الدادائية في الفن د. فايز
14/05/10, 01:57 am
الدادائية هي حركة فنية جريئة باقية بقاء الفن والأدب في حياة البشر شكلها وقاد ناصيتها الشاعر الروماني تريستان تزارا
(1896 - 1963) في سويسرا احتاجا علي اندلاع الحرب العالمية الأولى.
تميزت هذه الحركة عن غيرها من المدارس الفنية والأدبية التي سبقتها بمحاولة التخلص من قيود المنطق المعتادة والعلاقات السببية في التفكير والتعبير وكان من مهمتها الكبرى التخلص من كل ما يعوق الحرية ويكبح جموح التلقائية في التعبير والإبداع الفنيين.
وليس المهم عند الدادائيين أن تستخدم الريشة والخطوط والأصباغ لترسم، بل يمكنك أن ( تخربش ) كما يروق لك، أو تلصق صحيفة أو أعقاب سجائر أو أحذية قديمة مع خوذات عسكرية مهشمة أو علب مواد غذائية فارغة.
والسؤال!! ما هي البواعث التي أدت إلى ظهور هذه الحركة النشطة والتي استقطبت حولها مظاهر الإعجاب والتشكيك ومواقف القبول والرفض.
الدادا والحرب العالمية الأولى
تتفق جميع المصادر التشكيلية عند رصدها لهذه الحركة أنها قامت أساسا كموقف احتجاج علي اندلاع الحرب العالمية الأولى تلك الحرب التي أًهدرت فيها الطاقات البشرية وقُتل خلالها الرجال وقاسوا مصائبها وتشظى الرصاص في أجسادهم ثم ماتوا وأهيل عليهم التراب أو غرزت على بقايا عظامهم النصب حين يعثر رفاقهم على جثث يدفنونها.
ففي أواخر عام 1914 كانت نوعية الحرب الدائرة قد تقررت واتخذت لها إطارا متميزا عن كل حرب سابقة إذ اتضح أنها لم تعد حرب نصر حاسم سريع ولا قتال بضعة أسابيع أو شهور! كلا، لقد ظهر لكل قائد عسكري في أي هيئة أركان مشتركة في الحرب أنه يواجه حربا طويلة الأمد لا نصر فيها فالخنادق لا تتزحزح وكل هجوم مباشر عليها مكتوب له بالفشل.
حرب عبثية!
وككل حرب على نطاق واسع قذفت إلى الخطوط الخلفية بشيئين أثنين من صنف البشر: أولهما حطام من يتحملون مشاق الطريق قبل أن يموتوا. وثانيهما فئات المشوهين وذوي العاهات العاطلين عن العمل. وكان النقص في خطوط القتال والمجهود المدني في حاجة إلى تعويض وهذا التعويض تمثل في البالغين الذين يُستدعون إلى الالتحاق بالجيش طالما توفر منهم عدد، بيد أن هؤلاء سرعان ما نزح عددهم لأن آلة الحرب كانت تلوك القتلى، فتحولت الأنظار إلى الصبيان وطُلب إليهم الانخراط في الجيش مرة باسم الدفاع عن شرف الوطن ومرة أخرى بدعوة ضرورة الإخلاص للملك والتاج.
صبية مساكين!!
وبمثل هؤلاء الصبية وذوي العاهات ظلت الجيوش المتحاربة يتضخم عددها بإمدادات جديدة حتى عام 1916 ثم أخذت جميعا أما في الثبات مع تدني مستوى العمر أو الانكماش التدريجي المحتوم. كما نتج عن حاجة الجبهات إلى العتاد أن أقيمت مصانع الذخيرة في مختلف أنحاء أوربا .. وطبيعي أن أصحاب المال هم الذين أقاموها طمعا في ازدياد ثرواتهم فكان من مصلحتهم أن يطول أمد الحرب ويستهلك الجنود ما تشتريه حكوماتهم وبمعني آخر صار من سياسة هؤلاء ترويج صناعة الموت والمتاجرة بالأرواح.
اقتصاد الحرب
إثر هذا الوضع تحول اقتصاد أوربا إلى اقتصاد عسكري وظهر إلى الوجود أنظمة توائم ذلك . فالعمال اُقنعوا بالمعروف أو اُجبروا بالتهديد بالحبس أو الوصم بالخيانة العظمى بأن يتحولوا إلى آلات في المجهود الحربي وطُلب منهم أن يتناسوا مستوى حياتهم العادية في أيام السلم وأن يغفلوا تماما عن طموحاتهم.
والموظفون خضعوا لتعليمات الانضباط الرسمي ومجالس التأديب التي يعقبها قطع المرتبات إذا عاندوا، والفلاحون أصبحوا مضطرين للعمل والقبول بتسعيرة الدولة. كل هذا لتزيد من أرباح الرأسماليين وتتضخم ولم تكتف الحرب العالمية الأولى بإبراز قضايا عسكرية واستراتيجية واقتصادية بالغة الأهمية وإنما انتقلت إلى الميدان الاجتماعي أيضا، فقد واجهت الحكومات المتحاربة تموين عائلات الغائبين في الميدان والتعويض عن المشوهين العائدين علاوة على تفشي الانحرافات الخلقية وشاع بين الناس التذمر الصريح بعدم الرضا وتمثل ذلك بشكل واضح في قيام الدادائية والاحتجاج على ما يحدث بالفن المشاغب والأدب غير المألوف.
تريستان تزارا .. مرة أخرى
عند اندلاع الحرب العالمية الأولى تنصل ( تريستان تزارا ) من أعباء التجنيد في الجيش الروماني وفر هاربا عبر الأودية والبحيرات والأحراش إلى أن وصل إلى سويسرا البلد المحايد في تلك الحرب واستقر به المقام في مدينة زيورخ والتف حوله لفيف من صعاليك الفن والأدب المناوئين للحرب.
وفي شارع شبيغل غاسة وفي شقة متواضعة اجتمع هؤلاء الصعاليك ليعبروا عن استنكارهم لهذه الحروب الطاحنة ويسفهوا الدول المتصارعة التي تدعي الحضارة والتي تأكل بعضها بعضا اجتمعوا بهدف رفض كل مظاهر الثقافة السائدة وفي مقدمتها الفن.
وعند الساعة السادسة من مساء يوم: 6 . 2 . 1916 ولدت في مقهى كافيه دي لاتيراس في مدينة زيورخ كلمة : دادا - DADA ولقد صرح تريستان تزارا فيما بعد قائلا:
لقد ولدت الكلمة دون أن يعرف أحد كيف تم ذلك.
تعدد معاني كلمة: دادا
في لغة الشاعر تريستان تزارا الرومانية تعني: أجل.. أجل. وفي الفرنسية إشارة إلى لعبة من لعب الأطفال على شكل حصان خشبي هزاز وتستعمل الكلمة في الألمانية للدلالة على السذاجة والغفلة والإيطاليون يطلقونها على زهرة النرد وأحيانا الأم.
وفي بعض مناطق أفريقيا السوداء يسمون ذنب البقرة المقدسة دادا. وفي الكثير من اللهجات العامية العربية تسمي المربية ومرضعة ولد غيرها: دادة .
الملتقى الأول للدادائيين
تأسس هذا الملتقى تحت اسم : كاباريه فولتير - ليسلي رواده ويقدم لهم أوجهًا من النشاطات الفنية والأدبية للسخرية من الحرب والنعرات القومية.
ويعرض تاريخ هذه الحركة أيضا إلى رجل ألماني رائع طويل القامة هزيل البنية اسمه: هوغوبال جاء إلى سويسرا عند نشوب الحرب العالمية الأولى، وكان فيلسوفا وروائيا وشاعرا وصحفيا.
وعندما لاحت لهذا الصعلوك فكرة إنشاء هذا الملتقى أتصل بشخص يدعى: أفرايم يمتلك صالة ليلية ليجعل منها: منبرا ثقافيا إذا جاز التعبير، فلبى أفرايم طلبه وعلى الفور ذهب هوغوبال إلى معارف له من الشلة الدادائية وأخذ يقول للواحد منهم: هل لي بلوحة أو صورة، قصيدة أو منحوتة بهدف إقامة أول ملتقى يجمع شتاتنا نحن الصعاليك، ولم يكتف بذلك بل قصد بعض دور الصحافة في زيورخ لينشروا له إعلانات بالمناسبة.
مجلة دادا
وفي الخامس من شهر فبراير 1916 تم تدشين كاباريه فولتير واشتمل المعرض الأول على أعمال من بيكاسو قام بجلبها له: هانز آراب وتخلل ذلك أمسية روسية ألقيت فيها أشعار من بولنير وماكس جاكوب ورامبو وغيرهم.
وفي نفس العام صدر العدد الأول من مجلة: دادا وكان الشاعر تريستان تزارا رئيسا لتحريرها والمخرج الفني لصفحاتها وقد دعي للكتابة فيها كتاب وشعراء كبار من خارج سويسرا من أمثال أراغون - ايلوار - برايتون - سوبو.
وساهم في عروضها التشكيلية الموالية كل من بيكاسو - مودلياني - كاندنيسكي ولم تتوقف مجلة: دادا عن الصدور وكانت كعادتها تطبع بطريقة مشوهة.
أنصاف الموهوبين
في السابع من شهر مايو عام 1920 صدر العدد السابع ومن مقدمته نقتطف الفقرة التالية:
اصرفوا بأسنانكم .. اصرخوا .. اركلوني علي أسناني .. ثم ماذا!! لن أكف عن أن أنعتكم بأنصاف الموهوبين وبعد ثلاثة أشهر سوف نبيعكم أنا و أصدقائي صورا ببضعة فرنكات.
وهكذا راح الدادائيون يواجهون العالم بكل ما يمكن أن يهزه من تخريب وافتعال الضجة والضحك على الذقون والضحك فقط في غالب الأحيان ناهيكم عن الغطرسة والإساءات والإهانات والفضائح الفاقعة والسخرية من ذواتهم ومن الآخرين.
وذات مرة أعلن الدادائيون في باريس عن بيان يتلى على الناس في تاريخ معين وبدلا من هذا البيان قرأ: تزارا مقالا من صحيفة اختيرت بحسب الصدف بينما كان بول ايلوار
وتيودور فرنكل يقرعان الأجراس.
قصيدة الصدفة
أو بالأحرى قصيدة من غير شاعر وكنموذج من هذا الشعر تناول: تزارا بضع مقالات من صحيفة يومية تافهة وقصها قصاصات صغيرة لا تزيد مساحة الواحدة منها عن معدل الحيز الذي تشغله الكلمة ثم وضع الكلمات المقطعة في كيس دقيق فارغ وخضها جيدا ثم تركتها تتناثر على طاولة والترتيب أو اللاترتيب للكلمات سوف يؤلف برأي تزارا قصيدة من نظم الصدفة .
فوتوغرافيا دادائية
وفي مجال التصوير الفوتوغرافي كان أحد المصورين الدادائيين يقطع رحلة بين دوسلدورف وكولن في ألمانيا بأن ثبت آلة التصوير في نافذة القطار وطفق يلتقط الصور كيفما أتفق كل خمس دقائق وشكل بترتيبها العشوائي فيما بعد أول معرض فوتوغرافي دادائي.
وحصل مع الموسيقى ما هو أفظع من قرع العلب المعدنية الفارغة والطلقات النارية الحية مكان الإيقاع والنباح والعويل بدل الغناء.
البيان الدادائي الأخير
في منتصف شهر مارس عام 1922 وبحضور أقطاب الدادائية ألقى تريستان تزارا كلمة البيان الأخير لهذه الحركة نورد منها أهم الفقرات المثيرة للتأمل:
إن دادا تشق طريقها وهي ماضية لا في التوسع بل من أجل تخريب ذاتها وهي لا تبغي أن تتوصل إلى نتيجة أو تكسب مجدا أو فائدة عبر جميع إرهاصاتها المقرفة فقد كفت نهائيا عن الكفاح لأنها تدرك أن ذلك لا يخدم غرضا ما.
توقف تزارا برهة وابتلع ريقه .. جال ببصره على وجوه رفاقه من شراذم الثقافة المحبطة تنهد وواصل تلاوة البيان:
إن دادا كانت حالتنا الذهنية الساخرة وكانت للرافضين من أمثالنا نقطة الارتكاز التي تلتقي عند نعم وعند لا، وتحتوي كل المتناقضات السائدة ولأن دادا كانت لا تؤمن بشيء فقد انتهت وانتهت لأنها لم تؤمن حتى بمبادئها.
الفن ضد الفن
والدادائية التي حملت مشعلا لتضرم الحرائق في كل مكان كانت من أكثر الحركات الفنية انتقائية وتكره أن تلبس ثوبا واحدا أو أن تلبس الثوب أكثر من يوم واحد. كانت ضد كل حالة كونتها أوتكونها وضد الفن ثم ضد الفن المضاد وضد الصدفة وضد الصدفة المضادة ومن بين أنقاض وركام الصرح الدادائي المنهار انبثقت حركة أخرى تولى زعامتها الشاعر الدادائي السابق : أندريه برايتون ليصبح وحده أكبر داعية للتجافي عن العقلانيات والمنطق والتنظيم مستجيبا لكل ما هو من الحلم واللاوعي والأشباح والطلاسم والرموز وأطلق على حركته الجديدة اسم السريالية أو ما يعرف في لغتنا العربية بـ:
(السمو واقعية) ليجعل منها وقفا على المثقفين ولكن أي مثقفين؟ إنهم المثقفون الذين تلاعبوا في مجريات حركة المد والجزر، وتصرفوا في عدد نبضات القلب و ألوان قوس قزح وما يستقر في مكنون العقل الباطن وسراديب الأحلام.
(1896 - 1963) في سويسرا احتاجا علي اندلاع الحرب العالمية الأولى.
تميزت هذه الحركة عن غيرها من المدارس الفنية والأدبية التي سبقتها بمحاولة التخلص من قيود المنطق المعتادة والعلاقات السببية في التفكير والتعبير وكان من مهمتها الكبرى التخلص من كل ما يعوق الحرية ويكبح جموح التلقائية في التعبير والإبداع الفنيين.
وليس المهم عند الدادائيين أن تستخدم الريشة والخطوط والأصباغ لترسم، بل يمكنك أن ( تخربش ) كما يروق لك، أو تلصق صحيفة أو أعقاب سجائر أو أحذية قديمة مع خوذات عسكرية مهشمة أو علب مواد غذائية فارغة.
والسؤال!! ما هي البواعث التي أدت إلى ظهور هذه الحركة النشطة والتي استقطبت حولها مظاهر الإعجاب والتشكيك ومواقف القبول والرفض.
الدادا والحرب العالمية الأولى
تتفق جميع المصادر التشكيلية عند رصدها لهذه الحركة أنها قامت أساسا كموقف احتجاج علي اندلاع الحرب العالمية الأولى تلك الحرب التي أًهدرت فيها الطاقات البشرية وقُتل خلالها الرجال وقاسوا مصائبها وتشظى الرصاص في أجسادهم ثم ماتوا وأهيل عليهم التراب أو غرزت على بقايا عظامهم النصب حين يعثر رفاقهم على جثث يدفنونها.
ففي أواخر عام 1914 كانت نوعية الحرب الدائرة قد تقررت واتخذت لها إطارا متميزا عن كل حرب سابقة إذ اتضح أنها لم تعد حرب نصر حاسم سريع ولا قتال بضعة أسابيع أو شهور! كلا، لقد ظهر لكل قائد عسكري في أي هيئة أركان مشتركة في الحرب أنه يواجه حربا طويلة الأمد لا نصر فيها فالخنادق لا تتزحزح وكل هجوم مباشر عليها مكتوب له بالفشل.
حرب عبثية!
وككل حرب على نطاق واسع قذفت إلى الخطوط الخلفية بشيئين أثنين من صنف البشر: أولهما حطام من يتحملون مشاق الطريق قبل أن يموتوا. وثانيهما فئات المشوهين وذوي العاهات العاطلين عن العمل. وكان النقص في خطوط القتال والمجهود المدني في حاجة إلى تعويض وهذا التعويض تمثل في البالغين الذين يُستدعون إلى الالتحاق بالجيش طالما توفر منهم عدد، بيد أن هؤلاء سرعان ما نزح عددهم لأن آلة الحرب كانت تلوك القتلى، فتحولت الأنظار إلى الصبيان وطُلب إليهم الانخراط في الجيش مرة باسم الدفاع عن شرف الوطن ومرة أخرى بدعوة ضرورة الإخلاص للملك والتاج.
صبية مساكين!!
وبمثل هؤلاء الصبية وذوي العاهات ظلت الجيوش المتحاربة يتضخم عددها بإمدادات جديدة حتى عام 1916 ثم أخذت جميعا أما في الثبات مع تدني مستوى العمر أو الانكماش التدريجي المحتوم. كما نتج عن حاجة الجبهات إلى العتاد أن أقيمت مصانع الذخيرة في مختلف أنحاء أوربا .. وطبيعي أن أصحاب المال هم الذين أقاموها طمعا في ازدياد ثرواتهم فكان من مصلحتهم أن يطول أمد الحرب ويستهلك الجنود ما تشتريه حكوماتهم وبمعني آخر صار من سياسة هؤلاء ترويج صناعة الموت والمتاجرة بالأرواح.
اقتصاد الحرب
إثر هذا الوضع تحول اقتصاد أوربا إلى اقتصاد عسكري وظهر إلى الوجود أنظمة توائم ذلك . فالعمال اُقنعوا بالمعروف أو اُجبروا بالتهديد بالحبس أو الوصم بالخيانة العظمى بأن يتحولوا إلى آلات في المجهود الحربي وطُلب منهم أن يتناسوا مستوى حياتهم العادية في أيام السلم وأن يغفلوا تماما عن طموحاتهم.
والموظفون خضعوا لتعليمات الانضباط الرسمي ومجالس التأديب التي يعقبها قطع المرتبات إذا عاندوا، والفلاحون أصبحوا مضطرين للعمل والقبول بتسعيرة الدولة. كل هذا لتزيد من أرباح الرأسماليين وتتضخم ولم تكتف الحرب العالمية الأولى بإبراز قضايا عسكرية واستراتيجية واقتصادية بالغة الأهمية وإنما انتقلت إلى الميدان الاجتماعي أيضا، فقد واجهت الحكومات المتحاربة تموين عائلات الغائبين في الميدان والتعويض عن المشوهين العائدين علاوة على تفشي الانحرافات الخلقية وشاع بين الناس التذمر الصريح بعدم الرضا وتمثل ذلك بشكل واضح في قيام الدادائية والاحتجاج على ما يحدث بالفن المشاغب والأدب غير المألوف.
تريستان تزارا .. مرة أخرى
عند اندلاع الحرب العالمية الأولى تنصل ( تريستان تزارا ) من أعباء التجنيد في الجيش الروماني وفر هاربا عبر الأودية والبحيرات والأحراش إلى أن وصل إلى سويسرا البلد المحايد في تلك الحرب واستقر به المقام في مدينة زيورخ والتف حوله لفيف من صعاليك الفن والأدب المناوئين للحرب.
وفي شارع شبيغل غاسة وفي شقة متواضعة اجتمع هؤلاء الصعاليك ليعبروا عن استنكارهم لهذه الحروب الطاحنة ويسفهوا الدول المتصارعة التي تدعي الحضارة والتي تأكل بعضها بعضا اجتمعوا بهدف رفض كل مظاهر الثقافة السائدة وفي مقدمتها الفن.
وعند الساعة السادسة من مساء يوم: 6 . 2 . 1916 ولدت في مقهى كافيه دي لاتيراس في مدينة زيورخ كلمة : دادا - DADA ولقد صرح تريستان تزارا فيما بعد قائلا:
لقد ولدت الكلمة دون أن يعرف أحد كيف تم ذلك.
تعدد معاني كلمة: دادا
في لغة الشاعر تريستان تزارا الرومانية تعني: أجل.. أجل. وفي الفرنسية إشارة إلى لعبة من لعب الأطفال على شكل حصان خشبي هزاز وتستعمل الكلمة في الألمانية للدلالة على السذاجة والغفلة والإيطاليون يطلقونها على زهرة النرد وأحيانا الأم.
وفي بعض مناطق أفريقيا السوداء يسمون ذنب البقرة المقدسة دادا. وفي الكثير من اللهجات العامية العربية تسمي المربية ومرضعة ولد غيرها: دادة .
الملتقى الأول للدادائيين
تأسس هذا الملتقى تحت اسم : كاباريه فولتير - ليسلي رواده ويقدم لهم أوجهًا من النشاطات الفنية والأدبية للسخرية من الحرب والنعرات القومية.
ويعرض تاريخ هذه الحركة أيضا إلى رجل ألماني رائع طويل القامة هزيل البنية اسمه: هوغوبال جاء إلى سويسرا عند نشوب الحرب العالمية الأولى، وكان فيلسوفا وروائيا وشاعرا وصحفيا.
وعندما لاحت لهذا الصعلوك فكرة إنشاء هذا الملتقى أتصل بشخص يدعى: أفرايم يمتلك صالة ليلية ليجعل منها: منبرا ثقافيا إذا جاز التعبير، فلبى أفرايم طلبه وعلى الفور ذهب هوغوبال إلى معارف له من الشلة الدادائية وأخذ يقول للواحد منهم: هل لي بلوحة أو صورة، قصيدة أو منحوتة بهدف إقامة أول ملتقى يجمع شتاتنا نحن الصعاليك، ولم يكتف بذلك بل قصد بعض دور الصحافة في زيورخ لينشروا له إعلانات بالمناسبة.
مجلة دادا
وفي الخامس من شهر فبراير 1916 تم تدشين كاباريه فولتير واشتمل المعرض الأول على أعمال من بيكاسو قام بجلبها له: هانز آراب وتخلل ذلك أمسية روسية ألقيت فيها أشعار من بولنير وماكس جاكوب ورامبو وغيرهم.
وفي نفس العام صدر العدد الأول من مجلة: دادا وكان الشاعر تريستان تزارا رئيسا لتحريرها والمخرج الفني لصفحاتها وقد دعي للكتابة فيها كتاب وشعراء كبار من خارج سويسرا من أمثال أراغون - ايلوار - برايتون - سوبو.
وساهم في عروضها التشكيلية الموالية كل من بيكاسو - مودلياني - كاندنيسكي ولم تتوقف مجلة: دادا عن الصدور وكانت كعادتها تطبع بطريقة مشوهة.
أنصاف الموهوبين
في السابع من شهر مايو عام 1920 صدر العدد السابع ومن مقدمته نقتطف الفقرة التالية:
اصرفوا بأسنانكم .. اصرخوا .. اركلوني علي أسناني .. ثم ماذا!! لن أكف عن أن أنعتكم بأنصاف الموهوبين وبعد ثلاثة أشهر سوف نبيعكم أنا و أصدقائي صورا ببضعة فرنكات.
وهكذا راح الدادائيون يواجهون العالم بكل ما يمكن أن يهزه من تخريب وافتعال الضجة والضحك على الذقون والضحك فقط في غالب الأحيان ناهيكم عن الغطرسة والإساءات والإهانات والفضائح الفاقعة والسخرية من ذواتهم ومن الآخرين.
وذات مرة أعلن الدادائيون في باريس عن بيان يتلى على الناس في تاريخ معين وبدلا من هذا البيان قرأ: تزارا مقالا من صحيفة اختيرت بحسب الصدف بينما كان بول ايلوار
وتيودور فرنكل يقرعان الأجراس.
قصيدة الصدفة
أو بالأحرى قصيدة من غير شاعر وكنموذج من هذا الشعر تناول: تزارا بضع مقالات من صحيفة يومية تافهة وقصها قصاصات صغيرة لا تزيد مساحة الواحدة منها عن معدل الحيز الذي تشغله الكلمة ثم وضع الكلمات المقطعة في كيس دقيق فارغ وخضها جيدا ثم تركتها تتناثر على طاولة والترتيب أو اللاترتيب للكلمات سوف يؤلف برأي تزارا قصيدة من نظم الصدفة .
فوتوغرافيا دادائية
وفي مجال التصوير الفوتوغرافي كان أحد المصورين الدادائيين يقطع رحلة بين دوسلدورف وكولن في ألمانيا بأن ثبت آلة التصوير في نافذة القطار وطفق يلتقط الصور كيفما أتفق كل خمس دقائق وشكل بترتيبها العشوائي فيما بعد أول معرض فوتوغرافي دادائي.
وحصل مع الموسيقى ما هو أفظع من قرع العلب المعدنية الفارغة والطلقات النارية الحية مكان الإيقاع والنباح والعويل بدل الغناء.
البيان الدادائي الأخير
في منتصف شهر مارس عام 1922 وبحضور أقطاب الدادائية ألقى تريستان تزارا كلمة البيان الأخير لهذه الحركة نورد منها أهم الفقرات المثيرة للتأمل:
إن دادا تشق طريقها وهي ماضية لا في التوسع بل من أجل تخريب ذاتها وهي لا تبغي أن تتوصل إلى نتيجة أو تكسب مجدا أو فائدة عبر جميع إرهاصاتها المقرفة فقد كفت نهائيا عن الكفاح لأنها تدرك أن ذلك لا يخدم غرضا ما.
توقف تزارا برهة وابتلع ريقه .. جال ببصره على وجوه رفاقه من شراذم الثقافة المحبطة تنهد وواصل تلاوة البيان:
إن دادا كانت حالتنا الذهنية الساخرة وكانت للرافضين من أمثالنا نقطة الارتكاز التي تلتقي عند نعم وعند لا، وتحتوي كل المتناقضات السائدة ولأن دادا كانت لا تؤمن بشيء فقد انتهت وانتهت لأنها لم تؤمن حتى بمبادئها.
الفن ضد الفن
والدادائية التي حملت مشعلا لتضرم الحرائق في كل مكان كانت من أكثر الحركات الفنية انتقائية وتكره أن تلبس ثوبا واحدا أو أن تلبس الثوب أكثر من يوم واحد. كانت ضد كل حالة كونتها أوتكونها وضد الفن ثم ضد الفن المضاد وضد الصدفة وضد الصدفة المضادة ومن بين أنقاض وركام الصرح الدادائي المنهار انبثقت حركة أخرى تولى زعامتها الشاعر الدادائي السابق : أندريه برايتون ليصبح وحده أكبر داعية للتجافي عن العقلانيات والمنطق والتنظيم مستجيبا لكل ما هو من الحلم واللاوعي والأشباح والطلاسم والرموز وأطلق على حركته الجديدة اسم السريالية أو ما يعرف في لغتنا العربية بـ:
(السمو واقعية) ليجعل منها وقفا على المثقفين ولكن أي مثقفين؟ إنهم المثقفون الذين تلاعبوا في مجريات حركة المد والجزر، وتصرفوا في عدد نبضات القلب و ألوان قوس قزح وما يستقر في مكنون العقل الباطن وسراديب الأحلام.
- محمدمشرف مرسى الرياضة
- البلد :
عدد المساهمات : 7229
نقاط تميز العضو : 205023
تاريخ التسجيل : 10/12/2009
رد: الدادائية في الفن د. فايز
14/05/10, 02:16 am
اي ان بيكاسو كان عضوا في هذه الحركة
شكرا لك اختي على هذة المعلومات القيمة والفيدة ودمتي لمرسانا وفية
شكرا لك اختي على هذة المعلومات القيمة والفيدة ودمتي لمرسانا وفية
- إسماعيل سعديمدير الموقع
- البلد :
الجنس :
عدد المساهمات : 3758
نقاط تميز العضو : 150694
تاريخ التسجيل : 03/04/2009
رد: الدادائية في الفن د. فايز
29/06/10, 08:35 pm
مفيد ما قرأته هنا .
- شنفرى االجنوبعضو نشيط
- البلد :
الجنس :
عدد المساهمات : 101
نقاط تميز العضو : 103694
تاريخ التسجيل : 08/11/2010
العمر : 37
رد: الدادائية في الفن د. فايز
10/11/10, 12:36 pm
ممتع ماقرأت
دمت بخير بتولا
دمت بخير بتولا
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى