحثه (احتجاج النحويين بالحديث) أوصل ما استشهد به سيبويه من الأحاديث إلى اثني عشر حديثاً.
د- أفاد د. محمد ضاري حمادي في كتابه (الحديث النبوي الشريف وأثره في الدراسات اللغوية والنحوية) (346) أن سيبويه استشهد ببعض الأحاديث، ولم يخرج عمن سبقه.
هـ- ذكر الأستاذ علي النجدي ناصف في كتابه (سيبويه إمام النحاة) (210) أن سيبويه استشهد بخمسة أحاديث في كتابه.
و- ذكر الأستاذ عبد السلام هارون في (فهارس الكتاب) (32) أن سيبويه استشهد بسبعة أحاديث.
ز- وقالت د. خديجة الحديثي في كتابها (موقف النحاة من الاحتجاج بالحديث) (50): أما الفريق الثالث من النحاة المحتجين بالحديث فهو سيبويه.
ح- كتب د. السيد رزق الطويل مقالات في مجلة الأزهر الجزء (61) تحت عنوان (إمام النحاة وقضية الاستشهاد بالحديث) فقال: إن سيبويه استشهد في كتابه بعدد من الأحاديث تعدُّ على أصابع اليدين، أو تزيد قليلاً، وقد تنقص.
ط- أوصل د. إسماعيل فهمي عبد الله عدَّة ما استشهد به سيبويه في بحثه الموجز (الحديث النبوي في كتاب سيبويه) (لم يطبع) إلى ثلاثين حديثًا مستفيدًا مما ذكره غيره من الباحثين.
* هل استشهد سيبويه بالحديث والأثر في كتابه المسمى ب(الكتاب)؟
- الإجابة عن هذا السؤال دقيقة جدًّا.
نعم سيبويه استشهد بالحديث والأثر في (الكتاب) ولكنه لم يعزُ حديثًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أثرًا إلى أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم.
ولا نملك أن نقول: إن سيبويه لم يستشهد بالحديث والأثر؛ لأن الأمانة العلمية تملي علينا أن نتحلَّى بالدِّقة التامّة في تحليلنا للنصوص وفهمها، وفي حكمنا ب(نعم) أو (لا).
لقد وقفتُ في كتاب سيبويه على أحاديثَ ثابتة، وعبارات موجودة في كتب السنة النبوية.
والقولُ بأن سيبويه لم يستشهد بالحديث قولٌ متهافتٌ يتهاوى أمام قوّةِ الحقيقة ووضوحها. أليس كتابُ سيبويه متخصصًا في إيراد كلام العرب؟
إذن لا يستطيع إمامُ النُّحاة أن يتركَ كلامَ النبي صلى الله عليه وسلم وكلام صحبه مادام يتكلّم في علم العربية؛ لأنهما من أوثق كلام العرب؛ لأن الحديث يفرض نفسه على إمام النحاة، وعلى علماء العربية قاطبة؛ لأنهم بحاجة إليه، وليس هو بحاجة إليهم.
قال الإمام (أبو العباس ثعلب): (السنَّةُ تقضي على اللغة، واللُّغة لا تقضي على السنَّة) والسنّة تشمل الأحاديث النبوية والآثار.
وقال الإمام (ابن جني): (ألا ترى إلى ما في القرآن وفصيح الكلام من كثرة الحذوف).
وقال (الزمخشري) في (المفصّل) في (باب الإدغام) حينما قال عن الحروف الستة الزائدة عن التسعة والعشرين حرفًا: (ستة مأخوذ بها في القرآن وكلِّ كلام فصيح).
فكلام الإمامين (وكلّ كلام فصيح) شمل كلام النبي صلى الله عليه وسلم وكلام أصحابه، ونثر العرب وشعرهم المحتج به.
وما دام كتابُ سيبويه موئلَ النحاة ومرجعَهم، وقد ضمّنه ضوابطَ لغة العرب، وقد خامر الحديثُ النبوي لُبَّ سيبويه إذ كان الحديثُ النبويُّ أوّلَ مبتغاه في بدء طلبه للعلم فلا ينازعني شكٌّ أنّه قد جعل الحديث النبويّ والأثر أحدَ أدلته، وإن لم يصرّح بذلك؛ لأنني عثرتُ على أمثلة كثيرة، وألفاظ وافرة واردة في كتب السنة منثورة في شواهد كتاب سيبويه وأمثلته.
أذكر منها ثلاثة أمثلة :
1- قال في (الكتاب) (3 : 236) في مبحث الصفة: (كما قال: لا يدخلُ الجنةَ إلا نفسٌ مسلمةٌ) اهـ.
هذا لم يعزُه سيبويه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في (صحيح البخاري) (378) و(جامع الترمذي) (871) وقد نصَّ الإمامُ الزَّجاجُ على أنّه حديث.
2- قال في (الكتاب) (1 : 73) في مبحث التنازع: (ومثل ذلك: ونخلع ونترك من يفجُرُك) اهـ.
هذا لم ينسبه سيبويه إلى (عمر) رضي الله عنه وهو في (المصنف) لابن أبي شيبة (4 : 518) من دعاء عمر، رضي الله عنه.
وقد نصَّ الإمام أبو البركات الأنباري على أنه حديث.
3- قال في (الكتاب) (3 : 268) في مبحث الحكاية: (كما قال: إن الله ينهاكم عن قيل وقال) اهـ.
هذا لم يرفعه سيبويه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو من حديث المغيرة بن شعبة مرفوعاً وهو في صحيحي البخاري ومسلم ومسند أحمد، ومسند الشهاب (1088). وقد نصّ الفراء، وأبو البركات، وابن عصفور، وابن يعيش وابن مالك والسيوطي وغيرهم في كتبهم النحوية على أنّه حديثٌ، فهؤلاء النحاة هم الذين أثبتوا الحديث وهم ينقلونه عن سيبويه.
والأمثلة على ذلك كثيرة ذكرتُها في كتابي (ارتكاز الفكر النحوي على الحديث والأثر في كتاب سيبويه) فارجع إليه.
أمّا الأقوال التي نَسبت إلى (الكتاب) ومؤلّفه البعد من الحديث، والنفور من اعتماده فهي أقوال متهافتة تتهاوى أمام قوة الحقيقة ووضوحهـا. كمـا أفـاد د. محمـد ضاري حمادي في كتابه
(الحديث النبوي الشريف وأثره في الدراسات اللغوية والنحوية) (346).
http://www.iwan7.com/t641.html
(ارتكاز الفكر النحوي على الحديث والأثر في كتاب سيبويه)
أثار الأستاذ الدكتور محمود فجال جدلاً كبيرًا بين اللغويين والمهتمين بعلوم النحو واللغة، فقد كشف عن عدم صحة الكثير من الأقوال التي كانت شبه مسلمات عند بعض النحاة، بل ولدى الكثيرين من المهتمين بعلم النحو، حول الاستشهاد بالأحاديث النبوية لدى النحويين.
هنا يوضح د. فجال أسباب الجدال الذي أثير حول كتابه...
* ما الذي دعاك إلى التأليف في قضية الاستشهاد بالحديث النبوي عند النحاة؟
- الذي دعاني هو إحقاق الحقِّ، وإنارة الطريق للسراة السالكين، واستمع لما أقوله لك:
إنني بدأت طلب العلم بقراءة الحديث النبوي وعلومه، وعلم الفقه وأصوله على الشيوخ ذوي العلم الغزير، فأيقنت بمكانة الحديث النبوي في التشريع الإسلامي وأثره في الفقه منذ عصر النبي صلى الله عليه وسلم حتى عصور الأئمة المجتهدين، ورأيت أن القرآن والحديث لهما الأثر الكبير في اتساع دائرة الفقه بأبوابه المختلفة ومذاهبه المتنوعة. وبهرني عنايةُ رواة الحديث في نقدهم الأسانيد والمتون ودقّتُهم وتحريهم، كما أُعجبت بجهود الفقهاء في استنباط الأحكام الشرعية من القرآن والسنة، فجاؤوا بنتائج عجيبة تخدم البشرية في جميع مرافق حياتهم، ومختلف عصورهم، وعملُهم هذا فيه توثيق لعُرى الإسلام، وتثبيت لأركانه.
وفوجئت بمهاجمة السنة، والتشكيك في حجيّتها عن طريق الطَّعن برُواتها من الصحابة والتابعين. وعلى هذا الغرض التقى أعداءُ السُّنة من أمثال (محمود أبو ريّة) في كتابه (أضواء على السنّة المحمّديّة)، مع أعداء الإسلام من المستشرقين في الحضارة الغربية لهدم كلِّ ما يتصل بالحديث والأثر والفقه. من أمثال المستشرق أغناس غولدتسيهر (Goldziher) سنة 1890م، الذي شكك في صحّة الأحاديث، وجاء بعده المستشرق البروفيسور جوزيف شاخت (Joseph Schacht) الذي وصل في بحثه إلى أنّه ليس هناك حديث واحدٌ صحيح. وتبعهما المستشرق الإنجليزي البروفيسور (جب). وهؤلاء وغيرهم قاموا بأخطر دور في تاريخ البحث العلمي فيما يتعلّق بالحديث النبوي وما يتصل به.
وبعد ما توسّعتُ في علم النحو وتخصّصت فيه لاحظتُ أمراً غريباً وهو أن النحويين يستشهدون بالقرآن الكريم، ويكثرون من الشواهد الشعرية، ولفت نظري قلّةُ شواهدهم من السنة النبوية.
وحينما درستُ نشأة النحو، وتاريخَه وأصولَه وجدتُ عبارات يرددونها مثل : تَرَكَ أئمةُ العربية الاحتجاج بالحديث، ومثل: النحويون المتقدمون لم يستشهدوا بالحديث سواء في ذلك البصريون والكوفيون.
ووقفتُ على تصريح الإمام (ابن الضائع) (المتوفى سنة 680هـ) وتلميذه الإمام (أبي حيان) (المتوفى سنة 745 هـ) بأنّ نحاة البصرة والكوفة لم يستدلوا بالحديث على إثبات القواعد الكلية.
وأمّا الإمام (الشاطبي) (المتوفى سنة 790هـ) الذي يستشهد بالحديث الثابت المروي باللفظ فقد قال: (لم نجد أحداً من النحويين استشهد بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يستشهدون بكلام أجلاف العرب وسفهائهم الذين يبولون على أعقابهم، وأشعارهم التي فيها الفحش والخنا، ويتركون الأحاديث الصحيحة..).
هؤلاء الأئمة الثلاثة هم أبرز من تكلَّم في قضية الاحتجاج بالحديث الشريف في ميدان النحو، ووجدت لفيفاً من المُحْدَثين من الأساتذة استقرّ في أذهانهم عدمُ الاحتجاج بالحديث في النحو العربي. فَشَمَّرْتُ عن ساعد الجدّ والبحث للتنقيب عن هذه الفكرة وخوض غمارها لَعَلِّي أصدر بنتائج علمية صحيحة تزيل الشكوك في هذه القضية فتناولتُ أبرزَ شروح الألفية الستة لمؤلفيها: ابن الناظم، وابن أم قاسم، وابن هشام، وابن عقيل، والشاطبي، والأشموني، وعثرت فيها على أكثر من مئة وعشرة أحاديث، فدرست ظاهرة الاستشهاد بالحديث، ودرست هذه الأحاديث دراسة علمية وافية في كتاب أسميته (الحديث النبوي في النحو العربي) وقد نال القبول عند العلماء (والحمد لله). ثم بعد ذلك أخذتُ (شرحَ الكافية) للرضي، فعثرت فيه على أكثر من ستة وسبعين حديثاً، فقمتُ بدَحْض شبهات مانعي الاحتجاج بالحديث لقواعد النحو، ودرستُ هذه الأحاديثَ دراسةً مستفيضة في كتاب أسميته (السير الحديث إلى الاستشهاد بالحديث في النحو العربي) ونال هذا الكتاب القبول عند العلماء الأفذاذ أيضاً (والحمد لله).
ثم عرَّجتُ على (كتاب سيبويه) فوقع نظري على أمثلة واردة في كتب السنة النبوية من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وكلام أصحابه رضي الله عنهم ولكنَّ سيبويه ذكرها من دون أن يعزوَها، فعجبتُ من صنيعه فبحثتُ عن السبب فعرفتُ أنّه الورع الذي يَتَحَلَّى به سيبويه؛ خشيةَ أن يكون ما يحكيه مرويًّا بالمعنى، فيندرج تحت قوله صلى الله عليه وسلم: (من كَذَبَ عليّ متعمّدًا...) الحديثَ. وربما يقال له: أخطأتَ يا سيبويه. فكان أحيانًا يعزوه للعرب - وهو صادق- إذ النبيُّ صلى الله عليه وسلم سيّدُ العرب وعلى رأسهم في الفصاحة والبلاغة، وأحياناً يقول: قال، ثم يذكر المثال.
كما عرفتُ من منهج سيبويه أنه لم ينسب الشعر إلى قائله، وأن ما نجده من نسبة إنما هو من صنيع الإمام (الجرميّ) وشُرَّاح كتابه، وسبب ذلك يعود إلى أمانة سيبويه وكونه ثقةً، فقد كَرهَ أن ينسب الشعرَ لما رآه من اختلاف الرواة في نسبة البيت إلى أكثر من شاعر. وقد بلغ عددُ ما وقفت عليه أكثر من مئة وثلاثين ما بين حديث وأثر، من كلمة ذات دلالة، أو كلمتين أو جملة.
فقمتُ بعمل دراسة لحياة سيبويه العلمية، ولمنهجه في كتابه، ودرست ما وافق من أمثلته ما ورد في كتب السنة النبوية في كتاب أسميته: (ارتكاز الفكر النحوي على الحديث والأثر في كتاب سيبويه).
وبعد البحث الدقيق، والمناقشات الجادّة في مؤلّفاتي الثلاثة، انكشف لي بوضوح أنّه لا يوجد في القدامى مَنْ رفضَ الاحتجاج بالحديث في علمَي النحو والصرف، كما أنّهم لم يثيروا هذه المسألة البتة، ونحن نتحدّى أن يكون لسيبويه والخليل والمبرِّد، ومن كان في طبقتهم قولٌ في ذلك، من قريب أو بعيد، بعبارة أو إشارة، بتصريح أو تلويح، بل لم ينطقوا بِبِنتِ شَفَة، ولم يأثموا في الخوض في منع الاستشهاد بالحديث.
أمّا التقسيم الذي قسمه العلماء إلى ثلاثة اتجاهات:
الاتجاه الأوّل: الاستشهاد بالحديث في النحو مطلقًا.
الاتجاه الثاني: المنع من الاستشهاد مطلقًا.
الاتجاه الثالث: التوسُّط بين الاتجاهين.
فهذا التقسيم كان أخيرًا بسبب ما أثاره (ابنُ الضائع) و(أبو حيّان). وقد ناقشتُ ذلك، ودحضتُ شبههما التي تعلّقا بها بما فيه الكفاية. كما ظهر لكلِّ ذي عَينين أنّ الذين احتجُّوا بالحديث الشريف بكثرة في مسائل النحو والصرف هم من أئمته، أو من المطّلعين عليه، والمشتغلين به.
وأمّا الذين لم يحتجّوا به بكثرة، فليس لهم نصيبٌ في هذا الشأن، وليسوا من أرباب هذا الفن، وبضاعتهم فيه قليلة.
أمّا ادّعاء عدم احتجاج سيبويه والنحاة من بعده بالحديث والأثر فهذا غير وارد. وإنكار وجود السنّة في كتاب سيبويه كإنكار وجود الشمس الساطعة في وسط النهار.
وهذا كما قال المتنبي:
وليس يصحُّ في الأفهام شيءٌ ** إذا احتاجَ النهارُ إلى دليل
وأمّا الشُّبه التي أثاروها فهي شُبَهٌ واهية مبنيّةٌ على جهل تامّ بكتب السنّة النبوية، وأسلوب المحدثين في نقل التراث.
وأنا أقرر ما قاله الثِّقات: إنَّ كلامَ الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابِه رضي الله عنهم ثروةٌ من الكلام العربي، ورصيد ضخم، ومعجم لا يضاهيه معجم عُنيَ به أجدادنا العلماء عناية فائقة فمن الواجب علينا أن نلقِّن أبناءنا في قاعات الدرس النحوي مرتكزين على المادة التي تلقّاها الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحببهم فيها؛ ليتعلّقوا بأمثلتها وشواهدها.
والمحروم حقًّا من كان هذا الخير بين يديه، ونفسُه لا تطاوعه أن ينهل من معينه العذب الزلال.
* ذكرتَ أنّ الحديثَ النبوي أصلٌ من أصول النحو، فما هي الأصول التي اعتمد عليها النحاة في تقعيد القواعد؟
- كانت العرب تتكلَّم على سجيّتها وطباعها، لا تتعثّر ألسنتها في خطأ، ولا يشوبُ صفوَ كلامها لحنٌ، وعَرَفَتْ مواقع كلامها، وقامت في عقولها علَلُه، وإن لم ينقل ذلك عنها، ولما انتشر الإسلام، ودخل الناسُ من عرب وعجم في دين الله أفواجاً، أخذ اللحنُ يدبّ إلى الألسنة؛ لاختلاط العرب بغيرهم، فهبَّ العلماءُ لدفع هذا اللحن، ولتقويم الألسنة، فكان لا بدّ من وضع قواعد الفكر النحوي لتَعْصمَ الألسنةَ من الزلل، وتُمكِّن غير العربيّ من التحدُّث بالفصحى.
وتعني كلمة (أصول النحو) أدلةَ النحو. وأصولُ النحو الغالبةُ ثلاثةٌ:
السماع، والإجماع، والقياس.
وكلٌّ من الإجماع والقياس لا بدَّ له من مستند من السماع.
الأصل الأول: السماع، والمقصود منه ما ثبت في كلام مَنْ يوثق بفصاحته.
ويشمل ما يأتي:
1- القرآن الكريم متواتره وآحاده وشواذّه.
2- السنة. والمراد بها كلام النبي صلى الله عليه وسلم وهو (المرفوع)، وكلام أصحابه رضي الله عنهم وهو (الموقوف)، وكلام التابعين الذين لم تتغيّر ألسنتهم وهو (المقطوع)، قال الإمام عمر البيقوني:
وما أُضيفَ للنبي (المرفوعُ) ** و ما لتابع هو (المقطوعُ)
وما أضفتَه إلى الأصحابِ منْ ** قول وفعل فهو (موقوفٌ) زُكنْ
3- كلام العرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وفي زمنه وبعدَه نظمًا ونثرًا عن مسلم وغير مسلم.
الأصل الثاني: الإجماع. والمقصودُ منه إجماعُ نحاة البَلَدين، يعني علماء البصرة والكوفة.
الأصل الثالث: القياس، وهو حَمْلُ غير المنقول على المنقول إذا كان في معناه. وقد عُنيَ النحاة بالقياس منذ بدء الدرس النحوي، وهو معظم أدلة النحو، والمعوّل عليه في غالب مسائله، وللكسائيّ قصيدةٌ مطلعها:
إنّما النحوُ قياسٌ يُتَّبَعْ ** وبه في كلِّ أمر يُنْتَفَعْ
إذن السنَّةُ هي أصلٌ أصيلٌ من أصول الاحتجاج؛ لأنّه لا يُتَصوّر نحوٌ بلا اعتماد على الحديث والأثر، بل لا يُقبل نحوٌ من دون اعتماد عليهما، وإلّا سيكون في النحو ثغرةٌ لا يسدّها إلا الحديث والأثر.
* قلتَ: إنّ سيبويه استشهد بالحديث والأثر في (الكتاب) فهل قال أحدٌ من النحاة الأوائل والمعاصرين: إن سيبويه استشهد بهما؟
1- النحاة الأوائل.
لو ذهبنا نتصفَّحُ مصنفاتهم لوجدنا فريقًا كبيرًا منهم ينقلون أمثلةً من كتاب سيبويه ويقيمون أحكاماً نحوية عليها ويُصَدِّرونها بقولٍ يفيد أنها حديث كقولهم : (وفي الحديث)، و(قوله صلى الله عليه وسلم) و(منه الحديث المرفوع)، و(قوله عليه الصلاة والسلام)، و(في الحديث من كلام أبي بكر)، و(من كلام عمر)، و(كما جاء في الخبر)، و(جاء الأثرُ).. إلخ.
من هؤلاء: الفراء، والزَّجّاج، والزَّجّاجي، والفارسي، وابن جني، وابن خروف، وابن عصفور، وأبو البركات الأنباري، والصيمري، وابن يعيش، وابن معط، والرضيّ، وابن مالك، وأبو حيان، وابن هشام، وابن عقيل، والسيوطي، والدماميني، والشيخ خالد الأزهري، والأشموني، وغيرهم فقد استشهد هؤلاء بأحاديث ذكرها سيبويه في كتابه.
وفي هذا دليل قاطع واعتراف بأنَّ النحويين الأوائل يُسَلِّمون بأنّ سيبويه استدلّ بالحديث النبوي وبكلام الصَّحْب في كتابه.
2- النحاة المُحْدَثون:
أ- قال الأستاذ عثمان فكي في بحثه (الاستشهاد في النحو العربي) (57): عثرت على ثلاثة أحاديث في كتاب سيبويه، وعدّه أوّل من احتجّ بالحديث من النحاة.
ب- ذكر الأستاذ أحمد راتب النّفَّاخ في (فهرس شواهد سيبويه) (57-58) ستة أحاديث في كتاب سيبويه.
ج- د. محمود حسني محمود في بحثه (احتجاج النحويين بالحديث) أوصل ما استشهد به سيبويه من الأحاديث إلى اثني عشر حديثاً.
د- أفاد د. محمد ضاري حمادي في كتابه (الحديث النبوي الشريف وأثره في الدراسات اللغوية والنحوية) (346) أن سيبويه استشهد ببعض الأحاديث، ولم يخرج عمن سبقه.
هـ- ذكر الأستاذ علي النجدي ناصف في كتابه (سيبويه إمام النحاة) (210) أن سيبويه استشهد بخمسة أحاديث في كتابه.
و- ذكر الأستاذ عبد السلام هارون في (فهارس الكتاب) (32) أن سيبويه استشهد بسبعة أحاديث.
ز- وقالت د. خديجة الحديثي في كتابها (موقف النحاة من الاحتجاج بالحديث) (50): أما الفريق الثالث من النحاة المحتجين بالحديث فهو سيبويه.
ح- كتب د. السيد رزق الطويل مقالات في مجلة الأزهر الجزء (61) تحت عنوان (إمام النحاة وقضية الاستشهاد بالحديث) فقال: إن سيبويه استشهد في كتابه بعدد من الأحاديث تعدُّ على أصابع اليدين، أو تزيد قليلاً، وقد تنقص.
ط- أوصل د. إسماعيل فهمي عبد الله عدَّة ما استشهد به سيبويه في بحثه الموجز (الحديث النبوي في كتاب سيبويه) (لم يطبع) إلى ثلاثين حديثًا مستفيدًا مما ذكره غيره من الباحثين.
* هل استشهد سيبويه بالحديث والأثر في كتابه المسمى ب(الكتاب)؟
- الإجابة عن هذا السؤال دقيقة جدًّا.
نعم سيبويه استشهد بالحديث والأثر في (الكتاب) ولكنه لم يعزُ حديثًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أثرًا إلى أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم.
ولا نملك أن نقول: إن سيبويه لم يستشهد بالحديث والأثر؛ لأن الأمانة العلمية تملي علينا أن نتحلَّى بالدِّقة التامّة في تحليلنا للنصوص وفهمها، وفي حكمنا ب(نعم) أو (لا).
لقد وقفتُ في كتاب سيبويه على أحاديثَ ثابتة، وعبارات موجودة في كتب السنة النبوية.
والقولُ بأن سيبويه لم يستشهد بالحديث قولٌ متهافتٌ يتهاوى أمام قوّةِ الحقيقة ووضوحها. أليس كتابُ سيبويه متخصصًا في إيراد كلام العرب؟
إذن لا يستطيع إمامُ النُّحاة أن يتركَ كلامَ النبي صلى الله عليه وسلم وكلام صحبه مادام يتكلّم في علم العربية؛ لأنهما من أوثق كلام العرب؛ لأن الحديث يفرض نفسه على إمام النحاة، وعلى علماء العربية قاطبة؛ لأنهم بحاجة إليه، وليس هو بحاجة إليهم.
قال الإمام (أبو العباس ثعلب): (السنَّةُ تقضي على اللغة، واللُّغة لا تقضي على السنَّة) والسنّة تشمل الأحاديث النبوية والآثار.
وقال الإمام (ابن جني): (ألا ترى إلى ما في القرآن وفصيح الكلام من كثرة الحذوف).
وقال (الزمخشري) في (المفصّل) في (باب الإدغام) حينما قال عن الحروف الستة الزائدة عن التسعة والعشرين حرفًا: (ستة مأخوذ بها في القرآن وكلِّ كلام فصيح).
فكلام الإمامين (وكلّ كلام فصيح) شمل كلام النبي صلى الله عليه وسلم وكلام أصحابه، ونثر العرب وشعرهم المحتج به.
وما دام كتابُ سيبويه موئلَ النحاة ومرجعَهم، وقد ضمّنه ضوابطَ لغة العرب، وقد خامر الحديثُ النبوي لُبَّ سيبويه إذ كان الحديثُ النبويُّ أوّلَ مبتغاه في بدء طلبه للعلم فلا ينازعني شكٌّ أنّه قد جعل الحديث النبويّ والأثر أحدَ أدلته، وإن لم يصرّح بذلك؛ لأنني عثرتُ على أمثلة كثيرة، وألفاظ وافرة واردة في كتب السنة منثورة في شواهد كتاب سيبويه وأمثلته.
أذكر منها ثلاثة أمثلة :
1- قال في (الكتاب) (3 : 236) في مبحث الصفة: (كما قال: لا يدخلُ الجنةَ إلا نفسٌ مسلمةٌ) اهـ.
هذا لم يعزُه سيبويه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في (صحيح البخاري) (378) و(جامع الترمذي) (871) وقد نصَّ الإمامُ الزَّجاجُ على أنّه حديث.
2- قال في (الكتاب) (1 : 73) في مبحث التنازع: (ومثل ذلك: ونخلع ونترك من يفجُرُك) اهـ.
هذا لم ينسبه سيبويه إلى (عمر) رضي الله عنه وهو في (المصنف) لابن أبي شيبة (4 : 518) من دعاء عمر، رضي الله عنه.
وقد نصَّ الإمام أبو البركات الأنباري على أنه حديث.
3- قال في (الكتاب) (3 : 268) في مبحث الحكاية: (كما قال: إن الله ينهاكم عن قيل وقال) اهـ.
هذا لم يرفعه سيبويه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو من حديث المغيرة بن شعبة مرفوعاً وهو في صحيحي البخاري ومسلم ومسند أحمد، ومسند الشهاب (1088). وقد نصّ الفراء، وأبو البركات، وابن عصفور، وابن يعيش وابن مالك والسيوطي وغيرهم في كتبهم النحوية على أنّه حديثٌ، فهؤلاء النحاة هم الذين أثبتوا الحديث وهم ينقلونه عن سيبويه.
والأمثلة على ذلك كثيرة ذكرتُها في كتابي (ارتكاز الفكر النحوي على الحديث والأثر في كتاب سيبويه) فارجع إليه.
أمّا الأقوال التي نَسبت إلى (الكتاب) ومؤلّفه البعد من الحديث، والنفور من اعتماده فهي أقوال متهافتة تتهاوى أمام قوة الحقيقة ووضوحهـا. كمـا أفـاد د. محمـد ضاري حمادي في كتابه
(الحديث النبوي الشريف وأثره في الدراسات اللغوية والنحوية) (346).
http://www.iwan7.com/t641.html
رد: النحاة والحديث النبوي الشريف
27/06/10, 10:26 pm
النحو والصرف هما الجانب الأقوى في العملية الاجتهادية ؛ إذ لو جمع المجتهد كل العلوم لم يبلغ رتبة الاجتهاد حتى يعلم النحو والصرف فيعرف بالنحو المعاني التي لا سبيل لمعرفتها بغيره وبالصرف أساليب العرب في بناء كلامهم ...
قال الأصمعي : ( إن أخوف ما أخاف على طالب العلم إذا لم يعرف النحو أن يدخل في جملة قول النبي صلى الله عليه وسلم (من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ) ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يلحن فمهما رويت عنه ولحنت فيه كذبت عليه ) .
وقد كان السلف يعرفون قدر العربية .. فهذا حماد بن سلمة يمر بالحسن البصري في الجامع فيدعه ويذهب إلى أصحاب العربية يتعلم منهم .
ومن الموضوعات التي حمي الوطيس فيها بين النحاة موضوع الاحتجاج بالحديث الشريف في النحو ؛ إذ رفض الاستشهاد طائفة و كانت حجتهم هي :
1/ جواز الرواية بالمعنى .
2/ كثرة وقوع اللحن في الأحاديث ؛ لأن كثيرا من الرواة كانوا غير
عرب ..
و مذهب جواز الرواية بالمعنى هو مذهب الجمهور .
ودليلهم :ما اشتهر من قول الصحابة : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا ونهانا عن كذا .
قال الرامهرمزي : قد دل قول الشافعي على أنه يسوغ للمحدث أن يأتي بالمعنى دون اللفظ إذا كان عالما بلغات العرب , ووجوه خطابها , بصيرا بالمعاني والفقه , عالما بما يحيل المعنى , وما لا يحيله فإنه إذا كان بهذه الصفة جاز له نقل اللفظ , فإنه يحترز بالفهم عن تغيير المعاني وإزالة أحكامها , ومن لم يكن بهذه الصفة كان أداء اللفظ له لازما , والعدول عن هيئة ما يسمعه عليه محظورا .
ولكن الفريق الآخر يقول : إن هذا التعليل عليل !!
فالنقلُ بالمعنى إنما كان في الصدر الأول , قبل تدوينه في الكتب , وقبل فساد اللغة , وغايته تبديل لفظ بلفظ , يصح الاحتجاج به .
وأما إدعاء وقوع اللحن في الحديث النبوي فباطل ؛ لأن ذلك يمكن أن يتخرج على وجه من الوجوه النحوية الصحيحة ,أو يتخرج على لغة عربية غير مشهورة .
والقول بأن في رواة الحديث أعاجم قول لا يعتد به ؛ لأن ذلك يقال في رواة الشعر والنثر , اللذيْن يحتج بهما , فإن فيهم الكثير من الأعاجم .
وعندي : أن قول : ( في سند الحديث أعاجم ) قول لا يصح بإطلاقه بل لابد من النظر في السند وتتبع طرقه ؛ إذ ربما يكون في أحد طرقه عجمي وفي الطريق الأخرى عرب أقحاح ومن ثَمَّ الحكم على كل حديث على حدة .وكذلك تتبع مرويات هذا الراوي هل في أغلب مروياته مخالفة لظاهر الإعراب أم لا ؟
فلربما عجمي أفصح من ألف عربي ! أليس سيبويه عجمي وهو كبير الفصحاء ؟!
ومثال ذلك حديث : ( من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر ) فقد جاء من طرق كثيرة وبعضها ثلاثي السند كل الرواة فيه فصحاء .!!
ويدل هذا الحديث على القاعدة النحوية إذا حُذف التمييز جاز في العدد الوجهان .
وما أدري لماذا يحتج بعض النحاة كأبي حيان الأندلسي وغيره ببعض النثر الذي يأتي عن طريق رواة حُكم على بعضهم بالكذب , ويتركون الاحتجاج بالحديث النبوي ؟!!
ولكن السؤال هنا هل اللغويون القدماء لم يحتجوا بالحديث النبوي ؟!
قال السيوطي : قال أبو الحسن الشاري :
( ومذهبي ومذهب شيخي أبي ذر الخُشني وأبي الحسن ابن خروف أن الزبيدي أخل بكتاب العين كثيرا لحذفه شواهد القرآن والحديث , وصحيح أشعار العرب منه .. ولما علم ذلك الإمام التياني عمل كتابه (فتح العين ) وأتى فيه بما في العين من صحيح اللغة .. دون إخلال بشيء من شواهد القرآن والحديث .. )
فهذا إمام اللغويين كلهم ( الخليل بن أحمد ) كان يستشهد في كتابه العين بالحديث ..
يقول الدكتور محمود فجال :
( ويمكن أن نقول : إنه لا يختلف موقف النحاة عن موقف اللغويين ؛ إذ لا يعقل أن يستشهد الخليل مثلا بالحديث في اللغة , ثم لا يستشهد به في النحو , والنحو واللغة صنوان , يخرجان من أصل واحد . وإن كانت شواهد النحاة من الحديث ليست في غزارة شواهد اللغويين وكثرتها , فهي قليلة بالنسبة إليها وبخاصة عند النحاة القدماء ) .
وقد مر الاحتجاج بالحديث في النحو بمراحل فلجأ علماء المرحلة الأولى إلى تأويل الأحاديث ..
و في المرحلة الثانية انقسم علماؤه إلى مؤيد ومعارض .. و توسط فريق ثالث , فرأى أن من الممكن الاحتجاج ببعض الحديث دون بعض .
فممن ذهب إلى صحة الاحتجاج بالحديث النبوي في النحو العربي
قال ابن الطيب : (... منهم : الصفار والشريف الغرناطي والشريف الصقلي) وقال ابن الطيب أيضا : (ذهب إلى الاحتجاج به والاستدلال بألفاظه وتراكيبه جمع من الأئمة , منهم : شيخا هذه الصناعة وإماماها الجمالان: ابنا مالك وهشام والجوهري وصاحب البديع والحريري وابن سيدَة وابن فارس وابن خروف وابن جني وأبو محمد عبدالله بن بري والسهيلي .. وغيرهم مما يطول ذكره . .)
نقل البغدادي –صاحب خزانة الأدب- كلامَ البدر الدماميني من شرح التسهيل المسمى : (تعليق الفرائد على تسهيل الفوائد ) :
( وقد أجريت ذلك لبعض مشايخنا فصوب رأي ابن مالك فيما فعله بناء على أن اليقين ليس بمطلوب في هذا الباب , وإنما المطلوب غلبة الظن الذي هو مناط الأحكام الشرعية ... ولا يخفى أنه يغلب على الظن أن ذلك المنقول المحتج به لم يُبدّل ؛ لأن الأصل عدم التبديل , لا سيما والتشديد في الضبط والتحري في نقل الأحاديث شائع بين النقلة والمحدثين . ومن يقول منهم بجواز النقل بالمعنى فإنما هو عنده بمعنى التجويز العقلي الذي لا ينافي وقوع نقيضه , فلذلك تراهم يتحرون في الضبط ويتشددون , مع قولهم بجواز النقل بالمعنى .)
قال ابن الصلاح : إن هذا الخلاف لا نراه جاريا ولا أجراه الناس – فيما نعلم – فيما تضمنته بطون الكتب , فليس لأحد أن يغير لفظ شيء من كتاب مصنف , ويثبت فيه لفظا آخر .
يقول د. فجال : (ولو صح أن القدماء لم يستشهدوا بالحديث فليس معناه أنهم كانوا لا يجيزون الاستشهاد به ؛ إذ لا يلزم من عدم استدلالهم بالحديث عدم صحة الاستدلال به , فسيبويه مثلا إذا ذهبنا نقرأ كتابه ( الكتاب ) فلن نجد فيه كلاما رفعه للنبي صلى الله عليه وسلم ولا مرة واحدة , وفي الكتاب نصوص كثيرة توافق الاحاديث النبوية . وقد أحصيت ثمانية نصوص منها , ولكن سيبويه لم يستشهد بها على أنها أحاديث من النبي صلى الله عليه وسلم بل على أنها من كلام العرب... والقدامى لم يثيروا هذه القضية ولم يناقشوا مبدأ الاحتجاج بالحديث وبالتالي لم يصرحوا برفض الاستشهاد به , وإنما هو استنتاج من المتأخرين الذين لاحظوا – خطأ – أن القدامى لم يستشهدوا بالحديث فبنوا عليه أنهم يرفضون الاستشهاد به ثم حاولوا تعليل ذلك ).
قال ابن الطيب : ( لا نعلم أحدا من علماء العربية خالف العلماء في الاحتجاج بالحديث الشريف إلا ما أبداه الشيخ أبو حيان في شرح التسهيل , وأبو الحسن ابن الضائع في شرح الجمل وتابعهما على ذلك الجلال السيوطي – رحمه الله – فأولع بنقل كلامهما , وألهج به في كتبه واعتنى باستيفائه في كتابه الموسوم بـ (الاقتراح في علم أصول النحو )...
(قال أبو الطيب : وأما ادعاء اللحن في الحديث فهو باطل ؛ لأنه إن أراد اللحن الذي هو الخطأ في الإعراب بحيث لايتخرج على وجه من الوجوه , فهذا لا وجود له في شيء من الأحاديث أصلا , وإن أراد أنه على خلاف الظاهر كنصب الجزأين بــ (إن)ونحوه من الاحاديث الواردة على لغة من اللغات غير المشهورة فهذا لا يضر ؛ لأن القران العظيم – وهو متواتر – فيه آيات على خلاف الظاهر في الإعراب ..)
قال سعيد الأفغاني :
(ولا عجب في أن يتدارك المتأخرون ما فات المتقدمون , بل إن ذلك هو المنتظر المعقول ؛ إذ كان العالم من الأوائل يعلم روايات محدودة , وخيرهم من صنف مفردات اللغة في موضوع واحد كالأصمعي مثلا . ثم جاءت طبقة بعدهم وصل إليها كل ما صنف السابقون فكانت أوسع إحاطة , ثم جاءت طبقة بعد طبقة وألفت المعاجم بكل ما اطلع عليه أصحابها من تصانيف ونصوص غاب أكثرها عن الأولين ... ولو كانت هذه الثروة في أيدي الأقدمين كأبي عمرو بن العلاء والأصمعي وسيبويه لعضوا عليها بالنواجذ .. ولكانوا أشد المنكرين على أبي حيان جموده وضيق نظرته وانتجاعه الجدب , والخصب محيط به من كل جانب).
وثمة فريق ثالث توسط بين الفريقين ومن أبرز من نهج هذا النهج (أبو إسحاق الشاطبي ) في شرحه للألفية المسمى بـ (المقاصد الشافية في شرح الخلاصة الكافية ) :
(وأما الحديث فعلى قسمين :
أ/ قسم يعتني ناقله بمعناه دون لفظه , فهذا لم يقع به استشهاد أهل اللسان .
ب/ وقسم عُرف اعتناء ناقله بلفظه لمقصود خاص كالأحاديث التي قصد بها بيان فصاحته ككتابه لهمدان وكتابه لوائل بن حُجْر , والأمثال النبوية , فهذا يصح الاستشهاد به في العربية . وابن مالك لم يفصّل هذا التفصيل الضروري الذي لابد منه وبنى الكلام على الحديث مطلقا , ولا أعرف له سلفا إلا (ابن خروف) ؛ فإنه أتى بأحاديث في بعض المسائل حتى قال ابن الضائع : لاأعرف هل يأتي بها مستدلا بها أم هي لمجرد التمثيل ؟! .
http://www.al-maqha.com/t8017.html
قال الأصمعي : ( إن أخوف ما أخاف على طالب العلم إذا لم يعرف النحو أن يدخل في جملة قول النبي صلى الله عليه وسلم (من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ) ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يلحن فمهما رويت عنه ولحنت فيه كذبت عليه ) .
وقد كان السلف يعرفون قدر العربية .. فهذا حماد بن سلمة يمر بالحسن البصري في الجامع فيدعه ويذهب إلى أصحاب العربية يتعلم منهم .
ومن الموضوعات التي حمي الوطيس فيها بين النحاة موضوع الاحتجاج بالحديث الشريف في النحو ؛ إذ رفض الاستشهاد طائفة و كانت حجتهم هي :
1/ جواز الرواية بالمعنى .
2/ كثرة وقوع اللحن في الأحاديث ؛ لأن كثيرا من الرواة كانوا غير
عرب ..
و مذهب جواز الرواية بالمعنى هو مذهب الجمهور .
ودليلهم :ما اشتهر من قول الصحابة : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا ونهانا عن كذا .
قال الرامهرمزي : قد دل قول الشافعي على أنه يسوغ للمحدث أن يأتي بالمعنى دون اللفظ إذا كان عالما بلغات العرب , ووجوه خطابها , بصيرا بالمعاني والفقه , عالما بما يحيل المعنى , وما لا يحيله فإنه إذا كان بهذه الصفة جاز له نقل اللفظ , فإنه يحترز بالفهم عن تغيير المعاني وإزالة أحكامها , ومن لم يكن بهذه الصفة كان أداء اللفظ له لازما , والعدول عن هيئة ما يسمعه عليه محظورا .
ولكن الفريق الآخر يقول : إن هذا التعليل عليل !!
فالنقلُ بالمعنى إنما كان في الصدر الأول , قبل تدوينه في الكتب , وقبل فساد اللغة , وغايته تبديل لفظ بلفظ , يصح الاحتجاج به .
وأما إدعاء وقوع اللحن في الحديث النبوي فباطل ؛ لأن ذلك يمكن أن يتخرج على وجه من الوجوه النحوية الصحيحة ,أو يتخرج على لغة عربية غير مشهورة .
والقول بأن في رواة الحديث أعاجم قول لا يعتد به ؛ لأن ذلك يقال في رواة الشعر والنثر , اللذيْن يحتج بهما , فإن فيهم الكثير من الأعاجم .
وعندي : أن قول : ( في سند الحديث أعاجم ) قول لا يصح بإطلاقه بل لابد من النظر في السند وتتبع طرقه ؛ إذ ربما يكون في أحد طرقه عجمي وفي الطريق الأخرى عرب أقحاح ومن ثَمَّ الحكم على كل حديث على حدة .وكذلك تتبع مرويات هذا الراوي هل في أغلب مروياته مخالفة لظاهر الإعراب أم لا ؟
فلربما عجمي أفصح من ألف عربي ! أليس سيبويه عجمي وهو كبير الفصحاء ؟!
ومثال ذلك حديث : ( من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر ) فقد جاء من طرق كثيرة وبعضها ثلاثي السند كل الرواة فيه فصحاء .!!
ويدل هذا الحديث على القاعدة النحوية إذا حُذف التمييز جاز في العدد الوجهان .
وما أدري لماذا يحتج بعض النحاة كأبي حيان الأندلسي وغيره ببعض النثر الذي يأتي عن طريق رواة حُكم على بعضهم بالكذب , ويتركون الاحتجاج بالحديث النبوي ؟!!
ولكن السؤال هنا هل اللغويون القدماء لم يحتجوا بالحديث النبوي ؟!
قال السيوطي : قال أبو الحسن الشاري :
( ومذهبي ومذهب شيخي أبي ذر الخُشني وأبي الحسن ابن خروف أن الزبيدي أخل بكتاب العين كثيرا لحذفه شواهد القرآن والحديث , وصحيح أشعار العرب منه .. ولما علم ذلك الإمام التياني عمل كتابه (فتح العين ) وأتى فيه بما في العين من صحيح اللغة .. دون إخلال بشيء من شواهد القرآن والحديث .. )
فهذا إمام اللغويين كلهم ( الخليل بن أحمد ) كان يستشهد في كتابه العين بالحديث ..
يقول الدكتور محمود فجال :
( ويمكن أن نقول : إنه لا يختلف موقف النحاة عن موقف اللغويين ؛ إذ لا يعقل أن يستشهد الخليل مثلا بالحديث في اللغة , ثم لا يستشهد به في النحو , والنحو واللغة صنوان , يخرجان من أصل واحد . وإن كانت شواهد النحاة من الحديث ليست في غزارة شواهد اللغويين وكثرتها , فهي قليلة بالنسبة إليها وبخاصة عند النحاة القدماء ) .
وقد مر الاحتجاج بالحديث في النحو بمراحل فلجأ علماء المرحلة الأولى إلى تأويل الأحاديث ..
و في المرحلة الثانية انقسم علماؤه إلى مؤيد ومعارض .. و توسط فريق ثالث , فرأى أن من الممكن الاحتجاج ببعض الحديث دون بعض .
فممن ذهب إلى صحة الاحتجاج بالحديث النبوي في النحو العربي
قال ابن الطيب : (... منهم : الصفار والشريف الغرناطي والشريف الصقلي) وقال ابن الطيب أيضا : (ذهب إلى الاحتجاج به والاستدلال بألفاظه وتراكيبه جمع من الأئمة , منهم : شيخا هذه الصناعة وإماماها الجمالان: ابنا مالك وهشام والجوهري وصاحب البديع والحريري وابن سيدَة وابن فارس وابن خروف وابن جني وأبو محمد عبدالله بن بري والسهيلي .. وغيرهم مما يطول ذكره . .)
نقل البغدادي –صاحب خزانة الأدب- كلامَ البدر الدماميني من شرح التسهيل المسمى : (تعليق الفرائد على تسهيل الفوائد ) :
( وقد أجريت ذلك لبعض مشايخنا فصوب رأي ابن مالك فيما فعله بناء على أن اليقين ليس بمطلوب في هذا الباب , وإنما المطلوب غلبة الظن الذي هو مناط الأحكام الشرعية ... ولا يخفى أنه يغلب على الظن أن ذلك المنقول المحتج به لم يُبدّل ؛ لأن الأصل عدم التبديل , لا سيما والتشديد في الضبط والتحري في نقل الأحاديث شائع بين النقلة والمحدثين . ومن يقول منهم بجواز النقل بالمعنى فإنما هو عنده بمعنى التجويز العقلي الذي لا ينافي وقوع نقيضه , فلذلك تراهم يتحرون في الضبط ويتشددون , مع قولهم بجواز النقل بالمعنى .)
قال ابن الصلاح : إن هذا الخلاف لا نراه جاريا ولا أجراه الناس – فيما نعلم – فيما تضمنته بطون الكتب , فليس لأحد أن يغير لفظ شيء من كتاب مصنف , ويثبت فيه لفظا آخر .
يقول د. فجال : (ولو صح أن القدماء لم يستشهدوا بالحديث فليس معناه أنهم كانوا لا يجيزون الاستشهاد به ؛ إذ لا يلزم من عدم استدلالهم بالحديث عدم صحة الاستدلال به , فسيبويه مثلا إذا ذهبنا نقرأ كتابه ( الكتاب ) فلن نجد فيه كلاما رفعه للنبي صلى الله عليه وسلم ولا مرة واحدة , وفي الكتاب نصوص كثيرة توافق الاحاديث النبوية . وقد أحصيت ثمانية نصوص منها , ولكن سيبويه لم يستشهد بها على أنها أحاديث من النبي صلى الله عليه وسلم بل على أنها من كلام العرب... والقدامى لم يثيروا هذه القضية ولم يناقشوا مبدأ الاحتجاج بالحديث وبالتالي لم يصرحوا برفض الاستشهاد به , وإنما هو استنتاج من المتأخرين الذين لاحظوا – خطأ – أن القدامى لم يستشهدوا بالحديث فبنوا عليه أنهم يرفضون الاستشهاد به ثم حاولوا تعليل ذلك ).
قال ابن الطيب : ( لا نعلم أحدا من علماء العربية خالف العلماء في الاحتجاج بالحديث الشريف إلا ما أبداه الشيخ أبو حيان في شرح التسهيل , وأبو الحسن ابن الضائع في شرح الجمل وتابعهما على ذلك الجلال السيوطي – رحمه الله – فأولع بنقل كلامهما , وألهج به في كتبه واعتنى باستيفائه في كتابه الموسوم بـ (الاقتراح في علم أصول النحو )...
(قال أبو الطيب : وأما ادعاء اللحن في الحديث فهو باطل ؛ لأنه إن أراد اللحن الذي هو الخطأ في الإعراب بحيث لايتخرج على وجه من الوجوه , فهذا لا وجود له في شيء من الأحاديث أصلا , وإن أراد أنه على خلاف الظاهر كنصب الجزأين بــ (إن)ونحوه من الاحاديث الواردة على لغة من اللغات غير المشهورة فهذا لا يضر ؛ لأن القران العظيم – وهو متواتر – فيه آيات على خلاف الظاهر في الإعراب ..)
قال سعيد الأفغاني :
(ولا عجب في أن يتدارك المتأخرون ما فات المتقدمون , بل إن ذلك هو المنتظر المعقول ؛ إذ كان العالم من الأوائل يعلم روايات محدودة , وخيرهم من صنف مفردات اللغة في موضوع واحد كالأصمعي مثلا . ثم جاءت طبقة بعدهم وصل إليها كل ما صنف السابقون فكانت أوسع إحاطة , ثم جاءت طبقة بعد طبقة وألفت المعاجم بكل ما اطلع عليه أصحابها من تصانيف ونصوص غاب أكثرها عن الأولين ... ولو كانت هذه الثروة في أيدي الأقدمين كأبي عمرو بن العلاء والأصمعي وسيبويه لعضوا عليها بالنواجذ .. ولكانوا أشد المنكرين على أبي حيان جموده وضيق نظرته وانتجاعه الجدب , والخصب محيط به من كل جانب).
وثمة فريق ثالث توسط بين الفريقين ومن أبرز من نهج هذا النهج (أبو إسحاق الشاطبي ) في شرحه للألفية المسمى بـ (المقاصد الشافية في شرح الخلاصة الكافية ) :
(وأما الحديث فعلى قسمين :
أ/ قسم يعتني ناقله بمعناه دون لفظه , فهذا لم يقع به استشهاد أهل اللسان .
ب/ وقسم عُرف اعتناء ناقله بلفظه لمقصود خاص كالأحاديث التي قصد بها بيان فصاحته ككتابه لهمدان وكتابه لوائل بن حُجْر , والأمثال النبوية , فهذا يصح الاستشهاد به في العربية . وابن مالك لم يفصّل هذا التفصيل الضروري الذي لابد منه وبنى الكلام على الحديث مطلقا , ولا أعرف له سلفا إلا (ابن خروف) ؛ فإنه أتى بأحاديث في بعض المسائل حتى قال ابن الضائع : لاأعرف هل يأتي بها مستدلا بها أم هي لمجرد التمثيل ؟! .
http://www.al-maqha.com/t8017.html
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى