- محمدمشرف مرسى الرياضة
- البلد :
عدد المساهمات : 7229
نقاط تميز العضو : 205083
تاريخ التسجيل : 10/12/2009
المحكم والمتشابة فى القرآن
03/06/10, 02:27 am
إعداد- مصطفى البصراتي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد
فقد ذكرت فيما سبق معاني المحكم والمتشابه وتفسير آية آل عمران هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ، وانتهيت في المقال السابق إلى توضيح معنى التأويل عند أهل العلم، كما قال بعضهم «والتأويل بمعنى التفسير، وبمعنى العاقبة المجهولة التي لا يعلمها إلا الله، وكلا المعنيين موجود في القرآن»
أما شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله فقد قال في تفسير سورة الإخلاص «وقد كتبت كلام أحمد بألفاظه كما ذكره الخلال في كتاب السنة، وكما ذكره من نقل كلام أحمد بإسناده في الكتب المصنفة في ذلك في غير هذا الموضع، وبيَّن أن لفظ التأويل في الآية إنما أريد به التأويل في لغة القرآن، كقوله تعالى هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ الأعراف ، وعن ابن عباس في قوله هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ تصديق ما وعد في القرآن
وعن قتادة قال تأويله ثوابه وعن مجاهد جزاؤه وعن السُّدِّي عاقبته وعن ابن زيد حقيقته قال بعضهم تأويله ما يؤول إليه أمرهم من العذاب وورود النار
وقوله تعالى بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ يونس ، قال بعضهم تصديق ما أوعدوا به من الوعيد، والتأويل ما يؤول إليه الأمر، وعن الضحاك يعني عاقبة ما وعد الله في القرآن أنه كائن من الوعيد، والتأويل ما يؤول إليه الأمر وقال يوسف الصديق عليه السلام يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ يوسف ، فجعل نفس سجود أبويه وإخوته له تأويل رؤياه
وقال قبل هذا لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا يوسف أي قبل أن يأتيكما التأويل والمعنى لا يأتيكما طعام ترزقانه في المنام؛ لما قال أحدهما إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا يوسف ، إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ في اليقظة قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا الطعام هذا قول أكثر المفسرين، وهو الصواب
فهذا لفظ التأويل في مواضع متعددة كلها بمعنى واحد
وقال الله تعالى فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً النساء
قال مجاهد وقتادة جزاءً وثوابًا، وقال السّدي وابن زيد وابن قتيبة والزجاج عاقبة وعن ابن زيد أيضًا تصديقًا كقوله هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ وكل هذه الأقوال صحيحة والمعنى واحد، وهذا تفسير السلف جميعًا، ومنه قوله سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا الكهف ، فلما ذكر له ما ذكر قال ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا الكهف ، وهذا تأويل فعله، ليس هو تأويل قوله، والمراد به عاقبة هذه الأفعال بما يؤول إليه ما فعلته، من مصلحة أهل السفينة، ومصلحة أبوي الغلام، ومصلحة أهل الجدار
التأويل والتفسير عند قدماء المفسرين
وأما قدماء المفسرين فلفظ التأويل والتفسير عندهم سواء، كما كان ابن جرير الطبري رحمه الله يقول القول في تأويل هذه الآية أي في تفسيرها
ولما كان هذا معنى التأويل عند مجاهد، وهو إمام التفسير جعل الوقف على قوله وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ؛ فإن الراسخين في العلم يعلمون تفسيره، وهذا القول اختيار ابن قتيبة وغيره من أهل السنة
وأما متأخرو المفسرين كالثعلبي فيفرقون بين التفسير والتأويل قال فمعنى التفسير هو التنوير، وكشف المغلق من المراد بلفظه، والتأويل صرف الآية إلى معنىً تحتمله يوافق ما قبلها وما بعدها، وتكلم في الفرق بينهما بكلام ليس هذا موضعه، إلا أن التأويل الذي ذكره هو المعنى الثالث المتأخر
قال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله اختلف العلماء هل التفسير والتأويل بمعنى واحد؟ أم يختلفان؟ فذهب قوم يميلون إلى العربية إلى أنهما بمعنى، وهذا قول جمهور المفسرين المتقدمين وذهب قوم يميلون إلى الفقه إلى اختلافهما، فهؤلاء لا يذكرون للتأويل إلا المعنى الأول، والثاني، وأما التأويل في لغة القرآن فلا يذكرونه، وقد عُرف أن التأويل في القرآن هو الموجود الذي يؤول إليه الكلام، وإن كان ذلك موافقًا للمعنى الذي يظهر من اللفظ، بل لا يُعرف في القرآن لفظ التأويل مخالفًا لما يدل عليه اللفظ، خلاف اصطلاح المتأخرين
والكلام نوعان إنشاء، وإخبار فالإنشاء الأمر والنهي والإباحة، وتأويل الأمر والنهي نفس فعل المأمور، ونفس ترك المحظور، كما في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت «كان رسول الله يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي، يتأولُ القرآن» متفق عليه فكان هذا الكلام تأويل قوله فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ النصر
قال ابن عيينة السنة تأويل الأمر والنهي
فالتفسير من جنس الكلام يفسر الكلام بكلام يوضحه وأما التأويل فهو فعل المأمور، وترك المنهي عنه، ليس هو من جنس الكلام
والنوع الثاني إخبار فإخبار الرب عن نفسه تعالى بأسمائه وصفاته، وإخباره عما ذكره لعباده من الوعد والوعيد، وهذا هو التأويل المذكور في قوله وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ الأعراف ، وهذا قولهم يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ يس ، ومثله قوله انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ المرسلات ، وقوله وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ الملك ، ونظائره متعددة في القرآن
وكذلك قوله أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ يونس ، فإن ما وُعدوا به في القرآن لما يأتهم بعد، وسوف يأتيهم
فالتفسير هو الإحاطة بعلمه، والتأويل هو نفس ما وعدوا به إذا أتاهم، فهم كذبوا بالقرآن الذي لم يحيطوا بعلمه، ولما يأتيهم تأويله
وقد يحيط الناس بعلمه، ولما يأتيهم تأويله، فالرسول يحيط بعلم ما أنزل الله عليه، وإن كان تأويله لم يأت بعد
قال شيخ الإسلام معقبًا على الكلام السابق «وإذا تبين ذلك، فالمتشابه من الأمر لا بد من معرفة تأويله؛ لأنه لا بد من فعل المأمور، وترك المحظور، وذلك لا يمكن إلا بعد العلم، لكن ليس في القرآن ما يقتضي أن في الأمر متشابهًا، فإن الخبر مثل ما أخبر به في الجنة من اللحم واللبن والعسل والماء والحرير والذهب، فإن بين هذا وبين ما في الدنيا تشابهًا في اللفظ والمعنى، ومع هذا فحقيقة ذلك مخالفة لحقيقة هذا، وتلك الحقيقة لا نعلمها نحن في الدنيا، وقد قال الله تعالى فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ السجدة
وفي الحديث الصحيح يقول الله تعالى «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» متفق عليه فهذا الذي وعد الله به عباده المؤمنين لا تعلمه نفس هو من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله، وكذلك وقت الساعة لا يعلمه إلا الله، وأشراطها، وكذلك كيفيات ما يكون فيها من الحساب والصراط، والميزان والحوض، والثواب والعقاب لا يعلم كيفيته إلا الله، فإنه لم يخلق بعدُ حتى تعلمه الملائكة، ولا له نظير مطابق من كل وجه حتى يعلم به، فهو من تأويل المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله
وكذلك ما أخبر به الربُّ عن نفسه مثل استوائه على عرشه، وسمعه وبصره وكلامه وغير ذلك، فإن كيفيات ذلك لا يعلمها إلا الله
جميع ظواهر نصوص القرآن مفهومة لدى المخاطبين
لقد أنزل الله تعالى كتابه بلسان عربي مبين، على نبي من العرب، وخاطب به أول من خاطب أمة عربية؛ كي يكون هاديًا ومرشدًا إلى الحق، وهذا يعني أنه مفهوم لدى المخاطبين به، كي تقوم الحجة، وتنقطع المعذرة
قال ابن جرير الطبري رحمه الله عند كلامه على مراتب البيان، وأن القرآن جاء بأعظمها وأعلاها «فإذا كان كذلك، وكان غير مبين منا عن نفسه مَنْ خاطب غيره بما لا يفهمه عنه المخاطَب كان معلومًا أنه غير جائز أن يخاطب جل ذكره أحدًا من خلقه إلا بما يفهمه المُخاطبُ، ولا يرسل إلى أحد منهم رسولاً برسالة بلسان وبيان لا يفهمه المرسلُ إليه؛ لأن المخاطب والمرسل إليه إن لم يفهم ما خوطب به وأرسل به إليه؛ فحاله قبل الخطاب وقبل مجيء الرسالة إليه وبعده سواء؛ إذ لم يفده الخطاب والرسالة شيئًا كان به قبل ذلك جاهلاً
والله جل ذكره يتعالى عن أن يخاطب خطابًا أو يرسل رسالة لا توجب فائدة لمن خوطب أو أرسلت إليه؛ لأن ذلك فينا من فعل أهل النقص والعبث، والله تعالى عن ذلك متعالٍ، ولذلك قال جل ثناؤه في محكم تنزيله وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ إبراهيم ، وقال لنبيه محمد وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ النحل فغير جائز أن يكون به مهتديًا، من كان بما يهدي إليه جاهلاً
وقد جلى هذه المسألة وفصَّلها ورد على المخالفين لها من وجوه عدة، الإمام ابن تيمية في مجموع الفتاوى، ومن ذلك قوله «والمقصود هنا أنه لا يجوز أن يكون الله أنزل كلامًا لا معنى له، ولا يجوز أن يكون الرسول وجميع الأمة لا يعلمون معناه، كما يقول ذلك من يقوله من المتأخرين، وهذا القول يجب القطع بأنه خطأ، سواء كان مع هذا تأويل للقرآن لا يعلمه الراسخون، أو كان للتأويل معنيان يعلمون أحدهما، ولا يعلمون الآخر، وإذا دار الأمر بين القول بأن الرسول كان لا يعلم معنى المتشابه من القرآن، وبين أن يقال الراسخون في العلم يعلمون؛ كان هذا الإثبات خيرًا من ذلك النفي، فإن معنى الدلائل الكثيرة من الكتاب والسنة وأقوال السلف على أن جميع القرآن مما يمكن علمه وفهمه وتدبره، وهذا مما يجب القطع به، وليس معناه قاطعًا على أن الراسخين في العلم لا يعلمون تفسير المتشابه، فإن السلف قد قال كثير منهم إنهم يعلمون تأويله، منهم مجاهد مع عظم قدره والربيع بن أنس، ومحمد بن جعفر بن الزبير، ونقلوا ذلك عن ابن عباس، وأنه قال أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله»
قالوا والدليل على ما قلناه إجماع السلف، فإنهم فسروا جميع القرآن، وقال مجاهد عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته، أقفه عند كل آية، وأسأله عنها، وتلقوا ذلك عن النبي كما قال أبو عبد الرحمن السلمي حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن عثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا، وكلام أهل التفسير من الصحابة والتابعين شامل لجميع القرآن إلا ما قد يشكل على بعضهم فيقف فيه، لا لأن أحدًا من الناس لا يعلمه، لكن لأنه هو لم يعلمه
وأيضًا فإن الله قد أمر بتدبر القرآن مطلقًا، ولم يستثن منه شيئًا لا يُتدبر، ولا قال لا تدبروا المتشابه، والتدبر بدون الفهم ممتنع، ولو كان من القرآن ما لا يُتدبر لم يُعرف، فإن الله لم يميز المتشابه به بحدٍّ ظاهر حتى يُجتنب تدبره
وهذا أيضًا مما يحتجون به، ويقولون المتشابه أمر نسبي إضافي؛ فقد يشتبه على هذا ما لا يشتبه على غيره، قالوا ولأن الله أخبر أن القرآن بيان وهدًى وشفاء ونور، ولم يستثن منه شيئًا عن هذا الوصف، وهذا ممتنع بدون فهم المعنى، قالوا ولأن من العظيم أن يقال إن الله أنزل على نبيه كلامًا لم يكن يفهم معناه، لا هو ولا جبريل، بل وعلى قول هؤلاء كان النبي يحدث بأحاديث الصفات والقدر والمعاد، ونحو ذلك، مما هو نظير متشابه القرآن عندهم، ولم يكن يعرف معنى ما يقوله، وهذا لا يظن بأقل الناس
وأيضًا فالكلام إنما المقصود به الإفهام، فإذا لم يقصد به ذلك كان عبثًا وباطلاً، والله تعالى قد نزَّه نفسه عن فعل الباطل والعبث، فكيف يقول الباطل والعبث ويتكلم بكلام ينزله على خلقه لا يريد به إفهامهم، وأيضًا فما في القرآن آية إلا وقد تكلم الصحابة والتابعون لهم بإحسان في معناها وبينوا ذلك
الراسخون في العلم يعلمون تفسير المتشابه
وإذا قيل فقد يختلفون في بعض ذلك؟ قيل كما قد يختلفون في آيات الأمر والنهي، وآيات الأمر والنهي مما اتفق المسلمون على أن الراسخين في العلام يعلمون معناها
وهذا أيضًا مما يدل على أن الراسخين في العلم يعلمون تفسير المتشابه، فإن المتشابه قد يكون في آيات الأمر والنهي، كما يكون في آيات الخبر، وتلك مما اتفق العلماء على معرفة الراسخين لمعناها، فكذلك الأخرى، فإنه على قول النفاة لم يعلم معنى المتشابه إلا الله، لا ملك ولا رسول ولا عالم، وهذا خلاف الإجماع في متشابه الأمر والنهي، وأيضًا فلفظ التأويل يكون للمحكم، كما يكون للمتشابه، كما دل القرآن والسنة وأقوال الصحابة على ذلك، وهم يعلمون معنى المحكم، فكذلك معنى المتشابه، وأي فضيلة في المتشابه، حتى ينفرد الله بعلم معناه، والمحكم أفضل منه، وقد بيَّن معناه لعباده، فأي فضيلة في المتشابه، حتى يستأثر الله بعلم معناه، وما استأثر الله بعلمه كوقت الساعة لم ينزل به خطابًا، ولم يذكر في القرآن آية تدل على وقت الساعة، ونحن نعلم أن الله تعالى استأثر بأشياء لم يُطلِع عباده عليها، وإنما النزاع في كلام أنزله وأخبر أنه هدًى وبيان وشفاء وأمر بتدبره، ثم يقال إن منه ما لا يعرف معناه إلا الله، ولم يبين الله ولا رسوله ذلك القدر الذي لا يعرف أحد معناه، ولهذا صار كل من أعرض عن آيات لا يؤمن بمعناها يجعلها من المتشابه بمجرد دعواه
وبالجملة فالدلائل الكثيرة توجب القطع ببطلان قول من يقول إن في القرآن آيات لا يعلم معناها الرسول ولا غيره إلى آخر ما ذكر رحمه الله
ومما يدل على ما سبق ما صح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال والذي لا إله غيره، ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله، إلا أنا أعلم فيمن أنزلت، ولو أعلم أحدًا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه متفق عليه
وعن مسروق قال «كان عبد الله يقرأ علينا السورة، ثم يحدثنا فيها ويُفسرها عامة النهار» وعن ابن أبي مليكة قال «رأيت مجاهدًا يسأل ابن عباس رضي الله عنهما عن تفسير القرآن ومعه ألواحه، فيقول له ابن عباس اكتب قال حتى سأله عن التفسير كله»
قال ابن قتيبة رحمه الله «ولسنا ممن يزعم أن المتشابه في القرآن لا يعلمه الراسخون في العلم، وهذا غلط من متأوليه على اللغة والمعنى، ولم يُنزل الله شيئًا من القرآن إلا لينفع به عباده، ويدل به على معنًى أراده، فلو كان المتشابه لا يعلمه غيره للزمنا للطاعن مقال، وتعلق علينا بعلة، وهل يجوز لأحد أن يقول إن رسول الله لم يكن يعرف المتشابه؟ وإذا جاز أن يعرفه مع قول الله تعالى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ آل عمران جاز أن يعرفه الربانيون من صحابته فقد علمهم نبيهم التفسير
وبعدُ فإنا لم نَرَ المفسرين توقفوا عن شيء من القرآن فقالوا هذا متشابه لا يعلمه إلا الله، بل أمرُّوه كله على التفسير» تأويل مشكل القرآن
وللحديث بقية إن شاء الله
فقد ذكرت فيما سبق معاني المحكم والمتشابه وتفسير آية آل عمران هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ، وانتهيت في المقال السابق إلى توضيح معنى التأويل عند أهل العلم، كما قال بعضهم «والتأويل بمعنى التفسير، وبمعنى العاقبة المجهولة التي لا يعلمها إلا الله، وكلا المعنيين موجود في القرآن»
أما شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله فقد قال في تفسير سورة الإخلاص «وقد كتبت كلام أحمد بألفاظه كما ذكره الخلال في كتاب السنة، وكما ذكره من نقل كلام أحمد بإسناده في الكتب المصنفة في ذلك في غير هذا الموضع، وبيَّن أن لفظ التأويل في الآية إنما أريد به التأويل في لغة القرآن، كقوله تعالى هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ الأعراف ، وعن ابن عباس في قوله هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ تصديق ما وعد في القرآن
وعن قتادة قال تأويله ثوابه وعن مجاهد جزاؤه وعن السُّدِّي عاقبته وعن ابن زيد حقيقته قال بعضهم تأويله ما يؤول إليه أمرهم من العذاب وورود النار
وقوله تعالى بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ يونس ، قال بعضهم تصديق ما أوعدوا به من الوعيد، والتأويل ما يؤول إليه الأمر، وعن الضحاك يعني عاقبة ما وعد الله في القرآن أنه كائن من الوعيد، والتأويل ما يؤول إليه الأمر وقال يوسف الصديق عليه السلام يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ يوسف ، فجعل نفس سجود أبويه وإخوته له تأويل رؤياه
وقال قبل هذا لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا يوسف أي قبل أن يأتيكما التأويل والمعنى لا يأتيكما طعام ترزقانه في المنام؛ لما قال أحدهما إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا يوسف ، إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ في اليقظة قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا الطعام هذا قول أكثر المفسرين، وهو الصواب
فهذا لفظ التأويل في مواضع متعددة كلها بمعنى واحد
وقال الله تعالى فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً النساء
قال مجاهد وقتادة جزاءً وثوابًا، وقال السّدي وابن زيد وابن قتيبة والزجاج عاقبة وعن ابن زيد أيضًا تصديقًا كقوله هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ وكل هذه الأقوال صحيحة والمعنى واحد، وهذا تفسير السلف جميعًا، ومنه قوله سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا الكهف ، فلما ذكر له ما ذكر قال ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا الكهف ، وهذا تأويل فعله، ليس هو تأويل قوله، والمراد به عاقبة هذه الأفعال بما يؤول إليه ما فعلته، من مصلحة أهل السفينة، ومصلحة أبوي الغلام، ومصلحة أهل الجدار
التأويل والتفسير عند قدماء المفسرين
وأما قدماء المفسرين فلفظ التأويل والتفسير عندهم سواء، كما كان ابن جرير الطبري رحمه الله يقول القول في تأويل هذه الآية أي في تفسيرها
ولما كان هذا معنى التأويل عند مجاهد، وهو إمام التفسير جعل الوقف على قوله وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ؛ فإن الراسخين في العلم يعلمون تفسيره، وهذا القول اختيار ابن قتيبة وغيره من أهل السنة
وأما متأخرو المفسرين كالثعلبي فيفرقون بين التفسير والتأويل قال فمعنى التفسير هو التنوير، وكشف المغلق من المراد بلفظه، والتأويل صرف الآية إلى معنىً تحتمله يوافق ما قبلها وما بعدها، وتكلم في الفرق بينهما بكلام ليس هذا موضعه، إلا أن التأويل الذي ذكره هو المعنى الثالث المتأخر
قال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله اختلف العلماء هل التفسير والتأويل بمعنى واحد؟ أم يختلفان؟ فذهب قوم يميلون إلى العربية إلى أنهما بمعنى، وهذا قول جمهور المفسرين المتقدمين وذهب قوم يميلون إلى الفقه إلى اختلافهما، فهؤلاء لا يذكرون للتأويل إلا المعنى الأول، والثاني، وأما التأويل في لغة القرآن فلا يذكرونه، وقد عُرف أن التأويل في القرآن هو الموجود الذي يؤول إليه الكلام، وإن كان ذلك موافقًا للمعنى الذي يظهر من اللفظ، بل لا يُعرف في القرآن لفظ التأويل مخالفًا لما يدل عليه اللفظ، خلاف اصطلاح المتأخرين
والكلام نوعان إنشاء، وإخبار فالإنشاء الأمر والنهي والإباحة، وتأويل الأمر والنهي نفس فعل المأمور، ونفس ترك المحظور، كما في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت «كان رسول الله يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي، يتأولُ القرآن» متفق عليه فكان هذا الكلام تأويل قوله فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ النصر
قال ابن عيينة السنة تأويل الأمر والنهي
فالتفسير من جنس الكلام يفسر الكلام بكلام يوضحه وأما التأويل فهو فعل المأمور، وترك المنهي عنه، ليس هو من جنس الكلام
والنوع الثاني إخبار فإخبار الرب عن نفسه تعالى بأسمائه وصفاته، وإخباره عما ذكره لعباده من الوعد والوعيد، وهذا هو التأويل المذكور في قوله وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ الأعراف ، وهذا قولهم يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ يس ، ومثله قوله انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ المرسلات ، وقوله وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ الملك ، ونظائره متعددة في القرآن
وكذلك قوله أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ يونس ، فإن ما وُعدوا به في القرآن لما يأتهم بعد، وسوف يأتيهم
فالتفسير هو الإحاطة بعلمه، والتأويل هو نفس ما وعدوا به إذا أتاهم، فهم كذبوا بالقرآن الذي لم يحيطوا بعلمه، ولما يأتيهم تأويله
وقد يحيط الناس بعلمه، ولما يأتيهم تأويله، فالرسول يحيط بعلم ما أنزل الله عليه، وإن كان تأويله لم يأت بعد
قال شيخ الإسلام معقبًا على الكلام السابق «وإذا تبين ذلك، فالمتشابه من الأمر لا بد من معرفة تأويله؛ لأنه لا بد من فعل المأمور، وترك المحظور، وذلك لا يمكن إلا بعد العلم، لكن ليس في القرآن ما يقتضي أن في الأمر متشابهًا، فإن الخبر مثل ما أخبر به في الجنة من اللحم واللبن والعسل والماء والحرير والذهب، فإن بين هذا وبين ما في الدنيا تشابهًا في اللفظ والمعنى، ومع هذا فحقيقة ذلك مخالفة لحقيقة هذا، وتلك الحقيقة لا نعلمها نحن في الدنيا، وقد قال الله تعالى فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ السجدة
وفي الحديث الصحيح يقول الله تعالى «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» متفق عليه فهذا الذي وعد الله به عباده المؤمنين لا تعلمه نفس هو من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله، وكذلك وقت الساعة لا يعلمه إلا الله، وأشراطها، وكذلك كيفيات ما يكون فيها من الحساب والصراط، والميزان والحوض، والثواب والعقاب لا يعلم كيفيته إلا الله، فإنه لم يخلق بعدُ حتى تعلمه الملائكة، ولا له نظير مطابق من كل وجه حتى يعلم به، فهو من تأويل المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله
وكذلك ما أخبر به الربُّ عن نفسه مثل استوائه على عرشه، وسمعه وبصره وكلامه وغير ذلك، فإن كيفيات ذلك لا يعلمها إلا الله
جميع ظواهر نصوص القرآن مفهومة لدى المخاطبين
لقد أنزل الله تعالى كتابه بلسان عربي مبين، على نبي من العرب، وخاطب به أول من خاطب أمة عربية؛ كي يكون هاديًا ومرشدًا إلى الحق، وهذا يعني أنه مفهوم لدى المخاطبين به، كي تقوم الحجة، وتنقطع المعذرة
قال ابن جرير الطبري رحمه الله عند كلامه على مراتب البيان، وأن القرآن جاء بأعظمها وأعلاها «فإذا كان كذلك، وكان غير مبين منا عن نفسه مَنْ خاطب غيره بما لا يفهمه عنه المخاطَب كان معلومًا أنه غير جائز أن يخاطب جل ذكره أحدًا من خلقه إلا بما يفهمه المُخاطبُ، ولا يرسل إلى أحد منهم رسولاً برسالة بلسان وبيان لا يفهمه المرسلُ إليه؛ لأن المخاطب والمرسل إليه إن لم يفهم ما خوطب به وأرسل به إليه؛ فحاله قبل الخطاب وقبل مجيء الرسالة إليه وبعده سواء؛ إذ لم يفده الخطاب والرسالة شيئًا كان به قبل ذلك جاهلاً
والله جل ذكره يتعالى عن أن يخاطب خطابًا أو يرسل رسالة لا توجب فائدة لمن خوطب أو أرسلت إليه؛ لأن ذلك فينا من فعل أهل النقص والعبث، والله تعالى عن ذلك متعالٍ، ولذلك قال جل ثناؤه في محكم تنزيله وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ إبراهيم ، وقال لنبيه محمد وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ النحل فغير جائز أن يكون به مهتديًا، من كان بما يهدي إليه جاهلاً
وقد جلى هذه المسألة وفصَّلها ورد على المخالفين لها من وجوه عدة، الإمام ابن تيمية في مجموع الفتاوى، ومن ذلك قوله «والمقصود هنا أنه لا يجوز أن يكون الله أنزل كلامًا لا معنى له، ولا يجوز أن يكون الرسول وجميع الأمة لا يعلمون معناه، كما يقول ذلك من يقوله من المتأخرين، وهذا القول يجب القطع بأنه خطأ، سواء كان مع هذا تأويل للقرآن لا يعلمه الراسخون، أو كان للتأويل معنيان يعلمون أحدهما، ولا يعلمون الآخر، وإذا دار الأمر بين القول بأن الرسول كان لا يعلم معنى المتشابه من القرآن، وبين أن يقال الراسخون في العلم يعلمون؛ كان هذا الإثبات خيرًا من ذلك النفي، فإن معنى الدلائل الكثيرة من الكتاب والسنة وأقوال السلف على أن جميع القرآن مما يمكن علمه وفهمه وتدبره، وهذا مما يجب القطع به، وليس معناه قاطعًا على أن الراسخين في العلم لا يعلمون تفسير المتشابه، فإن السلف قد قال كثير منهم إنهم يعلمون تأويله، منهم مجاهد مع عظم قدره والربيع بن أنس، ومحمد بن جعفر بن الزبير، ونقلوا ذلك عن ابن عباس، وأنه قال أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله»
قالوا والدليل على ما قلناه إجماع السلف، فإنهم فسروا جميع القرآن، وقال مجاهد عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته، أقفه عند كل آية، وأسأله عنها، وتلقوا ذلك عن النبي كما قال أبو عبد الرحمن السلمي حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن عثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا، وكلام أهل التفسير من الصحابة والتابعين شامل لجميع القرآن إلا ما قد يشكل على بعضهم فيقف فيه، لا لأن أحدًا من الناس لا يعلمه، لكن لأنه هو لم يعلمه
وأيضًا فإن الله قد أمر بتدبر القرآن مطلقًا، ولم يستثن منه شيئًا لا يُتدبر، ولا قال لا تدبروا المتشابه، والتدبر بدون الفهم ممتنع، ولو كان من القرآن ما لا يُتدبر لم يُعرف، فإن الله لم يميز المتشابه به بحدٍّ ظاهر حتى يُجتنب تدبره
وهذا أيضًا مما يحتجون به، ويقولون المتشابه أمر نسبي إضافي؛ فقد يشتبه على هذا ما لا يشتبه على غيره، قالوا ولأن الله أخبر أن القرآن بيان وهدًى وشفاء ونور، ولم يستثن منه شيئًا عن هذا الوصف، وهذا ممتنع بدون فهم المعنى، قالوا ولأن من العظيم أن يقال إن الله أنزل على نبيه كلامًا لم يكن يفهم معناه، لا هو ولا جبريل، بل وعلى قول هؤلاء كان النبي يحدث بأحاديث الصفات والقدر والمعاد، ونحو ذلك، مما هو نظير متشابه القرآن عندهم، ولم يكن يعرف معنى ما يقوله، وهذا لا يظن بأقل الناس
وأيضًا فالكلام إنما المقصود به الإفهام، فإذا لم يقصد به ذلك كان عبثًا وباطلاً، والله تعالى قد نزَّه نفسه عن فعل الباطل والعبث، فكيف يقول الباطل والعبث ويتكلم بكلام ينزله على خلقه لا يريد به إفهامهم، وأيضًا فما في القرآن آية إلا وقد تكلم الصحابة والتابعون لهم بإحسان في معناها وبينوا ذلك
الراسخون في العلم يعلمون تفسير المتشابه
وإذا قيل فقد يختلفون في بعض ذلك؟ قيل كما قد يختلفون في آيات الأمر والنهي، وآيات الأمر والنهي مما اتفق المسلمون على أن الراسخين في العلام يعلمون معناها
وهذا أيضًا مما يدل على أن الراسخين في العلم يعلمون تفسير المتشابه، فإن المتشابه قد يكون في آيات الأمر والنهي، كما يكون في آيات الخبر، وتلك مما اتفق العلماء على معرفة الراسخين لمعناها، فكذلك الأخرى، فإنه على قول النفاة لم يعلم معنى المتشابه إلا الله، لا ملك ولا رسول ولا عالم، وهذا خلاف الإجماع في متشابه الأمر والنهي، وأيضًا فلفظ التأويل يكون للمحكم، كما يكون للمتشابه، كما دل القرآن والسنة وأقوال الصحابة على ذلك، وهم يعلمون معنى المحكم، فكذلك معنى المتشابه، وأي فضيلة في المتشابه، حتى ينفرد الله بعلم معناه، والمحكم أفضل منه، وقد بيَّن معناه لعباده، فأي فضيلة في المتشابه، حتى يستأثر الله بعلم معناه، وما استأثر الله بعلمه كوقت الساعة لم ينزل به خطابًا، ولم يذكر في القرآن آية تدل على وقت الساعة، ونحن نعلم أن الله تعالى استأثر بأشياء لم يُطلِع عباده عليها، وإنما النزاع في كلام أنزله وأخبر أنه هدًى وبيان وشفاء وأمر بتدبره، ثم يقال إن منه ما لا يعرف معناه إلا الله، ولم يبين الله ولا رسوله ذلك القدر الذي لا يعرف أحد معناه، ولهذا صار كل من أعرض عن آيات لا يؤمن بمعناها يجعلها من المتشابه بمجرد دعواه
وبالجملة فالدلائل الكثيرة توجب القطع ببطلان قول من يقول إن في القرآن آيات لا يعلم معناها الرسول ولا غيره إلى آخر ما ذكر رحمه الله
ومما يدل على ما سبق ما صح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال والذي لا إله غيره، ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله، إلا أنا أعلم فيمن أنزلت، ولو أعلم أحدًا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه متفق عليه
وعن مسروق قال «كان عبد الله يقرأ علينا السورة، ثم يحدثنا فيها ويُفسرها عامة النهار» وعن ابن أبي مليكة قال «رأيت مجاهدًا يسأل ابن عباس رضي الله عنهما عن تفسير القرآن ومعه ألواحه، فيقول له ابن عباس اكتب قال حتى سأله عن التفسير كله»
قال ابن قتيبة رحمه الله «ولسنا ممن يزعم أن المتشابه في القرآن لا يعلمه الراسخون في العلم، وهذا غلط من متأوليه على اللغة والمعنى، ولم يُنزل الله شيئًا من القرآن إلا لينفع به عباده، ويدل به على معنًى أراده، فلو كان المتشابه لا يعلمه غيره للزمنا للطاعن مقال، وتعلق علينا بعلة، وهل يجوز لأحد أن يقول إن رسول الله لم يكن يعرف المتشابه؟ وإذا جاز أن يعرفه مع قول الله تعالى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ آل عمران جاز أن يعرفه الربانيون من صحابته فقد علمهم نبيهم التفسير
وبعدُ فإنا لم نَرَ المفسرين توقفوا عن شيء من القرآن فقالوا هذا متشابه لا يعلمه إلا الله، بل أمرُّوه كله على التفسير» تأويل مشكل القرآن
وللحديث بقية إن شاء الله
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى