- محمدمشرف مرسى الرياضة
- البلد :
عدد المساهمات : 7229
نقاط تميز العضو : 205023
تاريخ التسجيل : 10/12/2009
اللغة في الخطاب الروائي العربي
23/03/10, 12:43 am
تعد اللغة من أهم مكونات الخطاب الروائي إلى جانب الرؤية السردية والبنية الزمنية والفضاء والشخصيات والوصف والأحداث، لكن تبقى اللغة هي المميز الحقيقي للرواية عن باقي الأجناس الأدبية الأخرى. كما أنها المادة الشكلية التعبيرية التي تنبني عليها الرسالة الإبداعية التي يرسلها الكاتب إلى القارئ عبر جمل متنوعة : سردية ووصفية ومشهدية وبلاغية وحرفية. لذلك يتم التركيز عليها كثيرا مادامت شفرة وسيطة بين المبدع والمتلقي لأنها تحمل نوايا المؤلف وأطروحاته المباشرة وغير المباشرة من خلال استعمال تعابير مسكوكة أو مستنسخات تناصية أوتعابير تقريرية أو أساليب إيحائية انزياحية و رمزية . و من ثم،فأي روائي لا يملك ناصية اللغة وقواميسها الحرفية والمجازية ولا يحسن توظيفها توظيفا أدبيا ساميا ويستثمرها في سياقات تواصلية وتداولية ذات مقاصد تداولية فنية وتعبيرية في قمة البلاغة والجمال والروعة الفنية فإنه لن يستطيع أن يكون كاتبا روائيا ناجحا ومتميزا. ومن ثم يمكن القول: إن الرواية هي تشخيص اللغة وتصوير الذات والواقع اعتمادا على التشكيل اللغوي. إذاً، ماهو سياق الاهتمام باللغة الروائية؟ وما أنواع الرواية من خلال التشكيل اللغوي؟ وهل يمكن تحديد محطات أساسية للتطور الروائي من خلال التصوير اللغوي؟ وما هي الكيفية التي نعالج بها إشكالية الفصحى والعامية؟ هذه هي الأسئلة التي سوف نحاول عرضها في هذا المقال المتواضع هذا.
1- اللغة الروائية والمقاربات النقدية:
لقد تعامل الكثير من النقاد والدارسين مع اللغة الروائية باعتبارها مادة تعبيرية وحاملة للفكر ومضامين النص وأبعاده المرجعية. إلا أن هناك من كان يدرسها من خلال مقاربة بلاغية تقليدية تركز على الصور الشعرية من تشبيه ومجاز واستعارة وكناية ورصد للمحسنات البديعية ومواصفات اللغة كالرصانة والجزالة والسلاسة والليونة ....وكانت هذه المقاربة البلاغية تسقط مفاهيم البلاغة الشعرية على الرواية دون مراعاة خصائصها النوعية والتجنيسية وبنائها التعبيري المعقد وطاقته البلاغية واللغوية والتركيبية. وحاولت المقاربات المرجعية سواء الاجتماعية منها أم النفسية ربط اللغة بمفاهيم التحليل النفسي والوعي واللاوعي وعلاقتها بذات المبدع أو ربط اللغة بماهو اجتماعي وطبقي ومدى تعبيرها عن الصراع الاجتماعي بين الفئات الاجتماعية وجنوحها نحو الواقعية والتصوير الموضوعي المحايد بعيدا عن الإنشائية ولغة الاستعارات. ويعني هذا أن الرواية ظلت " ردحا طويلا من الزمن موضع دراسة إيديولوجية مجردة وتقويم اجتماعي دعائي فقط. كانت المسائل المشخصة لأسلوبيتها تهمل إهمالا تاما أو تدرس عرضا وبلا مبدئية: كانت الكلمة النثرية الفنية تفهم كما تفهم الكلمة الشعرية بالمعنى الضيق للكلمة. وبالتالي، كانت تطبق عليها تطبيقا غير انتقادي مقولات الأسلوبية التقليدية(وأساسها المجاز)، أو كان يكتفى بتقويمها بأوصاف فارغة من تلك التي تطلق على اللغة كالتعبيرية والتصويرية والجزالة والبيان وما إلى ذلك دون تضمين هذه المفاهيم أي معنى أسلوبي محدد ومدروس". وبعد ذلك أتت اللسانيات لدراسة اللغة دراسة علمية بتفكيك المستويات الصوتية والصرفية والتركيبية والبلاغية والدلالية وتركيبها بواسطة تحليل بنيوي محايث قائم على مجموعة من الثنائيات، ولاسيما ثنائية الدال والمدلول، وثنائية اللغة والكلام، وثنائية المحور التركيبي والمحور الاستبدالي، مهملة بذلك بلاغة اللغة الروائية ومستويات التشخيص فيها. وهذا ما كان يشير إليه المنظر الروسي ميخائيل باختين بقوله:"إن وحدة الرواية، والقضايا النوعية المتعلقة ببنائها، انطلاقا من عناصر متعددة اللغات، ومتعددة الأصوات، ومتعددة الأساليب- وهي غالبا عناصر متعلقة بلغات مختلفة- كل هذه الأشياء تقع خارج حدود مثل هذه الأبحاث اللسانية التقليدية". ... لكن اللغة الروائية ستعرف انتعاشها مع البلاغة الجديدة أو أسلوبية الرواية التي ظهرت في العقد الثاني من القرن العشرين مع الشكلانيين الروس ولاسيما ميخائيل باختين في كتابيهجمالية الرواية ونظريتها)، و( شعرية دوستفسكي)، حيث أعاد للصورة الروائية واللغوية قيمتها التعبيرية ومكانتها التجنيسية ودراستها بمفاهيم النوع الروائي بعيدا عن معايير الشعر ومفاهيمه البلاغية التقليدية التي تنحصر في ثنائية المشابهة والمجاورة. ويعني هذا أن أسلوبية الرواية قد تخلصت إلى حد ما من أدوات البلاغة التقليدية أو طعمتها بمفاهيم جديدة تراعي خصوصية الرواية من ناحية الجنس والنوع. وأصبحت للأسلوبية مصطلحاتها التقنية والمفاهيمية التي تكون غالبا مستنبطة من الخطاب الروائي نفسه. وقد نتج عن هذا الاهتمام الأسلوبي الباختيني أن أخذت " الكلمة الروائية النثرية تحتل مكانها في الأسلوبية، فمن جهة ظهرت مجموعة من التحليلات الأسلوبية المشخصة للنثر الروائي، وقامت، من جهة أخرى، محاولات مبدئية لإدراك أصالة النثر الفني بالنسبة إلى الشعر ورسم ملامح هذه الأصالة" . وقد طرح باختين في هذين الكتابين مفاهيم أسلوبية جديدة في دراسة اللغة الروائية مثل: التهجين والباروديا والمحاكاة الساخرة والتهجين والأسلبة والتنويع والصورة الروائية والحوار والتناص والمنولوجية والبوليفونية... وصارت كتابات باختين فيما بعد مرجعا أساسيا للدراسات البويطيقية والسيميائية وجمالية التلقي في التفاعل مع النصوص وتلقيها وتأويلها. وقد حاول باختين أن يجمع في دراساته بين التحليلين: الشكلاني والمادي وقد تأثرت به جوليا كريستيفا كثيرا في مقارباتها السيميائية في دراسة الشعر والرواية.
هذا، وإن اللغة الروائية عند باختين تتجاوز الكلمات القاموسية والألفاظ المفردة إلى بناء النص الروائي الذي يستند إلى تعدد الأصوات والمنظورات السردية والأجناس وتداخل الخطابات والأساليب اللغوية . ومن هنا يميز باختين بين الرواية المنولوجية والرواية البوليفونية. إذاً، فما خصائصهما الشكلية والدلالية؟
2- الرواية المنولوجية والرواية البوليفونية:
إذا كانت الرواية المنولوجية هي الرواية التي تتكئ على تصور إيديولوجي أحادي وتشكيل سردي مبني على أحادية السارد المطلق العارف بكل شيء، وهيمنة السرد على الخطاب المعروض، وعدم تنويع اللغة، والاكتفاء بسجل لغوي واحد يتسم بالرتابة والتكرار والمعاودة والفرادة الأسلوبية. أما الرواية البوليفونية أو الرواية الحوارية التي يفضلها باختين على الرواية المنولوجية فهي التي تمتاز بالأصوات المتعددة واللغات المختلفة والأجناس المتنوعة وتعدد الخطابات التناصية والمستنسخات النصية وتنوع السجلات اللغوية واختلاف المنظورات السردية والتصورات الإيديولوجية حيث يترك للقارئ اختيار الموقف الذي يلائمه والشخصية التي توافق تطلعاته الفكرية والذهنية والعقدية. ويعني هذا أن الرواية المنولوجية ذات صوت واحد ولغة مفردة وإيديولوجية مطلقة أحادية الجانب حيث يتحكم الكاتب في شخصيات المتن الحكائي كيفما يشاء يوجه مصائرها بطريقة علنية مسبقة. أما الرواية البوليفونية فتحرص على تنويع الخطاب باستعمال أساليب لغوية وبلاغية مختلفة تتراوح بين الحوار الداخلي(المناجاة) والوصف والحوار الخالص والرسالة والسرد بكل أنواعه، واستعمال اللهجات المحلية وسجلات مختلف الشرائح والفئات الاجتماعية في إطار تواصل تداولي سياقي، فضلا عن توظيف المؤشرات التناصية والمتناصية ذات مرجعيات تفاعلية تاريخية وفنية وأدبية وفلسفية وإعلامية ودينية...إنها باختصار رواية متعددة الأبنية والأصوات والأجناس ، كما أنها مرجعيا هي رواية ديمقراطية في الطرح الإيديولوجي والتشكيل النصي واللغوي تركز على صراع الشخصيات وتناقض مواقفها ولغاته الخاصة التي تجعلها تنتمي لجماعة لغوية معينة تتجلى لنا بكل وضوح في الخطاب الروائي. . ولكن يلاحظ أن باختين لا يشير إلى الرواية المنولوجية أو مايسمى بتيار الوعي كما عند جيمس جويس وكافكا وهمنغواي وفيرجينيا وولف ودون باسوس؛ لأن هذه الرواية قمة في العطاء اللغوي وانزياح ملحوظ في الأسلبة والتذويت( نسبة إلى الذات) وإنجاز جديد في مجال التصوير اللغوي، وعظمتها الأسلوبية ليست بأقل من عظمة الرواية البوليفونية التي نجدها عند دويستيفسكي. لذلك، لايقصد باختين بالرواية المنولوجية تلك الروايات التي ذكرناها آنفا، بل يقصد الرواية العادية ذات الصوت الواحد خاصة في روسيا الاتحادية.
ومن أهم النماذج الروائية العربية التي تمثل الرواية البوليفونية كما نظر لها ميخائيل باختين رواية لعبة النسيان للكاتب المغربي محمد برادة حتى إنه حاول أن ينجز رواية طبق فيها وصفة باختين تطبيقا حرفيا أمينا، ولاسيما أنه من السباقين إلى ترجمة الفكر الباختيني في العالم العربي. ولا ننسى كذلك الروايات التجريبية الجديدة التي نوعت تشكيلها اللغوي كما لدى عبد الله العروي في أوراق وبنسالم حميش في مجنون الحكم والعلامة وأحمد المديني وصنع الله إبراهيم وآخرين كثيرين.... أما معظم الروايات العربية الأخرى وخاصة الروايات الواقعية والرومانسية فتبقى روايات منولوجية أحادية الأسلوب والمنظور والراوي والإيقاع، وهذا ما كان يشير إليه عبد الله العروي بقوله:" لقد كانت رواية القرن 19 الكبرى الموضوعية تتطلب على الأقل ثلاث لغات: واحدة تؤسس الموضوعية، وهي وسيلة الاتصال. والثانية تحدد أسلوب الكاتب. وأخيرا اللغة أو عدة لغات تستخدم لإعطاء خصائص الشخصيات. ونادرا ما تحتوي رواية عربية أكثر من لغتين، وفي أكثر الأحيان، لاتكون الثانية سوى لغة متقطعة...".
ويبين لنا هذا القول مدى أحادية لغة الرواية العربية ومدى منولوجيتها التصويرية وانعدام التنوع اللغوي والتعددية في هذه الرواية إلا في حالات قليلة، وحتى إن اللغة الثانية قد أصيبت بالركاكة والاختلال ورداءة التركيب ونقص خاصية الأسلبة والتعددية اللغوية.
3- أنواع التشكيل اللغوي على ضوء التطور الروائي:
إذا تأملنا الخطاب الروائي في تطوراته الأسلوبية واللغوية فإننا نجد أنماطا من التصوير اللغوي على الشكل التالي:
أ?- لغة التصوير المباشرة كما عند الرواية الواقعية والرواية الطبيعية والرواية الجديدة.
ب?- لغة التصوير التراثية كما لدى مدرسة التأصيل الروائي أومايسمى بالرواية التراثية..
ت?- لغة التصوير الشعرية المجازية كما في رواية المحكي الشاعري.
* لغة التصوير المباشرة:
كانت اللغة التصويرية عند الواقعيين كبلزاك وفلوبير وتولستوي وستندال وعند الطبيعيين كإميل زولا تتسم بالموضوعية المباشرة الرصينة والمفاهيم التقنية والريبورتاج الواقعي التوثيقي القائم على محاكاة الواقع وتصويره تصويرا تقريريا حرفيا جافا خاليا من التصوير البياني والوظيفة الجمالية الإيحائية والانزياج الفني ، وكان الغرض من كل ذلك هو إضفاء الواقعية والإيهام بصدق الواقع والفضاء التخييلي الذي تنقله الرواية. كما كانت الرواية الجديدة مع نتالي ساروت وآلان روب ﮔـرييه وريكاردو تحارب النعوت والانزياحات والمجازات وتهتم برصد الأشياء أو عالم الأشياء. وكل هذه الخصائص اللغوية تنطبق على الرواية العربية وخصوصا روايات نجيب محفوظ الواقعية( بداية ونهاية- الثلاثية-....)، وروايات عبد الرحمن الشرقاوي ( الأرض- الفلاح...)، وعبد الكريم غلاب( دفنا الماضي- المعلم علي....)، ومبارك ربيع( الريح الشتوية...)، وما كتبه الروائيون العرب الجدد مثل صنع الله إبراهيم ومحمد شكري وعبد الرحمن مجيد الربيعي وغسان كنفاني ومحمد عزالدين التازي و شغموم الميلودي ومحمد الأشعري ومحمد برادة...
* لغة التصوير التراثية:
تستند الرواية التراثية إلى لغة التخييل والإسقاط التاريخي واللغة البيانية المسكوكة الطافحة بالمستنسخات النصية ذات الطاقة الإحالية التفاعلية كما تعمل على تعتيق اللغة وتأصيل الأسلوب وتضمينه بعبارات تراثية وترهينه بأجواء التراث على الرغم من إيحاءاته المعاصرة. كما تتميز هذه اللغة بالمفارقة والترميز والأسلبة والتهجين وتداخل اللغات ( العتيقة والمعاصرة، الفصحى والعامية)، وتعدد الأصوات، كما يلاحظ التماهي الأسلوبي والتاريخي بين زمن المغايرة وزمن الثبات أو الماضي والحاضر.
وعليه، فاللغة في الرواية التراثية هي لغة المفارقة الساخرة والباروديا والمقتبسات النصية والتضمين والمحاكاة، وتحمل اللغة في طياتها إيديولوجية العصر، أي إن اللغة ليست بريئة في حمولاتها الفنية، والرمز في هذه الرواية" يتشعب في عدد لانهائي من الانطلاقات الدلالية".
وتتمظهر هذه اللغة التراثية عند روائيين حاولوا تأصيل الكتابة الروائية العربية لخلق حداثة تتواصل مع السرد العربي القديم وتتجاوب مع خصوصيات القارئ أو الإنسان العربي. ومن أهم هؤلاء الروائيين: محمود المسعدي ( حدث أبو هريرة قال...)، وجمال الغيطاني( الزيني بركات والتجليات وكتاب الليالي...)، وبنسالم حميش( مجنون الحكم والعلامة ومحن الفتى زين شامة)، وأحمد توفيق( جارات أبي موسى)، ورضوى عاشور( ثلاثية غرناطة)، ومبارك ربيع( بدر زمانه)، ونجيب محفوظ( ليالي ألف ليلة)، وإميل حبيبي(الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس)، الخ...
* لغة التصوير المجازية:
تعتمد هذه اللغة على التصوير الاستعاري و الكنائي والترميز وتفجير اللغة والشاعرية والمفارقة فضلا عن المزاوجة بين المحكي السردي والمحكي الشاعري كما نظر له جان إيف تادييه J.Y.V.Tadié . ويعني هذا أن اللغة في هذا الخطاب خليط من الغنائية والسردية الدرامية وتكثيف للصور الشعرية والنثرية واستخدام كبير للرموز والألفاظ الموحية المعبرة وتأنيث القاموس وتليينه باللغة الشعرية النابضة بإيقاع التذويت والتلوين البياني والبديعي واستخدام الكلمات المتعددة الدلالات واستثمار اللغة الشاعرية الانزياحية والإيحائية قصد خلق الوظيفة الشعرية والجمالية الخارقة. ومن أهم الروائيين الذين ارتكنوا إلى هذا الخطاب السردي الشاعري نذكر على سبيل المثال: حميدة نعنع في روايتها( الوطن في العينين) التي قال عنها الدكتور حميد لحمداني:" وإذا كانت لهذه الرواية قيمة جمالية ودلالية معينة، فهي ليست صادرة أبدا عن الحوارية، ولكن عن جوانب أخرى كاستغلال المعطيات التاريخية المرجعية ثم استخدام الأساليب الشعرية على مستوى العبارات بحيث يتم إغراق ماهو تاريخي فيما هو شعوري، يضاف إلى ذلك استغلال المفارقة الفنية بين زمن الأحداث وزمن السرد".
وهناك روايات شاعرية أخرى كحجر الضحك لهدى بركات ورامة والتنين لإدوار الخراط وأوراق لعبد الله العروي وسوانح الصمت والسراب لجلول قاسمي....
4- إشكالية الفصحى والعامية في الخطاب الروائي العربي:
وهناك قضية شائكة أخرى مرتبطة بلغة الخطاب الروائي العربي تتعلق بالعامية أو اللهجات المحلية، وتتمثل في الصيغة التالية: هل سنكتب بالفصحى أم بالعامية المصرية أو بالعاميات الأخرى أم نزاوج بينها مثلما فعل توفيق الحكيم ونجيب محفوظ؛ لأن هذه المزاوجة تضفي على النص الروائي نوعا من الواقعية والصدق الفني؟!
هناك ردود مختلفة للجواب عن هذه القضية العويصة، فهناك من يدعو إلى توظيف العامية فقط كما فعل عبد الرحمن الشرقاوي في روايته(الأرض)، وهناك من يدعو إلى تفصيح الرواية كما يدعو إلى ذلك الدكتور عبد الملك مرتاض في قوله:" ينبغي أن نكتب الحوار باللغة العربية الفصحى وأن نكتب لكل مستوى مقامي باللغة المناسبة، فالقراء هم طلبة جامعيون فلماذا لانكتب لهم بالعربية؟ فمن يفهم العامية الجزائرية/المصرية/ الأردنية/ المغربية. إذاً، لابد من تفصيح اللغة الحوارية أو سردنة الحوار بلغة شعرية جميلة. ولايعني أن الكتابة بالعامية هي كتابة واقعية تعبر عن مستوى المتكلم الاجتماعي والثقافي.
إن هذه الظاهرة المزعجة عرفت في بعض الكتابات الأدبية الأخرى حيث كاد بلزاكBalzac وهيجوVictor Hugo وسواهما ينادون بالويل والثبور، وعظائم الأمور، مماقد يلحق الأدب الفرنسي من مصائب العاميات المحلية الفرنسية، إلى أن جاء مارسيل بروست فحاول أن يقيس اللغة على مقدار الوضع الاجتماعي للشخصية في كتاباته الروائية". وهناك من يتبنى المزاوجة والتعددية اللغوية لمراعاة الفوارق الطبقية والاجتماعية واستخلاص الأبعاد الإيديولوجية من خلال صراع اللغات وتعدد الأساليب كما نجد ذلك في روايات توفيق الحكيم( يوميات نائب في الأرياف...)، ومحمد برادة( لعبة النسيان على سبيل الخصوص...).
وفي رأيي ، من الأفضل أن نقوم بتفصيح الرواية وجميع الفنون والأجناس الأدبية وخاصة السينما. وذلك لأننا لانفهم مايقوله العراقيون ولا الكويتيون ولا الأردنيون ولا التونسيون. فكم من مسرحيات هادفة وجادة لاتحقق التواصل بين المغاربة والمشارقة! والسبب يعود إلى كثرة العاميات واختلافها من بيئة إلى أخرى. لذلك لابد من استخدام اللغة العربية في جميع المقامات التخاطبية لنحقق التواصل بين المرسل والمتلقي، ونرفع من مستوى الثقافة والتواصل الأدبي والفني في عالمنا العربي. وينبغي كذلك أن تكون اللغة الروائية خاضعة لقواعد البيان العربي وقابلة لتفجيرها انزياحا وإبداعا واشتقاقا وتوليدا لخلق حداثة فنية. ويقول عبد الملك مرتاض:" إنا نطالب بتبني لغة شعرية في الرواية، ولكن ليست كالشعر، ولغة عالمية المستوى، ولكن ليست بالمقدار الذي تصبح فيه تقعرا وتفيهقا... غير أن عدم علوها لايعني إسفافها وفسادها وهزالتها وركاكتها..., ذلك على أساس أن أي عمل إبداعي حداثي هو عمل باللغة قبل كل شيء".
وبناء على ماسبق، ستبقى اللغة أهم مكون جمالي وإبداعي في عملية الخلق الروائي بعد أن استغنى الروائي المعاصر عن عدة مكونات سردية مثلك الشخصية والحدث والفضاء، ولكنه لايمكن له أن يستغني عن اللغة في التصوير والتشكيل وسرد الأحداث. وبالتالي، على الروائي أن يكون قادرا على توليدها واستثمارها واستعمالها في أحسن الصيغ الاستعارية والمجازية: تقريرا أو تفجيرا أو إيحاء أو تعيينا. ولابد أن تكون اللغة تناصية خاضعة للتعدد الحواري والأسلبة والتهجين الأسلوبي، ولكن في إطار مراعاة اللغة العربية الفصحى بقواعدها المعيارية وأبعادها البلاغية والجمالية. ولقد صدق عبد الملك مرتاض حينما قال:" اللغة هي أساس الجمال في العمل الإبداعي من حيث هو؛ ومن ذلك، الرواية التي ينهض تشكيلها على اللغة بعد أن فقدت الشخصية(PERSONNAGE) كثيرا من الامتيازات الفنية، التي كانت تتمتع بها طوال القرن التاسع عشر، وطوال النصف الأول من القرن العشرين أيضا... إنه لم يبق للرواية شيء آخر غير جمال لغتها، وأناقة نسجها".
وأخيرا، ننبه نقادنا- خاصة نقاد الخطاب الروائي- إلى الاهتمام باللغة الروائية، وأن يحاولوا دراستها اعتمادا على مفاهيم اللسانيات النصية المعاصرة والأسلوبية الحديثة لا بمفاهيم البلاغة القديمة، وأن يوسعوا من مفاهيم ماورثناه عن البلاغة القديمة ، وأن يحللوا المقاطع اللغوية في إطار الوحدة الكلية للرواية، مراعيا تنوع أسلوبها وخطابها النوعي والأجناسي. وألا نسقط مفاهيم الشعر على الرواية إلا إذا أفرغناها من محتوياتها الضيقة، وشحّناها بطاقات أكثر اتساعا وإحاطة لفهم الرواية وتذوق جمالياتها.
1- اللغة الروائية والمقاربات النقدية:
لقد تعامل الكثير من النقاد والدارسين مع اللغة الروائية باعتبارها مادة تعبيرية وحاملة للفكر ومضامين النص وأبعاده المرجعية. إلا أن هناك من كان يدرسها من خلال مقاربة بلاغية تقليدية تركز على الصور الشعرية من تشبيه ومجاز واستعارة وكناية ورصد للمحسنات البديعية ومواصفات اللغة كالرصانة والجزالة والسلاسة والليونة ....وكانت هذه المقاربة البلاغية تسقط مفاهيم البلاغة الشعرية على الرواية دون مراعاة خصائصها النوعية والتجنيسية وبنائها التعبيري المعقد وطاقته البلاغية واللغوية والتركيبية. وحاولت المقاربات المرجعية سواء الاجتماعية منها أم النفسية ربط اللغة بمفاهيم التحليل النفسي والوعي واللاوعي وعلاقتها بذات المبدع أو ربط اللغة بماهو اجتماعي وطبقي ومدى تعبيرها عن الصراع الاجتماعي بين الفئات الاجتماعية وجنوحها نحو الواقعية والتصوير الموضوعي المحايد بعيدا عن الإنشائية ولغة الاستعارات. ويعني هذا أن الرواية ظلت " ردحا طويلا من الزمن موضع دراسة إيديولوجية مجردة وتقويم اجتماعي دعائي فقط. كانت المسائل المشخصة لأسلوبيتها تهمل إهمالا تاما أو تدرس عرضا وبلا مبدئية: كانت الكلمة النثرية الفنية تفهم كما تفهم الكلمة الشعرية بالمعنى الضيق للكلمة. وبالتالي، كانت تطبق عليها تطبيقا غير انتقادي مقولات الأسلوبية التقليدية(وأساسها المجاز)، أو كان يكتفى بتقويمها بأوصاف فارغة من تلك التي تطلق على اللغة كالتعبيرية والتصويرية والجزالة والبيان وما إلى ذلك دون تضمين هذه المفاهيم أي معنى أسلوبي محدد ومدروس". وبعد ذلك أتت اللسانيات لدراسة اللغة دراسة علمية بتفكيك المستويات الصوتية والصرفية والتركيبية والبلاغية والدلالية وتركيبها بواسطة تحليل بنيوي محايث قائم على مجموعة من الثنائيات، ولاسيما ثنائية الدال والمدلول، وثنائية اللغة والكلام، وثنائية المحور التركيبي والمحور الاستبدالي، مهملة بذلك بلاغة اللغة الروائية ومستويات التشخيص فيها. وهذا ما كان يشير إليه المنظر الروسي ميخائيل باختين بقوله:"إن وحدة الرواية، والقضايا النوعية المتعلقة ببنائها، انطلاقا من عناصر متعددة اللغات، ومتعددة الأصوات، ومتعددة الأساليب- وهي غالبا عناصر متعلقة بلغات مختلفة- كل هذه الأشياء تقع خارج حدود مثل هذه الأبحاث اللسانية التقليدية". ... لكن اللغة الروائية ستعرف انتعاشها مع البلاغة الجديدة أو أسلوبية الرواية التي ظهرت في العقد الثاني من القرن العشرين مع الشكلانيين الروس ولاسيما ميخائيل باختين في كتابيهجمالية الرواية ونظريتها)، و( شعرية دوستفسكي)، حيث أعاد للصورة الروائية واللغوية قيمتها التعبيرية ومكانتها التجنيسية ودراستها بمفاهيم النوع الروائي بعيدا عن معايير الشعر ومفاهيمه البلاغية التقليدية التي تنحصر في ثنائية المشابهة والمجاورة. ويعني هذا أن أسلوبية الرواية قد تخلصت إلى حد ما من أدوات البلاغة التقليدية أو طعمتها بمفاهيم جديدة تراعي خصوصية الرواية من ناحية الجنس والنوع. وأصبحت للأسلوبية مصطلحاتها التقنية والمفاهيمية التي تكون غالبا مستنبطة من الخطاب الروائي نفسه. وقد نتج عن هذا الاهتمام الأسلوبي الباختيني أن أخذت " الكلمة الروائية النثرية تحتل مكانها في الأسلوبية، فمن جهة ظهرت مجموعة من التحليلات الأسلوبية المشخصة للنثر الروائي، وقامت، من جهة أخرى، محاولات مبدئية لإدراك أصالة النثر الفني بالنسبة إلى الشعر ورسم ملامح هذه الأصالة" . وقد طرح باختين في هذين الكتابين مفاهيم أسلوبية جديدة في دراسة اللغة الروائية مثل: التهجين والباروديا والمحاكاة الساخرة والتهجين والأسلبة والتنويع والصورة الروائية والحوار والتناص والمنولوجية والبوليفونية... وصارت كتابات باختين فيما بعد مرجعا أساسيا للدراسات البويطيقية والسيميائية وجمالية التلقي في التفاعل مع النصوص وتلقيها وتأويلها. وقد حاول باختين أن يجمع في دراساته بين التحليلين: الشكلاني والمادي وقد تأثرت به جوليا كريستيفا كثيرا في مقارباتها السيميائية في دراسة الشعر والرواية.
هذا، وإن اللغة الروائية عند باختين تتجاوز الكلمات القاموسية والألفاظ المفردة إلى بناء النص الروائي الذي يستند إلى تعدد الأصوات والمنظورات السردية والأجناس وتداخل الخطابات والأساليب اللغوية . ومن هنا يميز باختين بين الرواية المنولوجية والرواية البوليفونية. إذاً، فما خصائصهما الشكلية والدلالية؟
2- الرواية المنولوجية والرواية البوليفونية:
إذا كانت الرواية المنولوجية هي الرواية التي تتكئ على تصور إيديولوجي أحادي وتشكيل سردي مبني على أحادية السارد المطلق العارف بكل شيء، وهيمنة السرد على الخطاب المعروض، وعدم تنويع اللغة، والاكتفاء بسجل لغوي واحد يتسم بالرتابة والتكرار والمعاودة والفرادة الأسلوبية. أما الرواية البوليفونية أو الرواية الحوارية التي يفضلها باختين على الرواية المنولوجية فهي التي تمتاز بالأصوات المتعددة واللغات المختلفة والأجناس المتنوعة وتعدد الخطابات التناصية والمستنسخات النصية وتنوع السجلات اللغوية واختلاف المنظورات السردية والتصورات الإيديولوجية حيث يترك للقارئ اختيار الموقف الذي يلائمه والشخصية التي توافق تطلعاته الفكرية والذهنية والعقدية. ويعني هذا أن الرواية المنولوجية ذات صوت واحد ولغة مفردة وإيديولوجية مطلقة أحادية الجانب حيث يتحكم الكاتب في شخصيات المتن الحكائي كيفما يشاء يوجه مصائرها بطريقة علنية مسبقة. أما الرواية البوليفونية فتحرص على تنويع الخطاب باستعمال أساليب لغوية وبلاغية مختلفة تتراوح بين الحوار الداخلي(المناجاة) والوصف والحوار الخالص والرسالة والسرد بكل أنواعه، واستعمال اللهجات المحلية وسجلات مختلف الشرائح والفئات الاجتماعية في إطار تواصل تداولي سياقي، فضلا عن توظيف المؤشرات التناصية والمتناصية ذات مرجعيات تفاعلية تاريخية وفنية وأدبية وفلسفية وإعلامية ودينية...إنها باختصار رواية متعددة الأبنية والأصوات والأجناس ، كما أنها مرجعيا هي رواية ديمقراطية في الطرح الإيديولوجي والتشكيل النصي واللغوي تركز على صراع الشخصيات وتناقض مواقفها ولغاته الخاصة التي تجعلها تنتمي لجماعة لغوية معينة تتجلى لنا بكل وضوح في الخطاب الروائي. . ولكن يلاحظ أن باختين لا يشير إلى الرواية المنولوجية أو مايسمى بتيار الوعي كما عند جيمس جويس وكافكا وهمنغواي وفيرجينيا وولف ودون باسوس؛ لأن هذه الرواية قمة في العطاء اللغوي وانزياح ملحوظ في الأسلبة والتذويت( نسبة إلى الذات) وإنجاز جديد في مجال التصوير اللغوي، وعظمتها الأسلوبية ليست بأقل من عظمة الرواية البوليفونية التي نجدها عند دويستيفسكي. لذلك، لايقصد باختين بالرواية المنولوجية تلك الروايات التي ذكرناها آنفا، بل يقصد الرواية العادية ذات الصوت الواحد خاصة في روسيا الاتحادية.
ومن أهم النماذج الروائية العربية التي تمثل الرواية البوليفونية كما نظر لها ميخائيل باختين رواية لعبة النسيان للكاتب المغربي محمد برادة حتى إنه حاول أن ينجز رواية طبق فيها وصفة باختين تطبيقا حرفيا أمينا، ولاسيما أنه من السباقين إلى ترجمة الفكر الباختيني في العالم العربي. ولا ننسى كذلك الروايات التجريبية الجديدة التي نوعت تشكيلها اللغوي كما لدى عبد الله العروي في أوراق وبنسالم حميش في مجنون الحكم والعلامة وأحمد المديني وصنع الله إبراهيم وآخرين كثيرين.... أما معظم الروايات العربية الأخرى وخاصة الروايات الواقعية والرومانسية فتبقى روايات منولوجية أحادية الأسلوب والمنظور والراوي والإيقاع، وهذا ما كان يشير إليه عبد الله العروي بقوله:" لقد كانت رواية القرن 19 الكبرى الموضوعية تتطلب على الأقل ثلاث لغات: واحدة تؤسس الموضوعية، وهي وسيلة الاتصال. والثانية تحدد أسلوب الكاتب. وأخيرا اللغة أو عدة لغات تستخدم لإعطاء خصائص الشخصيات. ونادرا ما تحتوي رواية عربية أكثر من لغتين، وفي أكثر الأحيان، لاتكون الثانية سوى لغة متقطعة...".
ويبين لنا هذا القول مدى أحادية لغة الرواية العربية ومدى منولوجيتها التصويرية وانعدام التنوع اللغوي والتعددية في هذه الرواية إلا في حالات قليلة، وحتى إن اللغة الثانية قد أصيبت بالركاكة والاختلال ورداءة التركيب ونقص خاصية الأسلبة والتعددية اللغوية.
3- أنواع التشكيل اللغوي على ضوء التطور الروائي:
إذا تأملنا الخطاب الروائي في تطوراته الأسلوبية واللغوية فإننا نجد أنماطا من التصوير اللغوي على الشكل التالي:
أ?- لغة التصوير المباشرة كما عند الرواية الواقعية والرواية الطبيعية والرواية الجديدة.
ب?- لغة التصوير التراثية كما لدى مدرسة التأصيل الروائي أومايسمى بالرواية التراثية..
ت?- لغة التصوير الشعرية المجازية كما في رواية المحكي الشاعري.
* لغة التصوير المباشرة:
كانت اللغة التصويرية عند الواقعيين كبلزاك وفلوبير وتولستوي وستندال وعند الطبيعيين كإميل زولا تتسم بالموضوعية المباشرة الرصينة والمفاهيم التقنية والريبورتاج الواقعي التوثيقي القائم على محاكاة الواقع وتصويره تصويرا تقريريا حرفيا جافا خاليا من التصوير البياني والوظيفة الجمالية الإيحائية والانزياج الفني ، وكان الغرض من كل ذلك هو إضفاء الواقعية والإيهام بصدق الواقع والفضاء التخييلي الذي تنقله الرواية. كما كانت الرواية الجديدة مع نتالي ساروت وآلان روب ﮔـرييه وريكاردو تحارب النعوت والانزياحات والمجازات وتهتم برصد الأشياء أو عالم الأشياء. وكل هذه الخصائص اللغوية تنطبق على الرواية العربية وخصوصا روايات نجيب محفوظ الواقعية( بداية ونهاية- الثلاثية-....)، وروايات عبد الرحمن الشرقاوي ( الأرض- الفلاح...)، وعبد الكريم غلاب( دفنا الماضي- المعلم علي....)، ومبارك ربيع( الريح الشتوية...)، وما كتبه الروائيون العرب الجدد مثل صنع الله إبراهيم ومحمد شكري وعبد الرحمن مجيد الربيعي وغسان كنفاني ومحمد عزالدين التازي و شغموم الميلودي ومحمد الأشعري ومحمد برادة...
* لغة التصوير التراثية:
تستند الرواية التراثية إلى لغة التخييل والإسقاط التاريخي واللغة البيانية المسكوكة الطافحة بالمستنسخات النصية ذات الطاقة الإحالية التفاعلية كما تعمل على تعتيق اللغة وتأصيل الأسلوب وتضمينه بعبارات تراثية وترهينه بأجواء التراث على الرغم من إيحاءاته المعاصرة. كما تتميز هذه اللغة بالمفارقة والترميز والأسلبة والتهجين وتداخل اللغات ( العتيقة والمعاصرة، الفصحى والعامية)، وتعدد الأصوات، كما يلاحظ التماهي الأسلوبي والتاريخي بين زمن المغايرة وزمن الثبات أو الماضي والحاضر.
وعليه، فاللغة في الرواية التراثية هي لغة المفارقة الساخرة والباروديا والمقتبسات النصية والتضمين والمحاكاة، وتحمل اللغة في طياتها إيديولوجية العصر، أي إن اللغة ليست بريئة في حمولاتها الفنية، والرمز في هذه الرواية" يتشعب في عدد لانهائي من الانطلاقات الدلالية".
وتتمظهر هذه اللغة التراثية عند روائيين حاولوا تأصيل الكتابة الروائية العربية لخلق حداثة تتواصل مع السرد العربي القديم وتتجاوب مع خصوصيات القارئ أو الإنسان العربي. ومن أهم هؤلاء الروائيين: محمود المسعدي ( حدث أبو هريرة قال...)، وجمال الغيطاني( الزيني بركات والتجليات وكتاب الليالي...)، وبنسالم حميش( مجنون الحكم والعلامة ومحن الفتى زين شامة)، وأحمد توفيق( جارات أبي موسى)، ورضوى عاشور( ثلاثية غرناطة)، ومبارك ربيع( بدر زمانه)، ونجيب محفوظ( ليالي ألف ليلة)، وإميل حبيبي(الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس)، الخ...
* لغة التصوير المجازية:
تعتمد هذه اللغة على التصوير الاستعاري و الكنائي والترميز وتفجير اللغة والشاعرية والمفارقة فضلا عن المزاوجة بين المحكي السردي والمحكي الشاعري كما نظر له جان إيف تادييه J.Y.V.Tadié . ويعني هذا أن اللغة في هذا الخطاب خليط من الغنائية والسردية الدرامية وتكثيف للصور الشعرية والنثرية واستخدام كبير للرموز والألفاظ الموحية المعبرة وتأنيث القاموس وتليينه باللغة الشعرية النابضة بإيقاع التذويت والتلوين البياني والبديعي واستخدام الكلمات المتعددة الدلالات واستثمار اللغة الشاعرية الانزياحية والإيحائية قصد خلق الوظيفة الشعرية والجمالية الخارقة. ومن أهم الروائيين الذين ارتكنوا إلى هذا الخطاب السردي الشاعري نذكر على سبيل المثال: حميدة نعنع في روايتها( الوطن في العينين) التي قال عنها الدكتور حميد لحمداني:" وإذا كانت لهذه الرواية قيمة جمالية ودلالية معينة، فهي ليست صادرة أبدا عن الحوارية، ولكن عن جوانب أخرى كاستغلال المعطيات التاريخية المرجعية ثم استخدام الأساليب الشعرية على مستوى العبارات بحيث يتم إغراق ماهو تاريخي فيما هو شعوري، يضاف إلى ذلك استغلال المفارقة الفنية بين زمن الأحداث وزمن السرد".
وهناك روايات شاعرية أخرى كحجر الضحك لهدى بركات ورامة والتنين لإدوار الخراط وأوراق لعبد الله العروي وسوانح الصمت والسراب لجلول قاسمي....
4- إشكالية الفصحى والعامية في الخطاب الروائي العربي:
وهناك قضية شائكة أخرى مرتبطة بلغة الخطاب الروائي العربي تتعلق بالعامية أو اللهجات المحلية، وتتمثل في الصيغة التالية: هل سنكتب بالفصحى أم بالعامية المصرية أو بالعاميات الأخرى أم نزاوج بينها مثلما فعل توفيق الحكيم ونجيب محفوظ؛ لأن هذه المزاوجة تضفي على النص الروائي نوعا من الواقعية والصدق الفني؟!
هناك ردود مختلفة للجواب عن هذه القضية العويصة، فهناك من يدعو إلى توظيف العامية فقط كما فعل عبد الرحمن الشرقاوي في روايته(الأرض)، وهناك من يدعو إلى تفصيح الرواية كما يدعو إلى ذلك الدكتور عبد الملك مرتاض في قوله:" ينبغي أن نكتب الحوار باللغة العربية الفصحى وأن نكتب لكل مستوى مقامي باللغة المناسبة، فالقراء هم طلبة جامعيون فلماذا لانكتب لهم بالعربية؟ فمن يفهم العامية الجزائرية/المصرية/ الأردنية/ المغربية. إذاً، لابد من تفصيح اللغة الحوارية أو سردنة الحوار بلغة شعرية جميلة. ولايعني أن الكتابة بالعامية هي كتابة واقعية تعبر عن مستوى المتكلم الاجتماعي والثقافي.
إن هذه الظاهرة المزعجة عرفت في بعض الكتابات الأدبية الأخرى حيث كاد بلزاكBalzac وهيجوVictor Hugo وسواهما ينادون بالويل والثبور، وعظائم الأمور، مماقد يلحق الأدب الفرنسي من مصائب العاميات المحلية الفرنسية، إلى أن جاء مارسيل بروست فحاول أن يقيس اللغة على مقدار الوضع الاجتماعي للشخصية في كتاباته الروائية". وهناك من يتبنى المزاوجة والتعددية اللغوية لمراعاة الفوارق الطبقية والاجتماعية واستخلاص الأبعاد الإيديولوجية من خلال صراع اللغات وتعدد الأساليب كما نجد ذلك في روايات توفيق الحكيم( يوميات نائب في الأرياف...)، ومحمد برادة( لعبة النسيان على سبيل الخصوص...).
وفي رأيي ، من الأفضل أن نقوم بتفصيح الرواية وجميع الفنون والأجناس الأدبية وخاصة السينما. وذلك لأننا لانفهم مايقوله العراقيون ولا الكويتيون ولا الأردنيون ولا التونسيون. فكم من مسرحيات هادفة وجادة لاتحقق التواصل بين المغاربة والمشارقة! والسبب يعود إلى كثرة العاميات واختلافها من بيئة إلى أخرى. لذلك لابد من استخدام اللغة العربية في جميع المقامات التخاطبية لنحقق التواصل بين المرسل والمتلقي، ونرفع من مستوى الثقافة والتواصل الأدبي والفني في عالمنا العربي. وينبغي كذلك أن تكون اللغة الروائية خاضعة لقواعد البيان العربي وقابلة لتفجيرها انزياحا وإبداعا واشتقاقا وتوليدا لخلق حداثة فنية. ويقول عبد الملك مرتاض:" إنا نطالب بتبني لغة شعرية في الرواية، ولكن ليست كالشعر، ولغة عالمية المستوى، ولكن ليست بالمقدار الذي تصبح فيه تقعرا وتفيهقا... غير أن عدم علوها لايعني إسفافها وفسادها وهزالتها وركاكتها..., ذلك على أساس أن أي عمل إبداعي حداثي هو عمل باللغة قبل كل شيء".
وبناء على ماسبق، ستبقى اللغة أهم مكون جمالي وإبداعي في عملية الخلق الروائي بعد أن استغنى الروائي المعاصر عن عدة مكونات سردية مثلك الشخصية والحدث والفضاء، ولكنه لايمكن له أن يستغني عن اللغة في التصوير والتشكيل وسرد الأحداث. وبالتالي، على الروائي أن يكون قادرا على توليدها واستثمارها واستعمالها في أحسن الصيغ الاستعارية والمجازية: تقريرا أو تفجيرا أو إيحاء أو تعيينا. ولابد أن تكون اللغة تناصية خاضعة للتعدد الحواري والأسلبة والتهجين الأسلوبي، ولكن في إطار مراعاة اللغة العربية الفصحى بقواعدها المعيارية وأبعادها البلاغية والجمالية. ولقد صدق عبد الملك مرتاض حينما قال:" اللغة هي أساس الجمال في العمل الإبداعي من حيث هو؛ ومن ذلك، الرواية التي ينهض تشكيلها على اللغة بعد أن فقدت الشخصية(PERSONNAGE) كثيرا من الامتيازات الفنية، التي كانت تتمتع بها طوال القرن التاسع عشر، وطوال النصف الأول من القرن العشرين أيضا... إنه لم يبق للرواية شيء آخر غير جمال لغتها، وأناقة نسجها".
وأخيرا، ننبه نقادنا- خاصة نقاد الخطاب الروائي- إلى الاهتمام باللغة الروائية، وأن يحاولوا دراستها اعتمادا على مفاهيم اللسانيات النصية المعاصرة والأسلوبية الحديثة لا بمفاهيم البلاغة القديمة، وأن يوسعوا من مفاهيم ماورثناه عن البلاغة القديمة ، وأن يحللوا المقاطع اللغوية في إطار الوحدة الكلية للرواية، مراعيا تنوع أسلوبها وخطابها النوعي والأجناسي. وألا نسقط مفاهيم الشعر على الرواية إلا إذا أفرغناها من محتوياتها الضيقة، وشحّناها بطاقات أكثر اتساعا وإحاطة لفهم الرواية وتذوق جمالياتها.
- إسماعيل سعديمدير الموقع
- البلد :
الجنس :
عدد المساهمات : 3758
نقاط تميز العضو : 150694
تاريخ التسجيل : 03/04/2009
رد: اللغة في الخطاب الروائي العربي
23/03/10, 01:01 am
موضوع مهم ننتظر الجديد في المواضيع النثرية شكرا أخي محمد
- إسماعيل سعديمدير الموقع
- البلد :
الجنس :
عدد المساهمات : 3758
نقاط تميز العضو : 150694
تاريخ التسجيل : 03/04/2009
رد: اللغة في الخطاب الروائي العربي
23/03/10, 01:05 am
وهذا الموضوع نقلته من مقهى اللغة العربية وفيه فوائد جمّة
نموذج من الأثر الإسلامي في الأدب الغربي أثر حي بن يقظان لابن طفيل في روبنسون كروزو لدانييل دبفو
ازدهرت الحضارة الإسلامية في القرون الوسطى، في زمن كانت فيه أوروبا تغرق في الظلام، وقد شكلت إسبانية التي دعاها المسلمون بـ(الأندلس) مركز إشعاع حضاري في تلك الفترة، إذ يلجأ إليها العلماء وطلاب المعرفة من سائر أوروبا، وكما تقول الدكتورة (لوثي لوبيث بارالت) من الظلم البين ألا نقبل القول بأن إسبانيا الإسلامية كانت تشكل بالفعل معجزة ثقافية حقيقية في إطار القارة الأوروبية في القرون الوسطى. وبفضل العرب المسلمين، لم تبلغ أية أمة أوروبية أخرى ما بلغته شبه الجزيرة الأيبيرية من تقدم العلوم والفنون في تلك العصور التي كانت وسيطة أو مظلمة بالنسبة لقارة أوروبا لكنها لم تكن على الإطلاق بالنسبة إلى الأندلس.(1)
لذلك بإمكاننا أن نقول إن معظم المبدعين الذين أسسوا لتجاوز عصر الظلام في أوروبا كانوا على صلة ما بإسبانية، إما عن طريق السفر والعيش فيها مدة من الزمن، أو عن طريق الاطلاع على الكتب التي نشرت فيها مترجمة من العربية إلى اللاتينية، ثم انتشرت في سائر أوروبا، لكن من الملاحظ أن معظم الغربيين ينكرون هذه الحقيقة، فها هي ذي زيغريد هونكة تقول "تعودنا أن نقيس بمقياسين، سواء في العلم أو في الفن، فنحن الغربيين حين نقيّم الحضارة الغربية ننظر بعين الاعتبار إلى منهجها وليس إلى مصدرها، وحين نذكر الحضارة الغربية نقتصر على ما ينبع من الحضارتين الإغريقية والرومانية وتهمل ما عدا ذلك من المصادر الأخرى"(2)
رغم الأثر الذي خلفته الحضارة العربية الإسلامية في إسبانيا والذي شمل جميع المجالات الأدبية والعلمية، فقد كانت إحدى أكبر مراكز الإشعاع في أوروبا.
وخير دليل على هذا القول: أن الإنكليزي دانييل ديفو (1661_ 1731) الذي ألف روبنسون كروزو قد عاش في إسبانيا مدة عامين، فقد كان عصره عصر اضطرابات وثورات شارك في بعضها، فتعرض للمخاطر التي من بينها السجن، لذلك هرب إلى إسبانية .
صحيح أن نشأته متواضعة، فقد كان ابنا لقصاب يعمل في لندن، حيث تعلم فيها ديفو، علوما متعددة شملت معارف عصره من الرياضيات والفلك والتاريخ، بل زاد عليها إتقانه خمس لغات.
لم تظهر موهبته الفكرية والأدبية إلا بعد عودته منها، فقد أصدر صحيفة باسمه، كتب فيها اقتراحاته الاقتصادية المثمرة، التي أخذت بها بلاده .
تعود شهرته الأدبية إلى قصيدة نظمها في الدفاع عن (وليم أورنج) ملك إنكلترا ردا على قصيدة نظمها أحد الشعراء في التهكم عليه، فأكسبته عطف الملك وحب الحكومة والشعب.
ألف كثيرا من الأبحاث والمقالات والرسائل في الدين والسياسة والوطن، وقد أدرك بفطرته تعلق الجمهور بالقصص ، وشدة تأثره بها وتهافته عليها، خاصة إذا كانت صادقة الوصف والتحليل ، تهتم بتصوير الحياة بدقة، لذلك نالت قصصه نجاحا كبيرا، لأنها كانت تخلق سحرا خلابا يزينه الصدق والدقة، وقد نشر القسم الأول من قصته "روبنسون كروزو" عام 1719، فلاقت شهرة واسعة جدا، مما شجعه على تتمة القصة، وأكسبه من المال ما جعله يعيش بقية عمره مستريح البال ، إلى أن أنهكه مرض النقرس وعقوق ولده، فعجّل بموته عام (1731).
أما ابن طفيل فقد ولد نحو 500 للهجرة (1106م ) في غرناطة بالأندلس، قرأ أقسام الحكمة على علماء غرناطة، كان واسع العلم في الفلك والرياضيات والطب والشعر، وقد عمل في مستهل حياته بالطب ثم تولى الوزارة في غرناطة، ثم اتصل ببلاط الموحدين في المغرب، ولم يلبث أن عين في عام(549هـ 1154 م)كاتما لسر الأمير أبي سعيد بن عبد المؤمن حاكم سبتة وطنجة، ثم عاد إلى ممارسة الطب، إذ أصبح الطبيب الخاص لأبي يعقوب يوسف سلطان الموحدين في عام (558 هـ1163 م ) ويبدو أنه ظل يحتفظ بمنصبه بالبلاط مدة عشرين عاما قضاها في التأمل والدراسة إلى جانب ممارسة الطب، وحين توفي أبو يعقوب في حرب الفرنجة بقي في خدمة ابنه أبي يوسف يعقوب، ثم اعتزل العمل ربما لكبر سنه (عام 578هـ في البلاط، فخلفه تلميذه ابن رشد الفيلسوف ، توفي ابن طفيل (عام 578 هـ1185 م) في مدينة مراكش، ودفن فيها، وقد ترك عددا من المؤلفات التي فقد معظمها، ولم يبق منها سوى رواية "حي بن يقظان" وبعض الأشعار المتفرقة.(3)
حي بن يقظان:
يروي لنا ابن طفيل روايتين لنشأة حي بن يقظان: الأولى: نشأة طبيعية، فقد كان هناك ملك عظيم منع أخته من الزواج، لأنه لم يجد من الرجال من هو كفؤ لها، لذلك تزوجت سرا من رجل يدعى "يقظان" فأنجبت طفلا أسمته (حي) ووضعته في تابوت، وقذفته في اليم قائلة: "اللهم إنك خلقت هذا الطفل ولم يكن شيئا مذكورا، ورزقته في ظلمات الأحشاء، وتكفلت به حتى تم واستوى، وأنا قد سلمته إلى لطفك، ورجوت له فضلك، خوفا من هذا الملك الغشوم الجبار العنيد. فكن له، ولا تسلوه، يا أرحم الراحمين!"(4)
نجد في هذه الرواية لنشأة حي ملامح واقعية، فخوف الأم على وليدها من الموت قد يدفعها إلى قذفه في البحر، فتسلمه إلى مصير مجهول خوفا عليه من موت محقق.
أما الرواية الثانية فتحكي عن نشأة غير طبيعية "إذ إن الذين زعموا أنه ولد من الأرض فإنهم قالوا: إن بطنا من أرض تلك الجزيرة تخمرت فيه طينة على مرّ السنين والأعوام، حتى امتزج فيها الحار بالبارد، والرطب باليابس، امتزاج تكافؤ وتعادل في القوى، وكانت هذه الطينة كبيرة جدا، وكان بعضها يفضل بعضا في اعتدال المزاج، والتهيؤ لتكون الأمشاج، وكان الوسط منها أعدل ما فيها وأتمه مشابهة بمزاج الإنسان وحدث في الوسط منها لزوجة ونفاخة صغيرة جدا، منقسمة بقسمين، بينها حجاب رقيق، ممتلئة بجسم لطيف هوائي في غاية الاعتدال اللائق به، فتعلق به عند ذلك "الروح" الذي هو من أمر الله تعالى وتتشبث به تشبثا يعسر انفصاله عنه عند الحس وعند العقل، إذ قد تبين أن هذا الروح دائم الفيضان من عند الله عز وجل، وأنه بمنزلة نور الشمس الذي هو دائم الفيضان على العالم"(5)
ثمة قوى خارقة أدخلت الروح إلى ذلك الجسم الطيني، المهم أن (حي) في كلا الروايتين نشأ في تلك الجزيرة المنعزلة، وقد رعته ظبية فقدت ابنها، أرضعته من لبنها، وحمته من الوحوش، كما حمته من عوامل الطبيعة من برد وحر، فيكبر وهو لا يعرف أما له سوى الظبية ، لكن الله منحه العقل الذي أتاح له التفكر والمقارنة بين حاله وحال سائر الحيوان، فقد نظر إليها فوجدها مكسوة الجلد بالصوف أو بالريش، فحاول أن يغطي جسده بأوراق الشجر، لكنه سرعان ما جفّ وتساقط، لهذا نجده يلجأ إلى ريش نسر ميت يستر به جسده، وبذلك يعيش عيشة الوحوش في الغابة في طعامه ولباسه وعلاقاته.
يبدأ نضجه الفكري حين تموت أمه الظبية، يصدمه هذا الحدث فيقرر فهمه، لذلك نجده يبحث عن سر الموت في جسدها أولا، لذلك يشرّحه باحثا عما حصل له بفعل الموت، هل نقص عضو من أعضائه؟
يفاجأ أن جسدها مازال على حاله، لم ينقص منه عضو، لكن ينقصه شيء مهم هو الذي يحرك الجسد ويملؤه بالعواطف، لم يستطع أن يهتدي إلى السر في ذلك، فدفن أمه بعد أن لاحظ أن رائحة نتنة بدأت تنبعث من جسدها مما زاد في نفرته منه، وود أن لا يراه، ثم إنه "سنح لنظره غرابان يقتتلان حتى صرع أحدهما الآخر ميتا، ثم جعل الحي يبحث في الأرض حتى حفر حفرة فوارى فيها ذلك الميت بالتراب، فقال في نفسه: ما أحسن ما صنع هذا الغراب في مواراة جيفة صاحبه، وإن كان قد أساء في قتله إياه! وأنا كنت أحق إلى هذا الفعل بأمي فحفر حفرة وألقى فيها جسد أمه، وحثا عليها التراب"(6)
وبذلك انتهى من مشكلة الجسد ليصل إلى مشكلة الروح، فبدا لنا إنسانا أشبه بالفيلسوف، باحثا عن سر الحياة ليس في جسد أمه فقط، وإنما في هذا الكون المتنوع والشاسع، وبدأ يراقبه فلاحظ أن موجوداته (الأجسام والأشياء) إما تعلو (كالهواء والدخان) وإما تهبط (كالحجر) وبذلك تعرف على بعض خصائص العالم المادي عن طريق النظر والتجربة، لكن المعرفة المادية لم تكفه، فقد أراد أن يعرف ما يؤرقه من عالم ما وراء المادة.
لاحظ أن الأشياء لا تتغير طبيعتها إلا بفعل مسبب، كتحول الماء إلى بخار لا يكون إلا بالتسخين، والتالي فإن تحول الأشياء لا بد لها من محول، لهذا فإن حدوث العالم وخروجه من العدم لا بد له من فاعل يخرجه إلى الوجود.
كذلك نظر إلى الكون وإلى نظامه الدقيق، أدهشه هذا النظام، فرأى أنه لا بد من أن يكون وراءه منظم قادر تجتمع فيه صفات الكمال وتنأى عنه النقائض، وهكذا قاده مبدأ السببية إلى الإيمان بالله تعالى، والتعمق في العالم الروحي.
لهذا أراد أن يقيم صلته بهذا الموجود، المنظم لكل شيء، وصار يتأمل في عالم الحيوان عله يتعلم منه، فرأى أنه لا يهتم إلا بالأكل والشرب وكل ملذات الجسد، فانطوى على ذاته يبحث في أعماقها عن سبل الاتصال بالله، فلم يجد سوى الاتصال الروحي والاستغراق في التوحد بالذات الإلهية، لهذا سكن في كوخه الذي بناه وانقطع عن العالم الخارجي ولم يعد يخرج إليه إلا مرة في الأسبوع تلمسا للغذاء الذي بات يعتمد على أبسط الأشياء، مما يتيح له القدرة على الاتصال بالله بشكل أفضل.
يأتي الجزيرة (آسال) وهو رجل دين متصوف، هاربا من شيوع الفساد في مدينته، بعد أن يئس من إصلاح أهلها، يلتقي بـ(حي) فينفر منه للوهلة الأولى خائفا من منظره (إنسان بدائي، شعر رأسه يغطي جسده إلى جانب ريش النسر الذي يكسوه، لكن تصرفات (حي) تهدئ من روعه، فيبدأ تعليمه اللغة ، وحين يتقنها، يشرع في تلقينه تعاليم الدين، فيكتشف أن ابن يقظان قد توصل إلى الإيمان بإله واحد، وتعرّف صفاته، والتواصل معه عن طريق القلب، وعبادته بل بات يتفرغ لهذه العبادة.
وحين حدّثه آسال عن معاناته مع أبناء مدينته يطلب منه (حي) اصطحابه إليهم كي يحدثهم بتجربته الإيمانية، لعلهم يعودون إلى جادة الصواب، وحين يلتقي بهم، يوضح لهم تجربته العقلية في الإيمان، كما يحدثهم عن تجربته الصوفية في التواصل مع الله تعالى، لكنهم كانوا مشغولين بحب الدنيا وملذاتها، لذلك تركهم حي بعد أن نصحهم بالتزام أوامر دينهم وفق الشريعة، وعاد إلى الجزيرة بصحبة صديقه آسال، ليتفرغا للعبادة.
ملاحظات فنية حول رواية "حي بن يقظان":
تعد قصة "حي بن يقظان من أهم القصص التي ظهرت في العصور الوسطى، في نظر كثير من النقاد، فهي رائدة في فن القص، إلى جانب ألف ليلة وليلة، لهذا لا يحق لنا أن نحاكمها بمقاييس عصرنا، وما توصلنا إليه من إنجازات في النظرية السردية، فإذا حاولنا الحديث عن هذه القصة، بمقاييس عصرنا اليوم فليست الغاية تقويمية، كما قد يظن البعض، وإنما من أجل إبراز إنجازاتها الفنية المدهشة، وإبراز سقطاتها الفنية التي مازلنا نلاحظها لدى كتابنا اليوم، لذلك لا يضير مكانة ابن طفيل وريادته الحديث عنها.
ثمة وعي لدى المؤلف أنه يقدم قصة، لذلك وجدناه يستخدم هذا المصطلح في التمهيد "فأنا واصف لك قصة "حي بن يقظان" وقد استخدم مصطلح "واصف" بدل مصطلح "سارد" أو "أقص" كذلك أبرز في التمهيد أسباب كتابة هذه القصة، إنها أسباب تعليمية فقد كتبها بناء على سؤال صديقه عن الحكمة المشرقية التي ذكرها الشيخ الرئيس أبو علي بن سينا، لذلك ينصحه بلهجة تعميمية قائلا: "فاعلم: أن من أراد الحق الذي لا جمجمة فيه، فعليه بطلبه والجد في اقتنائه" وهذا ما فعله بطل قصته (حي) حين بذل غاية جهده ليصل إلى الحقيقة.
لم يذكر، هنا، اسم صديقه، وإنما وصفه بـ"الأخ الكريم، الصفي الحميم، لذلك نرجح أن يكون متلقيا عاما، يتخيله المؤلف كي يستطيع محاورته ومن ثم يحاول هدايته إلى ضرورة استخدام العقل والحدس في قضية الإيمان بالله تعالى، لذلك وجدناه في خاتمة القصة يقول له: "أردت تقريب الكلام فيها على وجه الترغيب والتشويق في دخول الطريق. وأسأل الله التجاوز والعفو، وأن يوردنا من المعرفة به الصفو، إنه منعم كريم، والسلام عليك أيها الأخ المفترض إسعافه ورحمة الله وبركاته"
وبذلك اتضح لنا أن المؤلف يخاطب متلقيا مضمرا، موجوداً بالقوة، متوجها إليه بالخطاب، عله يفتح أمامه سبلا مجهولة للإيمان، لعله يستطيع هدايته وإنقاذه من الجهل والكفر.
لو أردنا تحديد جمالية هذه القصة لوجدناها تكاد تنحصر في الجزء الأول (قصة ولادته ونشأته وفي الجزء الأخير حين التقى بآسال) ويبدو لنا مشهد اللقاء مشهدا سرديا جميلا بكل المقاييس الفنية، إذ احتفظ بقدرته على التشويق، كما شاعت به حيوية، بفضل تنوع الحركات التي لمسناها لدى كل من (حي) و(آسال) من ركض واختباء وتلاحم في الأيدي ثم لمسات اليد الحانية، بالإضافة إلى تنوع البيئة، إذ تم اللقاء بين البيئة الحضرية بكل ما تعنيه من إنجازات (في الملابس والطعام والتصرفات...) والبيئة البدائية بكل ما تعنيه من حياة فطرية أشبه بحياة الحيوانات، هذا على صعيد الجسد، لكن هذا التناقض سرعان ما يختفي على صعيد الروح، إذ يتبين آسال أن (حي) لا يقل عنه إيمانا ومعرفة بالله، لهذا يوافق على اصطحابه إلى مدينته العاصية لهداية أهلها.
ثمة عناية في رسم هذا المشهد، ظهرت في طريقة تقديم المؤلف للشخصيتين الرئيستين في القصة، فلجأ إلى رسمهما من الخارج وخاصة شخصية (حي) فبرز لنا في شكله البدائي (شعر رأسه يغطي جسده، ريش النسر الذي يكسوه) كما وصف لنا الأعماق، فاستطاع أن يبرز لنا حالة الرعب التي أحس بها كل واحد منهما حين التقى بالآخر، وخاصة رعب المدني من البدائي، وبذلك اجتمع في هذا المشهد عناصر سردية تجعل هذه القصة ذات سمات فنية ممتعة إلى حد ما.
صحيح أن بداية القصة وخاتمتها تمتعت بقدرات جمالية في السرد، لكن صلب القصة التي تتحدث عن معاناة (حي) الروحية إثر وفاة أمه، بدت أشبه برحلة فلسفية صوفية علمية، فقد أسقط ابن طفيل أفكاره على الشخصية (حي) وجعله يتحدث بلغته الفلسفية الصوفية، فبدت لنا هذه الشخصية البدائية أشبه بفيلسوف مسلم، يتحدث لغة القرآن الكريم، دون أن يتعرف على الإسلام بعد!
إذا رغم حياة العزلة التي عاشها (حي) فقد وجدناه عالما في الفلك، حين تأمل الكون ونشأة الأرض، كما وجدناه طبيبا، حين بدأ بتفحص جثة أمه الظبية، ويشرحها باحثا عن مصدر الحياة وسبب الموت، لنتأمل هذا القول، الذي يرصد لنا أعماق الشخصية وأفكارها "وعلم أن أمه التي عطفت عليه وأرضعته، إنما كانت ذلك الشيء المرتحل، وعنه كانت تصدر تلك الأفعال كلها، لا هذا الجسد العاطل، وأن هذا الجسد بجملته، إنما هو كالآلة وبمنزلة العصي التي اتخذها لقتال الوحوش، فانتقلت علاقته عن الجسد إلى صاحب الجسد ومحركه، ولم يبق له شوق إلا إليه."(ص_ 45)
إن شخصية (حي) هي ابن طفيل العالم الفلكي والطبيب والفيلسوف، وبذلك توحد المؤلف مع الشخصية، في أغلب أحوالها وصفاتها وأفكارها ولغتها، فكانت الغاية، من هذه القصة، إيصال أفكاره إلى القراء عن طريق شخصية يتماهى بها تستطيع أن تقدم أفكاره التي قد لا يستطيع التعبير عنها صراحة.
لعل إغراق الشخصية في التأمل الفلسفي والصوفي، أساء إلى البنية السردية للقصة، إذ إن فن القصة من أكثر الفنون التصاقا بالمجتمع، لذلك قد تؤدي العزلة الاجتماعية إلى الإساءة إليه، فتفقده حيويته وجاذبيته.
إن هذه الدراسة للقصة وفق معطيات عصرنا، قد تكون مفيدة في إبراز إنجازاتها الفنية، لكن أن نتحدث عن مزالقها وسلبياتها فهذا إجحاف في حقها، لأننا نغفل عن الفارق الزمني بيننا وبينها، فنحاكمها وفق معطيات عصرنا، فلو حاكمناها وفق معطيات عصرها لوجدناها عملا فنيا رائدا، قدّم لنا قصة فيها الكثير من المقومات الفنية (الشخصية، المكان، السرد، الحوار، الصراع...)
المؤثرات الإسلامية:
يعترف ابن طفيل في التمهيد لروايته "حي بن يقظان" باستفادته من ابن سينا الفيلسوف الطبيب، خاصة في مجال اختيار الأسماء (حي بن يقظان، آسال....) لكن ابن سينا اتبع طريقة المتصوفة في الرمز، فـ(حي) يقصد به العقل الفعال،و(ابن يقظان) كناية عن صدوره عن القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، وهي رحلة ترمز إلى طلب الإنسان المعارف الخالصة بصحبة الحواس والعقل، وإن كان يحذر من رفقة الحواس.
وبذلك يمكننا القول إن "حي بن يقظان" عند ابن سينا كتاب في الفلسفة والتصوف استفاد منه ابن طفيل ليضيف عليه البنية السردية، ليأتي الفكر الفلسفي بطريقة أكثر جاذبية وربما أكثر إقناعا، لذلك نلاحظ شخصياته تميزت بالحيوية، إذ لم تعد الشخصية مجرد اسم يحمل فكرة، وإنما بدأنا نجد أمامنا كائنا بشريا له أحلامه التي تتعدى عالم المحسوس بكل ماديته، باحثة عما وراء الطبيعة عن حقيقة هذا الكون الذي نعيش فيه.
صحيح أن ابن طفيل إنسان بدائي، اهتدى إلى الإيمان عبر معاناة ذاتية لكن لغة الراوي كانت متقدمة على بدائية الشخصية، فبدت تحمل ملامح إسلامية واضحة، خاصة في شيوع التناص القرآني في لغتها السردية، مما يؤسس بنيتها الفكرية وجماليتها اللغوية، لنتأمل هذا المقطع "وتصفح طبقات الناس بعد ذلك، فرأى كل حزب بما لديهم فرحون قد اتخذوا إلههم هواهم ومعبودهم وشهواتهم، وتهالكوا في جمع حطام الدنيا، ألهاهم التكاثر حتى زاروا المقابر لا تنجح فيها المواعظة ولا تعمل فيهم الكلمة الحسنة"(7)
نلاحظ في هذا المقطع سطوع لغة القرآن الكريم، حتى إنها تكاد تشكل صلب هذا المقطع، فنلاحظ أن ابن طفيل ينقل ألفاظ الآية القرآنية كما هي، وإن كان قد حذف الجزء الأول منها "فتقطّعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون"(سورة المؤمنون آية 53)
هنا اقتصر على إضافة فعل (رأى) للسياق السردي، وقد نجده يحور الآية تحويرا بسيطا فتتحول صيغة الغائب المفرد في الآية "أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا" (سورة الفرقان آية 43) إلى صيغة جماعة الغائبين بعد أن حذف الجزء الأخير من الآية، أما الآية الأخيرة فقد تحولت من صيغة جماعة المخاطبين (سورة التكاثر آية 1_2) إلى جماعة الغائبين، وبذلك يتم التحوير وفق مقتضيات سردية تتناسب مع سيرورة القصة.
كما نلاحظ تأثر ابن طفيل بالحدث القرآني، حين حدّثنا عن خوف أم (حي)، في الرواية الواقعية لنشأته، من أخيها الملك فتقذف به في اليم، بعد أن تضعه في تابوت، وهذا ما نجده في (سورة القصص) "وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين" (آية 7) لكن تفاصيل حياة الرضيع ستختلف كليا، لدى ابن طفيل عنها في القرآن الكريم.
ثمة تأثر بالروح الإسلامية والمبادئ التي تحض المؤمن على الإسهام في إصلاح مجتمعه، لذلك وجدناه ، حين شكل تصرفات شخصيته (حي) صاغها وفق هذه الروح، إذ وجدناه يدعو آسال لاصطحابه إلى مدينته العاصية عله يستطيع هدايتها، وهنا نلاحظ ابن طفيل متأثرا بالحديث الشريف "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان"
فلسفة ابن طفيل:
يعد ابن طفيل من فلاسفة المسلمين، وقد حاول أن ينقل في (حي بن يقظان) هذه الفلسفة عن طريق السرد الروائي الذي بفضله لمحنا فلسفته العقلية، التي تؤكد أن بوسع الإنسان أن يرتقي بنفسه من المحسوس إلى المعقول، وأن يصل بقواه الطبيعية إلى معرفة الإله والإيمان به، ومن ثم فهم العالم من حوله، وقد قسّم هذه المعرفة قسمين: المعرفة العقلية، والمعرفة الحدسية التي ينكشف فيها الأمر للنفس بوضوح ليس عن طريق المصطلح الفلسفي، وإنما عن طريق "الحال" ( الذي يستوطن القلب، ويستدل به عن طريق الحدس.
ويرى ابن طفيل اختلاف الفيلسوف عن العامة بقدرته على إدراك الحقائق الإلهية بعقله وحدسه، أما العامة فهي بحاجة إلى من يرتقي بها إلى هذه المبادئ العالية عن طريق الحس والخيال، لهذا فشلت مهمة (حي) في مدينة آسال العاصية، في إقناع العامة بالإيمان عن طريق العقل والحدس.
وبما أن قصة (حي بن يقظان) قصة رائدة في العصور الوسطى لذلك من البديهي أن تؤثر بتلك القصص اللاحقة التي ظهرت في أوروبا، كما أثرت قصص ألف ليلة وليلة.
سنتناول في هذه الدراسة إحدى نماذج التأثر : قصة "روبنسون كروزو" لدانييل ديفو (9) فنبحث عن نقاط اللقاء ونقاط الاختلاف.
"روبنسون كروزو":
يبدو لنا روبنسون كروزو شابا في العشرين من عمره، أحلامه أحلام الشباب في السفر والمغامرة، يستأذن والديه في السفر عبر البحار، ليحقق أحلامه، لكن والديه يرفضان الموافقة على هذه الفكرة حرصا على حياته، فيعصي أوامرهما، ليحقق رغبته في المغامرة والسفر، لذلك نجد والده غاضبا عليه يدعو الله أن يضع في طريق ابنه المتاعب.
فعلا حين يسافر روبنسون يصادف أهوالا كثيرة، كان آخرها تحطم السفينة، وغرق جميع ركابها، ماعدا روبنسون، وبعد أن يجتاز أهوالا كثيرة يجد نفسه في جزيرة نائية، لا يوجد فيها سوى الحيوانات المتوحشة فتكبد مشقة البحث عن حياة آمنة مستقرة فيها، لذلك يصنع من أشلاء السفينة المحطمة سكنا بسيطا، أما طعامه فكان مما تيسر له من ثمار الجزيرة، لكن المصادفة تساعده في تأمين غذائه من الحنطة، حين نفض كيسا (يريد استخدامه لبعض شؤونه) كان فيه بقايا حنطة، فهطلت الأمطار ونبتت البذور، فصار يعتني بها، إلى مرحلة الحصاد.
نلاحظ أن كروزو لا يبدأ من الصفر، وإنما يساعده في الاستمرار على قيد الحياة مؤن وأدوات حصل عليها من بقايا السفينة المحطمة، كما ساعدته الطبيعة بأن مدّته بالمواد الأولية (الخشب) ليستمر في العيش.
بعد فترة من الزمن يلتقي روبنسون بإنسان أسير، استطاع أن يهرب من أكلة لحوم البشر، فيسميه (جمعة) ويتخذه مساعدا له في عمله.
عاش روبنسون في الجزيرة مدة ثمان وعشرين سنة، إلى أن أتت مصادفة سفينة، يرحل على متنها إلى بلده، بعد أن يخوض صراعا مع رجال ثائرين على ربانها، وهكذا لاحقته المتاعب حتى آخر مراحل سفره!!
اللقاء بين "حي بن يقظان" و "روبنسون كروزو"
لو وقفنا عند السنة التي توفي فيها مؤلف " روبنسون كروزو" دانييل ديفو (1731م) وسنة وفاة ابن طفيل (1185م) للاحظنا أن مؤلف "حي بن يقظان" قد عاش قبل ديفو بحوالي خمس مئة سنة، وأن كلا الكاتبين قد عاش في إسبانيا فترة من حياته، لذلك كان تأثر ديفو بابن طفيل أمرا طبيعيا.
لو تأملنا الفضاء المكاني لكلا الروايتين للاحظنا تشابها كبيرا، فنحن أمام فضاء واحد تقريبا (جزيرة نائية) كذلك نجد فيها إنسانا وحيدا، يحاول أن يفهم ويستكشف كل ما يحيط به، وبذلك نجد لقاء في تركيز القصتين على شخصية رئيسية واحدة، تعيش ظروفا متشابهة (العزلة، البدائية...)
كذلك تبدو الشخصية الثانوية، في كلا القصتين، شخصية طارئة (آسال، جمعة) تأتي إلى الجزيرة بعد استقرار الشخصية الرئيسية، إذ تم اللقاء بها بعد مرور فترة طويلة من العزلة في الجزيرة، وقد لاحظنا أنها أضفت الحيوية على فضاء القصتين، وأسهمت في تجديد إيقاعهما.
نلمح في كلا القصتين الغاية التعليمية، فابن طفيل، كما لحظناه منذ المقدمة، يريد أن يدلل على وجود الله باستخدام العقل والحدس، دون استخدام الشريعة، لذلك جعل من (حي) إنسانا بدائيا يصل إلى الإيمان عن طريق استخدام العقل أولا ثم الحدس، كأنه يطلب من الناس أن يمعنوا النظر في هذا الكون ليتوصلوا إلى الإيمان بعقولهم وقلوبهم، لا أن يكون إيمانهم إيمانا تقليديا، يحول التواصل مع الله تعالى إلى مجموعة من الطقوس لا علاقة لها بالقلب أو العقل.
أما دانييل ديفو فقد كانت غايته تربوية، إنه يتوجه إلى الشباب، الذي يعشق المغامرة والسفر، بالنصيحة، طالبا إليهم النظر إلى ما آل إليه حال روبنسون حين لم يستمع إلى رغبة والديه في عدم السفر، ونفّذ ما يدور في رأسه من أفكار، فعانى متاعب جمة استمرت حتى لحظات سفره الأخيرة.
انعكست في كلا القصتين ملامح من السيرة الذاتية للمؤلف، ففي قصة "حي بن يقظان" نجد أهم القضايا التي أرّقت ابن طفيل (هل تستطيع الفلسفة أن تؤدي إلى الإيمان بالله تعالى، على نقيض القول الشائع " من تمنطق فقد تزندق"؟ ثم هل يكفي استخدام العقل ليصل بنا إلى الإيمان العميق أم نحن بحاجة إلى القلب والقوى الداخلية الحدسية إلى جانبه؟ هل تستطيع العامة الإيمان بهذه الطريقة؟ أم لا بد لها من الطريقة النقلية في الإيمان؟ هل الطريقة العقلية الحدسية وقف على الخاصة دون العامة؟)
إذا نلمح في هذه القصة بعض المعاناة الروحية والفكرية لابن طفيل، كما نلمح بعض ملامحه الشخصية التي أسقطها على (حي) فجعله فيلسوفا وطبيبا، وعالم فلك مثله.
أما قصة "روبنسون كروزو" فقد لمحنا فيها معاناة دانييل ديفو من عقوق ابنه، لذلك جعل روبنسون ابنا عاقا لوالديه، وأسقط عليه غضبه، مما جعله يعاني متاعب جمة في سفره، وعاقبه بأن عاش معظم حياته وحيدا يجتر آلامه.
الاختلاف بين "حي بن يقظان وروبنسون كروزو"
يدخل روبنسون الجزيرة النائية شابا، قد تكوّن فكره وتأصلت عاداته، أي بدا لنا إنسانا مدنيا أجبر على الحياة البدائية، أما (حي) فقد بدأ حياته فيها رضيعا (حسب الرواية الأولى) أو تخلق من تربتها (حسب الرواية الثانية) لذلك كان إنسانا بدائيا لصيقا بالطبيعة، وقد قويت صلته بها مع الأيام، إذ لم يعرف عالما غيرها، فكان عالم الحيوان في الجزيرة دليله للحياة، تعلم منه طرائق العيش البدائية.
إذا بدأ (حي) حياته في الجزيرة من الصفر، في حين وجدنا روبنسون يستعين بمخلفات السفينة المحطمة، فاستطاع أن يوفر لنفسه عيشة متحضرة بفضل المؤن والأدوات التي عثر عليها مع بقايا السفينة.
نظرا لعلاقة (حي) الحميمة بالطبيعة نجده إنسانا تغلب عليه الروحانيات والأفكار، همه الأساسي البحث عن قضايا تؤرق الإنسان (الإيمان بالله، الموت، هداية الآخرين) لذلك لم تؤرقه قضايا الحياة المادية، خاصة في المرحلة الأخيرة من حياته، فقد رأى أن الاستغراق في التواصل مع الذات الإلهية يفسدها الانشغال بالماديات، لذلك كان طعامه بسيطا، يخصص له وقتا زهيدا ليصرف وقته في التأمل والعبادة، في حين وجدنا روبنسون مشغولا بالعالم المادي، همه الأساسي تأمين الطعام ليس لمعيشته اليومية فقط وإنما يفكر بمعيشته المستقبلية فيحاول تأمين مؤنة الشتاء والعيش في مسكن على نسق عرفه في حياته السابقة، لذلك نستطيع أن نقول إن روبنسون نقل الحياة المدنية بكل ماديتها إلى الجزيرة، وربما لهذا السبب ابتعد عن القضايا الروحية، في حين جسّد (حي) الحياة الروحية بتأثير الطبيعة التي التصق بها، وكما يقول جان جاك روسو إن الإنسان الذي يعيش قريبا من الطبيعة أشد تدينا واقترابا من الله من ذلك الإنسان الذي يعيش في المدينة، ربما لأنه يزداد رهافة وإحساسا بمعجزات الكون وجماله، لشدة معايشته للطبيعة، ورؤيته لتبدلاتها المعجزة، لا أدري إن كان يحق لنا القول: إن قصة "حي بن يقظان" تجسد لنا علاقة الشرقي بالكون، والتي رأيناها تعتمد على التركيز على الروحانيات وعدم الاهتمام بالماديات، في حين تجسد لنا قصة "روبنسون كروزو" علاقة الغربي المادية بالكون، وإن كنا لا نستطيع أن نقبل هذا الحكم بشكل مطلق!!
إن شخصية (حي) هي شخصية فيلسوف يتأمل الكون ليفهم أسراره، يثير أسئلة جوهرية تتعلق بالوجود الإنساني وكيفية تواصله مع الله، لذلك اجتمعت لديه شخصية الفيلسوف إلى جانب المتصوف! وهو يفكر في إصلاح غيره، لذلك برزت لديه شخصية المصلح، في حين وجدنا (روبنسون) إنسانا عاديا أقصى طموحاته تلبية حاجاته المادية.
وقد كان اللقاء بالشخصية الثانوية (جمعة) معززا للجانب المادي لروبنسون إذ يقوم بمساعدته في أمور حياته المادية، في حين كان لقاء (حي) بـ(آسال) معززا للجانب الروحي، علمه اللغة، إحدى أهم مفاتيح الأعماق والأفكار، ثم أخذه إلى مدينته العاصية ليسهم في إصلاحها.
لو تأملنا علاقة (حي) بـ(آسال) لوجدناها علاقة ندية، إذ يتم تبادل المعرفة بينهما، ويحاولان التعاون في سبيل إصلاح البشر وهدايتهم.
أما علاقة روبنسون بـ(جمعة) فقد كانت علاقة السيد بالمسود على نقيض علاقة (حي) بـ(آسال) وبذلك تتجسد لنا علاقة الغربي بالآخر، فهو السيد والآخر عبد له.
نلاحظ أن القصة لدى ابن طفيل مازالت بدائية، رغم الإنجازات السردية التي لحظناها، إذ لا نجد، غالبا، سردا متصلا بحدث معين، أو بشخصية معينة، خاصة إذا تجاوزنا المقدمة والخاتمة، التي أشرت إلى جماليتهما سابقا، فقد امتلأت القصة بالاستطرادات الفلسفية، فأصبحت أشبه ما تكون بمقال فلسفي، في أغلب الأحيان، في حين بدا السرد القصصي، في "روبنسون كروزو" متقنا، يكاد يخلو من الترهل والاستطراد، فالحدث مشوق، يتطور عبر حبكة متماسكة، وقد ابتعدت الشخصية عن التجريد، فلم تبد' مجموعة أفكار، كشخصيات ابن طفيل، بل رأيناها قريبة من الواقع، هنا لا بد أن نذكر مرة أخرى بالفارق الزمني بين القصتين (حوالي خمس مئة سنة)
يلاحظ وجود مؤثر إسلامي آخر في قصة "روبنسون كروزو" وهو ألف ليلة وليلة، إذ لا بد أن ديفو قد اطلع على ترجمة (غالان) لألف ليلة وليلة التي ظهرت في اثني عشر مجلدا بين عامي (1714_ 1717) فقد توفي ديفو (1731)
يلاحظ المرء أن معاناة روبنسون تشبه معاناة السندباد البحري، خاصة في بداية الرحلة البحرية، حيث تحطمت السفينة وبقي حيا دون سائر الركاب، فعاش في جزيرة نائية وحيدا.
وبذلك لم يكتف دانييل ديفو بالتأثر بقصة "حي بن يقظان" وإنما تعددت مجالات تأثره، ليتجاوز ذلك التأثر إلى الإبداع، الذي ينطلق من خصوصيته التي تنبع من معاناته الذاتية وخصائص أمته.
الحواشي:
1_ د. لوثي لوبيث بارالت "أثر الثقافة العربية في الأدب الإسباني" كتاب الرياض، ، عدد (54) يونيو، 1999، ص 63 بتصرف
2_ زيغريد هونكه "شمس العرب تسطع على الغرب" منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط8، 1986، ص 483
3_ابن طفيل "حي بن يقظان" إعداد د. سمير سرحان،و د. محمد عناني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مكتبة الأسرة، القاهرة، 1999، ص 7_8
4_ المصدر السابق ص 35
5_ المصدر السابق نفسه، ص31_ 32
6_ المصدر نفسه، ص 45_46
7_ نفسه، ص 120
8_ ورد تعريف مصطلح "الحال" لدى ابن عربي على الشكل التالي: هو " ما يرد على القلب من غير تعمد ولا اجتلاب ومن شرطه أن يزول ويعقبه المثل، ومن هنا نشأ الخلاف فمن أعقبه المثل قال بدوامه، ومن لم يعقبه مثل قال بعدم دوامه، وقد قيل الحال تغير الأوصاف على العبد" من كتاب نصوص المصطلح الصوفي في الإسلام" د. نظلة الجبوري، مطبعة اليرموك، بغداد، ط1، 1999، ص 130
9_ دانيال ديفو "روبنسون كروزو" ت. كامل كيلاني، مطبعة المعارف بمصر، ط3، د.ت
نموذج من الأثر الإسلامي في الأدب الغربي أثر حي بن يقظان لابن طفيل في روبنسون كروزو لدانييل دبفو
ازدهرت الحضارة الإسلامية في القرون الوسطى، في زمن كانت فيه أوروبا تغرق في الظلام، وقد شكلت إسبانية التي دعاها المسلمون بـ(الأندلس) مركز إشعاع حضاري في تلك الفترة، إذ يلجأ إليها العلماء وطلاب المعرفة من سائر أوروبا، وكما تقول الدكتورة (لوثي لوبيث بارالت) من الظلم البين ألا نقبل القول بأن إسبانيا الإسلامية كانت تشكل بالفعل معجزة ثقافية حقيقية في إطار القارة الأوروبية في القرون الوسطى. وبفضل العرب المسلمين، لم تبلغ أية أمة أوروبية أخرى ما بلغته شبه الجزيرة الأيبيرية من تقدم العلوم والفنون في تلك العصور التي كانت وسيطة أو مظلمة بالنسبة لقارة أوروبا لكنها لم تكن على الإطلاق بالنسبة إلى الأندلس.(1)
لذلك بإمكاننا أن نقول إن معظم المبدعين الذين أسسوا لتجاوز عصر الظلام في أوروبا كانوا على صلة ما بإسبانية، إما عن طريق السفر والعيش فيها مدة من الزمن، أو عن طريق الاطلاع على الكتب التي نشرت فيها مترجمة من العربية إلى اللاتينية، ثم انتشرت في سائر أوروبا، لكن من الملاحظ أن معظم الغربيين ينكرون هذه الحقيقة، فها هي ذي زيغريد هونكة تقول "تعودنا أن نقيس بمقياسين، سواء في العلم أو في الفن، فنحن الغربيين حين نقيّم الحضارة الغربية ننظر بعين الاعتبار إلى منهجها وليس إلى مصدرها، وحين نذكر الحضارة الغربية نقتصر على ما ينبع من الحضارتين الإغريقية والرومانية وتهمل ما عدا ذلك من المصادر الأخرى"(2)
رغم الأثر الذي خلفته الحضارة العربية الإسلامية في إسبانيا والذي شمل جميع المجالات الأدبية والعلمية، فقد كانت إحدى أكبر مراكز الإشعاع في أوروبا.
وخير دليل على هذا القول: أن الإنكليزي دانييل ديفو (1661_ 1731) الذي ألف روبنسون كروزو قد عاش في إسبانيا مدة عامين، فقد كان عصره عصر اضطرابات وثورات شارك في بعضها، فتعرض للمخاطر التي من بينها السجن، لذلك هرب إلى إسبانية .
صحيح أن نشأته متواضعة، فقد كان ابنا لقصاب يعمل في لندن، حيث تعلم فيها ديفو، علوما متعددة شملت معارف عصره من الرياضيات والفلك والتاريخ، بل زاد عليها إتقانه خمس لغات.
لم تظهر موهبته الفكرية والأدبية إلا بعد عودته منها، فقد أصدر صحيفة باسمه، كتب فيها اقتراحاته الاقتصادية المثمرة، التي أخذت بها بلاده .
تعود شهرته الأدبية إلى قصيدة نظمها في الدفاع عن (وليم أورنج) ملك إنكلترا ردا على قصيدة نظمها أحد الشعراء في التهكم عليه، فأكسبته عطف الملك وحب الحكومة والشعب.
ألف كثيرا من الأبحاث والمقالات والرسائل في الدين والسياسة والوطن، وقد أدرك بفطرته تعلق الجمهور بالقصص ، وشدة تأثره بها وتهافته عليها، خاصة إذا كانت صادقة الوصف والتحليل ، تهتم بتصوير الحياة بدقة، لذلك نالت قصصه نجاحا كبيرا، لأنها كانت تخلق سحرا خلابا يزينه الصدق والدقة، وقد نشر القسم الأول من قصته "روبنسون كروزو" عام 1719، فلاقت شهرة واسعة جدا، مما شجعه على تتمة القصة، وأكسبه من المال ما جعله يعيش بقية عمره مستريح البال ، إلى أن أنهكه مرض النقرس وعقوق ولده، فعجّل بموته عام (1731).
أما ابن طفيل فقد ولد نحو 500 للهجرة (1106م ) في غرناطة بالأندلس، قرأ أقسام الحكمة على علماء غرناطة، كان واسع العلم في الفلك والرياضيات والطب والشعر، وقد عمل في مستهل حياته بالطب ثم تولى الوزارة في غرناطة، ثم اتصل ببلاط الموحدين في المغرب، ولم يلبث أن عين في عام(549هـ 1154 م)كاتما لسر الأمير أبي سعيد بن عبد المؤمن حاكم سبتة وطنجة، ثم عاد إلى ممارسة الطب، إذ أصبح الطبيب الخاص لأبي يعقوب يوسف سلطان الموحدين في عام (558 هـ1163 م ) ويبدو أنه ظل يحتفظ بمنصبه بالبلاط مدة عشرين عاما قضاها في التأمل والدراسة إلى جانب ممارسة الطب، وحين توفي أبو يعقوب في حرب الفرنجة بقي في خدمة ابنه أبي يوسف يعقوب، ثم اعتزل العمل ربما لكبر سنه (عام 578هـ في البلاط، فخلفه تلميذه ابن رشد الفيلسوف ، توفي ابن طفيل (عام 578 هـ1185 م) في مدينة مراكش، ودفن فيها، وقد ترك عددا من المؤلفات التي فقد معظمها، ولم يبق منها سوى رواية "حي بن يقظان" وبعض الأشعار المتفرقة.(3)
حي بن يقظان:
يروي لنا ابن طفيل روايتين لنشأة حي بن يقظان: الأولى: نشأة طبيعية، فقد كان هناك ملك عظيم منع أخته من الزواج، لأنه لم يجد من الرجال من هو كفؤ لها، لذلك تزوجت سرا من رجل يدعى "يقظان" فأنجبت طفلا أسمته (حي) ووضعته في تابوت، وقذفته في اليم قائلة: "اللهم إنك خلقت هذا الطفل ولم يكن شيئا مذكورا، ورزقته في ظلمات الأحشاء، وتكفلت به حتى تم واستوى، وأنا قد سلمته إلى لطفك، ورجوت له فضلك، خوفا من هذا الملك الغشوم الجبار العنيد. فكن له، ولا تسلوه، يا أرحم الراحمين!"(4)
نجد في هذه الرواية لنشأة حي ملامح واقعية، فخوف الأم على وليدها من الموت قد يدفعها إلى قذفه في البحر، فتسلمه إلى مصير مجهول خوفا عليه من موت محقق.
أما الرواية الثانية فتحكي عن نشأة غير طبيعية "إذ إن الذين زعموا أنه ولد من الأرض فإنهم قالوا: إن بطنا من أرض تلك الجزيرة تخمرت فيه طينة على مرّ السنين والأعوام، حتى امتزج فيها الحار بالبارد، والرطب باليابس، امتزاج تكافؤ وتعادل في القوى، وكانت هذه الطينة كبيرة جدا، وكان بعضها يفضل بعضا في اعتدال المزاج، والتهيؤ لتكون الأمشاج، وكان الوسط منها أعدل ما فيها وأتمه مشابهة بمزاج الإنسان وحدث في الوسط منها لزوجة ونفاخة صغيرة جدا، منقسمة بقسمين، بينها حجاب رقيق، ممتلئة بجسم لطيف هوائي في غاية الاعتدال اللائق به، فتعلق به عند ذلك "الروح" الذي هو من أمر الله تعالى وتتشبث به تشبثا يعسر انفصاله عنه عند الحس وعند العقل، إذ قد تبين أن هذا الروح دائم الفيضان من عند الله عز وجل، وأنه بمنزلة نور الشمس الذي هو دائم الفيضان على العالم"(5)
ثمة قوى خارقة أدخلت الروح إلى ذلك الجسم الطيني، المهم أن (حي) في كلا الروايتين نشأ في تلك الجزيرة المنعزلة، وقد رعته ظبية فقدت ابنها، أرضعته من لبنها، وحمته من الوحوش، كما حمته من عوامل الطبيعة من برد وحر، فيكبر وهو لا يعرف أما له سوى الظبية ، لكن الله منحه العقل الذي أتاح له التفكر والمقارنة بين حاله وحال سائر الحيوان، فقد نظر إليها فوجدها مكسوة الجلد بالصوف أو بالريش، فحاول أن يغطي جسده بأوراق الشجر، لكنه سرعان ما جفّ وتساقط، لهذا نجده يلجأ إلى ريش نسر ميت يستر به جسده، وبذلك يعيش عيشة الوحوش في الغابة في طعامه ولباسه وعلاقاته.
يبدأ نضجه الفكري حين تموت أمه الظبية، يصدمه هذا الحدث فيقرر فهمه، لذلك نجده يبحث عن سر الموت في جسدها أولا، لذلك يشرّحه باحثا عما حصل له بفعل الموت، هل نقص عضو من أعضائه؟
يفاجأ أن جسدها مازال على حاله، لم ينقص منه عضو، لكن ينقصه شيء مهم هو الذي يحرك الجسد ويملؤه بالعواطف، لم يستطع أن يهتدي إلى السر في ذلك، فدفن أمه بعد أن لاحظ أن رائحة نتنة بدأت تنبعث من جسدها مما زاد في نفرته منه، وود أن لا يراه، ثم إنه "سنح لنظره غرابان يقتتلان حتى صرع أحدهما الآخر ميتا، ثم جعل الحي يبحث في الأرض حتى حفر حفرة فوارى فيها ذلك الميت بالتراب، فقال في نفسه: ما أحسن ما صنع هذا الغراب في مواراة جيفة صاحبه، وإن كان قد أساء في قتله إياه! وأنا كنت أحق إلى هذا الفعل بأمي فحفر حفرة وألقى فيها جسد أمه، وحثا عليها التراب"(6)
وبذلك انتهى من مشكلة الجسد ليصل إلى مشكلة الروح، فبدا لنا إنسانا أشبه بالفيلسوف، باحثا عن سر الحياة ليس في جسد أمه فقط، وإنما في هذا الكون المتنوع والشاسع، وبدأ يراقبه فلاحظ أن موجوداته (الأجسام والأشياء) إما تعلو (كالهواء والدخان) وإما تهبط (كالحجر) وبذلك تعرف على بعض خصائص العالم المادي عن طريق النظر والتجربة، لكن المعرفة المادية لم تكفه، فقد أراد أن يعرف ما يؤرقه من عالم ما وراء المادة.
لاحظ أن الأشياء لا تتغير طبيعتها إلا بفعل مسبب، كتحول الماء إلى بخار لا يكون إلا بالتسخين، والتالي فإن تحول الأشياء لا بد لها من محول، لهذا فإن حدوث العالم وخروجه من العدم لا بد له من فاعل يخرجه إلى الوجود.
كذلك نظر إلى الكون وإلى نظامه الدقيق، أدهشه هذا النظام، فرأى أنه لا بد من أن يكون وراءه منظم قادر تجتمع فيه صفات الكمال وتنأى عنه النقائض، وهكذا قاده مبدأ السببية إلى الإيمان بالله تعالى، والتعمق في العالم الروحي.
لهذا أراد أن يقيم صلته بهذا الموجود، المنظم لكل شيء، وصار يتأمل في عالم الحيوان عله يتعلم منه، فرأى أنه لا يهتم إلا بالأكل والشرب وكل ملذات الجسد، فانطوى على ذاته يبحث في أعماقها عن سبل الاتصال بالله، فلم يجد سوى الاتصال الروحي والاستغراق في التوحد بالذات الإلهية، لهذا سكن في كوخه الذي بناه وانقطع عن العالم الخارجي ولم يعد يخرج إليه إلا مرة في الأسبوع تلمسا للغذاء الذي بات يعتمد على أبسط الأشياء، مما يتيح له القدرة على الاتصال بالله بشكل أفضل.
يأتي الجزيرة (آسال) وهو رجل دين متصوف، هاربا من شيوع الفساد في مدينته، بعد أن يئس من إصلاح أهلها، يلتقي بـ(حي) فينفر منه للوهلة الأولى خائفا من منظره (إنسان بدائي، شعر رأسه يغطي جسده إلى جانب ريش النسر الذي يكسوه، لكن تصرفات (حي) تهدئ من روعه، فيبدأ تعليمه اللغة ، وحين يتقنها، يشرع في تلقينه تعاليم الدين، فيكتشف أن ابن يقظان قد توصل إلى الإيمان بإله واحد، وتعرّف صفاته، والتواصل معه عن طريق القلب، وعبادته بل بات يتفرغ لهذه العبادة.
وحين حدّثه آسال عن معاناته مع أبناء مدينته يطلب منه (حي) اصطحابه إليهم كي يحدثهم بتجربته الإيمانية، لعلهم يعودون إلى جادة الصواب، وحين يلتقي بهم، يوضح لهم تجربته العقلية في الإيمان، كما يحدثهم عن تجربته الصوفية في التواصل مع الله تعالى، لكنهم كانوا مشغولين بحب الدنيا وملذاتها، لذلك تركهم حي بعد أن نصحهم بالتزام أوامر دينهم وفق الشريعة، وعاد إلى الجزيرة بصحبة صديقه آسال، ليتفرغا للعبادة.
ملاحظات فنية حول رواية "حي بن يقظان":
تعد قصة "حي بن يقظان من أهم القصص التي ظهرت في العصور الوسطى، في نظر كثير من النقاد، فهي رائدة في فن القص، إلى جانب ألف ليلة وليلة، لهذا لا يحق لنا أن نحاكمها بمقاييس عصرنا، وما توصلنا إليه من إنجازات في النظرية السردية، فإذا حاولنا الحديث عن هذه القصة، بمقاييس عصرنا اليوم فليست الغاية تقويمية، كما قد يظن البعض، وإنما من أجل إبراز إنجازاتها الفنية المدهشة، وإبراز سقطاتها الفنية التي مازلنا نلاحظها لدى كتابنا اليوم، لذلك لا يضير مكانة ابن طفيل وريادته الحديث عنها.
ثمة وعي لدى المؤلف أنه يقدم قصة، لذلك وجدناه يستخدم هذا المصطلح في التمهيد "فأنا واصف لك قصة "حي بن يقظان" وقد استخدم مصطلح "واصف" بدل مصطلح "سارد" أو "أقص" كذلك أبرز في التمهيد أسباب كتابة هذه القصة، إنها أسباب تعليمية فقد كتبها بناء على سؤال صديقه عن الحكمة المشرقية التي ذكرها الشيخ الرئيس أبو علي بن سينا، لذلك ينصحه بلهجة تعميمية قائلا: "فاعلم: أن من أراد الحق الذي لا جمجمة فيه، فعليه بطلبه والجد في اقتنائه" وهذا ما فعله بطل قصته (حي) حين بذل غاية جهده ليصل إلى الحقيقة.
لم يذكر، هنا، اسم صديقه، وإنما وصفه بـ"الأخ الكريم، الصفي الحميم، لذلك نرجح أن يكون متلقيا عاما، يتخيله المؤلف كي يستطيع محاورته ومن ثم يحاول هدايته إلى ضرورة استخدام العقل والحدس في قضية الإيمان بالله تعالى، لذلك وجدناه في خاتمة القصة يقول له: "أردت تقريب الكلام فيها على وجه الترغيب والتشويق في دخول الطريق. وأسأل الله التجاوز والعفو، وأن يوردنا من المعرفة به الصفو، إنه منعم كريم، والسلام عليك أيها الأخ المفترض إسعافه ورحمة الله وبركاته"
وبذلك اتضح لنا أن المؤلف يخاطب متلقيا مضمرا، موجوداً بالقوة، متوجها إليه بالخطاب، عله يفتح أمامه سبلا مجهولة للإيمان، لعله يستطيع هدايته وإنقاذه من الجهل والكفر.
لو أردنا تحديد جمالية هذه القصة لوجدناها تكاد تنحصر في الجزء الأول (قصة ولادته ونشأته وفي الجزء الأخير حين التقى بآسال) ويبدو لنا مشهد اللقاء مشهدا سرديا جميلا بكل المقاييس الفنية، إذ احتفظ بقدرته على التشويق، كما شاعت به حيوية، بفضل تنوع الحركات التي لمسناها لدى كل من (حي) و(آسال) من ركض واختباء وتلاحم في الأيدي ثم لمسات اليد الحانية، بالإضافة إلى تنوع البيئة، إذ تم اللقاء بين البيئة الحضرية بكل ما تعنيه من إنجازات (في الملابس والطعام والتصرفات...) والبيئة البدائية بكل ما تعنيه من حياة فطرية أشبه بحياة الحيوانات، هذا على صعيد الجسد، لكن هذا التناقض سرعان ما يختفي على صعيد الروح، إذ يتبين آسال أن (حي) لا يقل عنه إيمانا ومعرفة بالله، لهذا يوافق على اصطحابه إلى مدينته العاصية لهداية أهلها.
ثمة عناية في رسم هذا المشهد، ظهرت في طريقة تقديم المؤلف للشخصيتين الرئيستين في القصة، فلجأ إلى رسمهما من الخارج وخاصة شخصية (حي) فبرز لنا في شكله البدائي (شعر رأسه يغطي جسده، ريش النسر الذي يكسوه) كما وصف لنا الأعماق، فاستطاع أن يبرز لنا حالة الرعب التي أحس بها كل واحد منهما حين التقى بالآخر، وخاصة رعب المدني من البدائي، وبذلك اجتمع في هذا المشهد عناصر سردية تجعل هذه القصة ذات سمات فنية ممتعة إلى حد ما.
صحيح أن بداية القصة وخاتمتها تمتعت بقدرات جمالية في السرد، لكن صلب القصة التي تتحدث عن معاناة (حي) الروحية إثر وفاة أمه، بدت أشبه برحلة فلسفية صوفية علمية، فقد أسقط ابن طفيل أفكاره على الشخصية (حي) وجعله يتحدث بلغته الفلسفية الصوفية، فبدت لنا هذه الشخصية البدائية أشبه بفيلسوف مسلم، يتحدث لغة القرآن الكريم، دون أن يتعرف على الإسلام بعد!
إذا رغم حياة العزلة التي عاشها (حي) فقد وجدناه عالما في الفلك، حين تأمل الكون ونشأة الأرض، كما وجدناه طبيبا، حين بدأ بتفحص جثة أمه الظبية، ويشرحها باحثا عن مصدر الحياة وسبب الموت، لنتأمل هذا القول، الذي يرصد لنا أعماق الشخصية وأفكارها "وعلم أن أمه التي عطفت عليه وأرضعته، إنما كانت ذلك الشيء المرتحل، وعنه كانت تصدر تلك الأفعال كلها، لا هذا الجسد العاطل، وأن هذا الجسد بجملته، إنما هو كالآلة وبمنزلة العصي التي اتخذها لقتال الوحوش، فانتقلت علاقته عن الجسد إلى صاحب الجسد ومحركه، ولم يبق له شوق إلا إليه."(ص_ 45)
إن شخصية (حي) هي ابن طفيل العالم الفلكي والطبيب والفيلسوف، وبذلك توحد المؤلف مع الشخصية، في أغلب أحوالها وصفاتها وأفكارها ولغتها، فكانت الغاية، من هذه القصة، إيصال أفكاره إلى القراء عن طريق شخصية يتماهى بها تستطيع أن تقدم أفكاره التي قد لا يستطيع التعبير عنها صراحة.
لعل إغراق الشخصية في التأمل الفلسفي والصوفي، أساء إلى البنية السردية للقصة، إذ إن فن القصة من أكثر الفنون التصاقا بالمجتمع، لذلك قد تؤدي العزلة الاجتماعية إلى الإساءة إليه، فتفقده حيويته وجاذبيته.
إن هذه الدراسة للقصة وفق معطيات عصرنا، قد تكون مفيدة في إبراز إنجازاتها الفنية، لكن أن نتحدث عن مزالقها وسلبياتها فهذا إجحاف في حقها، لأننا نغفل عن الفارق الزمني بيننا وبينها، فنحاكمها وفق معطيات عصرنا، فلو حاكمناها وفق معطيات عصرها لوجدناها عملا فنيا رائدا، قدّم لنا قصة فيها الكثير من المقومات الفنية (الشخصية، المكان، السرد، الحوار، الصراع...)
المؤثرات الإسلامية:
يعترف ابن طفيل في التمهيد لروايته "حي بن يقظان" باستفادته من ابن سينا الفيلسوف الطبيب، خاصة في مجال اختيار الأسماء (حي بن يقظان، آسال....) لكن ابن سينا اتبع طريقة المتصوفة في الرمز، فـ(حي) يقصد به العقل الفعال،و(ابن يقظان) كناية عن صدوره عن القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، وهي رحلة ترمز إلى طلب الإنسان المعارف الخالصة بصحبة الحواس والعقل، وإن كان يحذر من رفقة الحواس.
وبذلك يمكننا القول إن "حي بن يقظان" عند ابن سينا كتاب في الفلسفة والتصوف استفاد منه ابن طفيل ليضيف عليه البنية السردية، ليأتي الفكر الفلسفي بطريقة أكثر جاذبية وربما أكثر إقناعا، لذلك نلاحظ شخصياته تميزت بالحيوية، إذ لم تعد الشخصية مجرد اسم يحمل فكرة، وإنما بدأنا نجد أمامنا كائنا بشريا له أحلامه التي تتعدى عالم المحسوس بكل ماديته، باحثة عما وراء الطبيعة عن حقيقة هذا الكون الذي نعيش فيه.
صحيح أن ابن طفيل إنسان بدائي، اهتدى إلى الإيمان عبر معاناة ذاتية لكن لغة الراوي كانت متقدمة على بدائية الشخصية، فبدت تحمل ملامح إسلامية واضحة، خاصة في شيوع التناص القرآني في لغتها السردية، مما يؤسس بنيتها الفكرية وجماليتها اللغوية، لنتأمل هذا المقطع "وتصفح طبقات الناس بعد ذلك، فرأى كل حزب بما لديهم فرحون قد اتخذوا إلههم هواهم ومعبودهم وشهواتهم، وتهالكوا في جمع حطام الدنيا، ألهاهم التكاثر حتى زاروا المقابر لا تنجح فيها المواعظة ولا تعمل فيهم الكلمة الحسنة"(7)
نلاحظ في هذا المقطع سطوع لغة القرآن الكريم، حتى إنها تكاد تشكل صلب هذا المقطع، فنلاحظ أن ابن طفيل ينقل ألفاظ الآية القرآنية كما هي، وإن كان قد حذف الجزء الأول منها "فتقطّعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون"(سورة المؤمنون آية 53)
هنا اقتصر على إضافة فعل (رأى) للسياق السردي، وقد نجده يحور الآية تحويرا بسيطا فتتحول صيغة الغائب المفرد في الآية "أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا" (سورة الفرقان آية 43) إلى صيغة جماعة الغائبين بعد أن حذف الجزء الأخير من الآية، أما الآية الأخيرة فقد تحولت من صيغة جماعة المخاطبين (سورة التكاثر آية 1_2) إلى جماعة الغائبين، وبذلك يتم التحوير وفق مقتضيات سردية تتناسب مع سيرورة القصة.
كما نلاحظ تأثر ابن طفيل بالحدث القرآني، حين حدّثنا عن خوف أم (حي)، في الرواية الواقعية لنشأته، من أخيها الملك فتقذف به في اليم، بعد أن تضعه في تابوت، وهذا ما نجده في (سورة القصص) "وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين" (آية 7) لكن تفاصيل حياة الرضيع ستختلف كليا، لدى ابن طفيل عنها في القرآن الكريم.
ثمة تأثر بالروح الإسلامية والمبادئ التي تحض المؤمن على الإسهام في إصلاح مجتمعه، لذلك وجدناه ، حين شكل تصرفات شخصيته (حي) صاغها وفق هذه الروح، إذ وجدناه يدعو آسال لاصطحابه إلى مدينته العاصية عله يستطيع هدايتها، وهنا نلاحظ ابن طفيل متأثرا بالحديث الشريف "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان"
فلسفة ابن طفيل:
يعد ابن طفيل من فلاسفة المسلمين، وقد حاول أن ينقل في (حي بن يقظان) هذه الفلسفة عن طريق السرد الروائي الذي بفضله لمحنا فلسفته العقلية، التي تؤكد أن بوسع الإنسان أن يرتقي بنفسه من المحسوس إلى المعقول، وأن يصل بقواه الطبيعية إلى معرفة الإله والإيمان به، ومن ثم فهم العالم من حوله، وقد قسّم هذه المعرفة قسمين: المعرفة العقلية، والمعرفة الحدسية التي ينكشف فيها الأمر للنفس بوضوح ليس عن طريق المصطلح الفلسفي، وإنما عن طريق "الحال" ( الذي يستوطن القلب، ويستدل به عن طريق الحدس.
ويرى ابن طفيل اختلاف الفيلسوف عن العامة بقدرته على إدراك الحقائق الإلهية بعقله وحدسه، أما العامة فهي بحاجة إلى من يرتقي بها إلى هذه المبادئ العالية عن طريق الحس والخيال، لهذا فشلت مهمة (حي) في مدينة آسال العاصية، في إقناع العامة بالإيمان عن طريق العقل والحدس.
وبما أن قصة (حي بن يقظان) قصة رائدة في العصور الوسطى لذلك من البديهي أن تؤثر بتلك القصص اللاحقة التي ظهرت في أوروبا، كما أثرت قصص ألف ليلة وليلة.
سنتناول في هذه الدراسة إحدى نماذج التأثر : قصة "روبنسون كروزو" لدانييل ديفو (9) فنبحث عن نقاط اللقاء ونقاط الاختلاف.
"روبنسون كروزو":
يبدو لنا روبنسون كروزو شابا في العشرين من عمره، أحلامه أحلام الشباب في السفر والمغامرة، يستأذن والديه في السفر عبر البحار، ليحقق أحلامه، لكن والديه يرفضان الموافقة على هذه الفكرة حرصا على حياته، فيعصي أوامرهما، ليحقق رغبته في المغامرة والسفر، لذلك نجد والده غاضبا عليه يدعو الله أن يضع في طريق ابنه المتاعب.
فعلا حين يسافر روبنسون يصادف أهوالا كثيرة، كان آخرها تحطم السفينة، وغرق جميع ركابها، ماعدا روبنسون، وبعد أن يجتاز أهوالا كثيرة يجد نفسه في جزيرة نائية، لا يوجد فيها سوى الحيوانات المتوحشة فتكبد مشقة البحث عن حياة آمنة مستقرة فيها، لذلك يصنع من أشلاء السفينة المحطمة سكنا بسيطا، أما طعامه فكان مما تيسر له من ثمار الجزيرة، لكن المصادفة تساعده في تأمين غذائه من الحنطة، حين نفض كيسا (يريد استخدامه لبعض شؤونه) كان فيه بقايا حنطة، فهطلت الأمطار ونبتت البذور، فصار يعتني بها، إلى مرحلة الحصاد.
نلاحظ أن كروزو لا يبدأ من الصفر، وإنما يساعده في الاستمرار على قيد الحياة مؤن وأدوات حصل عليها من بقايا السفينة المحطمة، كما ساعدته الطبيعة بأن مدّته بالمواد الأولية (الخشب) ليستمر في العيش.
بعد فترة من الزمن يلتقي روبنسون بإنسان أسير، استطاع أن يهرب من أكلة لحوم البشر، فيسميه (جمعة) ويتخذه مساعدا له في عمله.
عاش روبنسون في الجزيرة مدة ثمان وعشرين سنة، إلى أن أتت مصادفة سفينة، يرحل على متنها إلى بلده، بعد أن يخوض صراعا مع رجال ثائرين على ربانها، وهكذا لاحقته المتاعب حتى آخر مراحل سفره!!
اللقاء بين "حي بن يقظان" و "روبنسون كروزو"
لو وقفنا عند السنة التي توفي فيها مؤلف " روبنسون كروزو" دانييل ديفو (1731م) وسنة وفاة ابن طفيل (1185م) للاحظنا أن مؤلف "حي بن يقظان" قد عاش قبل ديفو بحوالي خمس مئة سنة، وأن كلا الكاتبين قد عاش في إسبانيا فترة من حياته، لذلك كان تأثر ديفو بابن طفيل أمرا طبيعيا.
لو تأملنا الفضاء المكاني لكلا الروايتين للاحظنا تشابها كبيرا، فنحن أمام فضاء واحد تقريبا (جزيرة نائية) كذلك نجد فيها إنسانا وحيدا، يحاول أن يفهم ويستكشف كل ما يحيط به، وبذلك نجد لقاء في تركيز القصتين على شخصية رئيسية واحدة، تعيش ظروفا متشابهة (العزلة، البدائية...)
كذلك تبدو الشخصية الثانوية، في كلا القصتين، شخصية طارئة (آسال، جمعة) تأتي إلى الجزيرة بعد استقرار الشخصية الرئيسية، إذ تم اللقاء بها بعد مرور فترة طويلة من العزلة في الجزيرة، وقد لاحظنا أنها أضفت الحيوية على فضاء القصتين، وأسهمت في تجديد إيقاعهما.
نلمح في كلا القصتين الغاية التعليمية، فابن طفيل، كما لحظناه منذ المقدمة، يريد أن يدلل على وجود الله باستخدام العقل والحدس، دون استخدام الشريعة، لذلك جعل من (حي) إنسانا بدائيا يصل إلى الإيمان عن طريق استخدام العقل أولا ثم الحدس، كأنه يطلب من الناس أن يمعنوا النظر في هذا الكون ليتوصلوا إلى الإيمان بعقولهم وقلوبهم، لا أن يكون إيمانهم إيمانا تقليديا، يحول التواصل مع الله تعالى إلى مجموعة من الطقوس لا علاقة لها بالقلب أو العقل.
أما دانييل ديفو فقد كانت غايته تربوية، إنه يتوجه إلى الشباب، الذي يعشق المغامرة والسفر، بالنصيحة، طالبا إليهم النظر إلى ما آل إليه حال روبنسون حين لم يستمع إلى رغبة والديه في عدم السفر، ونفّذ ما يدور في رأسه من أفكار، فعانى متاعب جمة استمرت حتى لحظات سفره الأخيرة.
انعكست في كلا القصتين ملامح من السيرة الذاتية للمؤلف، ففي قصة "حي بن يقظان" نجد أهم القضايا التي أرّقت ابن طفيل (هل تستطيع الفلسفة أن تؤدي إلى الإيمان بالله تعالى، على نقيض القول الشائع " من تمنطق فقد تزندق"؟ ثم هل يكفي استخدام العقل ليصل بنا إلى الإيمان العميق أم نحن بحاجة إلى القلب والقوى الداخلية الحدسية إلى جانبه؟ هل تستطيع العامة الإيمان بهذه الطريقة؟ أم لا بد لها من الطريقة النقلية في الإيمان؟ هل الطريقة العقلية الحدسية وقف على الخاصة دون العامة؟)
إذا نلمح في هذه القصة بعض المعاناة الروحية والفكرية لابن طفيل، كما نلمح بعض ملامحه الشخصية التي أسقطها على (حي) فجعله فيلسوفا وطبيبا، وعالم فلك مثله.
أما قصة "روبنسون كروزو" فقد لمحنا فيها معاناة دانييل ديفو من عقوق ابنه، لذلك جعل روبنسون ابنا عاقا لوالديه، وأسقط عليه غضبه، مما جعله يعاني متاعب جمة في سفره، وعاقبه بأن عاش معظم حياته وحيدا يجتر آلامه.
الاختلاف بين "حي بن يقظان وروبنسون كروزو"
يدخل روبنسون الجزيرة النائية شابا، قد تكوّن فكره وتأصلت عاداته، أي بدا لنا إنسانا مدنيا أجبر على الحياة البدائية، أما (حي) فقد بدأ حياته فيها رضيعا (حسب الرواية الأولى) أو تخلق من تربتها (حسب الرواية الثانية) لذلك كان إنسانا بدائيا لصيقا بالطبيعة، وقد قويت صلته بها مع الأيام، إذ لم يعرف عالما غيرها، فكان عالم الحيوان في الجزيرة دليله للحياة، تعلم منه طرائق العيش البدائية.
إذا بدأ (حي) حياته في الجزيرة من الصفر، في حين وجدنا روبنسون يستعين بمخلفات السفينة المحطمة، فاستطاع أن يوفر لنفسه عيشة متحضرة بفضل المؤن والأدوات التي عثر عليها مع بقايا السفينة.
نظرا لعلاقة (حي) الحميمة بالطبيعة نجده إنسانا تغلب عليه الروحانيات والأفكار، همه الأساسي البحث عن قضايا تؤرق الإنسان (الإيمان بالله، الموت، هداية الآخرين) لذلك لم تؤرقه قضايا الحياة المادية، خاصة في المرحلة الأخيرة من حياته، فقد رأى أن الاستغراق في التواصل مع الذات الإلهية يفسدها الانشغال بالماديات، لذلك كان طعامه بسيطا، يخصص له وقتا زهيدا ليصرف وقته في التأمل والعبادة، في حين وجدنا روبنسون مشغولا بالعالم المادي، همه الأساسي تأمين الطعام ليس لمعيشته اليومية فقط وإنما يفكر بمعيشته المستقبلية فيحاول تأمين مؤنة الشتاء والعيش في مسكن على نسق عرفه في حياته السابقة، لذلك نستطيع أن نقول إن روبنسون نقل الحياة المدنية بكل ماديتها إلى الجزيرة، وربما لهذا السبب ابتعد عن القضايا الروحية، في حين جسّد (حي) الحياة الروحية بتأثير الطبيعة التي التصق بها، وكما يقول جان جاك روسو إن الإنسان الذي يعيش قريبا من الطبيعة أشد تدينا واقترابا من الله من ذلك الإنسان الذي يعيش في المدينة، ربما لأنه يزداد رهافة وإحساسا بمعجزات الكون وجماله، لشدة معايشته للطبيعة، ورؤيته لتبدلاتها المعجزة، لا أدري إن كان يحق لنا القول: إن قصة "حي بن يقظان" تجسد لنا علاقة الشرقي بالكون، والتي رأيناها تعتمد على التركيز على الروحانيات وعدم الاهتمام بالماديات، في حين تجسد لنا قصة "روبنسون كروزو" علاقة الغربي المادية بالكون، وإن كنا لا نستطيع أن نقبل هذا الحكم بشكل مطلق!!
إن شخصية (حي) هي شخصية فيلسوف يتأمل الكون ليفهم أسراره، يثير أسئلة جوهرية تتعلق بالوجود الإنساني وكيفية تواصله مع الله، لذلك اجتمعت لديه شخصية الفيلسوف إلى جانب المتصوف! وهو يفكر في إصلاح غيره، لذلك برزت لديه شخصية المصلح، في حين وجدنا (روبنسون) إنسانا عاديا أقصى طموحاته تلبية حاجاته المادية.
وقد كان اللقاء بالشخصية الثانوية (جمعة) معززا للجانب المادي لروبنسون إذ يقوم بمساعدته في أمور حياته المادية، في حين كان لقاء (حي) بـ(آسال) معززا للجانب الروحي، علمه اللغة، إحدى أهم مفاتيح الأعماق والأفكار، ثم أخذه إلى مدينته العاصية ليسهم في إصلاحها.
لو تأملنا علاقة (حي) بـ(آسال) لوجدناها علاقة ندية، إذ يتم تبادل المعرفة بينهما، ويحاولان التعاون في سبيل إصلاح البشر وهدايتهم.
أما علاقة روبنسون بـ(جمعة) فقد كانت علاقة السيد بالمسود على نقيض علاقة (حي) بـ(آسال) وبذلك تتجسد لنا علاقة الغربي بالآخر، فهو السيد والآخر عبد له.
نلاحظ أن القصة لدى ابن طفيل مازالت بدائية، رغم الإنجازات السردية التي لحظناها، إذ لا نجد، غالبا، سردا متصلا بحدث معين، أو بشخصية معينة، خاصة إذا تجاوزنا المقدمة والخاتمة، التي أشرت إلى جماليتهما سابقا، فقد امتلأت القصة بالاستطرادات الفلسفية، فأصبحت أشبه ما تكون بمقال فلسفي، في أغلب الأحيان، في حين بدا السرد القصصي، في "روبنسون كروزو" متقنا، يكاد يخلو من الترهل والاستطراد، فالحدث مشوق، يتطور عبر حبكة متماسكة، وقد ابتعدت الشخصية عن التجريد، فلم تبد' مجموعة أفكار، كشخصيات ابن طفيل، بل رأيناها قريبة من الواقع، هنا لا بد أن نذكر مرة أخرى بالفارق الزمني بين القصتين (حوالي خمس مئة سنة)
يلاحظ وجود مؤثر إسلامي آخر في قصة "روبنسون كروزو" وهو ألف ليلة وليلة، إذ لا بد أن ديفو قد اطلع على ترجمة (غالان) لألف ليلة وليلة التي ظهرت في اثني عشر مجلدا بين عامي (1714_ 1717) فقد توفي ديفو (1731)
يلاحظ المرء أن معاناة روبنسون تشبه معاناة السندباد البحري، خاصة في بداية الرحلة البحرية، حيث تحطمت السفينة وبقي حيا دون سائر الركاب، فعاش في جزيرة نائية وحيدا.
وبذلك لم يكتف دانييل ديفو بالتأثر بقصة "حي بن يقظان" وإنما تعددت مجالات تأثره، ليتجاوز ذلك التأثر إلى الإبداع، الذي ينطلق من خصوصيته التي تنبع من معاناته الذاتية وخصائص أمته.
الحواشي:
1_ د. لوثي لوبيث بارالت "أثر الثقافة العربية في الأدب الإسباني" كتاب الرياض، ، عدد (54) يونيو، 1999، ص 63 بتصرف
2_ زيغريد هونكه "شمس العرب تسطع على الغرب" منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط8، 1986، ص 483
3_ابن طفيل "حي بن يقظان" إعداد د. سمير سرحان،و د. محمد عناني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مكتبة الأسرة، القاهرة، 1999، ص 7_8
4_ المصدر السابق ص 35
5_ المصدر السابق نفسه، ص31_ 32
6_ المصدر نفسه، ص 45_46
7_ نفسه، ص 120
8_ ورد تعريف مصطلح "الحال" لدى ابن عربي على الشكل التالي: هو " ما يرد على القلب من غير تعمد ولا اجتلاب ومن شرطه أن يزول ويعقبه المثل، ومن هنا نشأ الخلاف فمن أعقبه المثل قال بدوامه، ومن لم يعقبه مثل قال بعدم دوامه، وقد قيل الحال تغير الأوصاف على العبد" من كتاب نصوص المصطلح الصوفي في الإسلام" د. نظلة الجبوري، مطبعة اليرموك، بغداد، ط1، 1999، ص 130
9_ دانيال ديفو "روبنسون كروزو" ت. كامل كيلاني، مطبعة المعارف بمصر، ط3، د.ت
- إسماعيل سعديمدير الموقع
- البلد :
الجنس :
عدد المساهمات : 3758
نقاط تميز العضو : 150694
تاريخ التسجيل : 03/04/2009
رد: اللغة في الخطاب الروائي العربي
29/06/10, 08:36 pm
شكرا لك محمد على إثارة الموضوع .
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى